ثقافة عمر
إذا تكلمنا عن ثقافة عمر بلغة العصر الحاضر جاز لنا أن نقول إنه كان رجلًا وافر الحظ من ثقافة زمانه، إنه كان أديبًا مؤرخًا فقيهًا، مشاركًا في سائر الفنون، مدربًا على الرياضة البدنية، خطيبًا مطبوعًا على الكلام، فليس أرجح من نصيبه في ثقافة زمانه نصيب.
ظل في إسلامه كما كان في جاهليته عظيم الشغف بالشعر والأمثال والطُّرف الأدبية، بل ظل كذلك بعد قيامه بالخلافة واشتغاله بجلائلها ودقائقها التي لا تدع له من وقته فراغًا لغيرها، فكان يروي الشعر ويتمثل به ويحث على روايته ويعتدها من تمام المروءة والمعرفة كما قال لابنه عبد الرحمن: «يا بني، انسب نفسك تصل رحمك، واحفظ محاسن الشعر يحسن أدبك، فإن من لم يعرف نسبه لم يصل رحمه، ومن لم يحفظ محاسن الشعر لم يؤدِّ حقًّا ولم يقترف أدبًا»، وقال للمسلمين عامة: «ارووا الأشعار فإنها تدل على الأخلاق.»
وكانت متعته بطرائف الأدب من متع الحياة التي لا يبالي الموت لو حرم نصيبه منها، فكان يقول: لولا أن أسير في سبيل الله، وأضع جبهتي لله، وأجالس أقوامًا ينتقون أطايب الحديث كما ينتقون أطايب الثمر؛ لم أبالِ أن أكون قد مت.
وإذا أقرنت العبادة باستطراف الحديث المهذب عند عمر فذلك غاية ما يبلغه فضل الأدب عنده من ثناء وتقريظ.
وجاءه وفد فيه الأحنف فتركهم جميعًا، واستفتح ما عنده من الحديث، فأعجبه وأعظم قدره، وعقد له الرئاسة إلى أن مات.
ومن ناحية الأدب فيه وناحية الدين معًا حثه على تعلم العربية «لأنها تثبت العقل وتزيد في المروءة»، وقد أوصى بوضع قواعد النحو لأنه قوام العربية.
ولم يزل عمر الخليفة هو عمر الأديب طوال حياته، ولم ينكر من الشعر إلا ما ينكره المسئول عن دين، ولم ينس قط أنه الأديب الحافظ الراوية، إلا حيث ينبغي أن ينسى ذلك ليذكر أنه القاضي المتحرز الأمين.
فنهى عن التشبيب بالمحصنات، كما نهى عن الهجاء، وجيء له بالحطيئة متهمًا بهجاء الزبرقان بن بدر حيث يقول فيه:
فنسي أنه الأديب الراوية، ولم يذكر إلا أنه القاضي الذي يدرأ الحدود بالشبهات ولا يحكم بما يعلم دون ما يعلمه أهل الصناعة، وقال للزبرقان: ما أسمع هجاء ولكنها معاتبة. ثم سأل حسان بن ثابت فقضى بأنه هجاه وأفحش في هجائه، فحبسه وأنذره ونهاه أن يعود إلى مثلها، فانتهى طوال حياة عمر، ثم عاد إلى الهجاء بعد وفاته. واستعداه تميم بن مقبل على النجاشي لأنه قال في قومه بني العجلان:
فذكر عمر قضاءه ولم يذكر روايته للشعر، وقال على سنة القضاء يدفع الحدود بالشبهات: إنه دعاء واللهُ لا يعادي مسلمًا.
قال تميم: فإنه يقول عنا:
فقال عمر: ليتني من هؤلاء. قال تميم: وإنه يقول:
فقال عمر: كفى ضياعًا بمن تأكل الكلاب لحمه.
قال تميم: وإنه يقول:
فقال عمر: ذلك أصفى للماء وأقل للسكاك (أي الزحام).
قال تميم: وإنه يقول:
فقال عمر: كلنا عبد، وخير القوم أنفعهم لأهله.
قال تميم: فسله عن قوله:
فقال عمر: أما هذا فلا أعذرك عليه. وحبس الشاعر وضربه وأنذره لئن عاد ليضاعفن له العقاب.
وقد تجوزنا فقلنا إنَّ عمر نسي علمه بالشعر ليذكر إبراء الذمة في القضاء، وقد حاول ذلك جهده فأفلح لو يفلح أديب في نسيان أدبه، ولكنه مطلب ما استُطِيع قط ولن يُستَطاع، فكان عمر في تخريجه للكلام وعلمه بما تنصرف إليه معانيه أخبر بالشعر من قاضٍ لا يفقه منه إلا ظاهر لفظه ومعناه.
ومن المشهور عن عمر أنه كان عليمًا بتاريخ العرب وأيامها ومفاخر أنسابها كعلمه بالمتخير من شعرها والسائر من أمثالها.
جنح إلى ذلك بطبعه ونقله عن أبيه، وكثيرًا ما كان يقول كما جاء في البيان والتبيين: سمعت ذلك عن الخطاب، ولم أسمع ذلك عن الخطاب.
