الفكاهة والفنون الجميلة
ليس أدلَّ على قوة الغريزة الجنسية من أن معظم النكات التي يتفكَّه بها «أولاد البلد» تحور وتدور حولها، فقلَّما يتألف مجلس من العوامِّ إلا وتسمع منهم إذا شرعوا في المزاح أنواع التورية الخاصَّة بهذه الغريزة؛ وذلك لأنهم في أوقات السرور ورفع التكاليف يتملَّصون من قيود الحضارة فيعبِّرون عن هذه الغريزة بالتورية والتلميح وينطلق العقل الباطن في اختراع الرموز كما يفعل في الأحلام، والتورية من نوع الرمز.
ونحن إذا اشتدَّت بنا العاطفة: عاطفة السرور أو الخوف أو الحزن ضعُف العقل الواعي وانطلق العقل الباطن يعبِّر عن هذه العاطفة بطرقه التي يستعملها في الأحلام، فقد نجمُد عن الحركة إذا فاجأنا لصٌّ فأخافنا ونشعر بما يشعر به الحالم وقت الكابوس، وإذا اشتد السرور استخفَّنا الطرب فيذهب عنَّا وقار الوعي حتى نستملح النكتة السمجة ونستحسن ما فيها من رموز وقحة، وإذا بلغ الحزن من الأم لوفاة ابنها عمدت إلى ملابسه فتحملها وتبكي عليها، والملابس هنا رمز لفقيدها كما أن التورية في النكتة رمز للغريزة الجنسية.
والرموز في الفنون الجميلة كثيرة، وكلها تدل على قوة الغريزة الجنسية، فالمثَّال يصنع تماثيل مختلفة للمرأة ويطلق عليها أسماء الفضيلة أو التقوى أو الغيرة أو السعادة أو نحو ذلك، وهذا كله يدل على أن الحب الجنسي هو أصل الفضائل الشائعة حتى إننا عندما نريد أن نجسمها لا نرى لها أوفق من جسم المرأة.
والأدب يعتمد على العقل الباطن في كثير من أساليبه، كالشاعر يصف رسوم الدار وهو يرمز بذلك إلى حبيبته الراحلة، ونحن نجد في الأدب كالأشعار والقصص والرسوم والتماثيل من اللذة مثلما نجد في الخواطر والأحلام؛ وذلك لأن الحضارة تكبت في أنفسنا طائفة كبيرة من العواطف فيقوم الأديب بالتفريج عنها بفن من الفنون الجميلة التي يمارسها، ولكنه مع ذلك لا يكشف عن عواطفنا ساذجة غشيمة كما نراها في الأحلام في أكثر الأحيان، بل هو يتسامى بهذه العواطف ويعلو عليها فيرفعنا معه إلى مستواه، ومن هنا وجوب الحرية التامَّة للأديب، بل يجب أن يكون الأدب مكشوفًا غير مستور بحيث يمكن الأديب أن يعرض لأي موضوع؛ لأن مهمته أن يتسامى بالعواطف ويرفع القارئ ويستعمل غرائزه لما هو أرقى من ظاهرها، وكما أن الأحلام والخواطر تخفف من ضغط العواطف المكبوتة كذلك الأدب يخفف منها ويتسامى بها أحيانًا إلى ما يرفع القارئ، وهو لا يستطيع ذلك إلا إذا كان له الحق في أن يمس الأشياء التي يمسها كل إنسان منَّا في سريرة قلبه.
وللحياة الاجتماعية التي نعيشها الآن تكاليف تكبت عواطفنا وخاصَّة الجنسية منها بحيث يتأخر الشاب عن الزواج مدَّة طويلة بعد سن المراهقة، وهذا الكبت مفيد إلى حدٍّ ما لأنه يجعل العاطفة المكبوتة تنصرف إلى عمل ما يمتُّ بصلة إلى أحد الفنون الجميلة، ولعلنا لا نخطئ إذا قلنا: إن التاريخ يثبت أن الأمم الشرقية التي أكبَّت على اللذة الجنسية وأكثرت من الزواج الباكر أو أباحت للرجل أن يتزوج عدة نساء لم تتقدم فيها الفنون الجميلة، بل بعضها قاطع هذه الفنون مقاطعة تامة، ومع ذلك فهذه المقاطعة للفنون لم تقلل الإقبال على الشهوات الغشيمة والاستزادة منها، وهذا بعكس ما نرى في الأمم التي يتأخر فيها الزواج، فإن العاطفة الجنسية المكبوتة تستحيل إلى قوة دافعة تنصرف إلى خدمة الفنون الجميلة، ثم هذه الفنون نفسها تقلل من حدَّة هذه الغريزة في الشبان؛ لأنها تتسامى بغرائزهم. وكل هذا يقودنا إلى الاستنتاج بأن ممارسة الفنون الجميلة وخاصَّة ما كان مكشوفًا منها كتمثال المرأة العارية «مع التسامي، كأن يرمز المثَّال إلى التمثال بمعنى التقوى أو البر أو نحو ذلك» يخفف عن العقل الباطن ذلك اللبيد المحبوس الذي يريد أن ينطلق بأية وسيلة.
وقد أكثرنا في هذا الكتاب من نسبة الأدب بفنونه الجميلة كلها إلى العقل الباطن ونسبة العلم إلى العقل الواعي، ولكننا لا نحب أن يؤخذ هذا الكلام على إطلاقه؛ فليس هناك حدٌّ فاصل تمام الفصل بين العقلين؛ إذ هما يتداخلان عند الهوامش، فخيال العقل الباطن يختلط أحيانًا كثيرة بمنطق العقل الواعي، والمخترع كالشاعر، كلاهما يفكر ويتخيل، وإن كان الأول أكثر منطقًا والثاني أكثر خيالًا، والتفكير العلمي نفسه يحتاج إلى نوع من الحضانة في العقل الباطن يختلف زمانها من أيام إلى أشهر بل أحيانًا إلى سنوات، وهنا يجب أن نذكر قول رفرز وهو رجل عاش طول عمره وهو مغموس في التجارب العلمية: «كثير من الأفكار العلمية التي أقدرها أكثر من غيرها واللغة التي أكسوها بها كانت ترد إليَّ في تلك الحال التي تترجح بين اليقظة والنوم وتتصل بالنوم التام.»