الجماعة من الناس
نحن نعيش الآن في عصر نؤمن فيه بحكمة الإجماع؛ فلنا برلمان تنفذ كلمته، ولنا جمعيات للبر والتعليم وما إليهما، وقد تعلمنا احترام الإجماع ونشأنا على أن نحتقر الخارج على الجماعة في السياسة أو الدين أو المذهب، ونحن نؤمن لأول وهلة بأن رأي الجماعة من الناس خير من رأي الفرد، وقد نتسامح ونقول بأن رأي الجماعة إذا لم يكن خيرًا من رأي الفرد فهو على الأقل ليس دونه، وخاصَّة إذا كان هذا الفرد نفسه عضوًا من هذه الجماعة.
ولكن الواقع أن رأي الجماعة هو على الدوام أحطُّ من رأي الفرد كما سنرى من التحليل الآتي: الناس في تطور مستمر لم يقف ولن يقف، فهم كلهم يشتركون اشتراك المساواة من حيث الغرائز القديمة، أما الكفايات الجديدة فيتفاوتون فيها، فنحن كلنا سواء في غرائز الحب والأكل والقتال والخوف؛ لأن كل هذه غرائز قديمة راسخة في الطبيعة البشرية، ولكننا نتفاوت في الذكاء؛ أي في هذه الكفاية الجديدة التي حصلت للإنسان في الأزمنة الأخيرة من وجوده على الأرض.
والناس في ذلك كالطبقة المتعلمة في الأمة كلها تشترك في معرفة القراءة والكتابة التي تعلمتها في سن الصبا، وهي أقدم ما تعلمته، ثم بعد ذلك يتفاوت الأفراد في معرفة التاريخ أو الجغرافيا أو الرياضة، فإذا فرضنا أننا جمعنا أفراد هذه الطبقة المتعلمة وأردنا أن نظفر منها برأي إجماعي تتفق عليه الجماعة كلها ولا يشذُّ واحد عنها فإن هذا الرأي لن يعدو حدود معرفة القراءة والكتابة أو يكون في طبقة هذه المعرفة؛ لأن القراءة والكتابة هما «القاسم المشترك الأعظم» الذي تشترك فيه أفراد هذه الجماعة بلا شذوذ، فهم مثلًا لن يتفقوا على رأي في التاريخ أو الجغرافيا أو الرياضة لأنهم لم يتعلموها كلهم.
وهذه حال الجماعة من الناس في كل اجتماع؛ فهم يشتركون في الكفايات القديمة وينزلون منها منزلة المساواة، ولكنهم يتفاوتون في الكفايات الجديدة فلا يمكن إجماعهم على شيء منها، ولكن الجديد أرقى من القديم كما هو واضح في الذكاء الذي هو أرقى من الغرائز الغشيمة القديمة. ولذلك فعقل الأفراد إذا انفردوا أرقى من عقولهم إذا اجتمعوا؛ لأنهم في اجتماعهم سينزلون إلى ما يشتركون كلهم فيه، وهذا الاشتراك لا يكون إلا في الكفايات القديمة في «أبجدية» الذكاء، وليس فيما جدَّ من الكفايات، فهم متفاوتون فيه لا يمكن أن يُجمعوا عليه، دع عنك أن الإيحاء يقوم في المجتمعين مقام الذكاء في الرجل المنفرد.
ولذلك يجب أن نسيء الظن بكل ما يُجمع عليه الناس.
•••
وإذا صح ما قدمناه وجب أن نرى في الزعيم الذي يملك قلوب السواد من الأمة رجلًا لا يخاطب الذكاء في الناس بل يخاطب الغرائز؛ لأن الذكاء للقلة والغرائز للكثرة بل للكل، ويجب أن تذكر أن هذا «الكل» لا يدرك الجدل الذهني — ما للمسألة وما عليها — لأن هذا يحتاج إلى ذكاء، وهذا الذكاء شيء حديث نتفاوت فيه لا يمكن أن نُجمع عليه، أما الغرائز فقديمة كلنا يشترك فيها.