وفقه عمر بالشريعة التي كان مسئولًا عن نفاذها مشهور بين الفقهاء كاشتهار أدبه واطلاعه على تاريخ قومه، فكان عبد الله بن مسعود يقول: «كان عمر أعلمنا بكتاب الله، وأفقهنا في دين الله، وكان إذا اختلف أحد في قراءة الآيات قال له: اقرأها كما قرأها عمر.» وأطنب فقال: «لو أنَّ علم عمر بن الخطاب في كفة ميزان ووضع علم الأرض في كفة لرجح علم عمر بعلمهم.» ولقد كانوا يروون أنه ذهب بتسعة أعشار العلم، وقال ابن سيرين: «إذا رأيت الرجل يزعم أنه أعلم من عمر فشك في دينه.» وكل ما فسر به آي القرآن في معرض الحكم والعظة فهو التفسير الراجح في وزن العقل والدين، وكل ما استخرجه من أحكام الشريعة فهو الحكم الواضح الصحيح.
ونصائحه للعلماء والمتعلمين نصائح عالم يعرف ما هو العلم وماذا يجمل بالعلماء في طلبه، فكان يقول: «تعلموا العلم وتعلموا للعلم السكينة والحلم، وتواضعوا لمن تتعلمون منه وتواضعوا لمن تُعلِّمون، ولا تكونوا جبابرة العلماء فلا يقوم علمكم بجهلكم.» وكان يوصي طلابه «أن يكونوا أوعية الكتاب وينابيع العلم، ويسألوا الله رزق يوم بيوم، ولا يضيرهم ألا يكثر لهم»، ولا يزال يذكرهم أنَّ التفقُّه مقدم على السيادة؛ «فتفقهوا قبل أن تسودوا».
ولم يقصر نصائحه على علم الدين، ولا علم الأدب واللغة وحده، بل تناول كل ما عرف من معارف زمانه فقال: «تعلموا من النجوم ما يدلكم على سبيلكم في البر والبحر ولا تزيدوا عليه». ولا شك أنَّ نصائحه العملية في طلب العلم كانت أغلب من نصائحه النظرية فيه، شأنه في ذلك شأن رجل الدولة الذي يعلم الناس ما ينفعهم ويصلح معاشهم ويهذب أخلاقهم. ولكننا مخطئون إن فهمنا من هذا القول الذي رويناه في علم النجوم أنه كان يكره الزيادة الحديثة فيه كما عرفناها نحن في أيامنا، فإنما الزيادة التي كرهها هي تلك التي كانت على عهده تخوض في التنجيم وتربط أقدار الناس بالكواكب، وتجعل منها أربابًا تُعبَد وأرصادًا تؤتمن على أسرار الغيب، وذلك ما ننهى عنه الآن، ونعد النهي عنه من تحقيق العلم الصحيح.
ولم يَفُتْهُ الحرص على المعرفة التي تخترع منها منافع للناس في أمر المعاش، فطلب إلى أبي لؤلؤة غلام المغيرة أن ينجز ما ادعاه من اختراع طاحون تدار بالهواء، وهو علم الصناعات كما انتهى إليه في عصره، لا يضيره أنه قسط ضئيل، بل حرصه عليه مع ضآلته دليل على ما يلقاه منه تشجيع الصناعة يوم يراها جليلة كبيرة الآثار.
على أنَّ زبدة الثقافة كلها في أقطاب الحكم وعظماء الأعمال إنما تتلخص في شيء واحد هو الدراية بالناس، ونفاذ البصر في شئون الدنيا، وصدق الخبرة بدخائل النفس البشرية، أو هو ما نسميه في أيامنا هذه بالرأي السليم والحكمة العملية، وهو مجال كان عمر بن الخطاب قليل النظراء فيه، وحفظت له كلمات في معانيه يندر مثيلها بين كلمات الحكام، ولا يكثر مثيلها بين كلمات الحكماء.
فأي كلمة أدل على النفس البشرية من قوله: «ليس العاقل الذي يعرف الخير من الشر، ولكنه الذي يعرف خير الشرين؟»
وأي نفاذ في تركيب الطبائع أمضى من نفاذه إذ يقول: «ما وجد أحد في نفسه كبرًا إلا من مهانة يجدها في نفسه؟» أليس هذا بعينه هو مركب النقص الذي يلهج به علم النفس الحديث؟
وأي رأي في تجربة الناس أصدق من رأيه حين يقول: «لا تعتمد على خلق رجل حتى تجرِّبه عند الغضب»، أو حين أثنى بعضهم على رجل أمامه فسأله: «أصحبته في السفر؟ أعاملته؟» فلما أجابه نفيًا قال: «فأنت القائل بما لم تعلم؟»
وأي فهم لمعنى الاستعداد للعمل أقرب من فهمه حين ينصح العاملين: «إذا توجه أحدكم في الوجه ثلاث مرات فلم ير خيرًا فليدعه؟»
كذلك سداد جوابه حين سئل فيمن يشتهي المعصية ولا يقارفها، وفيمن ينتهي عنها وهو لا يشتهيها أيهما أفضل وأجزل مثوبة عند الله؟ فكتب في هذا فصل الخطاب إذ قال: «إنَّ الذين يشتهون المعصية ولا يعملون بها أُولَٰئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَىٰ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ.» وكذلك وصيته بكتمان السر وتبيينه لحسن عقباه حين قال: «من كتم سره كان الخيار بيده.»
