قوة الغريزة الجنسية
يجب أن نصرِّح للقارئ بأنه كان يجب علينا أن نخصَّ نصف الكتاب لموضوع هذا الفصل؛ فإن الغريزة الجنسية هي أهم ما يشغل العقل الباطن، ولكننا نتحامى التبسط في هذا الموضوع حياءً من ذكر ألفاظ يمجُّها الذوق.
وقد يكون أكبر ما يبعث الناس على تفادي الكلام في موضوع هذه الغريزة الجنسية شعورهم بقوتها وإلحاحها، كما يتفادى الإنسان الكلام عن الأمر المخطر، فنحن في معيشتنا واختلاطنا بالناس وخاصَّة في وقت الشباب نتواضع على الصمت في هذا الموضوع، نروح ونغدو وفي أجسامنا غريزة تتأجَّج ثم يدَّعي كلٌّ منَّا للآخر أنه ليس به شيء، ومنَّا شبَّان يصابون بالجنون ونساء يقعن في الهستيريا، وتنشأ بين البعض عادات سرية تودي بعقولهم، ومع ذلك كلنا يلزم الصمت كأنه ليس هناك ما يرغب فيه أو يخشاه، وهناك من ينجح في كبت هذه الغريزة أو التسامي بها، وهناك من يكتمها فتستحيل شيطانًا في جسمه، فلا يخطر بباله خاطر ولا يحلم في نومه إلا بها، وقد تلبس له لبوسًا تختفي فيه، وعندئذٍ يكون الضرر والخطر.
ومن الناس — وخاصَّة الشيوخ — من يعتقد أن فورة الشباب نوع من الخلاعة التي تجلبها المدنية، وأن القسوة تحسمها ومنع المخالطة بين الجنسين تزيلها، ولكن الواقع الذي تشهد به النفسلوجية الحديثة أن كتم العاطفة الجنسية كثيرًا ما يئول إلى اختلالات عصبية ونفسية خطيرة، ولكن هناك نوعًا من كبت العاطفة يمكن أن يتسامى بصاحبه ويرفعه، وسنراه بعد.
وقوة هذه العاطفة لا ترجع إلى الخلاعة التي تجلبها المدنية؛ فإن نظرة واحدة إلى الأحياء تكفي لأن يدرك الإنسان منها مقدار عناية الطبيعة بالنسل وتهيئة الأنثى لكي تلتقي بالذكر، وإعداد الذكر بضروب الإغراء لكي يجذب الأنثى إليه، ثم هذه الغريزة نفسها هي الأصل في اختراع الصوت «واللغة» كما هي الأصل في وجود الأسرة والحياة الاجتماعية وهي الأصل في الجمال. فالحيوان لم تنشأ له أعضاء الصوت إلا لكي يجذب الأنثى إليه، ولم تنشأ له غريزة الجمال إلا إغراءً للأنثى بالذكر والذكر بالأنثى، ومن الصوت نشأت اللغة، ومن الحب نشأت الأسرة، ومن الأسرة نشأ الاجتماع.
ولهذا السبب لم يبالغ فرويد إلا قليلًا حين زعم أن جميع أحلامنا تقريبًا ترجع إلى هذه الغريزة الجنسية؛ لأنه لم يقصد الغريزة الغشيمة وحدها، بل قصد منها أيضًا إلى تطوراتها المهذبة.
ونحن مع اتفاقنا وتواضعنا على الصمت والمداراة في موضوع هذه الغريزة لا نزال نرى من الحوادث ما ينبِّه أذهاننا إلى قوتها؛ فهذا شاب قد اعتاد العادات السرية التي انتهت بجنونه، وهذه فتاة قد أصيبت بهستيريا قد يعسر شفاؤها، وهذه جناية كبرى قد قُتل فيها الزوج أو العاشق. وكل ذلك من أجل هذه الغريزة.
وحدث في ١٨ أكتوبر سنة ١٩٢٧ أن فتاة قتلت سبعة أنفس — وهم مجموع أعضاء أسرتها — لأنهم منعوها من الزواج، وقال المكاتب في آخر الخبر: «بنت عانس قتلت إخوتها الأربعة وأختيها ووالدتها؛ لتشديدهم الرقابة عليها، ولأنهم امتنعوا غير مرة من تزويجها من خاطبيها بدعوى عدم كفاءتهم لها، فلم تجد بدًّا من أن تجعل أسرتها ضحية آمالها؛ لتكون حرة في الأمر.»
فمثل هذا الخبر يفتح عيوننا ويجعلنا نعرف قيمة هذه الغريزة وشدة إلحاحها على الإنسان.
وللمدنية شيء من وزر هذا الشقاء؛ لأنها تؤجل الزواج إلى ما بعد الثلاثين أو الأربعين. مع أن هذه الغريزة على أحدِّها في بلادنا فيما بين الخامسة عشرة والخامسة والعشرين، وهذه سن يقضيها الشاب في عذاب المجاهدة، وقد ينهزم في هذه المجاهدة، وقد ينتصر إذا تسامى بعاطفته إلى خدمة فنِّه، ولكن قلَّما يخرج منها واحد لم يُجرح ذهنه منها بجرح كبير أو صغير.
فقد تجد شابًّا لا يُطيق الانكباب على عمله؛ لأن أفكاره تنقلب خواطر تسرح فلا يمكنه ضبطها وتسليطها على عمله، وهذه الخواطر كلها جنسية. وتجد آخر لا جلَد له على العمل؛ وذلك لأن هذه الغريزة قد استحالت في العقل الباطن قوة مضغوطة ليست على وفاق مع عقله الواعي، وقد تتخذ أشكالًا غامضة لا يدري هو أنها جنسية فيزيد ارتباكه، وقد تجد رجلًا آخر عصبي المزاج إلى درجة مخيفة، فإذا حللت هذه العصبية ألفيتها قائمة على تناقض بين عقليه الواعي والباطن، ومن هذا القبيل أحلام الشبان والفتيات؛ فإن معظمها رموز لهذه الغريزة المضغوطة.
فيجب على القارئ أن يفرض وهو يقرأ هذا الكتاب أن الغريزة الجنسية هي أهم عوامل النشاط في العقل الباطن، وهي أهمُّ أصلٍ للأحلام والخواطر، وربما كانت أيضًا أكبر أسباب الجنون النفسي عند الرجال والنساء، وسنقتصد جدًّا في ذكر الغريزة الجنسية؛ أنفة من ذكر ألفاظ يمجُّها الذوق.