عُمر في بيته
كان الخليفة الأكبر — صاحبُ الأمرِ في الجزيرة العربية، وصاحب الغلبة على ملك الأكاسرة والقياصرة والفراعنة، ومدبر الحكم في الرقعة الوسطى بين قارات العالم المعمور — رجلًا فقيرًا يعيش عيشة الكفاف، ويقنع من الغذاء والكساء بحظ لا يتمناه كثير من الرجال، ويزهد فيه كثير من النساء.
فمن غير العجيب أن يخطب بعض النساء فيأبين عيشه، وقد أبى مثل هذا العيش نساء النبي — عليه السلام — فلم يقبلنه إلا وقد خُيِّرن بينه وبين الطلاق.
إنَّ امرأة واحدة ترفض عمر لأَغلَى في الشهادة له من ألف امرأة يقبلن على بيته، ويطمعن في سلطانه.
وقد وصفته امرأة خطبها ورفضته وصفًا لم نسمع فيما قيل عن إيمانه بالله أصدق منه ولا أوجز وأوفى، فقالت أم أبان بنت عتبة بن ربيعة: إنه رجل «أذهله أمر آخرته عن أمر دنياه، كأنه ينظر إلى ربه بعينه.»
والذي نعنيه من الوصف هو قولها عن مخافته الله أنه كان يخافه كأنه يراه بعينه.
فهو في الحق أصدق وصف لإيمان هذا الرجل المتفرد بإيمانه، كما تفرد بكثير من شئونه. إنه تجاوز حد الإيمان إلى حد الرؤية والعيان، وحقق مبالغات أبي الطيب المتنبي حين وصف الغاية القصوى من الشجاعة والحكمة فقال:
ومهما يكن من إيمان بالغيب، فهو لا يبلغ في اليقين والحضور مبلغ الرؤية بالعين، وهي قولة عابرة من قائلة أصابت ما لم يصبه قائل، ولعلها لا تدري مدى صوابها.
وأم كلثوم بنت علي حدثة أيضًا، والمحظور في إغضابها أكبر من المحظور في إغضاب بنت أبي بكر، وإن اعتمد ابن العاص على أنَّ عمر يملك نفسه فلا يغضبها، فقد كان حريًّا به أن يعتمد على شيء من ذلك في خطبته لبنت الصديق، فلن يفوت عمر — وهو يعلم من يخاطبه في الأمر — أن يفهم خبيئة سعيه، وأن يتجاهله لئلا يكشف موقف الرفض والاعتذار من عائشة وأختها — رضي الله عنهما — ويعمل بما يراه الصواب.
والطريف في القصة — وكلها طريف — أن يذهب عمرو بن العاص إلى خليفته ليواجهه بما يؤخذ عليه من خلائقه وهو آمن أن يغضبه، بل هو فوق ذلك واثق من موافقته إياه ما دام على صدق في مقاله.
وللمرأة أن تأبى الخشونة في رَجلها ولا تستريح إليها، ولكن دارس الأخلاق لا ينبغي أن يعيب هذه الخصلة إلا بمقدار ما فيها من نقص في الطبائع الإنسانية الأصيلة؛ إذ المحقق أنَّ الخشونة حرمان من الصقل والمرونة، ولكننا نخطئ كل الخطأ إن حسبناها حرمانًا من البر والرحمة؛ لأن المرء قد يكون ناعم الملمس وهو قاسٍ مفرط القسوة، ويكون خشن الملمس وهو رحيم مفرط الرحمة، ويغلب في هذه الحالة أن تكون خشونته — كما أسلفنا في فصل سابق — درعًا يستر بها مواضع اللين في خلقه، وضربًا من الخجل أن يطلع على ناحية فيه يتطرق إليها الضعف وتنفذ منها الرماية.
فالخشونة نقيض الصقل والنعومة، وليست نقيض العطف والرحمة، وعمر بن الخطاب من أفذاذ الرجال الذين تتجلى فيهم هذه الحقيقة أحسن جلاء، حتى في علاقاته بالأهل والنساء.
رحمة عمر رحمة في غلاف، وليست بالرحمة المكشوفة لكل ناظر ولامس، ولا تطول بالناس عشرته حتى ينقشع هذا الغلاف عن قلب وديع مفعم بالعطف والمودة، مفتَّح الجوانب لكل عاطفة كريمة ولو لم تكن من ولي حميم.