وكذلك وصيته في الحب والبغض حين قال: «لا يكن حبك كلفًا، ولا بغضك تلفًا.»
وكذلك مخافته محنة الفراغ على الناس أشد من مخافته محنة الخمر حين قال: «أحذركم عاقبة الفراغ فإنه أجمع لأبواب المكروه من السُّكْر.»
وكذلك وصاياه التي كانت تحفل بها كتبه إلى الولاة، وخطبه في الصلوات والأعياد كلها آيات من هذه الحكمة العملية التي هي خلاصة الثقافة المحمودة في أقطاب الحكم خاصة، وفي كل رجل يزاول شئون الحياة على التعميم.
أما مشاركته في سائر الفنون والمعارف التي كانت ميسورة على عهده فمنها المستغرب عند من يتخيل صورة عمر من جملة أخباره، ولا يتقصى فيها إلى التفصيل.
فقليل من يتخيل أنَّ عمر كان يعرف «جغرافية» الشرق كأحسن ما يعرفها رجل في وطنه، ولكنه كان يعرفها حقًّا عن سماع وعن رؤية وعن زكانة تعين السماع والرؤية، بل كان يفرض على الولاة أن يحيطوا بعلم ما يتولونه من البلاد ويعزل من يرى فيه تقصيرًا عن ذاك، فاستقدم عمار بن ياسر أمير الكوفة لما شكوه إليه وقالوا في شكواهم إياه: «إنه لا يدري علامَ استُعمِل»، وجعل يسأله عن المواقع والبلدان من بلاد العرب والفرس حول الكوفة سؤال مطَّلع خبير، ثم عزله لتقصيره بعد اختباره.
ومن الواجب أن نشك في كل خبر يوهم أنَّ عمر كان يجهل معرفة من المعارف العملية التي يحتاج إليها في تدبير الدولة، فلا يعقل مثلًا أنه كان يجهل المعرفة العامة بالحساب، وقد كان تاجرًا منذ نشأته في الجاهلية، وكان يحضر الجيوش، ويعرف ما هي الألوف وما هي عشرات الألوف، فإذا استفسر عن رقم، فلن يكون إلا استفسار تجاهل واستعظام، وليس بجهل وغرارة، كما جاء في أخبار الخراج من هجر والبحرين.
قال أبو هريرة ما فحواه: قدمت من هجر والبحرين بخمسمائة ألف درهم، فأتيت عمر بن الخطاب ممسيًا، أسلمه إياه، فسأل: كم هو؟ قلت: خمسمائة ألف درهم. قال: وتدري كم خمسمائة ألف درهم؟ قلت: نعم، مائة ألف ومائة ألف خمس مرات. قال: أنت ناعس، اذهب فبت الليلة حتى تصبح!
فكل شيء يجوز أن يفهم من هذه القصة إلا أنَّ عمر كان يجهل ذلك الرقم ولم يسمع بمثله قبل ذلك، وهو الذي شهد الدولة وحسابها من عهد أبي بكر، وأحصى الجند والمال في عهده، إنما هو غبطة واستعظام، وليس هو جهلًا بدلالة هذا الرقم في جملة الحساب.
وإذا قل من يتخيل علم عمر بالجغرافية والحساب، فأقل من أولئك من يتخيل له حظًّا من السماع والغناء، ولكنه كان يسمع ويغني في بعض الأحيان، ولا ينهى عن غناء إلا أن تكون فيه غواية تثير الشهوات، جيء له برجل يغني في الحج، وقيل له: إن هذا يغني وهو محرم، فقال: دعوه فإن الغناء زاد الراكب.
وكان يخرج للحج ومعه من يحسن الغناء، فيقترح عليه أن يغني شعرًا ويؤثر أن يكون ذلك من شعره.
خرج مرة للحج ومعه خَوَّات بين جبير وأبو عبيدة بن الجراح وعبد الرحمن بن عوف، فاقترحوا على خوات أن يغنيهم من شعر ضرار، وقال عمر: بل دعوا أبا عبد الله فليُغنِّ من بُنيِّات فؤاده. فما زال يغنِّيهم حتى كان السَّحَر، فهتف به عمر: ارفع لسانك يا خوات فقد أسحرنا.
وجاء قوم فذكروا أن إمامهم يصلي بهم العصر ثم يتغنى بأبيات من الشعر، فقام معهم إليه واستخرجه من منزله وسأله فيما بلغه عنه، واستنشده الأبيات التي يغنيها فأنشده:
فأعاد البيت الأخير وقال لمن شكوا إليه: من كان منكم مغنيًا فليغن هكذا.
وكان مرة في سفر، فرفع عقيرته بالغناء وأنشد:
ولا شك أنَّ الشغف بالشعر الجزل والحديث الرائق والصوت الحسن لا يجتمع في نفس إلا اجتمع معه ذوق للجمال وسرور بكل حسن جميل، ولكن أين يقع هذا من صرامة عمر وبأسه وشدة حجره على زينة الحسان؟ فقد دخل في روع أناس أنها جميعًا من نقائض حب الجمال، وقد سمعنا هذا فعلًا من أدباء يجلون عمر ولا يحسبون ذوق الجمال من مأثور حسناته؛ لأنه كان شديدًا في الحجاب، وكان ينفي الفتيان الحسان، كما صنع بنصر بن حجاج ومعقل بن سنان، وكان يقول: «استعيذوا بالله من شرار النساء، وكونوا من خيارهن على حذر.»
