النفس وطبقاتها
كان العلماء قبل ٣٠ أو ٤٠ سنة إذا بحثوا في التفكير وطرقه استحال بحثهم إلى منطقٍ أو قواعد منطقية تتوهَّم منها أن الإنسان حيوانٌ عاقلٌ يفكر بعقله ويعي ما يفكر فيه، ولكنهم الآن أكثر تواضعًا؛ يستشفُّون الحيوان القديم تحت البشرة الإنسانية، ويعرفون أننا بعيدون عن المنطق في تفكيرنا، ويعرفون أيضًا أن العقل على سموِّه هو أضعف أدوات التفكير عندنا؛ قلَّما يثبت على النظر في موضوعٍ دون أن يشرد.
فقد أحاول أن أفكر في موضوعٍ ما فلا أكاد أبدأ وأضع ترسيم البحث حتى أرى أن عقلي قد شرد وجمح، فأتذكر على الرغم مني ميعادًا ضربته لصديق، أو قد أتجشأ من طعام ثقيل سابق فينحرف تفكيري، ثم أرى الذكرى تنبعث على أثر هذا التجشؤ فأنشأ أفكر في الطعام وفي بعض عادات سيئة في الطبخ، ثم أعاود البحث فلا أكاد أقضي فيه دقيقتين أو ثلاثًا حتى يمر بذهني خاطر يذكِّرني بإهانة لحقتني منذ يوم أو منذ سنة ثم يخطر ببالي أن هذا الذي أهانني لم أقضِ معه حقي في توبيخه.
وهكذا، فلو تأملت نفسي في هذا التفكير وكيف يشرد فكري، وكيف تطرأ عليه الخواطر بلا إرادة مني، وكيف أتأثر أحيانًا بحركة أمعائي، عرفت من ذلك كله أني لا أفكر بعقلي، وإنما أفكر بشيء آخر أكبر من عقلي.
وهذا الشيءُ الآخر هو النفس، هذه المتألِّفة من غرائزي القديمة ومن هذا الجسم الذي يتأثر منها ويؤثِّر فيها، ومن العقل الباطن الذي يُحدث لي الأحلام وأنا نائم ويورد عليَّ الخواطر وأنا في غفوة اليقظة، ومن العقل الواعي الذي أفكر به أحيانًا وأنا أعي ما أفكر فيه.
فأنا أفكر بنفسي ولست أفكر بعقلي.
ولكن هذه النفس طبقات؛ أقدمها وأرسخها هو تلك الغرائز القديمة التي نشترك فيها والحيوان القديم؛ مثل الشهوة للطعام، يليها هذا العقل الباطن الذي يعمل في الحلم وأنا لا أعي بعمله، وأخيرًا؛ أي إن آخر طبقة فيها وأحدثها هو هذا العقل الواعي الذي نفكر به أحيانًا تفكيرًا مدبرًا منطقيًّا.
وطبقات هذه النفس تثبت بنسبة قدمها ورسوخها، فنحن مثلًا إذا عمدنا إلى مخدِّرٍ ما فتناولناه كان أول ما يتخدر به في نفسنا هو هذا العقل الواعي؛ لأنه أحدث ما في أنفسنا، فهو بمثابة الشجرة حديثة الغرس أيُّما ريحٍ تهب عليها تُميلها أو تكسرها، فإذا ثمِلنا قليلًا عزب عنَّا هذا العقل، فلا نطيق أن نقرأ كتابًا علميًّا، ولا نطيق الجدل المنطقي، وفي هذه الفترة نجد أن العقل الباطن عقل الخواطر والأحلام ينتبه فنستسلم لخواطر لذيذة. وكل ذلك وغرائزنا القديمة باقية كما هي، لم تتأثر بهذا المخدر؛ لأنها أقدم ما في نفوسنا، فهي لا تتزعزع بالسهولة التي يتزعزع بها عقلنا الواعي أو حتى عقلنا الباطن مع ثباته، ولكن إذا نحن أدمنا الشراب تزعزعت الغرائز القديمة فنقيء مثلًا أو لا نستطيع المشي.
ففي كلٍّ منَّا عقلان: عقل واعٍ حديث النشأة في نفوسنا سريع التعب هو عقل اليقظة والتدبير والعلم، وعقل باطن قديم لا نعي بما يفعل هو الأصل في خواطرنا وفي أحلامنا.