فنساؤه اللائي عاشرنه قد كلفن بحبه ورضين عيشه لرضاهن بمودته وعطفه، وكانت إحداهن، التي سميت العاصية وسماها النبي — عليه السلام — الجميلة، لا تطيق فراقه، فإذا خرج مشت معه إلى باب الدار فقبلته ولم تزل في انتظاره.
وقالت فيه:
وقالت فيه:
وقالت فيه:
ولا يُبكى الرجل هذا البكاء على ما في عيشه من الشظف إلا ومن وراء خشونته مودة قلب تنفذ إلى القلوب.
وأكثف ما تكون الدروع أرق ما يكون الموضع الذي يليها وأخوفه من الإصابة، فانظر أين الموضع الحصين المحمي فهنالك الموضع اللين الذي يخاف عليه، ولا يخدعنك عن ذلك خادع من إظهار أو تظاهر غير مشعور به وغير مقصود، أين أكثف ما تكاثفت الغلظة فيه من درع عمر التي عنيناها؟
المرأة ولا نزاع!
فعلى المرأة كانت له غيرة اشتهر بها وعدت من دلائل شدته عليها، وفي هذا يقول رسول الله ﷺ: «إنَّ الله غيور يحب الغيور، وإنَّ عمر غيور.»
وعلى المرأة ومن المرأة كان حذره أن تتخايل للعيون وتتبرج في مضطرب الفتون.
ولما توجس من زواج المسلمين ببنات الأعاجم، لم يتوجس منه لأنه حرام، بل لأن «في نساء الأعاجم خلابة، فإن أقبلتم عليهن غلبنكم على نسائكم.»
فالخلابة هي المحذور الذي يُتَّقى.
ومتى كان فرط الغيرة على المرأة أو الحذر منها دليلًا على أنها ذلك الشيء المهين، وإن قال الغيور الحذور بلسانه إنها لشيء مهين؟
وابحث عن جانب واحد مغلق أو مقطوع من جوانب الرحم الذي ينبغي أن يوصل فإنك لن تجده في نفس هذا الرجل بتة، وإن جهدت في البحث.
فكان ابنًا بارًّا لا ينسى التحدث عن أبيه، ويعتز بذكراه على ما كان من قسوته عليه في صباه، ولم يزل يقسم باسمه حتى نهاه النبي، فانتهى وهو يقارب الكهولة.
وكان أبًا يحب أبناءه ويعرف وجد الآباء بالأبناء، وينزع الثقة من والٍ لا يحنو على صغاره. أمر بكتابة عهد لبعض الولاة، فأقبل صبي صغير فجلس في حجره وهو يلاطفه ويقبِّله، فسأله المرشح للولاية: أتقبل هذا يا أمير المؤمنين؟! إنَّ لي عشرة أولاد ما قبَّلت أحدًا منهم ولا دنا أحدهم مني. فقال له عمر: وما ذنبي إن كان الله — عز وجل — نزع الرحمة من قلبك؟! إنما يرحم الله من عباده الرحماء. ثم أمر بكتاب الولاية أن يُمزَّق وهو يقول: إنه إذا لم يرحم أولاده فكيف يرحم الرعية؟
وكان كلاب بن أمية الكناني في غزوة فاشتاق إليه أبوه الهرم وحزن لغيابه، واتصل نبؤه بعمر فكتب إلى قائد الجيش يستعيد كلابًا إلى المدينة، فلما عاد ودخل عليه سأله: ما بلغ من برك بأبيك؟ قال: كنت أكفيه أمره، وكنت أعتمد — إذا أردت أن أحلب لبنًا — أغزر ناقة في إبله وأسمنها فأريحها وأتركها حتى تستقر، ثم أغسل أخلافها حتى تبرد، ثم أحلب له فأسقيه.
ثم بعث إلى أبيه فجاء يتراوح في مشيته ضعيفًا بصره، محنيًّا ظهره، فسأله: كيف أنت يا أبا كلاب؟ قال: كما ترى يا أمير المؤمنين. ثم جاءه بلبن حلبه ابنه، ففطن الرجل وقال وهو يدني الإناء إلى فمه: لعمر الله يا أمير المؤمنين إني لأشم رائحة يدَيْ كلاب من هذا الإناء! فقال عمر: هذا كلاب عندك حاضر قد جئناك به. فوثب إليه ابنه، وطفق الأب الذي لم يكد يراه يضمه ويقبِّله، وبكى عمر، وأمر كلابًا أن يلزم أبويه ما بقيا، وله عطاؤه كأنه يجاهد في سبيل الله.
