السأم والهم والعصبية
من الناس من يُقبل على عمله متحمسًا راضيًا به مؤملًا فيه النجاح، ومنهم من يعمل عمله وهو سئمٌ متراخٍ دائم التشاؤم.
ومن الناس من يشكو الهمَّ وأنه يأرق في الليل منه، ثم منهم العصبي المتردد الذي يحسب لكل شيء ويخاف من كل شيء.
وإذا نظرنا إلى هذه الحالات من وجهة النظر التي نتبعها في هذا الكتاب لم نجد لها جميعها غير علَّة واحدة هي النزاع بين العقل الباطن والعقل الواعي، فإذا اتفق الاثنان شعرنا بالحماسة والإقبال على العمل ولكنهما إذا اختلفا شعرنا بالسأم والهم والعصبية.
ولكي نوضح ذلك يجب أن نفرض أنه وُضع على الأرض لوح طويل من الخشب وطُلب منَّا أن نمشي عليه. فكلنا عندئذٍ يمشي عليه بدون أي عناء ولا يخشى السقوط منه، ولماذا نخشى السقوط؟! فإنه هو نفسه على الأرض فلو سقطنا لما جرى لنا شيء من السقوط.
ولكن هب أن هذا اللوح نفسه قد وُضع على ارتفاع ٤٠ مترًا بين جدارين وطُلب منَّا بعد ذلك أن نمشي عليه، فهنا نصاب بعصبية مَنشؤها النزاع بين العقل الباطن والعقل الواعي، فبعقلي الواعي الحديث أجد أنه ليس هناك ما يدعو إلى الخوف وأن المنطق يقضي بأنه ما دام اللوح هو نفسه الذي مشيت عليه وهو على الأرض وما دامت رجلاي كما هما صحيحتين فإني يمكنني أن أمشي عليه وهو بين الجدارين، ولكنِّي في هذا الوقت أتذكر الارتفاع وقدره ٤٠ مترًا فأحسب للسقوط، ويندسُّ هذا الخوف في عقلي الباطن، فأقف موقف التردُّد، وهذا التردُّد نفسه هو الحال العصبية التي اشعر بها، وما دام عقلي الباطن يفكر في السقوط فالأغلب أني أسقط بالفعل؛ وذلك لأن كل أعمالنا ترجع إلى الأعصاب بما فيها المخ، فإذا فكرنا في السقوط، أو بالأحرى إذا خطر السقوط في بالنا، فإن أعصابنا تحرك أعضاءنا في ناحية السقوط لأنها توحي إلينا هذا الخاطر.
فهذا مثال محسوس على هذه العصبية التي تصيبنا، وشبيه بها تلك العصبية التي نشعر بها في الامتحان حين تكمن عاطفة الخوف في العقل الباطن فتربكنا وتنسينا ما حفظناه، أو تلك العصبية التي نشعر بها حين نقابل رئيسًا محترمًا أو حين نكون في حضرة قاضٍ محقق أمام خصومنا. وأحيانًا تشتد بنا العصبية لأن اللبيد المحتبس — أي العاطفة المكبوتة في العقل الباطن — تقوى وتعنف فلا تجد منفرجًا، فننفِّس عنها على غير وعيٍ منَّا بحركة في القدم أو اليد أو الشفة؛ لأن هذه الحركة تحتاج إلى طاقة تصرف إليها فتخفف الضغط للعقل الباطن، وقلَّما تجد رجلًا قد اشتد الجدال معه وغضب منه وحبس غضبه إلا وهو يحرك أحد أعضائه حركة غير واعية، قد تكون أحيانًا في عضلات الوجه، أو اللعب بسلسلة الساعة، أو تحريك الساق أو القدم. وكل عصبية دليل على أن في العقل الباطن عاطفة مكبوتة؛ فإذا توجهنا لعملٍ ما لم نتوجه بكل نفسنا إليه فتكثر أخطاؤنا، ويبدو هذا الخطأ لنا كأنه سهوٌ طارئ بلا علة، ولكن الواقع أنه ليس في جميع أعمالنا عمل واحد نعمله بلا سبب.
وهناك مثالًا آخر للعصبية: فقد يقوم في نفسي أن أذهب لزيارة صديق وأنظر للوقت فأجد أنه ما يزال بيني وبين الميعاد نحو ساعة فأقعد وأنكبُّ على عملي منتظرًا نهاية الساعة، ولكن عاطفة الشوق إلى الزيارة قد اندسَّت في عقلي الباطن فهي تغافلني من وقت لآخر وتخطر في بالي وتُحدث لي أغلاطًا في الكتابة منشؤها الرغبة في العجلة، وأخيرًا ما يزال يطمو بي العقل الباطن حتى يغمرني ويبرر لي القيام قبل الميعاد، وأكبر ما يبرر ذلك في نظري أن أغلاطي كثيرة وأني عصبي، وعندئذٍ تصير النتيجة سببًا.