وعندنا نحن أنَّ هذا جميعه ينم على الإحساس بخطر الجمال وطغيان فتنته، ولا ينم على غفلة عنه وقلة مبالاة بأثره. وما نخال أحدًا من المترخصين في الحجاب كان يؤمن بسلطان الجمال أبلغ من إيمان عمر بسلطانه، أو كان يعرف حق المرأة في الشوق إليه كما عرفه وأمر برعايته، فإنه كان ينكر على الآباء أن يكرهوا فتياتهم على قباح الوجوه ويوصيهم «أن لا تكرهوا فتياتكم على الرجل القبيح، فإنهن يحببن ما تحبون.» وجاءت له امرأة بزوج أشعث أغبر تسأله الخلاص منه، فأمر به أن يحم وأن تقلم أظفاره، ويؤخذ من شعره، ثم قال له ولمن في مجلسه: «هكذا فاصنعوا لهن، فوالله إنهن ليحببن أن تتزينوا لهن كما تحبون أن يتزين لكم».
فكل ما روي عن عمر من الشدة والرفق في معرض الجمال فهو دليل على الإحساس به وإكبار خطره، وليس بدليل على الغفلة عنه واستصغار أثره، وربما كانت الشدة والحجر أدل على ذلك من الرفق والمحاسنة.
•••
ومن الآداب العامة التي لها حظ من ذوق الجمال في معارض السياسة أدب الذكريات الذي لا يستغني عنه ولاة الأمر الموكلون بإحياء معالم الدول، والاحتفال بمراسمها وأعيادها.
ففي هذا الأدب كان لعمر النصيب الذي يغنيه، فهو الذي اختار أو وافق على اختيار يوم الهجرة بداية للتاريخ الإسلامي، وإنه لأصلح يوم يؤرخ به الإسلام؛ لأن العقائد — كما قلنا في «عبقرية محمد» — «تقاس بالشدائد ولا تقاس بالفوز والغلب، وكل إنسان يؤمن حين يتغلب الدين وتفوز الدعوة، أما النفس التي تعتقد حقًّا ويتجلى فيها انتصار العقيدة حقًّا، فهي النفس التي تؤمن في الشدة، وتعتقد ومن حولها صنوف البلاء.»
وكلما اقتُرِح على عمر اقتراح فيه نفخة من ذوق الذكرى، كان مجيبًا له سريع الإصغاء إليه، فكان يحترم وفاء بلال وإقلاعه عن الأذان بعد وفاة النبي — عليه السلام — ولكنه دعاه إلى الأذان تلبية لاقتراح الجلة من الصحابة في يوم وداع دمشق بعد الفتح المبين، فبينما المسلمون يشهدون الصلاة الجامعة إذا بالصوت الذي انقطع بعد النبي يرتفع رويدًا رويدًا في الفضاء، ويسري رويدًا رويدًا من الأسماع إلى الصدور، والتفتوا وكأنهم يسألون: ماذا؟ هل عاد محمد إلى الأرض؟ إن لم يكن قد عاد فقد عاد الحنين إليه أقوى ما ينبعث من صوت إنسان إلى صدر إنسان؛ فذابت قلوب لا يذيبها الهول، وبكى أشيب أولئك الأبطال وأصبرهم على حر القتال.
وإذا كان عمر المعجب بالجمال مستكنًا وراء ستار يحوجنا إلى النظر من ورائه، فعمر الرياضي المشغول بالرياضة البدنية ظاهر لنا بعمله وقوله، وبسيرته في الجاهلية وسيرته بعد الإسلام، وسيرته بعد الخلافة إلى أن فارق الحياة.
فكان يصارع في المواسم ويسابق على الخيل، وكان ينوط مجد العرب بالرياضة والفروسية ويكتب إلى الأمصار أن «علموا أولادكم السباحة والفروسية ورووهم ما سار من المثل وحَسُنَ من الشعر»، ولا يفتأ يذكرهم أنه: «لن تخور قوى ما دام صاحبها ينزع وينزو»؛ أي يرمي بالقوس ويركب ظهور الخيل بغير ركاب.
أما الخطابة فقد كانت فيه من صفات البنية ولم تكن من صفات الذهن وكفى، فكان له فم يمتلئ بالكلام حين يخطب كأنه خُلق ليقول، ولوحظ عليه أنه كان ينطق ببعض الحروف — كالضاد — من كلا شدقيه، وهي تُنطَق في الأغلب من شدق واحد.
وكان جهوري الصوت واضح النطق سليم الشفتين في إخراج الحروف، وكتابته كلها كأنها خطب مرتجلات، تقرؤها فكأنك تصغي إلى خطيب لا تفقد منه إلا الصوت المسموع.
وكلا القولين جائز في بيان وجه المخالفة بين طبع عمر والتكلم في محافل النكاح، فهو مطبوع على أن يتكلم إلى الناس كلام رجل يقود الرجال، ومطبوع على الصدق الذي تثقُل على صاحبه المداهنة، وهي مما لا غنى عنه في هذا المقام، ولو كان الخاطب من الأكفاء.
