تقديم
تمَّ تأليف هذا الكتاب في أحوالٍ عجيبةٍ هي أحوالُ بأسٍ وخطرٍ، فلا غرابةَ بينهما وبين موضوع الكتاب الذي أدرته عليه؛ لأننا لا نتكلم عن عمر بن الخطاب إلا وجدنا أننا على مقربة من البأس ومن الخطر في آنٍ.
فما شرعتُ في تحضيره، وبدأت في الصفحات الأولى منه؛ حتى رأيتني على سفر بغير أهبة إلى السودان، فوصلت إليه وليس من مراجع الكتاب إلا قليل، وكانت الصفحات الأولى التي كتبتها في القاهرة مما تركته مع المراجع الكثيرة فيها، فأعدْتُ كتابتَها في الخرطوم، ومضيتُ فيه هنالك حتى انتهيت من أكبر شطريه، واستغنيت بمراجع الخرطوم عن المراجع التي أعجلني السفرُ عن نقلها؛ لأن أدباءَ السودان وفضلاءه يدَّخرون جملةً صالحةً من هذه المراجع، ويجودون بها أسخياء مبادرين إلى الجود، فلا أذكر أنني طلبت كتابًا في المساء إلا كان عندي في بكرة الصباح.
وإني لأتوفر على كتابته، وأحسبني منتهيًا منه في السودان؛ إذ رأيتني مرة أخرى على سفر بغير أهبة إلى القاهرة، فعدت إليها بالطائرة ألتمس العلاجَ السريعَ؛ لأن يديَّ أوشكتا أن تعجزا عن تناول القلم بما عراهما من ثآليل «الخريف».
فعدتُ وما يشغلني عن إتمامه شاغلٌ في السفر والمقام، ولم أحسب هذا البأس في الحالتين من موانعه وعراقيله؛ لأنني أَلَّفْتُ بعضَ كُتُبي الكبار في أحوال تشبه هذه الأحوال، فألَّفت كتابي عن «ابن الرومي» بين السِّجن ونذره ومقدماته، وألَّفت كتابي عن «سعد زغلول» وأنا غيرُ مستريح من كفاحه، وكلاهما من آثر الكتب عندي، وأكبرها في الموضوع وفي عدد الصفحات.
إنما حسبت هذا البأس من مطابقاته وموافقاته، ومن وضع الشيء في موضعه على نحو من الأنحاء، ولم أعدده من حرج التأليف، كما عددته من مهيئات جوِّه، ولا سيما حين ألفيتني أدرس آثار الحركة المهدية، وأتقلب بين مشاهدها وميادينها، وأستخرجُ العبرةَ من القتال بين الراجلين والفيلة في مواقع فارس، ومن القتال بين الراجلين والسفن المسلحة في مواقع الخرطوم وأم درمان، فهذه عقيدة وتلك عقيدة، ولكن العقيدة التي ظفرت كان معها حليف من الغد المأمول، ولم تكنِ العقيدةُ التي فشلت على وفاق مع الغدِ ولا مع الأملِ.
ولكنَّ الحرجَ كل الحرج في التأليف، إنما كان في محاسبة عمر بن الخطاب، أوليس الحرج في الحساب أيضًا من العمريات المأثورات؟!
فالناسُ قد تعودوا ممن يسمونهم بالكُتَّاب المنصفين أن يحبذوا وينقدوا، وأن يقرنوا بين الثناء والملام، وأن يسترسلوا في الحسنات بقدر ليتقلبوا من كلِّ حسنةٍ إلى عيبٍ يكافئها، ويشفعوا كل فضيلة بنقيصة تعادلها، فإن لم يفعلوا ذلك فهم إذن مظنة المغالاة والإعجاب المتحيز، وهم أقَلُّ إذن من الكُتَّابِ المنصفين الذين يمدحون ويقدحون، ولا يعجبون إلا وهم متحفزون لملام.