ومن حنانه على الأطفال أنه كان يشفق عليهم أن يحزنوا في لهوهم ولعبهم فلا يترك الخائف منهم حتى يأمن على لهوه ومحصول لعبه، فحدث سنان بن سلمة أنه كان في صباه يلتقط البلح في أصول النخل مع بعض الصبية إذ أقبل عمر فتفرق الغلمان وثبت هو في مكانه، فلما دنا منه أسرع قائلًا: يا أمير المؤمنين، إنما هذا ما ألقت الريح! قال عمر: أرني أنظر فإنه لا يخفى علي. فنظر في حجره ثم قال: صدقت. إلا أنَّ الصبي لم يقنع بهذا حتى يحرسه أمير المؤمنين إلى بيته! فقال: يا أمير المؤمنين، أترى هؤلاء الآن؟ وأشار إلى الصبية الهاربين، ثم قال: والله لئن انطلقت لأغاروا عليَّ فانتزعوا ما معي. فمشى معه عمر حتى بلَّغه بيته!
وكثير على المصدقين المفرطين في التصديق أن يعرفوا هذا عن عمر، ثم يصدقوا أنه وأد بنتًا في الجاهلية على تلك الصورة البشعة التي انتقلت إلينا في بعض الروايات، وخلاصتها أنه — رضي الله عنه — كان جالسًا مع بعض الصحابة إذ ضحك قليلًا ثم بكى، فسأله من حضر فقال: كنا في الجاهلية نصنع صنمًا من العجوة فنعبده ثم نأكله، وهذا سبب ضحكي، أما بكائي فلأنه كانت لي ابنة فأردت وأدها فأخذتها معي وحفرت لها حفرة فصارت تنفض التراب عن لحيتي فدفنتها حية.
فهي قصة يعتورها الشك من ناحية ضحكها ومن ناحية بكائها ومن ناحية اجتماعهما في لحظة واحدة لتمكين واضع القصة من التفرقة بين عصري عمر في جاهليته وإسلامه، وأدعى ما فيها من الشك تلك الخاتمة التي يتم بها اختراع الفجيعة والبلوغ بها إلى ذروتها، وهي نفض الطفلة الصغيرة تراب حفرتها عن لحية أبيها.
فالوأد لم يكن بالعادة الشائعة بين جميع القبائل العربية، ولم يشتهر بنو عدي خاصة بهذه العادة ولا اشتهرت بها أسرة الخطاب التي عاشت منها — فيما نعلم — فاطمة أخت عمر، وحفصة أكبر أولاده، وهي التي كُني أبا حفص باسمها.
وقد ولدت حفصة قبل البعث الإسلامي بخمس سنوات فلم يئدها، فلماذا وأد الصغرى المزعومة، وهي في السن التي تفهم فيها كيف تنفض التراب عن لحية أبيها؟ ولماذا انقطعت أخبار هذه الصغرى المزعومة فلم يذكرها أحد من إخوانها وأخواتها ولا أحد من عمومتها وخئولتها؟
ما نحسبها إلا إحدى جنايات الإغراب على من خلقوا وفي سيرتهم مثال للإغراب والإعجاب، فهي اختراعة تضعفها خلائق عمر التي لا تتبدل هذا التبدل من النقيض إلى النقيض بين جاهليته وإسلامه، وقد كان عمر في جاهليته لم يسلم بعد يوم أشفق على أخته وهي دامية الوجه، وكان في جاهليته يوم أحب أخاه حبه المفرط وبقي عليه.
فليس وقوع القصة المزعومة في الجاهلية مانعًا لغرابتها ومقربًا لتصديقها وغير هذا الأب وهذا الأخ يطيق هذه القسوة التي لا تطاق.
إنَّ قليلًا من الآباء من أحب أبناءه كما أحب عمر أبناءه، وإنَّ قليلًا من الإخوة من أحب أخًا كما أحب عمر زيدًا أخاه، فما سمع اسمه بعد مقتله إلا سالت عبرته، وما هبت الصبا — كما قال — إلا وجد نسيم زيد وتمنى نظم الشعر لينظمه في رثائه.
