العقل الباطن
لنا عقل واعٍ نعمل به أعمالنا على وعي بما نعمل، ولنا عقل باطن يعمل وكأنه بعيد عنَّا، وذلك إذا غفونا أو نمنا، ففي الغفوة بعد الغداء مثلًا نرى الخواطر تجري متلاحقة وفيها السخيف وفيها المعقول، ونكاد لا نعي بها إلا إذا وقفنا في مجراها، وكذلك في النوم تجري أحلامنا على غير وعيٍ منَّا وفيها من السخافات ما نضحك منه عند اليقظة.
ولسنا نشك في أنه ليس في الحلم وعي، وكذلك الخواطر تجري على غير وعيٍ منَّا، ولكننا مع ذلك نشعر بأننا نتسلط عليها أكثر من تسلطنا على الأحلام، وهي لهذا السبب قليلة السخف إذا قوبلت بالأحلام؛ لأن العقل الواعي الحديث يتغلب عليها ويجعل فيها شيئًا من المنطق.
والإنسان أكثر الحيوانات وعيًا؛ بدليل أن له أمسه وغده، ولكن الحيوان ليس محرومًا كل الحرمان من الوعي؛ فإن أصل الوعي هو التردُّد، فنحن مثلًا قد نمشي في الشارع ولا نعي بما حولنا أو بالطريق كل الوعي، فإذا عثرنا وترددنا في الانحراف لاتخاذ خطوة مناسبة زاد وعينا بالطريق. ففي كل الحيوانات المترددة في مسلكها شيء من الوعي هو على أقل درجاته في تلك التي تتسلط الغريزة على مسلكها، وعلى أعلى درجاته في ذلك الذي يتسلط العقل على مسلكه، وهو الإنسان.
وقد قلنا: إن عقل الثقافة الحديثة لا يتحمل التعب كثيرًا، وهو أكثر ما في النفس وعيًا؛ ولذلك قلَّما نستطيع الإقامة على الوعي التام إلا مدَّة قليلة. ونحن في حاجة إلى النوم لكي نريح هذا العقل بإزالة حالة الوعي، وأحيانًا نلجأ إلى الخواطر السائبة تنطلق كما تشاء لكي تخفف عنَّا التعب الذي يجلبه علينا الوعي، وإذا شغل بالنا همٌّ عظيم يزيد حالة الوعي عندنا فإننا كثيرًا ما نهرب منه بشرب الخمر أو بالتدخين أو القهوة أو نحو ذلك.
وفي حالتي النوم والاستسلام للخواطر حين يغفو العقل الواعي ينتبه العقل الباطن، ولا نعني بذلك أنه كان نائمًا فانتبه، بل نعني أنه في اليقظة يكون تحت سلطان العقل الواعي، فهو مكبوت مقيد، فإذا نمنا أو غفونا انطلق يسير في مجراه، فنراه عندئذٍ يفكر بعقل الحيوان أو الثقافة القديمة أو يستسلم للملاذِّ.
فقد أكون مغتاظًا من أحد الناس، فما دمت في اليقظة وفي الوعي التامِّ فأنا أفكر في مصالحته والاتفاق معه، وفي تغليب الخير على الشر، وفي تقدير منفعتي من حيث مصالحته أو مقاطعته، وقد ترتفع نفسي إلى البَرِّ فأفكر أيضًا في إصلاحه ومطايبته وأراني ألتمس له المعاذير، فإذا نمت ذهب عنِّي هذا العقل الحديث فأراني أقتله أو أضربه بقوة عقل الحيوان المنطلق الآن في نومي أو ربما شتمته بألفاظ فنية هي نتيجة الثقافة القديمة، وربما أكون صاحيًا ولكنِّي في غفوة ذهنية فتجري الخواطر في رأسي حين أراه قد أتى متذللًا يطلب الصفح وأنا أتأبَّى عليه وأتدلل.
