رجلٌ ممتازٌ
يُوصَفُ عمرُ بالعبقريَّةِ إذا نظرنا إلى أعماله، ويُوصَفُ بها إذا نظرنا إلى تكوينه الذي جعله مستعدًّا لتلك الأعمال، مضطلعًا بتلك القدرة، وإن لم يكن من اللازم اللازب أن تقترن القدرة بالعمل الذي تستطيعه، لما يتفق أحيانًا من وقوف العوائق بينها وبين الإنجاز أو الاتجاه إلى ذلك العمل.
إلا أنَّ عمر كان رجلًا ممتازًا بعمله، ممتازًا بتكوينه، وكان وفاء شرط الامتياز والتفرد في عرف الأقدمين والمحدثين، من المؤمنين بدينه وغير المؤمنين.
وإذا وصفته للمحدثين الذين يقيسون العبقريَّة بالعلم، أو مشاهدات العلماء، عرفوا من تلك الصفة أنه رجل ممتاز، أو رجل موهوب.
كان مهيبًا رائع المحضر حتى في حضرة النبي الذي تتطامن عنده الجباه، وأولها جبهة عمر.
أذنَ النبي يومًا لجارية سوداء أن تفي بنذرها «لتضربنَّ بدفها فرحًا أن ردَّه الله سالمًا»، فأذن لها عليه السلام أن تضرب بالدف بين يديه.
ودخل أبو بكر وهي تضرب، ثم دخل عثمان وهي تضرب، والصحابة مجتمعون.
فما هو إلا أن دخل عمر حتى وجمت الجارية، وأسرعت إلى دفها تخفيه، والنبي — عليه السلام — يقول: «إنَّ الشيطان ليخاف منك يا عمرُ!»
ومر عمر فناداه النبي: «يا عبد الله»، وقد ظن أنه سيدخل، فقال لهما: «قوما فاغسلا وجهيكما.»
قالت السيدة عائشة: فما زلت أهاب عمر لهيبة رسول الله ﷺ إياه.
وإنَّ من أدب الرسول — عليه السلام — أنه كان يرعى تلك الهيبة رضًا عنها، واغتباطًا بأثرها في نصرة الحق وهزيمة الباطل، وتأمين الخير والصدق، وإخافة أهل البغي والبهتان.
وقد كان الذين يعرفون عمرَ أهيب له من الذين يجهلونه! وتلك علامة على أنَّ هيبتَهُ كانت قوةَ نفسٍ، تملأ الأفئدة قبل أن تملأ الأنظار. فربما اجترأ عليه من لم يعرفه ومن لم يختبره؛ لتجافيه عن الخيلاء، وقلة اكتراثه للمظهر والثياب. أما الذين عرفوه واختبروه فقد كان يروعهم على المفاجأة روعة لا تذهبها الألفة وطول المعاشرة، ومن ذاك أنه كان يمشي ذات يوم، وخلفه عدة من أصحاب رسول الله، إذ بدا له فالتفت، فلم يبقَ منهم أحد إلا وحبل ركبتيه ساقط!
وتنحنح عمر والحجام يقص له شعره، فذهل الحجام عن نفسه، وكاد أن يُغشَى عليه، فأمر له بأربعين درهمًا.
فهي هيبةٌ من قوَّةِ النَّفسِ قبل أن تكون من قوَّةِ الجسد، إلا أنه مع هذا كان في منظر الجسد رائعًا يهول من يراه، ولا يُذهِب الخوفَ منه إلا الثقة بعدله وتقواه.
كان طويلًا بائنَ الطولِ يُرى ماشيًا كأنه راكب، جسيمًا صلبًا يصرع الأقوياء، ويروض الفرس بغير ركاب، ويتكلم فيسمع السامع منه وفاق ما رأى من نفاذ قولٍ وفصلِ خطابٍ.
تشهد العيون كما تشهد القلوب أنه لمن معدن العظمة، أو معدن العبقرية والامتياز بين بني الإنسان، وللمحدثين علامات في العبقرية تتصل بالتكوين وتركيب الخلقة كما تتصل بمدلول الأخلاق والأعمال.