وقد اختلفوا في نظمه الشعر، فزعم الشعبي أنه كان شاعرًا، ورويت أشعار لا تشبهه ولا ترضيه، ونفى هو نظمه للشعر حين قال: «لو كنت أقول الشعر لرثيت أخي زيدًا.»
ولا طائل في هذا الخلاف؛ لأنه لن ينتهي إلى رأي قاطع يسكت عليه، ولكنما المهم في هذا الصدد أنه كان مطبوعًا على التعبير وله عبقرية فيه، أو أنَّ تعبيره كان خاصًّا به، لا يشبهه تعبير سواه، فهو تعبير عُمَري بمفرداته وتركيبه لا يلتبس بتعبير أحد من أهل عصره حتى ليسهل تمييز كلامه من كل كلام، ويصعب تزوير القول عليه ولو أحكمت المحاكاة.
فمن خصوصياته في التعبير أنه كان يقول: «لولا الخليفي لأذنت»، وهو يعني الخلافة ولا يقصد الإغراب.
ومنها وهو ينقل خبر إسلامه إلى خاله: «وجئت إلى خالي فأعلمته فدخل إلى البيت وأجاف الباب»؛ أي أوصده.
ومنها وهو يصف ما وقع في نفسه من الآية التي تلاها أبو بكر — رضي الله عنه — حين أنكر موت النبي فقال: «والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها فعقرت حتى ما تُقِلُّني رجلاي.» يعني أنه عجز عن القيام.
ومنها وهو يذكر امرأة كانت تسقي الناس يوم أُحد أنها «كانت تزفر للناس القرب»؛ أي تحملها.
ومنها حين شكا إليه الشاكي هجاء الشاعر الذي قال فيه:
فقال: ذلك أنفى «للسكاك»؛ أي الزحام.
ومنها في سماحه بالبكاء: «ما لم يكن نقع أو لقلقة»؛ أي ما لم يُثِر التراب ويفرط في العويل.
ومنها: «إنَّ قريشًا تريد أن تكون مغويات لمال الله»؛ أي مصائد تحتجنه لها دون عباد الله.
ومنها: «تمعددوا واخشوشنوا واقطعوا الركب وانزوا على الخيل نزوًا»؛ أي تزيوا بزي العرب من معد بن عدنان.
ومنها: «فمن بايع رجلًا على غير مشورة من المسلمين، فلا يتابع هو ولا الذي بايعه تغرة أن يقتلا»؛ أي أن يتعرضا للقتل.
ومنها: «… إنَّ الاقتصاد في السنة خير من الاجتهاد في الضلالة، فافهموا ما توعظون به، فإن الحريب من حرب في دينه.» يريد المسلوب.
ومنها وقد سمع بالمرأة سافرة يبرزها زوجها فقال: «هذه الخارجة وهذا المرسلها لو قدرت عليهما لشترت بهما»؛ أي لأغلظت القول لهما.
ومنها لما سألوه: لم حصبت المسجد؟ فقال: «هو أغفرُ للنخامة وألين في الموطئ»؛ أي أستَرُ للبصاق.
ومنها وهو يخاطب سعد بن عبادة يوم السقيفة: «لقد هممت أن أطأك حتى تَنْذُر عضدك»؛ أي تسقط.
ومنها وهو يتكلم عن امرئ القيس: «خسف لهم عين الشعر، فافتقر عن معانٍ عور أصح بصر»؛ أي استنبط عين الشعر وشق طريق المعاني وأتى بالشوارد الحسان.
ومنها وهو يتكلم عن نصيب المسلمين في الغنائم وبيت المال: «والله لئن بقيت ليأتين الراعي بجبل صنعاء حظه من هذا المال وهو مكانه قبل أن يحمر وجهه»؛ أي قبل أن يخجل ويحمر وجهه في طلبه.
ومنها قوله لأعرابي استفتاه في صيد ظبي وهو مُحرِم: «أتقتل في الحرم وتغمص الفتيا؟!» أي تعيبها ولا ترضاها.
وأشباه هذا كثير لا تخلو منه خطبة أو حديث أو كتاب، تعمدنا أن نكثر شواهده لنرى أنه ليس بالمصادفة وليس بالتكرير لنمط واحد من العبارات.
•••
ومحصل هذه الأخبار جميعًا أنَّ عمر كان من نخبة المثقفين في العربية، وكان وافر السهم في ثقافة قومه وعصره، وكان الجانب العملي من ثقافته أغلب وأظهر من جوانبها النظرية كما هو المعهود في ساسة الأمم وعواهل الدول، وإن كان هذا لا يمنع أنه اشتقاق إلى نفائس الشعر وأطايب الأدب لما يجده فيها من راحة النفس ومتعة الخاطر.
