تكوُّن الأخلاق والأذواق
لا بدَّ أن قارئ الفصول السالفة ينتهي الآن إلى أن العقل الباطن هو العامل المهم في الأخلاق والأذواق؛ وذلك لأن العقل الواعي هو عقل المعرفة والبرهان والتجربة، أما العقل الباطن فهو عقل العقيدة، وقد سبق أن قلنا: إن المعرفة لا تُحدث إلا أضعف العواطف، بل هي تكاد تكون معدومة العواطف إذا قسناها إلى العقيدة التي تبعث أحيانًا أقوى العواطف في النفس.
والعواطف هي المحرك للأخلاق والباعث للنشاط، ويكفي أن يلقي الإنسان نظرة على القبائل العربية التي عاشت دهورًا طويلة في جزيرة العرب لم يسمع بها أحد ثم فارت فورة هائلة في العالم بقوة العاطفة التي أوجدتها العقيدة الدينية.
وكذلك الذوق ينشأ ويتكوَّن في العقل الباطن؛ فنحن نحاكي مَن حولنا في العادات، ونقتدي بأقرب قدوة إلينا نرى مثالها يتكرَّر كل يوم، ونؤمن بالدين الذي نلقَّنه في صغرنا، ونلبس لباس العصر الذي نعيش فيه، ونأكل أطعمته على الطريقة التي نراها في غيرنا ونحن صغار، فكل هذه شئون ليس للعقل الواعي أثرٌ فيها وإنما هي من العقل الباطن.
وللمركَّبات تأثير كبير في الأخلاق، وقد ذكرنا بعضها في فصل سابق، ومركَّب النقص متعدد الأنواع، فقد يكون أصل الوقاحة في أحد الناس أن يشعر بنقصٍ ما في رجولته، فيعيض نفسه من هذا النقص وقاحة في الكلام أو المسلك مع الناس وخاصَّة مع النساء؛ وذلك لكي يُحدث التوازن المطلوب في نفسه، وأحيانًا ترى الفتاة التي تقدمت في السن ولم تتزوج تبالغ في الحياء والاحتشام؛ وهذا لأنها تشعر أن كرامتها الجنسية مهانة فهي تعمد إلى هذه الدعوى الكبيرة بأنها لا تفكر البتَّة في المسائل الجنسية وأنها تستنكر كل ما يوهم التعارف الجنسي.
وينسب أناطول فرانس اندفاع نابليون إلى الحروب والفتوحات إلى ما كان يشعر به من نقص رجولته. قال: «كان هذا الرجل غير رجل أو قليل الرجولة؛ وما على المستطلع إلا أن يقرأ الورقة التي كتبها الجراحون الإنجليز عند الكشف على الجثة، فقد تولَّتهم الدهشة من المنظر الأنثوي لجسد نابليون، وما كان طول حياته يعبأ بالنساء، وإنما كان يعشق امرأة واحدة فقط هي: الحرب والمجد، فهو كسائر المستبدِّين سلب الدنيا راحتها لما وجده من النقص في نفسه. أتعرف لماذا وضع جان جاك كتابه «العقد الاجتماعي»؟ لأنه كان ساخطًا على الدنيا يريد أن يشعل النار في أطراف الأرض، وتجد في الشرق أن الخصيان هم الذين أحدثوا كل الثورات ….»
ومركَّب النقص هذا في نابليون وجان جاك روسو جعل كلًّا منهما نابغة بل عبقريًّا.
والسنون الأولى للطفل تغرس في عقله الباطن مركَّبات وتغرُّضات لا يمكنه التخلص منها طول حياته فتطبع ذوقه وتصوغ أخلاقه، فالطفل الذي يخشى أباه يخاف جميع الناس عندما يشبُّ، ويبدو هذا الخوف في هيئة حياء كلما رأى رجلًا غريبًا.
وقد تحدث حوادث في الطفولة تجعل الطفل عندما يشبُّ يكره أشياء لا يكرهها عامَّة الناس. كذلك الشاب الذي قلنا إنه نشأ على كراهة التبغ لأن خادمه الذي كان يكرهه يدخن أعقاب السجائر المتخلفة من الضيوف، أو ذلك الرجل الذي يكره القطط لأن قطًّا قد أغار عليه وهو طفل وأفزعه وخطف منه قطعة لحم، ويحدث أحيانًا أن تؤدي النزهة القصيرة في الريف مع ما يلازمها من سرور سببًا في أن ينشأ الطفل وهو يحب الريف، وقد يؤثل أمواله في ضيعة بدلًا من أن يؤثلها في عقار في إحدى المدن.
وكذلك تنشأ الفتاة على استحسان من كان في صورة والدها، كما ينشأ الفتى على استحسان من كان في صورة أمه؛ وذلك لأن الشاب وهو طفل حتى وهو يرضع ثدي أمه ينظر إليها نظرة جنسية ضعيفة، ويغار من أبيه عليها، فتنطبع صورتها في ذهنه إلى أن يشبَّ فيطلب المرأة التي تحقق هذه الصورة أو تقرب منها، وكذلك الفتاة فإنها وهي طفلة تغار من أمها على أبيها وتنشأ على استحسان صورته.
والأخلاق والأذواق تحدث من العقائد، وهذه العقائد تتسرب إلى العقل الباطن أيام الطفولة الأولى وبُعيدها من البيت والمدينة؛ ولذلك فإن مكان التربية الحقيقي هو البيت لا المدرسة؛ فشأن المدرسة أن تعلِّم؛ أي تغرس في العقل الواعي مجموعة من المعارف لا العقائد.