فالزعيم يجب أن يجزم، ولكن هذا وحده لا يكفي للزعامة.
وإنما الشرط الأساسي للزعامة أن يعمد الزعيم إلى «الإيحاء» فيستعمله مع الجماعة، وقد يستعمله على غير وعيٍ منه كما هو واضح في غلادستون أو زغلول أو كتشنر.
والإيحاء هو ذلك التأثير الذي يشعر به الإنسان فيؤدي ما يُطلب منه ويسلك مسلك المطاوعة والرضا دون أن يجعل للعقل الواعي سبيلًا إلى المناقشة والتردُّد، وقد يكون الإيحاء من الخطيب للجماعة بالفوام أو الصوت أو السيرة السابقة أو الشيخوخة الصالحة ولا يكون أبدًا بالمنطق.
ونحن نتأثر بالإيحاء على غير وعيٍ، وهذا يدل على أن الخطيب الذي يوحي إلينا أغراضه يخاطب فينا العقل الباطن، والسمة الأصلية لهذا العقل أنه غير واعٍ.
ولكن العقل الباطن أحطُّ من العقل الواعي؛ ولذلك فنحن إذا اجتمعنا للخطيب السياسي أو الديني تجرَّدنا من أهم صفة فينا وهي ذكاؤنا الواعي، وارتددنا إلى حكم الجماعة نتأثر بالإيحاء.
والإيحاء تختلف درجاته، فهو في الحيوان الاجتماعي أكثر مما هو فينا، فقطيع الخراف يعبر الجدول الذي تعبره أولى النعاج، والخيل تشرد لأن واحدًا منها شرد، ونحن في المظاهرة نجري ونتفرق لأننا رأينا واحدًا منَّا يفرُّ، وإذا رُعب أحد المجتمعين سرى الرعب إلى سائرهم.
ففي حالة الاجتماع يقوم الإيحاء مقام الذكاء الذي هو الصفة الغالبة لنا وقت الانفراد، وبعبارة أخرى نقول: إن الفرد ينحطُّ مجتمِعًا ويرتفع منفردًا.
ومما يدل على أن الإيحاء دون الذكاء؛ أي إن العقل الباطن دون العقل الواعي، أننا في المرض والصبا والطفولة وفي حالة السكر من الخمر والتخدير من الكلوروفورم نكون أكثر استعدادًا للإيحاء فنصدِّق ونطاوع أكثر مما نكون وقت الصحة والشباب والصحو.
وخلاصة القول: إننا في اجتماعنا نرتدُّ إلى الوراء في سلَّم التطور فيكون السائد علينا في مسلكنا عقلنا الباطن أحطَّ عقلينا، وعندئذٍ يكون سبيل الإقناع لنا هو الإيحاء لا المنطق.
ومن هنا تفهم قوة الخطابة وتعلقها بالخطيب من حيث هيئته وطول قامته ونبرات صوته والوهم السابق عنه والاعتقاد الراسخ في أخلاقه السامية، فكل هذه الصفات توحي إلينا احترامه فنصدقه ونطاوعه بلا جدل، ومثل هذا الخطيب يصح أن يكون زعيمًا.
ومحور البحث في هذا المقال أننا نريد أن نُثبت أن الإنسان في وقت اجتماعه يكون أحطَّ مما هو في وقت انفراده، فهو في الحالة الأولى ينزل إلى مستوى الكثرة الساحقة فيرى أنه يشترك وإياها في الغرائز القديمة دون الذكاء الجديد، ثم أيضًا يقوم الإيحاء مقام المنطق.
فنحن نعرف مثلًا من الأبحاث النفسية الحديثة أن الكابوس الذي يحدث لنا في الليل إنما يحدث لعواطف محتبسة نحبسها في يقظتنا فتنفس عن نفسها في النوم؛ أي حين يكون عقلنا الواعي غافيًا، ونحن نسلك في الكابوس مسلك أسلافنا القدماء حين كانوا يستجيبون للخوف بالجمود عن الحركة حتى لا ينتبه إليهم الوحش المغِير عليهم فينجون بجمودهم هذا. كما هو الحال الآن في بعض الحيوان الذي يجمد عند المفاجأة ونقول نحن إنه يتماوت حيلة للنجاة كالثعلب مثلًا، فنحن نجمد في الكابوس ونرى وحوشًا.