•••
ويستطرد بنا الكلام على ثقافته العربية إلى الكلام على موقفه من الثقافات الأخرى في زمانه، وعلى حقيقة الرواية التي شاعت وتواترت عن موقفه من مكتبة الإسكندرية التي قيل إنه أمر بإحراقها، فهل هو الآمر بإحراقها كما جاء في تلك الرواية؟ وإذا كان هو الآمر بذلك فما دلالته على تفكيره؟ وما وجه التبعة فيه؟ فحوى تلك الرواية أنَّ عمرو بن العاص رفع إليه خبر المكتبة الكبرى في الإسكندرية، فجاءه الجواب منه بما نصه: «أما الكتب التي ذكرتها فإن كان فيها ما يوافق كتاب الله، ففي كتاب الله عنه غنى، وإن كان فيها ما يخالف كتاب الله فلا حاجة إليه، فتقدم بإعدامها.» قال مفصل هذه الرواية: فوزعت الكتب على أربعة آلاف حمام بالمدينة، ومضت ستة أشهر قبل أن تستنفد لكثرتها!
وأحرى شيء أن يلاحظ في مسألة المكتبة هذه أنَّ الذين أدحضوها وأبرءُوا عمر من تبعتها كان معظمهم من مؤرخي الأوروبيين الذين لا يتهمون بالتشيع للمسلمين، وكانوا جميعًا من الثقات الذين يؤخذ بنتائج بحثهم في هذا الموضوع.
والمستشرق كازانوفا يسمي الحكاية أسطورة، ويقول إنها نشأت بعد تاريخ الحادثة بستة قرون، وينقضها لمثل الأسباب التي لخصناها من كتاب بتلر، ثم يقول: «… وهناك اعتراض أخطر مما تقدم وهو أنَّ ما ذكر عن يحيى النحوي منقول عن كتاب الفهرست لابن النديم في أواخر القرن العاشر، وفيه أنَّ يحيى هذا عاش حتى فتحت مصر وكان مقربًا من عمرو ولم يذكر شيئًا عن مكتبة الإسكندرية، فحادثة المكتبة إذن من أوهام ابن القفطي أخذها عن خرافة كانت شائعة في عصره.»
ثم يمضي في تفنيده فيقول: «وقد تساءل ابن خلدون عن مخلفات الفرس والآشوريين والبابليين والقبط التي حرقها عمر عند فتح العرب، وقال ابن خلدون في كلام آخر: إنَّ العرب لما فتحوا بلاد الفرس سأل سعد بن أبي وقاص عمر عما يأمر به في شأن الكتب التي بها فأمره بإلقائها في اليم، فانتقلت القصة من فارس إلى الإسكندرية مع الزمن، وفعل الخيال فعله في تحريفها.
وقد وقع تحريف في هذه الخرافة في بعض دوائر المعارف، حيث نقل عن سبرنجل أنَّ مكتبة الإسكندرية حرقها العرب عند فتح مصر، وأنَّ الخليفة المتوكل أنشأها من جديد، وأنَّ الترك فتحوا الإسكندرية ٨٦٨ وأضرموا فيها النار على عهد أحمد بن طولون، ولكن أحمد بن طولون لم يفتح مصر وإنما أقامه خليفة بغداد حاكمًا عليها، فلا علاقة للترك إذن بهذا الحادث المزعوم.»
قال: «وفي سنة ١٨٧٧ ذكر الكونت دي لندبرج أنَّ أحد الضباط الإنجليز اتهم نابليون الأول بإحراق مكتبة الإسكندرية.»
قال: «وسنلم هنا بالسبب الذي من أجله ظهرت هذه الخرافة في القرن الثالث عشر ولم تظهر قبل ذلك.»
«ففي أواخر القرن الثاني عشر رجعت مصر إلى حكم خلفاء بغداد، وأبلى صلاح الدين بلاءه في الحروب الصليبية وانتصر على المسيحيين، فلقَّبه الشعب بفاتح مصر، وقرن بين اسمه واسم عمر بن الخطاب. وكان لابن القفطي أب يعجب بصلاح الدين ولاه صلاح الدين قضاء القدس، وعاصر عبد اللطيف البغدادي، وهو من المعجبين مثله بصلاح الدين، فتلاقيا في القدس وسمع منه هذه الأسطورة التي توسع ابن القفطي في نقلها، فكان أول من ألف هذه الأسطورة من حاشية صلاح الدين لتزكية حاكم مصر الجديد. ومما يروى عن صلاح الدين أنه باع كنوز القصر والمكتبة فبقيت هذه الرواية إلى القرن الثامن عشر يوشِّيها ما ينسجه الخيال حول الخرافة العمرية، ثم اتخذت صورتها التاريخية منذ ذلك العهد تعززها خرافات أخرى لحقت بعمرن ووافقت معنى قوله ألَّا كتاب إلا كتاب الله.»