بل إنَّ قليلًا من الأصدقاء من أخلص لأصدقائه وعشرائه كما أخلص عمر لكل صديق وعشير، وهو القائل: «لقاء الإخوان جلاء الأحزان»، وهو القائل حرصًا على المودة وضنًّا بها: «إذا أصاب أحدكم ودًّا من أخيه فليتمسك به، فقلما يصيب ذلك.»
فإذا أردنا أن ننقب عن وشائج الرحم وصلات المودة في نفس هذا الرجل المهيب المخيف فلننقب عنها في ينابيعها الخفية التي تسري منها وترقرق في نواحيها، ولا ننقب عنها في الصخور التي تكتنفها وتطفو عليها وترفع أعلامها.
أو نحن حريون أن ننقب عنها بين هذه الصخور والأعلام ولكن على هدى وبصيرة، فلا نقنع منها برأي العين من بعيد أو قريب، ولا نغتر بما تبديه كأنه كل شيء تحتويه.
فما هذه الصخور والأعلام التي كانت تروع الناظر من هيبة عمر ومن ملامح سيماه؟ هي مظهر قدرته على نفسه لا أكثر ولا أقل، وهي الحارس اليقظ الذي يحمي تلك النفس أن يتسرب إليها الوهن، وأن تؤخذ على حين غِرَّة من حيث يخاف عليها.
والمرء لا يعتصم بقدرته على نفسه وهو آمن، ولا يوقظ الحارس على دخيلته وهو وادع في سربه، إنما يعتصم بقدرته ويوقظ حارسه حين يحذر، وإنما يحذر من الطارق الذي لا يستهين به ولا يزال على رقبة منه.
وقد كان عمر بن الخطاب أكثر ما يكون اعتصامًا بقدرته في أمسِّ الأمور بقلبه وسريرة طبعه؛ في خشية الخديعة من ناحية الترف والمتعة، فهو لا يستسلم لشهوة مأكل وملبس ولا قُنية دنيوية، وفي خشية الخديعة من ناحية ولده وأهله، فهو يجفل من أن يرى لهم رزقًا لا يعرف مأتاه، ويجفل من أن يرى لهم إبلًا سمانًا بين الإبل العجاف مخافة أن يسمِّنها لهم الناس في مراعيهم لأنهم ولد أمير المؤمنين، وتلك إبل أبناء أمير المؤمنين!
وكان أكثر ما يكون اعتصامًا بقدرته حين يلمح الفتنة الكبرى التي يقتدر بها شيطان الغواية، وتلك هي المرأة لا فرق بين خيارها وشرارها، فمن شرارها استعذ بالله، ومن خيارها كن على حذر!
وإذا اعتصم عمر بن الخطاب بنفسه فانتظر شيئًا واحدًا لن تجد حولًا عنه، وهو تقديره العدل تقدير الخائف أن يزيد فيه شعرة أو ينقص منه شعرة، فمتى اعتصم بنفسه استيقظ وانتصر، ومتى استيقظ وانتصر فللحق يقظته وفي سبيل الحق انتصاره.
يعرض شأن المرأة فهو الغيور الحذور، وهو الواقف على الميزان فيما تُعطَاه وفيما تعطيه، فلا هي بظالمة ولا مظلومة في كل أمر يرجع إليه.
فمن همه كان ألا تُظلَم لضعفها ولا تُغبَن لحيائها وخفرها، ومن حقها عنده ألا تُكرَه على زواج الرجل القبيح، تحب لنفسها ما يحبه الرجل لنفسه، وأن يعرف لها عذرها حيث يعرف للرجل عذره في الصلة بينها وبينه، فسمع مرة أعرابية تنشد:
فتوهم في زوجها عيبًا وأرسل في طلبه فإذا هو متغير الفم، فخيَّره بين خمسمائة درهم وطلاقها، فقبل الدراهم وطلقها.
وسمع امرأة من وراء بابها تنشد:
فسأل عن زوجها فعلم أنه خرج في غزوة طالت غيبته فيها، فأمر بعد ذلك ألا تطال غيبة الأزواج في الغزوات.
وكان يقبل شكوى المرأة من زوجها الذي يهمل النظافة والزينة؛ لأن النساء «يحببن أن تتزينوا لهن كما تحبون أن يتزين لكم.»
فهي أولى عنده ببعض المحاباة حين لا ضير في المحاباة، وقد عاهد الناس فيما عاهدهم عليه «ليمنعن النساء إلا من الأكفاء.»
