في الكبت
ليس شيء يمر بنا وتحس به حواسنا ثم ننساه إلا بسبب، وهذا النسيان مع ذلك ليس محوًا تامًّا؛ إذ يمكن استثارة ما نسيناه بالتحليل النفسي وبالاستهواء. نعني بذلك أن النسيان ليس مطلقًا، وهو لو كان مطلقًا لما أمكننا أن نتذكر شيئًا قد نسيناه قبلًا.
والتذكُّر نفسه يدلُّنا على طريقة النسيان، فقد يسألنا أحد عن اسم شخص نعرفه فنحاول أن نتذكره ونجهد أنفسنا في ذلك بلا طائل، ثم ننسى الموضوع، وقد تمرُّ ساعات أو أيام، وإذا بالاسم يخطر على بالنا غير مدعوٍّ ولا مطلوب، فهو إذن قد «خطر» على بالنا، والخواطر كلها من العقل الباطن الذي لا يسيطر عليه العقل الواعي إلا وقت الانتباه واليقظة.
فكلُّ ما يمر بنا في حياتنا منذ أن نولد وتحس به حواسنا أو تفكر فيه عقولنا إنما ننساه لا لأنه محي من ذاكرتنا بل لأنه كُبت؛ أي مُنع من الظهور في العقل الواعي، فنحن في الحقيقة لا ننسى شيئًا البتَّة، وإنما كل ما يقع لنا، ولسنا في حاجة إلى أن يكون ماثلًا لذهننا في كل وقت، يندسُّ في العقل الباطن ويحتبس فيه؛ لأن العقل الواعي الذي نؤدي به أعمالنا في اليقظة يكبت هذه الذكرى، وأحيانًا إذا غفل عنها في نوم أو غفوة أو مرض وكانت هذه الذكرى قوية فإنها تعود إلينا فنتذكر أشياء كنا نظن أننا نسيناها ومُحيت من ذاكرتنا تمام المحو.
وهذا الكبت يحدث لنا في كل وقت، وهو أحيانًا من مصلحة الشخص؛ لأنه ليس من المفيد لنا أن نذكر كل شيء بعقلنا الواعي.
فلو كان الطفل مثلًا يذكر كل المخاوف التي كانت تعترضه وهو يتعلم المشي لما استطاع بعد ذلك أن يمشي، فهو يكبت هذه المخاوف واحدة بعد أخرى وينساها، ويستطيع بذلك أن يمشي، وهو لو كان يتذكر على الدوام محاولاته الأولى في تلفظ الألفاظ لما استطاع أن ينطق بلغة الكبار؛ لأن لسانه يتذكر على الدوام ألفاظ الطفولة، ولكن الواقع أن عقله الواعي يكبت هذه الذكرى عندما يتعلم النطق الجيد.
والكبت طبيعي وضروري في الحيوان، وخاصَّة منه تلك الأنواع التي تنسلخ كالضفدع حين تكون عُوَمة تسبح بزعانف، ثم تنسلخ إلى ضفدع تثبت على اليابسة، فإنها لو كانت تذكر وهي على اليابسة طريقة السير وهي عُومة على الماء لاختلَّت أعصابها وارتبكت حركتها، فهي ما دامت عُوَمة تسبح بزعانفها كالسمك، فإذا انسلخت إلى ضفدع كُبتت فيها ذاكرة السباحة بالزعانف وصارت تسبح بسيقانها وتمشي عليها، فالكبت في هذه الحالة مفيدٌ لها. وكذلك اليرقة التي تأكل ورق الشجر وتزحف، يجب عندما تنسلخ إلى فراشة أن تنسى طريقة الزحف وتطير، بل يجب أن تُغيِّر مآكلها، وهي لو بقيت لها ذاكرتها الأولى لما استطاعت أن تعيش.
فالكبت ضروري كما يتبين من هذين المثلين، وهو ضروري في انتقال الطفل من الطفولة إلى الصبا ومن الصبا إلى الشباب. نعني بذلك أننا يجب أن ننسى؛ لأن النسيان من مصلحتنا، ولكن النسيان لفظة عامية يقابلها في النفسلوجية الحديثة لفظة الكبت، وعند التحليل يتبين لنا أننا لا ننسى شيئًا البتَّة، وإنما ما نظن أننا قد نسيناه إنما هو مكبوت في العقل الباطن يمكن استثارته وهو إنما كُبت لسببٍ.
فقد نرى ونحن نسير في الشارع رجلًا يدوسه الترام ونرى الدم واللحم الممزق ونراه في حشرجته وآلامه، فننزعج أشد الانزعاج، فلو بقيت هذه الذاكرة ماثلة أمام أعيننا ونحن نؤدي أعمالنا اليومية لما استطعنا أن نعمل شيئًا؛ لأن الحادثة تشغل أذهاننا وتقلق أعصابنا، فمن مصلحتنا أن ننسى الحادثة وقت يقظتنا، ولكن هل نسياننا لها دليل على أنها محيت من أذهاننا؟
كلا؛ والبرهان على ذلك أنها من وقتٍ لآخر تخطر في بالنا وتزعجنا، وأحيانًا نرى الحادثة على نصها الأصلي أو مشوهة في الحلم، ففي هاتين الحالتين نعرف أننا لم ننسَ الحادثة وإنما عقلنا الواعي كبتها لمصلحتنا حتى ننظر لمعاشنا، فاندسَّت الذكرى في العقل الباطن الذي لا نعي به، وصارت «تخطر» لنا في الخواطر وقت الغفوة أو نراها في الحلم وقت نوم العقل الواعي.