ففي النوم وفي خواطر اليقظة ينتبه العقل الباطن وينوي نيَّاته الشريرة، ولكنها ليست كلها شريرة؛ فإن الإنسان القديم لم يكن رجل شر لا يعرف الخير، بل الحيوان القديم نفسه الذي نشأنا منه لم يكن كله للشر.
ولذلك فإن هذا العقل الباطن يسمو بنا أحيانًا في الخواطر سموًّا عظيمًا حين يوهمنا بأن نكون في مراكز عالية من الرياسة والعلم والرقيِّ، بل هو يعقل ذلك أحيانًا في الأحلام؛ وذلك لأن نزعة الرقيِّ لن تفارقنا حتى في أمراضنا، بل نحن عندما نفكر في الشر إنما نرمي بذلك إلى ترقية أنفسنا كما كان يفهم الإنسان القديم أو الحيوان القديم معنى الرقيِّ.
- الأول: أن المشاهد أن أحلام اليقظة؛ أي الخواطر السائبة، أكثر تمكُّنًا في الأطفال من الرجال؛ فقد نرى الطفل يكلم نفسه عن لعبه وألعابه على غير وعيٍ منه ويبقى على ذلك مدَّة طويلة لا ينتبه فيها عقله الواعي.
- والثاني: أننا في أحلامنا نسير على أساليب الطفولة وتخيلات الأطفال، فنتصور أننا ركبنا بقرة وطارت بنا، أو أننا رأينا رجلًا في ارتفاع المئذنة، أو نحو ذلك من السخافات.
فما هي دلالة ذلك؟
دلالته أن الخواطر السائبة سبقت التفكير الواعي المنظَّم في تاريخ الإنسان؛ لأن الطفل يمثِّل الإنسان القديم بأفكاره كما يمثل الحيوان بحركاته عندما يسير على أربع، ونحن نجري على أساليب الأطفال في الأحلام لهذا السبب عينه؛ لأن أسلوب الطفل هو أسلوب الإنسان القديم، فما دام عقلنا الحديث الواعي ينام فإن عقلنا القديم ينطلق ويفكر بأساليب أسلافنا القدماء؛ أي بأساليب أطفالنا الراهنين.
فالعقل الباطن هو ذلك العقل الحيواني القديم امتزجت به ثقافة الإنسان الأول، وهو يجري في أساليبه على طريقة التفكير الذي نراه عند الأطفال، ونحسُّ نحن بوجوده في الخواطر وقت اليقظة الغافية أو في الأحلام، وهو في الأحلام أقوى مما هو في الخواطر، وقد تكون مادة الحلم أو الخاطر حديثة خاصَّة بحياتنا المعيشية بشأن الزواج أو المنصب أو الدرس ولكنها في الحلم تجري على أسلوب الأطفال وتسير على النسق الذي كان يجري عليه أسلافنا القدماء.
ولما كنا نحن نفكر بالنفس كلها؛ أي بجملة عقولنا وغرائزنا فإن بين هذه العقول تعاونًا، الباطن منها والواعي، والقديم منها والحديث، لمصلحة الشخص، فهي ترمي كلها إلى تحقيق الغاية التي يسعى صاحبها لتحقيقها، كلٌّ منها بأسلوبه الخاص، فالعقل الحديث يحاول تحقيق غايات الشخص بالعلم والمنطق والطرق السلمية، وهو يفعل ذلك على وعي؛ أي دراية، والعقل القديم يحاول التحقيق بطرق قائمة على الأثرة والتهجم أو بطرق وحشية محضة، وكل ذلك بلا وعي، ولكنهما يتعاونان. ولذلك كثيرًا ما يجد العالم حلًّا لمعضلة علمية في الخواطر السائبة أو في الأحلام. على أن الإرادة القوية والعزم الصادق لا يكونان إلا باتحاد العقل الواعي والعقل الباطن كما سنرى بعدُ.