ونرى أنه قضى في الخلاف بين الزوج والزوجة بالقول الفصل في بناء الأسر وتعمير البيوت، حين قال لرجل هم بطلاق امرأته لأنه لا يحبها: «أَوكُلُّ البيوت بُني على الحب؟ فأين الرعاية والتذمم؟»
فإنه لبر بربات البيوت لم يدركه متحذلقة العصر الذي يلغطون بالحب والزواج، ويجهلون أنَّ الرعاية والتذمم أقمن بالدوام والتعمير من زواج يبنى على الحب وحده؛ لأن الحب منوط بالأهواء التي تتغير بين آونة وأخرى، وأما مناط الرعاية والتذمم فهو الأخلاق التي قل أن يطرأ عليها تغيير.
فما للمرأة من حق تُعطَاه، وما ليس لها بحق لا تُعطَاه وتذاد عنه.
والذي ليس بحق للمرأة أن تعلو كلمتها على كلمة وليها، وهذا الذي كان ينكره عمر على أهل المدينة حيث قال: «… كنا معشر قريش نغلب النساء، فلما قدمنا على الأنصار إذا هم قوم تغلبهم نساؤهم، فطفق نساؤنا يأخذن من أدب نساء الأنصار.
وصحت على امرأتي فراجعتني فأنكرت أن تراجعني، قالت: ولمَ تنكر أن أراجعك؟ فوالله إنَّ أزواج النبي ﷺ ليراجعنه، وإنَّ إحداهن لتهجره اليوم حتى الليل، فأفزعني.»
نعم، هذا مفزع لعمر، وقد كان — ولا ريب — مفزعًا لرسول الله أن تعلو كلمة على كلمته في بيته، لكن طريقة محمد في تغليب الكلمة طريقة نبي يؤم متبعيه، وطريقة عمر طريقة مريد مؤتم بنبوة، ولا جناح على عمر ألا يلحق بشأو محمد في كل ما سبق إليه.
فمحمد إنسان عظيم، وعمر رجل عظيم، وهذا هو الفارق بينهما كما بيناه في مناسبة سابقة، وإنما الفارق بينهما في المناسبة التي نحن بصددها أنَّ الرجل العظيم يرحم المرأة كما يرحمها الجندي في معرض القوة والنضال، ولكنه يأنف أن يستكين لسلطانها في معرض الهوى والفتنة، فيكسرها ولا ينكسر لها إذا لجت في الغرور وانطلقت في عنانه، ومن ثم استصغر عمر ولده نفسه — عبد الله — لأنه عجز عن تطليق زوجه، فلما أشاروا عليه باستخلافه قال لمن كلمه في ذلك: «ويحك! كيف أستخلف رجلًا عجز عن طلاق امرأته؟!»
أما الإنسان العظيم فهو يشمل ضعف الإنسانية كله ويعطف عليه، ومنه ضعف المرأة في غرورها واعتزازه بدلال الضعف على القوة؛ لأنه في حقيقته اعتزاز بمكانها منها وتقدير لتلك القوة في بعض نواحيها، فهو يرى في تكبر المرأة إذا كانت كبيرة عنده نوعًا من الاعتراف بكبره، وهو لا يقف معها في ميدان كما يقف كل ذكر وأنثى؛ لأن ميدانه هو يشمل الميدانين مجتمعين، إذ هو ميدان الإنسان كله والإنسانية جمعاء.
على أنَّ شأن الرجل مع المرأة لا يظهر من رأي الرجل فيها كما يظهر من رأيها فيه، فبعد معاملة عمر للمرأة وقوله فيها يبقى له شأن في عالمها يظهر لنا من رأيها هي فيه.
وقد أكبرت سيدة نساء العصر عمر فوصفته بأنه كان نسيج وحده، وهي عائشة — رضي الله عنها — وجمعت الشفاء بنت عبد الله بعض صفاته فقالت: إنه «كان إذا تكلم أسمع، وإذا مشى أسرع، وإذا ضرب أوجع، وهو الناسك حقًّا»، وصاحت أم أيمن مرضعة النبي يوم أصيب: «اليوم وَهَى الإسلام.»