ومن المشارقة الذين تناولوا حكاية المكتبة المؤرخ الكبير جورجي زيدان في الجزء الثالث من كتابه «تاريخ التمدن الإسلامي»، حيث قال إنه كان يميل إلى نفي الحكاية، ثم عدل عن ميله هذا إلى قبولها، وأورد من أسباب ذلك «أنَّ حكاية إحراق مكتبة الإسكندرية لم يختلقها أبو الفرج لتعصب ديني، ولا دسها أحد بعده، بل هو نقلها عن ابن القفطي وهو قاضٍ من قضاة المسلمين عالم بالفقه والحديث وعلوم القرآن واللغة والنحو والأصول والمنطق والنجوم والهندسة والتاريخ والجرح والتعديل، وكان صدرًا محتشمًا جمع من الكتب ما لا يوصف، وكانوا يحملونها إليه من الآفاق، وكانت مكتبته تساوي خمسين ألف دينار، ولم يكن يحب من الدنيا سواها، وله حكايات غريبة من غرامه بالكتب، ولم يخلف ولدًا فأوصى بمكتبته لناصر الدولة صاحب حلب، وله مؤلفات عديدة في التاريخ والنحو واللغة، وفي جملتها كتاب أخبار مصر من ابتدائها إلى أيام صلاح الدين في ستة مجلدات، وكتاب تراجم الحكماء الذي نحن في صدده، وأنَّ ابن القفطي وعبد اللطيف البغدادي أخذا عن مصدر ضائع، وأما خلو كتب الفتح من ذكر هذه الحادثة فلا بد له من سبب، والغالب أنهم ذكروها ثم حذفت بعد نضج التمدن الإسلامي واشتغال المسلمين بالعلم ومعرفتهم قدر الكتب، فاستبعدوا حدوث ذلك في عصر الخلفاء الراشدين فحذفوه، أو لعل لذلك سببًا آخر، وفي كل حال فقد ترجح عندنا صدق رواية أبي الفرج.»
ونرى نحن أنَّ ابن القفطي كان أولى ممن تقدموه بالسكوت عن حريق المكتبة بأمر عمر بن الخطاب لو كان الذين تقدموه قد سكتوا عنه لعرفانهم قدر الكتب وغيرتهم على سمعة الخلفاء الراشدين، فإن ابن القفطي لا يجهل قدر الكتب، ولا يسبقه سابق من المؤرخين في المغالاة بنفاسة المكتبات. فلا بد من تعليل أصوب من هذا التعليل لسكوت المؤرخين المسلمين والمسيحيين الذين شهدوا فتح مصر عن هذه الحكاية إلى أن نجمت بعد بضعة قرون.
فمن جملة هذا العرض لآراء نخبة من الثِّقاتِ في هذه المسألة، يحق لنا أن نعتقد أن كذب الحكاية أرجح من صدقها، وأنها موضوعة في القرن الذي كتبت فيه، ولم تتصل بالأزمنة السابقة له بسند صحيح، وربما كانت مدسوسة على الرواة المتأخرين للتشهير بالخليفة المسلم، وتسجيل التعصب الذميم عليه وعلى الإسلام.
وإذا كانت هذه الحكاية من تلفيق النيات السيئة، فالمعقول ألا توضع قبل القرن السادس الهجري الذي تسربت فيه إلى الكتب المدونة، وهذا يفسر لنا كل غموض يستوقف النظر في الحكاية من جميع أطرافها؛ لأن تلفيق هذه الحكاية يستلزم عناصر شتى لا تجتمع كلها في وقت واحد قبل القرن السادس للهجرة.
فهو يستلزم أن يكون الملفِّق عليمًا بالأقوال والأحوال التي أُثِرَتْ عن عمر بن الخطاب، وفيها ما يجعل حكاية المكتبة قريبة التصديق مشابهة لما يتوخاه الخليفة في أوامره ونواهيه. ولم تكن هذه الأقوال والأحوال معلومة مستفيضة الخبر بين المسلمين أنفسهم عند فتح الإسكندرية فضلًا عن المسيحيين أو الإسرائيليين، وإنما علمت واستفاضت بعدما دُوِّنت السير وجمعت المتفرقات.
ويستلزم تلفيق الحكاية للتشهير بالخليفة المسلم أن يكون الملفِّق عارفًا بما في هذه التهمة من المعابة، شاعرًا بما فيها من الاعتساف والغرابة، ولم يكن هذا أيضًا مفهومًا في أيام فتح الإسكندرية بين خصوم الإسلام؛ لأنهم كانوا قد تعودوا إحراق الكتب والتماثيل واعتبار الوثنية وبقاياها رجسًا من عمل الشيطان يستحق نار الدنيا قبل نار الجحيم، وما من عارف بالكتب بينهم إلا كان يسمع بحماسة القياصرة المسيحيين في تدمير التحف الإغريقية، ولا سيما «ثيوديسيوس» الذي أحرق هياكل شتى، فيها ولا شك كتب كثيرة من بقايا المكتبة التي عليها الخلاف.
وقد يستلزم تلفيق الحكاية أن تكون مصر وأخبارها موضع اهتمام ومثار قيل وقال، ولم تكن مصر قبلة أنظار العالم كما كانت في أوقات الحروب الصليبية، يوم كانت هي ميدان الفصل ومناط الظفر والهزيمة بين جيوش الدنيا المحشودة فيها أو على أبوابها.
وقد يستلزم كذلك أن يكون العصر حزازة بين الإسلام وخصومه، كما كان عصر الحروب الصليبية وما قبله بقليل.
وقد يستلزم مع جميع أولئك أن يشترك في القيل والقال حافظو الكتب الإغريقية في بيزنطية وشواطئ آسيا الغربية، وهي البلاد التي كانت موطئ أقدام الجيوش في الكرِّ والفرِّ والقدومِ والإيابِ، ومنها تدفَّق حافظو الكتب إلى أوروبا عندما أغار الترك على بيزنطية من تلك الأرجاء.