ولذلك فالتعليم لا يمكنه أن يغيِّر أخلاق المتعلمين؛ لأن المعرفة لا تُحدث في النفس عواطف دافعة إلى الاتجاه في مسلك خاص، وقد يكون أثر الصحيفة التي تظهر كل يوم أكبر جدًّا في صوغ الأخلاق والأذواق من المدرسة؛ لأن في الصحيفة مبدأ التكرار الذي يغرس العقيدة في النفس ويحيل هذه العقيدة إلى عاطفة تعمل وتحرِّك الإرادة.
ولذلك فمن العبث أن تعلَّم الأخلاق بالكتب، فيقال للصبي مثلًا: يجب أن تكون صادقًا حتى يحترمك الناس، أو يجب ألَّا تتزوج أكثر من امرأة.
فإن الأخلاق الفاضلة عادات يتعودها الإنسان من البيئة التي يعيش فيها، وهي ليست معارف تحتاج إلى البرهان، وإنما هي إيحاء يوحى إلى العقل الباطن عن جملة وسائل، وقد أدرك مصطفى كمال ذلك حين أجبر الأتراك على اتخاذ القبعة ونبذ الطربوش؛ لأن المحاكاة من الشروط المهمة في الإيحاء، فإذا حاكي التركي الأوروبي في لباسه حاكاه أيضًا في أخلاقه، فينبذ عن نفسه التواكل الشرقي ويعمد إلى سائر العادات الأوروبية فيصطنعها، فتنتشر حضارة أوروبا في البلاد ولا تجد أدنى مقاومة، وقيمة اللباس في الإيحاء واضحة عندما نتأمل الفرق في الأخلاق بين أخوين أحدهما شيخ والآخر أفندي، أو حين ننظر إلى السوري المتفرنج الذي يلبس القبعة والسوري الذي ما يزال يلبس العمامة، فكلاهما من سلالة واحدة ولهما سحنة واحدة ولكن شتَّان ما بينهما في الأخلاق.
وإذا تأملنا سلوك الناس وحلَّلناه وقفنا على البواعث التي تبعثهم على غير وعيٍ منهم إلى التفوُّه بألفاظ لم يقصدوها أو إلى التحرك بحركات تبدو لنا سخيفة لا معنى لها، أو اتخاذ لباس خاص أو نحو ذلك، فإن لهم نيَّات مكبوتة تفلت وهم لا يدرون.
فهذا زوج مثلًا عاش مع زوجته عدة أشهر وهو يشعر بهناء العيش، ثم أخذت تتكرَّر أمامه حوادث كره منها الزواج، فإذا قعد أخذ يعبث بحلقة الخطبة فيخرجها ويدخلها في أصبعه على غير عادة سابقة، فالحلقة رمز الرباط الزوجي، فإذا دبَّت في نفسه الكراهية لهذا الرباط عمد عقله الباطن إلى رمز هذا الرباط وحصر همَّه فيه.
وقد ذكر فرويد حادثة زوجةٍ رأت زوجها يمشي على الرصيف الآخر من الشارع فنسيت أنه زوجها، وعادت فتذكرت وتعجبت لهذا النسيان، ولكن فرويد عدَّ هذا النسيان دليلًا على كراهتها له.
ولم تمضِ مدَّة طويلة حتى صدَق ظنُّ فرويد وانفصل الزوجان، وقد سبق أن ذكرنا أن الإنسان إذا كره شيئًا لم يحب أن يتذكره، وكل حوادث النسيان تقريبًا ترجع إلى أننا لا نحب الأشياء التي ننساها.
وكلنا يعرف الرجل المهذب الناشئ في بيتٍ سريٍّ عريق في الأخلاق من الرجل المحْدث الذي يحاول أن يدخل في زمرة المهذبين، فالأول نشأ على أخلاق وتغرُّضات وميول لها أصول وفروع في العقل الباطن، فمجاملاته عفوية لا يتكلَّفها لأنها قديمة، وهو لا يتصدر لأنه يشعر ويقنع بمركزه وإذا اختار لباسًا مال إلى اللون القاتم. أما المحْدث الذي هبط على الثروة حديثًا فإنه يشعر بمركَّب النقص؛ لأنه في أعماق نفسه يعرف أنه كان فقيرًا مهانًا، فهو يحاول أن يخفي هذا الشعور، ويبالغ في إخفائه بأشياء عديدة، منها أنه ينفق عن سعة بل عن تبذير لكي يزيل وصمة الفقر السابقة، ويلبس ألوانًا مشهورة من اللباس، وإذا جلس تصدَّر وتحدَّث، وإذا جامل تكلَّف الكثير من المجاملة حتى تعدو حدودها؛ وذلك لأن في نفسه عقيدة سابقة بأنه دون من يجالسهم، فهو يحاول إثبات المساواة بينه وبينهم ولو تعسَّف في ذلك.
وللرأي العامِّ أحيانًا غريزة صادقة في معرفة البواعث؛ فكلنا مثلًا يكره المحْدث مع أن كل عائلة قديمة كريمة كان لها محْدث.
وقديمًا كان الناس يتوجَّسون من الغلوِّ في التعبُّد؛ وذلك لأن هذا الغلوَّ ينطوي على غلوٍّ آخر في الاستسلام للشهوات، ومن أغرب ما يثبته التاريخ أن الرهبانية فشت في العالم المسيحي عندما فشت الرذائل وأكبَّ الناس على الشهوات، وليس من مجرد الصُّدف أن يكون المماليك أصحاب المساجد الأثرية في القاهرة مع أنهم كانوا يقضون حياة حافلة بالمفاسد.