ومعنى هذا أننا في الكابوس نفكر بعقل حيواني قديم، وقد ثبت بالتحليل أن أصل الكابوس هو حبس عاطفة قديمة أو حديثة.
وهذا هو حال الجماعة في الثورة، فهي في الجماعة كالكابوس في الفرد من حيث العلَّة الأولى وهي حبس العواطف، ومن حيث المسلك وهو المسلك الحيواني القديم، فالثورة كما نعرف جميعنا تنشأ من الضغط السابق المتمادي، ثم تفور فجأة فنعمد فيها ونحن مجتمعون إلى أعمال وحشية كأن نحطِّم المخازن أو ننهب الأغنياء أو ندمر دور الحكومة أو نقتل الزعماء أو نتهتك في علاقاتنا بالنساء، فقد حدث كل ذلك في الثورة الفرنسية الكبرى، وحدث ما يشبهه في ثورتنا سنة ١٩١٩.
فهذه الثورة تبصرنا بأشياء كثيرة: منها أنه سبقها أربع سنوات من الضغط، فلم نكن نقدر أن ننفِّس بالكلام عما في قلوبنا، ثم زاد الضغط بسرقة جمالنا وغلاتنا بأثمان اسمية، واستفحل الضغط حين كُلف المأمورون في المراكز بأخذنا بالقوة للعمل في فلسطين، فكان المأمور يربط الفلاحين بالحبال ثم يسوقهم إلى ميدان القتال «متطوعين.»
ثم جاء الكابوس فانحطَّت أخلاقنا انحطاطًا شنيعًا، وصرنا لا نرى في الفجور شيئًا يعيبنا، فنهبنا المخازن وحطمنا القطرات، وصار الشباب الذي لا يُطيق أن يذبح الفرخة وهو منفرد يقتل الجندي الإنجليزي بل أحيانًا يمثِّل به، وكل هذا لأننا كنا في كابوس بعثه الضغط السابق.
والعبرة مما ذكرناه آنفًا واضحة، وهي أولًا الشك فيما يُجمع عليه الناس من الآراء والعقائد؛ لأن الوسيلة لهذا الإجماع هي النزول إلى المستوى الذهني واستعمال الإيحاء في مكان المنطق. ثانيًا تحامي الضغط الذي يولد الكابوس، وأي كابوس رآه الناس في العالم مثلما رأى قيصر روسيا في الشيوعية؟! بل أي ضغط أنزله إنسان بأمَّة مثلما أنزله القيصر بالروس؟!
فأخيب السياسيين في العالم هو ذلك الذي يلجأ إلى الضغط؛ لأنه بذلك يحبس العواطف لكي تنفجر يومًا ما، وهي في انفجارها تجري على أقدم الأساليب، كما أننا في الكابوس نجري على أقدم أساليب الخوف.
والطريقة المتبعة الآن في معالجة الكابوس هي تحليل نفس الشخص ومعرفة العلَّة الأصلية، فإذا وقف الشخص عليها وتجرَّدت من رموزها وستائرها طُلب إليه أن يواجه الموضوع ويعالجه بذكائه ومنطقه ولا يُخفيه عن نفسه؛ لأنه بإخفائه وإقصائه يندسُّ إلى العقل الباطن الذي يُعرب عنه بطرقه القديمة.
وهذا هو ما يجب أن نفعله إذا كنا نريد توقِّي الثورة؛ يجب أن نصارح الناس ونجابِه المسائل التي يشكون منها ونحاول حلها، وفي هذه المحاولة تنفيس لما احتبس في النفس ويوشك أن ينفجر كابوسًا مظلمًا مدمرًا.