وتدل التجارب على أننا بالاستهواء نستطيع أن نتذكر طفولتنا نفسها، والاستهواء حالة ينام فيها العقل الواعي، وهو شبيه بالنوم، غير أن النائم في الاستهواء يمكنه أن يسمع ويتأثر بمن يخاطبه أكثر من النائم بالنوم الطبيعي، ويكون المتسلط عليه وقتئذٍ عقله الباطن.
وقد ضربنا الأمثلة على فائدة الكبت، ولكن له أيضًا أضرارًا كبيرة؛ فإن عندنا من العواطف ما نأبى أو نخجل أن نصرح به، كالغريزة الجنسية مثلًا، فقد تقوم بنا عاطفة الحب فنكبتها لأننا نعيش في حال من الحضارة تمنع التصريح بها، ولكن هذه العاطفة غاية في القوة والعنف، فإذا كبتناها وتناسيناها حتى ظننَّا أننا نسيناها تغفَّلتنا وطرأت علينا خواطر جامحة تمنع تفكيرنا.
وقد يحدث أن نرى حادثًا مزعجًا في طفولتنا فنكبته، ولكنه يستحيل إلى كابوس عندما نكبر، ويتشكل بجملة أشكال فيزعجنا وقت النوم، مع أننا نظن أننا قد نسيناه حتى انمحى من ذهننا، ولكن الحقيقة أن العاطفة كانت شديدة فاندسَّت في العقل الباطن وصارت تتراءى لنا بهيئة كابوس.
لما كان عمري سبع سنوات رأيت رجلًا مخنوقًا عاري الجسم أزرق الوجه منتفخه، وكان قد وُضع في مكان من الكنيسة منفردًا لتهيئته للغسل والكفن، وكان معي رفيق أكبر مني سنًّا مكر بي حتى أوصلني إلى الجثة وهو ورائي بعيد عنِّي، فما شعرت إلا وأنا أكاد أقع فوق الجثة، فرُعبت من المنظر وتراجعت، وبقيت الذكرى تخيفني أكثر من شهرين، ثم تُنوسيت بمرور السنين.
وصرت بعد ذلك أنام وحدي في الغرفة، بل أمشي في الظلام ولا أخاف، وظننت أني نسيت الحادثة، بل كنت أرويها أحيانًا بلا خوف، ولكن بقي ينتابني كابوس لازمني نحو عشرين سنة أو أكثر، وكان يتشكل بأشكال مختلفة؛ فساعةً أراه رجلًا ضخمًا يريد أن يقتلني، وأخرى أراه يحاول أن يسرقني ويقتلني، ولم يكن لديَّ أو لدى أيِّ واحد علاج يقيني في نومي منه.
وأخيرًا عندما درست النفسلوجية الحديثة خطر في بالي أن أحلل هذا الكابوس وأعرف مأتاه. وكانت عادتي أني بعد أن أصرخ أستيقظ منهوك القوى خائفًا، فصرت عند اليقظة أمثِّل الكابوس كما رأيته لذهني، وأستعيده وأنا ما أزال أتلمَّظ بالنوم السابق قبل أن ينتبه عقلي الواعي كل الانتباه، ثم جعلت أقيِّد في ذهني الخواطر التي تخطر لي في هذه الفترة، وما أشدَّ ما كان استغرابي عندما وجدت أن الكابوس يذكِّرني على الدوام بذلك الرجل المخنوق الذي رأيته قبل عشرين سنة أو أكثر، وتكرَّر الكابوس، وتكرَّر ظهور الجثة القديمة، ومن ذلك الوقت انقطع عنِّي الكابوس، أو كان يأتي فلا أخاف ولا أصرخ منه بل أحلم به حلمًا خفيفًا لا يؤذيني.
والتحليل هو كما يلي:
أني عندما رأيت الرجل المخنوق غمرتني عاطفة الخوف، وبقيت مدَّة طويلة؛ أي عدة أشهر تزعجني. ولكن عقلي الواعي الذي ينشد مصلحتي يرى أن هذا الرعب المستمر يمنعني من العيشة الصالحة، فهو لذلك قد كبت الذكرى، فاندسَّت في عقلي الباطن حتى توهَّمت أني قد نسيت كل شيء عن هذا الرجل. ولكن الواقع أن العاطفة كانت شديدة، فهي قوة محبوسة ما دمت أنا في يقظة لا يمكنها أن تخرج إلى الوعي فأشعر بها وأنا يقظ، ولكنِّي إذا نمت فإن أول ما ينام في نفسي هو العقل الواعي؛ لأنه أحدث طبقات نفسي وأكثرها شعورًا بالتعب، ولكن العقل الباطن الذي لا يعي «والذي يحتوي على الثقافة القديمة والغرائز الحيوانية» يستيقظ، فتظهر فيه عاطفة الرعب مصورة لي في هيئة وحش يريد أن يأكلني أو هيئة رجل يريد أن يقتلني، وهذه التصورات هي طريقة التفكير القديمة التي كنا نفكر بها ونحن في طور الحيوان وفي بداية تاريخ الإنسان، فأنا لا أري الرجل المخنوق بصورته كما رأيتها في الأصل لأن عقلي الباطن ليس مشغولًا بهذه الصورة، بل هو مشغول بالرعب؛ أي بعاطفة الخوف المستكنَّة فيه، فهو يصور الخوف كما يفهمه بطرقه القديمة في رجل يبغي هلاكي أو وحش يريد التهامي.
ولكنِّي عندما عرفت أن هذا الكابوس هو نفسه الرجل المخنوق القديم الذي رأيته زال عنِّي كما قلت آنفًا؛ وذلك لأني نبَّهت عقلي الباطن إلى الحقيقة التي انخدع فيها، فكلما أهابت بي عاطفة الخوف تذكر هو الرجل المخنوق على حقيقته فيعرف أنه جثة عاجزة فلا يخاف.