النفسلوجية الحديثة وأثرها
موضوع النفسلوجية الحديثة هو العقل الباطن، فاكتشاف العقل الباطن يرجع الفضل فيه إلى رجال هذا العلم الذين أوضحوا أثره في الأخلاق والعقائد وبيَّنوا ما للمسائل الجنسية من الأثر الكبير في حياتنا اليومية وفي فنوننا وآدابنا.
فالقارئ لهذا الكتاب يتَّضح له أن العقل الواعي عقل اليقظة والانتباه لا يسيطر على حياتنا ولا يقرر ميولنا وأذواقنا، وإنما يرجع ذلك كله إلى العقل الباطن.
فهذا العقل الباطن هو خزانة العواطف المكبوتة التي يمنعنا الحياء أو الشرائع أو الفقر من الاستسلام لها، وهو ينفِّس عنها بالخواطر والأحلام، وأحيانًا إذا كانت هذه العواطف قوية والكبت شديدًا فإنها تنفجر وتتخذ هيئة هستيريا أو نوراستينيا تشبه الجنون.
ومن هذه الظواهر نعرف أن حبس العواطف يؤذي الناس، وخصوصًا تلك العاطفة الجنسية التي هي أعنف العواطف جميعًا، وليس معنى كلامنا أن النفسلوجيين يقولون بالاستسلام لهذه العاطفة، بل يقولون بالصراحة في الكلام عنها، وينصحون للشاب بالمناقشة فيها؛ وذلك لأن هذه المناقشة تُزيل عنها مسحة اللغز الذي يمسحها عليها الخفاء، ومن أغرب ما ثبت من الانتحار وهو يؤيد الدعوة إلى الصراحة والبوح والمناقشة أن الأمم الكاثوليكية أقل الأمم انتحارًا، وهذا ثابت من الإحصاءات التي تنشرها الحكومات، وهذه القلة تُعزى بلا شك إلى أن الكاثوليكي يعترف إلى الكاهن، وباعترافه ينفِّس عن عاطفة مكبوتة لا يُطيق احتمالها، وليس التحليل الذي يقوم به النفسلوجي مع المريض سوى مناقشة يعترف فيها المريض بمركَّباته القديمة، فإذا توضحت أمامه سكنت نفسه إليها وذهب عنه مرضه.
ولا يمكن أن نعالج الشاب بالاستسلام لعواطفه؛ لأننا بذلك نقيم في نفسه صراعًا جديدًا في مكان الصراع القديم؛ لأن الاستسلام للعواطف يجرُّ وراءه تبعات جديدة تُحدث عواطف جديدة مؤلمة للنفس، فإذا لم يكن الزواج مستطاعًا فإنه يمكن التنفيس عن العاطفة الجنسية بالتسامي؛ أي بممارسة نوع من الفنون الجميلة أو بالسعي في سبيل البرِّ بما هو ذو علاقة بهذه العاطفة.
وبدرس العقل الباطن يمكننا الآن أن نفهم أساطير الإنسان القديم وكيف نشأت عقائده وكيف اهتدى إلى الأداء بالمجاز والاستعارة، فإننا في أحلامنا نرى أحيانًا كثيرة صورة أسلافنا ونرى في رمز الحلم الاستعارة الأولى للغة.
وبالعقل الباطن نعرف الآن أن العقائد لا تقوم بالبرهان بل بالإيحاء، وأن الرأي العامَّ يتكون بالعقائد، وأن التعصب للرأي السياسي الآن يقوم مقام التعصب للرأي الديني في الأزمنة القديمة.
وتربية الطفل كادت تكون الآن من المكتشفات الجديدة؛ لما أسبغ عليها درس العقل الباطن من النور، فإننا نعرف الآن أن المركَّبات المؤذية تحدث أيام الطفولة، وأن قوة الإيحاء كبيرة جدًّا في تلك السن، وأن تربية الأخلاق يجب ألَّا تتعدى السنين الخمس أو الست الأولى للطفل.
- (١)
نقدِّر الفنون الجميلة ونعرف أنها ليست للتسلية واللذة فقط، بل أيضًا لتوجيه الغريزة الجنسية إلى ما يرفع ويرقِّي، بحيث ترى الآن أن من واجب كل فرد حفظًا لصحة نفسه وجسمه أن يمارس أحد الفنون الجميلة.
- (٢)
نعرف أن العقائد سياسية كانت أم دينية تقوم في الغالب على الإيحاء فلا ينفع فيها جدال أو علم.
- (٣)
أن الصراحة في المسائل الجنسية تقلل من حدَّة العاطفة، وقد تفتح هذه الصراحة بابًا للتسامي.
- (٤)
أن التربية الأخلاقية الحقة يجب ألَّا تعدو سن الصبا، فيجب لذلك أن نغرس في ذهن الصبي بجميع ضروب الإيحاء خصال الشجاعة والجرأة والدقة والبر.
- (٥)
أن كل شاب يمكنه أن يعالج نفسه من الأخلاق السيئة والعادات المرذولة بأن يغرس في نفسه عقيدة يوحيها إلى نفسه بالتلقين والتكرار.
- (٦)
أن النجاح والصحة ميسوران لكل إنسان إذا أوحاهما إلى نفسه ودأب في ذلك وانتفع بعقله الباطن.
- (٧)
أن النفس الإنسانية تنزع إلى الرقيِّ ولو كان في ذلك هلاكها، فكل شاب يعمل لترقية نفسه يجد الطريق إلى ذلك أيسر عليه من الطريق إلى الانحطاط؛ لأنه في الحال الأولى يجاري طبيعته الأصلية التي يُثبتها التطور السابق للإنسان.
- (٨)
أن العقل الواعي هو عقل المعرفة والعلوم وأنه يوشك أن يحدث في العالم المتمدين حضارة صناعية، حتى الأدب نفسه قد اصطبغ صبغة علمية بتأثير العقل الواعي.