النبوغ ومؤهلاته
يعتقد الدكتور أدلر أن العبقرية هي ثمرة «مركَّب النقص» ويقول: «إن جميع العبقريين ناقصون.» وليس من السهل أن ينكر الإنسان حجته؛ فهو يحصي لك مئات العبقريين ويذكر نقائصهم التي كانت علَّة تفوقهم، فهذا مثلًا ديموستينيس يولد ألثغ ألكن فيدفعه نقصه هذا إلى الاجتهاد في الإلقاء حتى ينقلب خطيبًا، ومما يُذكر عنه أنه كان يضع الحصى في فمه ويقف على شاطئ البحر ويخطب مغاليًا بذلك صخب الأمواج وعائق الحصى.
وفي وقتنا الحاضر يسود الأدب الإنجليزي رجلان هما: شو، وولز، وكلُّ من يدري تاريخهما يعرف أن نبوغهما يرجع إلى مركَّب النقص؛ فبرنارد شو رجل ضعيف البنية، يدلُّك على ضعفه أنه ترك طعام اللحم وهو في العقد الثالث من عمره، وقد حكى هو عن نفسه أنه عندما يكتب شيئًا يبلغ به الإعياء أن ينسطح على الأرض منهوكًا، وكذلك ولز كان في أول شبابه مصدورًا يبصق الدم، وهو الآن معدود بين البارعين في لعبة الجولف، وقد سبق أن ذكرنا مثال الدكتور طه حسين وما قاله أناطول فرانس عن نابليون.
ولست أعتقد أن مركَّب النقص وحده يكفي للنبوغ دع عنك العبقرية، بل لا بدَّ من كفايات أخرى إلى جانبه، وظروف حسنة تساعد على الارتقاء، فمن هذه الظروف أن يقضي زمن الصبا في وسطٍ يرفع الصبي ويغرس فيه تغرُّضات وميولًا حسنة ويبذر فيه بذرة الخلق المتين والذوق الرفيع، فالهندي الذي ينشأ على التواكل وعلى أن الآلهة تفعل ما تشاء بالفرد قلَّما ينجح مهما كان فيه من بواعث النبوغ.
والإيحاء في زمن الصبا من أقوى البواعث على النجاح، فقد ينغرس الميل إلى العسكرية من بذلة حربية يلبسها الصبي في أحد الأعياد ويخطر بها وهو يجلجل بسيفه ويسمع كلمات الإطراء من والديه، وتبقى هذه الذكرى كامنة في عقله الباطن حتى يبلغ سن الشباب فيميل بكليَّته إلى الحياة الحربية.
وقلَّما تجد واحدًا من الناجحين في أعمالهم وتسأله عن أيام صباه حتى ترى أن الميل قد انغرس فيه منذ الصبا، فهذا رجل ناجح في التجارة مثلًا كان أبوه قد اشترى له في صباه دكانًا صغيرًا، وهذا آخر يحب اللغات كان قد رأى كتابًا مصورًا بالألوان الزاهية فجعل يقلِّب ويسأل ويمنِّي نفسه بأنه سيكون عالمًا.
وقد يكون مما يساعد على النجاح والنبوغ وهمٌ أوهمه الأب لابنه من حيث كفايته فنشأ الصبي على هذا الوهم؛ أي إنه تخيل ثم خال، وهذا هو السبب في أن كثيرين من الصبيان إذا نشئوا في عائلة لها حسب استأنسوا بهذا الأصل وتوهَّموا أن الكفاية التي رفعت آباءهم سترفعهم، فهم لذلك يفوزون على الرغم من معاكسة الظروف التي كانت تُميت الهمم في غيرهم ممن ليس لهم هذا الأصل أو الحسب، فالولد ينشأ وهو يتشوق إلى الصناعة التي كان يشتغل بها أبوه أو خاله، ويرى من الطبيعي أن يسلك مسلكهما وأن تبريزهما ينعكس أثره فيه، فإذا بلغها تسلط عليه الوهم بالنجاح فلا يختار سوى السبل المؤدية إليه، وينجح في النهاية، وربما كانت أحسن ثروة يتركها الأب لابنه هي المثال الحسن الذي يحاكيه الصبي ويرى فيه القدوة يقتدي بها إذا صار شابًّا.
- (١)
إما الانحرافات الجنسية في العادات السرية والخروج عن المألوف، وإما الهستيريا وخاصَّة في النساء.