والعقل الواعي ما دام تام اليقظة فإنه يكبت العقل الباطن، ولكنه يغفل أحيانًا من الإعياء مثلًا فتهجم علينا الخواطر من العقل الباطن فتحدث لنا هذه العصبية، ولكن إذا كثرت الخواطر علينا صرنا نسأم العمل وصرنا نشعر بالهمِّ الذي يحول دون الانكباب على العمل.
فهذا الهم يجعلنا وقت العمل عصبيين لأن عقلنا الباطن ليس على وفاق معنا، فهو يريد أن ينفِّس عن العاطفة المكبوتة وما يزال يختلس أوقات الغفلة من العقل الواعي فيُخطر لنا الخواطر الخاصَّة بهذه العاطفة، وإذا انكفأنا إلى فراشنا وحدثت الغفوة الأولى السابقة للنوم أخذ العقل الباطن يُخيِّل لنا الخيالات المختلفة عن هذه العاطفة فنأرق، ونشعر عندئذٍ أن الهم قد تملكنا حتى صرنا لا ننام، فإذا اتفق أننا نمنا بعد عناء الأرق اشتد نشاط العقل الباطن فيأخذ في أحلام مروِّعة قد تبلغ من الشدة أن توقظنا، وعندئذٍ يشمل الإعياء الجسم كله فتنحطُّ الصحة ويسير الشخص من سيئ إلى أسوأ.
وهذا هو السبب في أنك تجد الرجل الناجح يحب عمله، وربما كان يهواه وهو صغير، فهو يُقبل عليه كما يُقبل على اللعب فيعمل بحرارة ولذة؛ وذلك لأن هذا الحب يجعل العقل الباطن على وفاق مع العقل الواعي فلا يحدث بينهما هذا الاختلاف الذي يُحدث العصبية والتردُّد.
ولكن ليس كلٌّ منَّا قادرًا على أن يجعل مهواته التي يهواها عمله الذي يعمله ويعيش منه، وعلى ذلك يمكن كل إنسان أن يعرف هوى نفسه ويسلم لعقله الباطن بشيء من نشاطه حتى يخفف ضغطه للعقل الواعي، وقد يكون ذلك بممارسة الرياضة أو الرسم أو القراءة أو التجارة أو نحو ذلك، فإذا خصص كل إنسان برهة من يومه لكي يعمل عملًا يهواه في لباب نفسه فإن العصبية والهموم تقل إن لم تنتفِ بتَّة.
ولكن هناك همومًا لا بدَّ من حدوثها ولا مفر منها، وخير علاج لها هو الفصل فيها بسرعة، ومتي فُصل فيها فصلًا حاسمًا انتهى منها العقل الباطن؛ لأنه إنما يعمل أكثر عمله في المعضلات الراهنة، فإذا كان شقاقٌ بين زوجين لا ينقطع وجب الفصل فيه والانتهاء منه، وإذا كان خصامٌ مع أحد الناس يتمادى ويطول وجب البتُّ فيه ولو بخسارة؛ فإن الذي يقلق كثيرًا هو الحاضر الراهن، أما الماضي فإن الظروف الجديدة تعفِّيه والنجاح الجديد يزيل أثره.
وقد ينفع هنا الاستهواء الذاتي في إزالة الهم، وذلك بأن يوحي الشخص لنفسه قبيل النوم معنى النوم وأنه يوشك أن يغمر الجسم فإنه ما من لفظة نسمعها حتى تؤثِّر فينا، وما من خاطر يمر برءوسنا حتى يترك أثره فيها، فكما أن خاطر السقوط يجعلنا نسقط إذا كنا نمشي على جسر دقيق عالٍ، كذلك كلمة «السقوط» نسمعها من أحد الناس تخطر لنا هذا الخاطر وتهيئ أعضاءنا للسقوط بالفعل، وكذلك كلمة النجاح تُخطر لنا النجاح، فإذا كرَّر المؤرَّق عبارة تُوهمه النوم مثل قوله: «سأنام الآن» وقالها وهو مسترخي الأعضاء في غفوة مصطنعة لم يلبث أن ينام بعد تكرارها نحو عشرين مرة يعدها وهو لا يحرك عضوًا من أعضائه، وإذا لم تنجح التجربة في الليلة الأولى فالأغلب أنها تنجح في الليالي التالية.