وعلينا نحن أن نسأل المرأة في عصر عمر عن مثال الرجل في عصرنا، ولا نسأل فيه نساء زمان غير ذلك الزمان، وما نخالنا نعرف رأي المرأة يومئذ في الرجل الذي يكبر في عينها كما نعرفه من امرأة هي هند بنت عتبة زوج أبي سفيان وأم معاوية، فليس أقدر منها على الجواب ولا أصرح فيه.
ونحن نحسب هذا رأي المرأة النجيبة في زمان عمر، ولو شئنا لحسبناه رأيها في كل زمان على أن تضمره بباطن القلب ولا تلقيه بطرف اللسان، فإن زادت خشونة العيش في بيت عمر على القدر الذي ترضاه المرأة فهي خشونة غير محقورة السبب؛ لأنها لا تحسب على عمر «الزوج» من ناحية حتى تحسب لعمر «الرجل» من ناحية أخرى؛ إذ هي لم تأت من قلة القدرة على العيش، وإنما جاءت من كثرة القدرة على النفس، وهي خليقة تعجب بها المرأة في الرجل الذي تكبره؛ لأنها من أقوى خلائق الرجولة فيه.
وليس لدينا بيان وافٍ عن النساء اللاتي تزوج بهن عمر يعيننا على التمييز بين سماتهن والبحث في المياسم الشخصية التي يتعددن فيها أو يختلفن، ويجيز لنا أن نسهب في الكلام عن موقع كل منهن من نفسه، وأثرها في حياته، ومبلغ حظوتها عنده، وسبب هذه الحظوة في رأيه وشعوره، وما يدل عليه جميع ذلك من نوازع فطرته وذوقه؛ فقد سكت التاريخ، وسكت عمر عن كل بيان وافٍ في هذا الباب، فلم يبق لدينا منه إلا أسماء وأعوام ونوادر مقتضبات لا تساعدنا على تكوين سمات واضحات، فضلًا عن التفرقة بين تلك السمات.
غير أننا نعتقد أنَّ التاريخ لم يفقدنا شيئًا كثيرًا في هذا الباب؛ لأننا مستطيعون أن نعوض ما فقدناه بالقياس إلى ما عرفناه، فلا نخطئ إذا رجحنا أنَّ سمات هؤلاء النساء جميعًا تدخل في نطاق الوصف الذي كان يستحبه عمر في المرأة، ولا يطيق منها أن تخالفه وتخرج عليه.
ومن القليل الذي بقي لدينا من أخبار نسائه نعلم أنه كان موفور الحظ من هذا الجمال في الزوجات، فقد وصف أكثرهن بالحسن البارع، وضُرِب المثل بملاحة إحداهن بين نساء قريش وهي قريبة بنت أبي أمية بن المغيرة، فرُوي في مأثور الحديث الشريف أنَّ سعد بن عبادة قال يومًا في حضرة النبي — عليه السلام: ما رأينا من نساء قريش ما كان يذكر من جمالهن! فقال له عليه السلام: «هل رأيت بنات أبي أمية بن المغيرة؟ هل رأيت قريبة؟» وهي إحدى زوجات عمر قبل إسلامه.
ورُوي أنَّ جميلة بنت ثابت سُمِّيت بهذا الاسم لجمالها، وكان اسمها في الجاهلية عاصية، فكرهته بعد إسلامها، وسألت عمر ثم سألت النبي في تغييره فاتفقا على تسميتها بوصفها، ونوديت بعد ذلك باسم جميلة، وروي عن عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل أنها أُعطِيت شطر الحسن مع ما رُزِقَته من الفصاحة والتقوى. وروي مثل ذلك عن زوجات أخريات وإن لم يتفوقن هذا التفوق المشهور.
ومن أخبار زوجاته أنه طلق اثنتين من أشهر نسائه بالجمال وهما قريبة وجميلة، تزوج الأولى وطلقها قبل إسلامه، وتزوج بالثانية وطلقها بعد إسلامه، ولا ندري على التحقيق ما سبب تطليق هاتين الزوجتين الجميلتين، فهل هو دلال الجمال ضاق به صدر عمر وهو على شموس المرأة غير صبور؟ لعله ذاك، ولعل الذي أبقى عاتكة بنت زيد في عصمته أنها تجاوزت دلال الصغر حين بنى بها، أو غضت من دلالها بالفطنة والتقوى.