- (٢)
التسامي نحو خدمة الفنون الجميلة التي تشبه حب المرأة، وهذا التسامي يحدث أحيانًا على غير وعيٍ؛ لأن اللبيد يجد فيه منصرَفًا فيسلك هذه السبيل ويرفِّه عن صاحبه ذلك الضيق السابق الذي أحدثه الكبت، وكل ما يشعر به الشاب عندئذٍ أنه يحب الفنون الجميلة أو نوعًا منها حبًّا عظيمًا وهو في أعماق نفسه يحب المرأة، وهو لشدة حبه لهذه الفنون ينبغ فيها لأنه ينفق عليها من وقته والتفاته أكثر مما ينفق على أي موضوع آخر ويشغف بها شغف الرجل بالمرأة؛ وذلك لأن العقل الباطن يرى في التمثال الجميل من المرمر أو صورة المرأة الحسنة أو رسم الملائكة ومزاولة العمل فيها بالرسم أو النحت لذة ليست بعيدة من اللذة الجنسية، وقد يرتقي الإنسان بالتسامي أيضًا إلى السعي وراء مطالب تبدو في الظاهر كأنها بعيدة عن الغريزة الجنسية ولكنها في الواقع متشعبة منها، كالتزويق للحائط أو إقامة العمارة العالية أو الزهو بتأليف كتاب أو جمع الثروة أو الألعاب الرياضية أو الغناء أو الموسيقى، فالحركات الرياضية تشبه من أوجه كثيرة تلك الحركات التي يقوم بها الذكر أحيانًا لاجتذاب الأنثى، وهذا واضح في ذكران الطيور، وتلك الصفات المجردة كالزهو والتغلب والسيادة ترجع كلها أيضًا إلى هذه الغريزة، أما علاقة الغناء والموسيقى بها فواضحة، وهناك من الصفات ما يستبعد الإنسان علاقته بهذه الغريزة الجنسية مثل الشجاعة والتضحية، ولكنك عند التحليل لا تلبث أن تجد أن أكبر ما يدعو إلى مزاولة هاتين الصفتين هو هذه الغريزة، فالحيوان القديم في كلٍّ منَّا لم يكن ليضحي بنفسه أو يتشجع في القتال حتى الموت إلا دفعًا عن زوجته وأولاده أو حبًّا في اغتصاب الأنثى.
ومن هذا يتضح للقارئ أن النفسلوجية الحديثة لا تقول باستسلام الشاب لغريزته الجنسية؛ لأنها تجد بالتسامي منصرَفًا نافعًا للأمة وللشخص، وهي تجد من هذا التسامي مادة للنبوغ وأحيانًا للعبقرية كما نرى في مثال لويولا، ولكن إذا لم ينجح التسامي وكانت التربية السابقة لا تؤهل صاحبها له فيجب عندئذٍ تفاديًا من الانحرافات أن يتزوج.
وعلى هذا يمكننا أن نقول: إن تأخير الزواج يزيد النبوغ في الأمة، ولكنه يُحدث إلى جانب ذلك انحرافات وأمراضًا، ثم يمكننا أن نزيد على ذلك بأن الترخيص في زواج أكثر من امرأة يقلل النبوغ؛ لأنه يقلل التسامي؛ إذ إن الغريزة الجنسية تجد منصرَفًا طبيعيًّا لها في التنقل من أنثى إلى أخرى.
- (١)
أن يكون عند الشخص «مركَّب نقص» قد نشأ فيه وهو صغير.
- (٢)
أن يوهَم منذ الصغر بالبراعة في ناحية ما من نواحي السعي الإنساني.
- (٣)
أن يتعود عادات حسنة في السنين الأولى من عمره.
- (٤)
أن يتسامى اللبيد عنده نحو درس أحد الفنون.
فهذه كلها مجتمعة تعمل للنبوغ إذا ساعد الحظ إنسانًا على أن تجتمع فيه كلها، وهذا نادر. بل أكبر الظن أنها إذا اجتمعت أحدثت ما يقرب من العبقرية.
وهذا الشرط الثالث الخاص بتعويد الشخص عادات حسنة من أقوى عوامل النجاح، فالفرق بين الشجاع والجبان هو في الحقيقة فرق في العادات؛ لأن أحدهما نشأ على أن يجابه ويتصدى والآخر تعوَّد أن يُحجم ويخنس، وأحيانًا يكون الفرق بين الذكي والبليد عادة أيضًا، فمن الناس من يتعود أن ينظر إلى الأشياء نظرة التدقيق والفحص والنقد وآخرون يتعودون المَجانة والخفَّة، ولكن كلامنا هذا لا ينفي أن هناك ناسًا يولدون وهم بُلْهٌ تتبين البلاهة في ملامح وجوههم وآخرين تتبين الذكاء فيهم. كما أن العبقري الصحيح يكاد يكون إنسانًا جديدًا في نظام الأحياء.