الأدب والعلم والنفس البشرية
عندما ننظر إلى تطور الثقافة نجد أنها تخرج بالتدريج من ربقة العقل الباطن إلى العقل الواعي، فهي سحر أولًا ثم أساطير دينية ثم أدب يحتوي على شتَّى الفنون، وأخيرًا نجد العلم.
فالسحر هو أول ثقافة الإنسان؛ أي إنه عندما شرع يضع «النظريات» ويرتب النواميس الطبيعية ويحاول أن يقف على كُنْه العالم والطبيعة عمد إلى السحر، وإذا نحن تأملنا الآن طرق السحر كما يمارسها المتوحشون لعهدنا هذا أو كما رويت في الكتب القديمة لم نلبث أن نجد أنها كلها تجري على طرق العقل الباطن، فالقاعدة التي يجري عليها السحر هي المحاكاة، فأنا أريد مثلًا أن أقتل خصمًا لي أكرهه فأنا أرسم صورته ثم أحرقها، أعتقد بذلك أن هذه الصورة ما دامت تحاكيه وما دامت قد أُحرقت فإن الإحراق سيناله أيضًا، ومن ذلك أن العرب كانوا إذا امتنع المطر ملئوا إناءً بالماء ثم ارتفع به أحدهم فوق رابية فيصبُّه، يعتقد بذلك أن السحاب سيحاكي هذا الإناء فيهطل منه المطر، وإذا أبِق عبد عندٌ العربي غرز عصًا في الأرض وربط فيها خنفساء بحبل، فإذا حاولت الخنفساء أن تنجو دارت حول العصا حتى تلصق بها، يعتقد بذلك أن العبد سيطوف في الفلوات ثم يئوب إليه على نحو ما تفعل الخنفساء عندما تئوب إلى العصا وهي تحاول الفرار؛ أي إن ما يحدث للخنفساء يحدث للعبد. وذكر ياقوت عن أهل دنباوند أنه إذا «دامت عليهم الأمطار وتأذَّوا منها وأرادوا قطعها صبُّوا لبن المعز على النار فانقطعت.» قال ياقوت: «وامتحنت هذا من دعواهم دفعات فوجدتهم فيه صادقين.»
ومعنى صب اللبن على النار أنه يتبخَّر ويجفُّ، وهذا ما يراد بقطع المطر؛ أي إن السحاب يذهب بخارًا فلا يتكاثف ويقع ماء، فما يحدث للبن يراد إحداثه للمطر على سبيل المحاكاة.
وقد رأينا في فصول عديدة سابقة أن المحاكاة مبدأ من مبادئ التفكير للعقل الباطن وأوضحنا قيمتها في الإيحاء؛ ولذلك لا ندهش أن تكون المعارف الأولى للإنسان قائمة على سحر المحاكاة كما أن العقل الباطن قد سبق العقل الواعي.
وقد أخذت الأساطير الدينية مكان السحر عند الإنسان لأول عهده بالثقافة الدينية، وأساطيره كلها من عمل العقل الباطن، فقد قلنا: إن هذا العقل كما هو ظاهر من أحلامنا لا يدرك الصفات المجردة، ويقيم في مكانها أشخاصًا يرمزون إليها، فنحن نفهم العظمة ونراها في الحلم رجلًا ضخمًا، وكذلك عندما شرع الإنسان يبتكر نظرية لخلق الكون لم يجد ما يوافقه سوى أن ينسب هذا الخلق إلى عدة أشخاص أقوياء، فالآلهة القديمة عند الرومان والمصريين والإغريق وغيرهم هي المحاولات الأولى لإيجاد نظرية للخلق، ولكن لما كان العقل الواعي لم يهتدِ بعدُ إلى الطرق العلمية الحديثة ووضع النظريات المجردة فإنه اعتمد على طريقة العقل الباطن في الرمز إلى القوى الطبيعية بأشخاص عظماء أطلق عليهم أسماء الآلهة.
ونشأ الأدب بجميع فروعه؛ أي الفنون الجميلة كلها بما فيها من شعر ونثر وتصوير ومثالة وعمارة، عقب الأساطير، وكان اشتغاله أولًا بهذه الأساطير ثم استقلَّ بالتدريج. وإذا نحن تأملنا الأدب بجميع فنونه ألفيناه قائمًا على الخواطر أكثر مما هو قائم على التفكير الواعي. والخواطر هي طريقة العقل الباطن، فالشاعر لا يتقيد بعقله الواعي إلا أقل التقيُّد ويترك نفسه للخواطر والكلمات الطارئة حتى ينظم القصيدة، بخلاف العالم الذي يتقيَّد بعقله الواعي ويضع ترسيم البحث قبل أن يشرع فيه، والفنون القديمة كلها محاكاة، وكان المثَّال أهم من المعمار؛ لأن الأول كان يجيد عمله بخلاف الثاني الذي بقي فنُّه ناقصًا لأن العقل الواعي لم يكن قد استقرَّ تمامًا في النفس.
فالعالم القديم هو عالم الفنون؛ ولذلك نرى الشعر الجاهلي ونعجب ولا نستطيع أن نجيد في النظم أكثر مما أجاد القدماء، وكذلك صنع التماثيل قد بذَّنا فيه القدماء. أما في الفنون التي تتصل بالعلم كالعمارة فإننا نفوقهم فيها.
والقرون الوسطى هي عصر الصراع بين الطريقة الأدبية والطريقة العلمية؛ أي بين العقل الباطن والعقل الواعي؛ ولذلك نجده حافلًا بتلك الأبحاث «الكلامية» التي كانت أشبه شيء بالشروع في البحث العلمي بالتدقيق أولًا في معنى الألفاظ والترتيب المنطقي، ونحن نقرأ هذه الأبحاث الآن فلا ندري هل هي علم أو أدب، والواقع أنها حلقة الاتصال بين العقل القديم والعقل الجديد.
وأخيرًا ترانا نعيش الآن في عصر هو عصر العلم. حتى الأدب نفسه صار يستغل العلم، فأكثر الكتَّاب استعمالًا للنفسلوجية الحديثة هم الأدباء؛ وذلك لأن العقل الواعي قد أوشك أن يبلغ أشده ويسيطر على نظام الهيئة الاجتماعية.
وقد كانت الثقافة القديمة قائمة على الأدب بفنونه المختلفة، وقد أثمرت للقدماء حضارة زراعية. أما الثقافة الحديثة فتقوم على العلم، وقد أثمرت أو هي ستثمر حضارة صناعية، وفي وقتنا الراهن نجد للأمم العظيمة الراقية مثل إنجلترا وألمانيا والولايات المتحدة ثقافة علمية وحضارة صناعية، بينما الأمم الشرقية ما تزال في أسر العقل الباطن تحب الفنون وتمارس الزراعة، فثقافتها أدبية وحضارتها زراعية.
وفي أحلامنا وخواطرنا حين يطمو بنا العقل الباطن يرجع بنا التفكير إلى السبل القديمة. ومهما حاولنا أن نجعل معيشتنا وفق ما يرسمه لنا العقل الواعي فإننا ما نزال نحنُّ إلى الطرق القديمة وما زالت هي تؤثِّر فينا.