وعقلنا الواعي هو العقل الراقي الذي به ندبر تدابيرنا، وهو أصل الاكتشاف والاختراع والبحث العلمي، يمكننا أن نجادل ونناقش به، وما دمنا في يقظة تامَّة لا يعترينا الكلال أو النعاس فهو يسيطر على العقل الباطن فنضبط لساننا عن السهو والخطأ، ولكن إذا تعبنا كان هو أول ما يشعر بالتعب فيغير عليه العقل الباطن ويحشد رءوسنا بالخواطر اللذيذة، وأحيانًا إذا كانت لنا نية مخبوءة فإنها تبقى مستورة ما دمنا في يقظة وما دام عقلنا الواعي مسيطرًا، فإذا ثملنا بالخمر أفشينا هذه النيَّة؛ لأننا عندما نثمل تتراخى رقابة العقل الواعي على العقل الباطن فيعلن هذا نيَّاتنا.
وموضوع هذا الكتاب هو العقل الباطن؛ أي هذا العقل الذي نحلم به والذي يورد إلينا الخواطر اللذيذة، فقد أثبتت الأبحاث أنه هو الذي يقرر عقائدنا الدينية والسياسية، ويكوِّن الأخلاق والأمزجة للناس، ويعمل لرقيهم أو انحطاطهم، فدرسه هو درس للشخصية الإنسانية كلها.
وهذا العقل الباطن قديم في نفوسنا، وطريقة إقناعه ليست المنطق بل الإيحاء، وهو يجري على أساليب قديمة في تفكيره، فهو لا يفهم مثلًا الصور المجردة للمعاني؛ ولذلك فطريقة تفكيره هي الرموز؛ أي إنه يضع للمعنى المجرد كالموت أو الشرف أو الحياة رمزًا مجسَّمًا كما نرى ذلك في الأحلام.
ثم هو في أغراضه يسير على الطرق الصبيانية فيطلب اللذة والسرور فقط، فنحن مثلًا إذا تخاصمنا مع أحد الناس وتركنا الخواطر تجري بلا عائق من العقل الواعي؛ أي بلا رقابة منه، ألفينا أنفسنا نتخيل هذا الخصم وهو مقهورٌ مهانٌ أمامنا، فإذا نمنا وزالت سيطرة العقل الواعي تمامًا رأينا هذا الخصم ونحن نضربه أو نقتله، مع أن موضوع الخصام قد لا يتطلب منَّا وقتَ وعْينا ويقظتنا سوى أن نلوم هذا الخصم لومًا خفيفًا.
فعقلنا الباطن يجري على أساليب آبائنا المتوحشين، وغرائزه كلها غشيمة في الحب والانتقام لم تتهذب، وهو يجري على الثقافة القديمة ويكتسب تجارب من حياة الصبا أو الشباب ثم يحيلها إلى رموز، وهذه الرموز التي نراها في الحلم تشبه كل الشبه، بل قد تتفق أحيانًا كثيرة والرموز التي كان يرمز بها آباؤنا للمعاني حين شرعوا في تأليف اللغات ووضع الألفاظ وإيجاد الاستعارات والمجازات التي هي في الواقع رموز.
ويمكن أن نسمي العقل الواعي: عقل الثقافة الحديثة.
أما العقل الباطن فهو: عقل الثقافة القديمة.
ونحن في تفكيرنا نستعمل العقلين، كما هو ظاهر مثلًا من الشاعر الذي يؤلِّف القصيدة؛ فإنه يدبر الأفكار أولًا، ويرصد المعاني ويختار الألفاظ على وعي، ثم مع ذلك يستعين بما يلهمه إليه عقله الباطن من خواطر في المعني أو في اللفظ على غير وعيٍ منه. وإذا أنت تأملت القصص القديمة والأشعار الجاهلية وأدب القدماء على وجه العموم ألفيته في أكثره من عمل العقل الباطن، خواطر متوالية تُنبئ عن أغراض وأمان صبيانية، كما نرى في أساطير المصريين القدماء. أما العلم الحديث فقائم على العقل الواعي.
ويحدث أحيانًا أن هذا العقل الباطن يطمو بالعقل الواعي، فيحدث من ذلك جنون، بحيث يعمل المريض أعمالًا لا يعي بها، ويسلك مسالك صبيانية، ويتخيل الخيالات، أو يأتي بحركات هي كالرمز لأشياء ينويها في نفسه، أو هو يستجيب للمنبِّهات استجابات قديمة كما يحدث في الكابوس مثلًا.