السنون الأولى للطفل والصبي
قلَّما تنجع التربية في الطفل إذا أُسيئت في السنوات الأولى من حياته؛ فقد رأينا فيما مضى من الفصول كيف أننا نحلم بأشياء حدثت لنا في طفولتنا وصبانا من أحاديث أو أساطير سمعناها أو حوادث صغيرة رُعبنا منها، فنرى هذه الحوادث أو تتجسَّم لنا هذه الأحاديث ونحن في سن الأربعين أو الخمسين فنعرف منها أن العقل الباطن لم ينسَ السنين الأولى من الحياة ولكننا نعرف أن العقل الباطن يؤثِّر في أخلاقنا وغاياتنا ومسلكنا، وعلى ذلك يجب أن نقول: إن السنين الأولى للطفل تكيف أخلاقه المستقبلة وترسم له غاياته التي قد يعيش لها طول عمره.
وذلك لأن الطفل يولد وعقله يكاد يكون كاللوحة يمكننا أن نكتب عليها ما نشاء، ثم هو في تلك السن حين لا يبلغ بعدُ الخامسة يقبل الإيحاء بكل صنوفه، فتراه يحاكينا في صوتنا وفي حركاتنا؛ يضحك مما نضحك منه، ويبكي لما نبكي له، ويخاف ما نخافه، فإذا رآنا رُعبنا رُعب هو أيضًا؛ لا لأنه يفهم طبيعة الشيء المخوف بل محاكاةً فقط لنا.
ولذلك فخير سبيل لتربية الطفل ألَّا نفعل أمامه شيئًا لا نحب أن ينشأ عليه، بل نقف منه موقف القدوة التي يحاكيها هو ويقتدي بها وهو لا يدري، فهو إذ رآنا نأكل ونلتهم الطعام ونبدي انشراحنا لذلك فإنه لا بدَّ ناشئ على توخِّي اللذة من التهام الطعام، ولن يتبدل خلقه بالنصائح والأوامر بعد ذلك، فقد أوحينا إليه في صغره أن التهام الطعام لذيذ فنشأ في نفسه هذا الذوق. فإذا أمرناه بعد ذلك بالاعتدال والتعفُّف فإن الأمر لا يُحدث في نفسه سوى الكبت الذي يجعله يتحيَّن الفرصة لكي يلتهم خفيةً ما يجده، وقد سبق أن أوضحنا أن الأمر يُحدث في النفس مقاومة وقلنا: إننا إذا منعنا أنفسنا من الضحك انفجرنا بالضحك.
فتكوين الأخلاق في الطفل لا يكون بالأمر وإنما يكون بالقدوة والإيحاء، بحيث نستحدث في نفسه رغبة تندسُّ في عقله الباطن وهو لا يدري، فتحدث عاطفة تدفعه إلى العمل.
فإذا وجدنا الطفل مثلًا يلعب في أشياء قذرة فسبيل إصلاحه ألَّا نأمره بالكفِّ عنها، بل نبدي له اشمئزازنا منها، فإن هذا الاشمئزاز الذي يرى هو علاماته في وجوهنا يحدث فيه نفسه اشمئزازًا بطريق المحاكاة، فيكفُّ وحده ويكون عقله الباطن على استواء مع عقله الواعي ليس بينهما صراع بشأن عاطفة مكبوتة يُحدثها أمرنا له بالكفِّ.
والمعروف الآن الثابت من التجارب أن الطفل قليل الغرائز يكتسب ما فيه من أخلاق وأذواق اكتسابًا بالقدوة والإيحاء، فهو لا يعرف من الخوف أو بالأحرى من غريزة الخوف سوى السقوط والصوت المفاجئ، أما الظلام أو الوحوش أو ما ماثل ذلك مما يُحكى عن العفاريت فلا يخشاها إلا بالاكتساب، فالطفل يبدأ يخشى الظلام إذا فُتح عليه باب الغرفة المظلمة فجأةً، فيقرن في ذهنه صورة الظلام بالصوت المفاجئ، ويبقى بعد ذلك يخشى الظلام، وقد تُحكى له أسطورة عن عفريت ويوحي الراوي إليه الخوف منها فيبقى يخافها مدى حياته.
أعرف شابًّا كان يخشى مقابلة الأغراب، فإذا أجبرته الظروف على التعرُّف إلى رجل ما احمرَّت وجنتاه وتخبَّل في حركاته وتلعثم لسانه، وهذه حالة نردُّها عادة إلى كثرة الحياء، ولكن الواقع أن هذا الشاب كان وهو صغير كثير اللعب، فكان أبوه يضربه وينهره، فكان وهو طفل يخشى أباه كثيرًا، واندسَّت عاطفة الخوف إلى عقله الباطن فصار يخشى كل رجل يشبه أباه، وبديهي أن الخوف يشتد عند التعرف برجل غريب، وأوجه المشابهة كثيرة بين الناس؛ فلذلك كان يخشى كل رجل، فهذا الحياء الشديد الذي كان يبدو منه لم يكن في الحقيقة سوى خوفه وهو طفل من أبيه؛ ولذلك ما كاد يعرف هو نفسه هذه الحقيقة حتى زال عنه هذا الخوف؛ لأنه استطاع أن يسيطر على عقله الباطن بعقله الواعي.