عرض لي هذا الخاطر، فذكرت قصة العاهل الذي تحاكم إلى قاضيه مع بعض السوقة في عقار، يختلفان على ملكه، فحكم القاضي للسوقة بغير العدل ليغنم سمعة العدل في محاسبة الملوك، وعزله العاهل؛ لأنه ظلم وهو يبتغي الرياء بظلمه، فكان أعدل عادل حين بدا كأنه يحرص على مالٍ مغصوبٍ ويجور على تابع جسور؛ لأنه أنصف وهو مستهدف لتهمة الظلم، وقاضيه قد ظلم وهو يتراءى بالإنصاف.
قلت لنفسي: إن كنت قد أفدت شيئًا من مصاحبة عمر بن الخطاب في سيرته وأخباره، فلا يحرجنك أن تزكي عملًا له كلما رأيته أهلًا للتزكية، وإن زعم زاعم أنها المغالاة، وأنه فرط الإعجاب.
وهذه هي الأسوة العمرية في الحساب.
فالحقُّ أنني ما عرضت لمسألة من مسائله التي لغط بها الناقدون إلَّا وجدته على حجة ناهضة فيها، ولو أخطأه الصواب.
وإنَّ أعسر شيء أن تحاسبَ رجلًا كان أشد أعدائه لا يبلغون من عسر محاسبته بعض ما كان يبلغه هو في محاسبة نفسه، وأحب الناس إليه.
ذلك رجل قَلَّ أن يجور عن القصد وهو عالم بجوره، وَقَلَّ أن يتيح لأحد أن يكسب دعوى الإنصاف على حسابه، إلا أن يكسبها أيضًا على حساب الحق والنقد الأمين.
فإذا عرفت منحاه من الخلق والرأي، وسلمت له مزاجه ووجهة تفكيره، فكن على يقين أنه لن يتجافى عن النهج السوي، ولن يتعلق بأمر يعدوه الصلاح ويشوبه السوء.
وذاك أحرج الحرج الذي عانيته في نقد هذا الرجل العظيم، وتلك حيطة معه إن لم يستفدها الكاتب، وهو مشغول بِعُمرَ ونهج عُمرَ؛ فشغله عبث ذاهب في الهواء.
وعلم الله لو وجدت شططًا في أعماله الكبار؛ لكان أحب شيء إليَّ أن أحصيه وأطنب فيه، وأنا ضامن بذلك أن أرضي الأثر وأرضي الحقيقة، ولكني أقولها بعد تمحيص لا مزيد عليه في مقدوري: إنَّ هذا الرجل العظيم أصعب من عرفتُ من عظماء الرجال نقدًا ومؤاخذةً، ومن فريد مزاياه أنَّ فرطَ التمحيص وفرطَ الإعجاب في الحكم له أو عليه يلتقيان.
وكتابي هذا ليس بسيرة لِعُمرَ ولا بتاريخ لعصره على نمط التواريخ التي تقصد بها الحوادث والأنباء، ولكنه وصف له، ودراسة لأطواره، ودلالة على خصائص عظمته، واستفادة من هذه الخصائص لعلم النفس وعلمِ الأخلاق وحقائقِ الحياة، فلا قيمةَ للحادث التاريخي جلَّ أو دقَّ إلا من حيث أفاد في هذه الدراسة، ولا يمنعني صغرُ الحادث أن أقدمه بالاهتمام والتنويه على أضخم الحوادث، إن كان أوفى تعريفًا بعمرَ، وأصدق دلالة عليه.
وعمرُ يعد رجل المناسبة الحاضرة في العصر الذي نحن فيه؛ لأنه العصر الذي شاعت فيه عبادة القوة الطاغية، وزعم الهاتفون بدينها أنَّ البأس والحقَّ نقيضان؛ فإذا فهمنا عظيمًا واحدًا كعمرَ بنِ الخطاب، فقد هدمنا دين القوة الطاغية من أساسه؛ لأننا سنفهم رجلًا كان غايةً في البأس، وغايةً في العدل، وغايةً في الرحمة … وفي هذا الفهم ترياق من داء العصر، يشفى به من ليس بميئوس الشفاء.
وإنه لجهاد جديد لعمر بن الخطاب، يطيب لنا أن نوجزه في كتاب.