حوادث الهستيريا
النظريات باطلة أو حقة باعتبار تطبيقها على الموجودات والظواهر، فإذا أمكننا تفسيرها بنظريةٍ ما بحيث لا نجد استثناء لا يمكن تفسيره أمكننا أن نقول: إن النظرية صحيحة.
فنظرية التطور مثلًا صحيحة؛ لأننا يمكننا بها أن نفسر بها اختلاف الأحياء ونرى أنها تتَّسق معنا كلما رأينا ظاهرة جديدة من ظواهر الحياة.
وكذلك نظرية العقل الباطن صحيحة؛ لأننا نجدها تتَّسق معنا في تفسير أعمال العقل في اليقظة والنوم، وفي المرض والصحة، فنحن مثلًا نرى مصداق هذه النظرية في مرض الهستيريا.
وقد كان المظنون قبلًا أن الهستيريا تصيب النساء فقط، حتى إن اسمها مشتقٌّ من معنى الرحم، ولكن الحرب الكبرى أثبتت أن الرجال يصابون بها كثيرًا، والواقع أن الرجال يصابون بها مدَّة الحرب والقتال أكثر من النساء، أما في مدَّة السلم فالإصابة في النساء أكثر.
وفي الهستيريا نوعان: أحدهما يصيب الرجال والنساء على السواء، وهو يحدث عقب الرعب والذعر؛ ولذلك فهو في مدَّة الحرب أكثر تفشِّيًا بين الرجال منه بين النساء؛ لأن هؤلاء لا يتصلن بالقتال مثل الرجال. أما في مدَّة السلم فالإصابة بين النساء أكثر منها في الرجال؛ لأن المرأة أكثر تعرضا للأخطار مدَّة السلم من الرجل؛ فالرجل لا يخشى مثلها الاغتصاب الجنسي، وهو أيضًا لا يفكر في أخطار الولادة. أما النوع الثاني فخاص بحياة المرأة الجنسية.
ولننظر الآن في هستيريا الخوف أو الرعب، وهي النوع الأول: وعوارض هذه الهستيريا في الرجل أو المرأة أنه يصاب مثلًا بالخرس وأحيانًا يستطيع الكلام المتقطع همسًا، أو يصاب بجمود أحد أعضائه عن الحركة، فلا يمكنه مثلًا أن يحرك ذراعه أو ساقه حتى يحتاج إلى عكازتين يمشي بهما، أو يصاب بغياب الحس في ناحية من نواحي جسمه بحيث إذا وخزته بإبرة لم يتحرك ولم يتألم.
وقد سبق أن قلنا: إن الحيوان أحيانًا يستجيب للخوف أو الرعب بجمود الحركة والصمت، وأن الأغلب أن الإنسان كان في الأزمنة القديمة جدًّا يستجيب للخوف عند غارة وحش في الظلام بهذه الطريقة حتى ينجو بذلك منه، ورأينا في الكابوس أن هذه الطريقة ما يزال عقلنا الباطن يعمل بها بعض العمل وليس كل العمل، فإننا وقت الكابوس في صراع بين طريقتين فنحن نحاول الهرب، وأيضًا نشعر بأننا غير قادرين على الحركة؛ للجمود الذي يستولي على أعضائنا.
والأرجح في تفسير هذه الظواهر أن الإنسان كان قبلًا حيوانًا انفراديًّا، فكان الصمت والجمود ينفعانه وينجيانه من الخطر؛ لأن الوحش يضلُّ عن مكانه إذا كان الوقت ظلامًا، ولكن لما اجتمع الإنسان صارت له طريقة جديدة في الاستجابة للخوف بالصراخ والجري؛ لأن للصراخ قيمة انتخابية اجتماعية؛ إذ هو ينبِّه سائر العائلة أو العشيرة حتى يفر أعضاؤها أيضًا وينجوا من الخطر.
فالكابوس صراع بين طريقتين في الاستجابة للخوف، ومما هو جدير بالذكر أننا عندما نصرخ نشرع في اليقظة كأن الصراخ مقرون بالوعي.
وهذا الصراع يدلنا على أن الطريقة القديمة للاستجابة للخوف ليست تامة في نفسنا، وهي لا تسيطر علينا كل السيطرة، ولكنها تسيطر بعض السيطرة، فنحن لا نجمد تمام الجمود وننقطع عن الصراخ تمام الانقطاع.
فما يحدث في هستيريا الخوف هو نفس ما يحدث لنا في الكابوس، فقد يحدث انفجار قريب من المنازل التي تتزلزل منه وتتحطم بعض النوافذ، ويشعر كل ساكن أن البيت سينهدم فوق رأسه ويدفنه تحت أنقاضه حيًّا، فيرعب رعبًا شديدًا، ولكن معظم السكان ينجون من هذا الرعب ويتغلبون عليه، ويبقى بعض أفراد من النساء والرجال يصابون بالخرس أو جمود الذراع أو الساق أو غياب الإحساس من اليد، فهذه الإصابات كلها هي استجابات قديمة لجأ إليها الجهاز العصبي عندما وقعت هذه الصدمة التي أذهلت العقل الواعي لشدتها، فقام العقل الباطن يستجيب للخطر بطريقته القديمة وهي طريقة الجمود في اللسان والأعضاء، ولكن استجابته جزئية، لم تصب الجسم كله، وإنما أصابت الذراع أو اللسان أو نحو ذلك، وقد ذكرت في الفصل السابق رجلًا أعرفه بقي صامتًا عدة سنوات لأن اللصوص فاجئوه في منزله.