وكذلك بقيت في عصمته أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب وهي جميلة صغيرة، وولدت له ابنًا سماه باسم أخيه زيد الذي كان يحبه ويذكره ويطيل البكاء عليه، وأعزها عنده النسب والأدب والمحافظة على آصرة النبوة، فلم يفترقا في الحياة ولم ينشب بينهما خلاف إلا حين جاءتها الهدية من ملكة الروم فضمها إلى بيت المال.
وله مع إحدى أولئك الزوجات قصة صغيرة لا يفوتنا إيرادها في الكلام على حياته الخاصة؛ لأنها كثيرة الدلالات عليه، تدل على عمر في أبوته، وتدل على عمر في سورة طبعه، وتدل على عمر في مثوبته إلى الحق كلما وجب أن يثوب إليه.
فقد طَلَّقَ جميلة وله منها ولد صغير، فرآه يومًا يلعب مع الصبيان، فحمله بين يديه، فأدركته جدته الشموس بنت أبي عامر، وجعلت تنازعه إياه حتى انتهيا إلى أبي بكر رضي الله عنه — وهو خليفة — فقال له أبو بكر: خلِّ بينه وبينها فهي حاضنته. فردَّه إليها ولم يراجعه بكلمة.
ولعمري إنَّ في هذه القصة الصغيرة من الدلالة عليه لما يغني عن قصص، وفيها عمر إنسان عطوف، وفيها عمر رجل سوار الطبيعة، وفيها عمر صاحب خلق مكين، يكبح من طبيعته كل سورة جاوزت حد العدل والإنصاف، وهذا هو عمر في شتى نواحيه.
وقد تدل هذه القصة على شيء يبرئه من بعض اللوم في تطليقه أم هذا الولد، فاسمها عاصية واسم أمها الشموس، وكأنهما — كما ينبئ عنهما هذان الاسمان — من أسرة تباهي بدلال بناتها وشموسهن، وتختار لهن من الأسماء ما يدل على هذه الخصلة، وقد يضيف إلى توكيد هذه الخصلة فيهن أنَّ عاصية غضبت حين اختار لها عمر اسم جميلة، وقالت له: سميتني باسم الإماء! ثم اختار لها النبي هذا الاسم فقالت: يا رسول الله، أتيت عمر فسماني جميلة فغضبت. قال عليه السلام: أَومَا علمتِ أنَّ الله — عز وجل — عند لسان عمر وقلبه؟
فكأنها نشأت في قوم يعتقدون أن التحسين والترغيب إنما هو من شأن الإماء، وأنَّ الشموس والعصيان أليق بالحرائر وإن أحببن أزواجهن وأحبوهن، فإن كان في تطليقها مأخذ على عمر، فقد يكون فيه مآخذ عليها تفسر لنا افتراقهما بعدما أحبها وأحبته.
ورزق عمر الذرية من ذكور وإناث نجباء ونجيبات، فقرت عينه بهم؛ لأنه كان كأهل البداوة كافة، يستكثر من الذرية، ويوصي الناس أن يستكثروا منها، وكانوا جميعًا عنده بمكان الحب والمودة، لا يخشى الانحراف عن العدل من جانب كما يخشاه من جانب هذه الذرية، أو جانب أهله على التعميم، ولهذا كان يجمعهم إذا نهى الناس عن حوزة حق من الحقوق، فيبلغهم أنه قد نهى عنه، ويذكرهم: «إنَّ الناس ينظرون إليكم نظر الطير إلى اللحم.» ويقسم لهم لئن فعله أحد منهم ليضاعفن عليه العقوبة!
وإنما كان عمر يتقي محاباة الولاة لأبنائه وذويه وإقرار هذه المحاباة بإذنه، ولكنه كان يقترض من بيت المال ليتجر ويربح ما يعيش به في أهله، ويلجأ إلى التجارة لقلة رزقه الذي فرضه لنفسه من بيت مال المسلمين، وقد فرض رزقه لنفسه بعد مشاورة أصحاب رسول الله، فقال عثمان: كل واطعم. وقال علي: ما يصلحك ويصلح عيالك بالمعروف، وإن أيسرت قضيت. وكان يقترض فيعسر فيتأخر قضاؤه، فيأتيه صاحب بيت المال ويشتد في تقاضيه، فيحتال له عمر ويؤجله إلى أن يستحق عطاءه مع عطاء المسلمين، فيسد به دينه.
ولأن يموت عمر مدينًا وفي الدين لهو أعظم الشرفين، وأيسر من ذلك شرفًا أن يموت غنيًّا بغير دين.