فالعالم الإيطالي «لومبروزو» ومدرسته التي تأتم برأيه يقررون بعد تكرار التجربة والمقارنة أنَّ للعبقرية علامات لا تخطئها على صورة من الصور في أحد من أهلها، وهي علامات تتفق وتتناقض، ولكنها في جميع حالاتها وصورها نمط من اختلاف التركيب ومباينته للوتيرة العامة بين أصحاب التشابه والمساواة.
ومهما يكن من الشك في استقصاء هذه العلامات، والمطابقة بين تفصيلاتها وبين الواقع، فهي — بلا ريب — صادقة في حالات، مقاربة في حالات، غير أهل في كل حال للتصديق التام، ولا للبعد التام، ولا سيما عندما تتفق فيها الظواهر والبواطن، وتتلاقى فيها ملاحظات العلماء وشواهد العرف المأثور.
وفي عمر بن الخطاب من هذه العلامات كثير.
وكان سريع البكاء إذا جاشت نفسه بالخشوع بين يدي الله، وأَثَّر البكاءُ في صفحتي وجهه، حتى كان يُشاهدُ فيهما خطَّان أسودان.
ومن فرط حسِّه وتوفز شعوره أنه كان يميز بين بعض المذوقات والمشمومات التي لا يسهل التمييز بينها؛ سقاه غلامه ذات يوم لبنًا فأنكره، فسأله: ويحك! من أين هذا اللبن؟ قال الغلام: إنَّ الناقة انفلت عليها ولدها، فشرب لبنها، فحلبت لك ناقةً من مال الله.
وقد عرفنا أهل البادية، وعرفنا أنهم جميعًا أصحاب إبل وألبان، ولكننا لم نجد منهم إلا قليلًا يدَّعون أنهم يفرِّقون بين لبنِ الناقة ولبنِ غيرها هذه التفرقة السريعة، ولا سيما في المناخ الواحد والمرعى المتقارب.
وكانت له فراسة عجيبة نادرة يعتمد عليها، ويرى أنَّ «من لم ينفعه ظنه لم تنفعه عينه»، وتُرْوَى له في أمر هذه الفراسةِ رواياتٌ قد يصدق منها القليل، وتتسرب المبالغة إلى كثير، ولكنها على كلتا الحالتين تنبئنا بحقيقة لا شك فيها، وهي أنه اشتهر بالفراسة وحبِّ التفرس، والاستنباط بالنظرة العارضة، فمن ذلك أنه كان جالسًا، فمَرَّ به رجل جميل، فقال ما معناه: أحسبه كان كاهنهم في الجاهلية. فكان كذلك!
ومنه أنه أبصر أعرابيًّا نازلًا من جبلٍ، فقال: هذا رجل مصاب بولده، قد نظم فيه شعرًا لو شاء لأسمعكم، ثم سأل الأعرابي: من أين أقبلت؟ فقال: من أعلى الجبل، فسأله: وما صنعت فيه؟ قال: أودعته وديعة لي. قال: وما وديعتك؟ قال: بُنَيٌّ لي، هَلكَ فدفنته. قال: فأسمعنا مرثيتك فيه. فقال: وما يدريك يا أمير المؤمنين؟ فوالله ما تفوهت بذلك، وإنما حدثت به نفسي. ثم أنشد أبياتًا ختمها بقوله:
فبكى عمر حتى بَلَّ لحيته، ثم قال: صدقت يا أعرابيُّ.
وكان عميرُ بن وهب الجمحي وصفوانُ بن أمية يذكران مصاب أهل بدر، فقال صفوان: والله ما إنَّ في العيش بعدهم خير. فوافقه عميرُ، وهو يقول كالمعتذر من تخلفه عن الثأر: أما والله لولا دَيْنٌ علَيَّ ليس له عندي قضاءٌ، وعيالٌ أخشى عليهم الضيعةَ بعدي؛ لركبت إلى محمدٍ حتى أقتله.