ولما كان استعداد الطفل للإيحاء قويًّا فإننا يجب أن نعتمد على الإيهام كثيرًا، فنوهم الطفل بأنه ذكيٌّ وأنه نظيفٌ وأنه قادرٌ؛ حتى ينشأ وهو يحسب في نفسه هذه الصفات ويتجنب كل ما يوهم في نفسه العجز أو البلادة. أما إذا سبق إلى ذهنه أنه بليد فإن هذا الوهم يقضي عليه قضاءً تامًّا في حياته، وقد يدفعه إيهامه بالذكاء والقدرة إلى الغرور، ولكن الغرور يحتاج على الدوام إلى الاجتهاد للصعود إلى مستواه، وهو خير على كل حال من توهُّم العجز.
فإذا صار الطفل صبيًّا ورأى منه والده بلادة في بعض دروسه فإن أحسن ما يعالَج به أن تُقرن إلى درسه عاطفة تحركه إلى العمل، فكثير من الصبيان يكرهون الحساب، ولكن الحساب يكون لذيذًا جدًّا إذا كان خاصًّا بنقود يملكونها ويتصرفون بها؛ لأن عاطفة الامتلاك تنبِّههم وتوقظ ذهنهم. وقد يجد التلميذ مشقَّة في تعلم اللغة الإنجليزية، ولكن لو قيل له إنه سيزور إنجلترا بعد أشهر لأقبل عليها بكل قواه، وقد أمكن علاج طفل كان يكره اللغة اللاتينية ولا يُطيق تعلمها بأن بُثَّت في نفسه الرغبة في أن يكون طبيبًا ثم أُفهم بعد ذلك بأنه لا يمكن تعلم الطب بدون اللاتينية. فأقبل على هذه اللغة الميتة بعزم جديد.
ومعظم البلادة التي تُرى في الصبيان لا ترجع إلى نقص ذكائهم بل إلى عدم اهتمامهم بالموضوع الذي يدرسونه، ومعنى عدم الاهتمام هذا أنه لم تقُم في أنفسهم عاطفة بشأنه، وقد توجِد المباراة بين الصبيان هذه العاطفة أحيانًا.
وللبيئة الحسنة أثر كبير في تكوين الذوق، فالطفل الذي ينشأ في بيت نظيف في حي جميل سيدأب طول حياته في أن يحتفظ بمركزه ويعيش في مثل هذه البيئة ولا يُطيق النزول عنها، والطفل الذي اعتاد مستوى معينًا من النظافة لا يمكنه أن ينحطَّ عنه فيما بعد.
والآراء والمعتقدات كلها تُكتسب بالإيحاء؛ ولذلك فإن الأبناء ينشئون ويتعصبون لديانة آبائهم.
وكما يجب أن يكون الوسط المادي والمعنوي نظيفًا راقيًا في البيت يجب أن يكون كذلك أيضًا في المدرسة، ثم يجب أن نبثَّ في الصبي روح البحث لا روح الاستذكار والاستظهار؛ لأنه كما تبدأ دراسته سيبقى مدى حياته متعلقًا بالأساليب الأولى يعتقد أن الاستظهار هو كل ما يُطلب منه في هذه الدنيا، فطالب الجامعة لا ينجح ما لم يكن وهو تلميذ في المدرسة قد بُثَّت فيه روح البحث.
ومما يساعد على النشأة الحسنة للطفل أن يرى أبويه كما هما في الحقيقة، وإذا بلغ سن المراهقة أو شعر بالدوافع الجنسية التي تسبقها يجب أن يصارَح بشأنها ويوقَف على حقيقتها وما فيها من أخطار ومسرَّات ويوضع نصب عينيه أمنية الرجولة السليمة.
ومعظم التغرُّضات والعقائد الفاسدة في تناول الطعام والشراب وفي معاملة الناس تنشأ في الصغر؛ فقد يكفي أن تشمئزَّ الأم أمام طفلها وهي تتناول الجبن أو اللحم فيشمئزَّ هو أيضًا عند رؤيتهما وينشأ على كراهتهما ويحتاج إلى جهد كبير لكي يمحو من عقله الباطن عقيدة الاشمئزاز منهما.
وسنرى بعض الأمثلة عن هذا الموضوع في الفصل التالي.