وقد كثرت هذه الهستيريا في الحرب الكبرى بين الجنود، وهذا هو ما يُنتظر، والغريب أن هذه الهستيريا تخدم الجندي بحمايته من الخطر والتعرض للقتال كما كانت تخدم الإنسان القديم بحمايته من الوحش الطارئ، فإن الجندي الذي تقع بجانبه قنبلة يُرعب رعبًا شديدًا ويود بالطبع لو يترك القتال ولكنه لا يمكنه أن يصرح بذلك، فيحدث عقب انفجار القنبلة أن يؤذن له بترك القتال؛ لأن ذراعه قد جمدت، أو أن لسانه قد انعقد، أو أنه أصيب بالعمى، أو أنه لا يستطيع المشي؛ لأن ساقة قد جمدت عن الحركة، فجمود الحركة يؤدي عند الجندي الآن تلك المهمة التي كان يؤديها عند الإنسان القديم بتنجيته من الخطر، وقد يعارض القارئ في هذا التفسير من حيث إن الجندي الذي يصاب بجمود الحركة يتعرض للخطر أكثر؛ لأنه لا يمكنه الدفاع عن نفسه وقت القتال، والواقع الذي أثبتته الحرب أن الهستيريا لا تصيب الجندي إلا بعد أن يغادر المعركة بعدَّة أسابيع أو أشهر، وأحيانًا يصاب الجندي بنوم قد يدوم عدة أشهر ولكن هذا النوم مصحوب بجمود الإحساس أيضًا.
أما مدَّة السلم فالمرأة تصاب بهستيريا الخوف أكثر من الرجل للسبب الذي ذكرناه آنفًا وهو تعرضها لخطر الولادة وخوفها أحيانًا وهي فتاة من انتهاك عرضها، ويجب أن نلاحظ أن الأرجح أن التعارف الجنسي في الأزمنة القديمة جدًّا كان كله انتهاك عرض؛ ولذلك فالعقل الباطن في المرأة يتوجس من هذه الناحية توجسًا عظيمًا، وتحدث من ذلك هستيريا الخوف عند المرأة.
ولننظر الآن في الهستيريا الخاصَّة بحياة المرأة الجنسية، وهي النوع الثاني: وقبل الكلام عن هذا النوع نذكر القارئ بأننا سبق أن قلنا: إن الأحلام قد تكون تحقيق رغبة أو شهوة، كالجائع يحلم بأنه يأكل، وقد تكون صراعًا كما هو حالنا وقت الكابوس، ثم يجب أن نقول أيضًا إن كبت الغريزة الجنسية عند المرأة — أو بالأحرى الفتاة — أكبر وأشد من الكبت عند الشاب، فحرِّيَّة الشاب في الاختلاط الجنسي أكبر جدًّا من حرية الفتاة، ثم هو له من طرق التسامي العديدة ما يخفف عنه ضغط هذه الغريزة. أما الفتاة فإن أنظمتنا الاجتماعية تحرمها من تحقيق رغبتها ومن التسامي.
نستنتج من ذلك أن لبيد الرغبة الجنسية عندها؛ أي عواطف الحب المضغوطة في عقلها الباطن أقوى مما هو عند الشاب؛ لأنها لا تجد منصرَفًا؛ ولذلك فإن عقلها الباطن يطغى أحيانًا على عقلها الواعي ويُحدث لها في يقظتها تلك الحركات أو التشنجات.
والآن قد يتساءل القارئ: هل هذا الفصل خاص بالنفسلوجية أو بالطب؟ والجواب: إن الهستيريا مرض يصيب النفس، بحيث يبقى الجهاز العصبي سليمًا ولا تُمكن معالجتها بالعقاقير، وإنما ببثِّ عقيدة في النفس.
والعلاج يتلخص في الإيحاء؛ أي بأن يقول الإنسان للمريض بأن علته وهمية، وأن ذراعه مثلًا سليمة، وقد يمكن تسهيل العلاج بأن يتدرج فيه المريض فيقال له إن أصبعه سليمة ثم يده ثم ذراعه، ويكرِّر ذلك عليه حتى يقتنع.
ولكن إذا كان لا يقتنع بالإيحاء البسيط فيمكن استهواؤه؛ أي تنويمه ثم تلقينه بأنه سليم. أو يمكن المريض أن يلقن نفسه قبيل النوم، كأن يقول لنفسه: في الصباح سأحرِّك ذراعي.
وإذا كان المريض متعلمًا سهُل العلاج؛ لأنه يمكن أن تفسَّر له نظرية هذا الفصل فيقف على عقله الباطن ويمنعه من الطغيان.