فتلفيق الحكاية إذن كان عجيبًا في أيام فتح الإسكندرية وما تلاها من الأزمنة إلى زمان القفطي والبغدادي وأبي الفرج الملطي، ولهذا لم تظهر حكاية المكتبة في تلك الأيام.
وتلفيقها في عصر الحروب الصليبية غير عجيب لاجتماع الأسباب التي يستلزمها ذلك التلفيق، ولهذا ظهرت فيه، وأمدنا ظهورها فيه بالسبب الذي يبطل العجب، ويفسر الغوامض التي لا يفسرها تعليل معروف غير هذا التعليل.
إلا أننا على الرغم من كل هذا نفرض أنَّ عمرَ بنَ الخطاب أمر بإحراق مكتبة الإسكندرية، فما هي الوصمة التي تلحقه من هذا الأمر؟ ولماذا كان يحرم عليه أن يحرقها، ويجب عليه أن يستبقيها ويفتح أبوابها؟ ولماذا كان ينبغي أن يكون على يقين أنها شيء مفيد للمسلمين ولغيرهم من الأمم، وأنها ذخيرة من ذخائر العالم لا يجوز التفريط فيها؟
أمن النقص في تفكير الإنسان أن ينشأ بمعزل عن بلاد اليونان وعن عصر حكماء اليونان، فلا يطلع على الفلسفة اليونانية؟ أكانت فائدة تلك الكتب واضحة كل الوضوح من أحوال أقوامها الذين حفظوها، إن صح أنهم حفظوها؟
إنَّ أحوال الروم والقبط في ذلك العهد لم يكن فيها دليل واحد على أنهم محتفظون بينهم بمعرفة نفيسة، وأنَّ ضياع كتبهم فيه ضياع لذخيرة من ذخائر العالم التي لا يجوز التفريط فيها.
فقد كانوا على شر حال من الضعف والفساد والجهل والهزيمة والشقاق والتهالك على سفاسف الأمور، فإذا كان عمر مطالبًا بعلم الفلسفة اليونانية، أو غير ملوم على فوات الاطلاع عليها، وإذا كانت أحوال الأمم التي هي أهلها لا تدل على قيمتها، بل تسوغ الاعتقاد بخلوها من كل قيمة، فأين هو العيب في تفكيره إن صح أنه فكر على ذلك المنوال؟
إنما يعيب الإنسان أن يكون عدوًّا للمعرفة على إطلاقها، ولم يكن عمر عدوًّا للمعرفة ولا معرضًا عنها، بل كان مشغوفًا بها حيث رآها دينية أو أدبية، ومن قومه أتت أو من غير قومه.
فكان يستشير الغرباء في تدوين الدواوين ومنافع الصناعة، ولا ينتهي عن علم شيء إلا أن تكون فيه فتنة أو ضلال.
وكان — ولا ريب — يؤثر للمسلمين أن يقبلوا على دراسة القرآن ويقدِّموا فهمه على فهم كل كتاب، وهذا واجبه الأول الذي لا مراء فيه، وما من أحد هو مطالب بهذا الواجب قبل أن يطالب به عمر على التخصيص؛ لأنه الخليفة الذي في عهده انتشر المسلمون بين أقطار المشرق، وخيف عليهم أشد الخوف أن ينحل العقد الذي جمعهم، وبث فيهم الهمة والبأس وسوَّدهم على العالمين.
وفي الأخبار التي نقلت بهذا الصدد أن رجلًا أنبأه أنهم لما فتحوا المدائن أصاب كتابًا فيه كلام معجب، فسأله: أمن كتاب الله؟ قال: لا. فدعا بالدرة، فجعل يضربه بها وهو يقرأ: الر ۚ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ.
ثم قال: «إنما أهلك من كان قبلكم أنهم أقبلوا على كتب علمائهم وأساقفتهم، وتركوا التوراة والإنجيل حتى درسا وذهب ما فيهما من العلم.»
رُوِيَت هذه الرواية عن عمرَ بنِ ميمون عن أبيه، وليس فيها ما يأباه العقل، ولو حكمنا على عمر بحكم الدنيا وحكم التجربة الواقعية، وتركنا حكم الدين والإيمان إلى حين.
فبالتجربة الواقعية أيقن عمر أن المسلمين بكتابهم خرجوا من الظلمات إلى النور، وانتصروا على من حاربوه وعندهم كل كتاب.
فعلى أي فرض من الفروض لم يكن في تصرف عمر ما يأباه العقل الذي ينظر إلى الحقائق المشهودة والآثار الواقعة، ويجوز أنه أمر بإحراق مكتبة الإسكندرية على أبعد احتمال، ولكن الذي لا يجوز لمنصفٍ أن يفهم من ذلك أنه عدو الثقافة، وهو الأديب الفقيه الخطيب، وهو قد وازن بين معرفة ظاهرة النفع ومعرفة مجهولة ظواهرها كلها تغري باتهامها، ولا لوم عليه أن يولد حيث يجهلها، ولا لوم عليه أن يتهمها وهي لم تنفع أهلها يوم رآهم يخبطون في الضلالة والهزيمة، ولا يقال عن عقل يفكر هذا التفكير إنه لم يفكر على هدى مستقيم.