فقال صفوانُ يحرِّضه: علَيَّ دَيْنُكَ، أنا أقضيه عنك، وعيالُك مع عيالي أواسيهم ما بقوا، ولا يسعني شيء ويعجز عنهم.
فوقع كلامُهُ من نفس عمير، فأسر إليه بعزمه على الغدر بالنبي، وشحذ سيفه وسمَّهُ، ثم انطلق حتى قدمَ المدينة.
وجعل رسول الله يسأل عميرًا وهو يراوغ، حتى ضاقت به منافذ الإنكار فباح بِسرِّهِ، وأعلن الإسلامَ والتوبةَ.
هذه الفراسةُ وشبيهاتُها هي ضربٌ من استيحاء الغيب، واستنباطِ الأسرار بالنظر الثاقب. وما من عجبٍ أن تكون هذه الخصلة قرينة من قرائنِ العبقرية في حاشية من حواشيها؛ إذ ما هي العبقرية في لبابها كائنًا ما كان عمل المتصف بها؟ ما هي الحكمة العبقرية؟ ما هو الفنُّ العبقري؟ ما هو دهاء السياسة في الدُّهاة العبقريين؟ من هو:
كل أولئك يلتقي في هبةٍ واحدةٍ، هي كشفُ الخفايا، واستيضاحُ البواطن، واستخراجُ المعاني التي تَدِقُّ عن الألباب، فاتِّصالهُا بالفراسة وشبيهاتها أمرٌ لا عجبَ فيه، ولا انحرافَ به عن النحو الذي تنتحيه.
والذي يعنينا من الفراسة وشبيهاتها في صدد الكلام عن عمرَ — رضوانُ اللهِ عليه — أن نحصي الخصالَ الأخرى التي هي كالفراسة في هذا الاعتبار، وهي التفاؤلُ والاعتدادُ بالرؤيا، والنظرُ أو الشعورُ على البعد أو «التلباثي» كما يسميه النفسانيون المعاصرون. ولكل أولئك شواهدُ شتَّى مما رُوِيَ عن عمر في جاهليته وبعد إسلامه، إلى أن أدركته الوفاةُ.
جاءه رسولٌ من ميدانِ نهاوند فسأله: ما اسمك؟ قال: قريب. وسأله مرة أخرى: ابنُ من؟ فقال: ابن ظفر. فتفاءل وقال: ظفرٌ قريبٌ إن شاءَ الله، ولا قوةَ إلا بالله.
ورَوى يحيى بنُ سعيد أنَّ عمر سأل رجلًا: ما اسمك؟ قال: جمرة. فسأله: ابن مَنْ؟ قال: ابنُ شهاب. فسأله: ممن؟ قال: من الحرقة. وعاد يسأله: ثم ممن؟ قال: من بني ضرام. وهكذا في أسئلة ثلاثة أو أربعة عن مسكنه وموقعه، والرجل يجيب بما فيه معنى النار ومرادفاتها، حتى استوفاه، فقال عمر: أدرك أهلك فقد احترقوا.
وقد يكون التأليف ظاهرًا في هذه القصة، ولكنها مع تأليفها، لا تخلو من الدلالة على اشتهار عمر باستكناه الألفاظ في معرض التفاؤل أو الإنذار.
أما الرؤيا فآخر ما رُوِيَ عنه من أخبارها أنه رأى قُبَيل مقتله كأن ديكًا نقره نقرتين، فقال: يسوقُ اللهُ إِلَيَّ الشهادةَ ويقتلني أعجمي؛ فإن الدِّيك في الرؤيا يُفَسَّر برجل من العَجَم.
كان رضي الله عنه يخطب بالمدينة خطبة الجمعة، فالتفت من الخطبة، ونادى: يا سارية بن حصن، الجبل! الجبل! ومن استرعى الذئب ظلم.
فلم يفهم السامعون مُراده، وقضى صلاته، فسأله علِيٌّ — رضي الله عنه: ما هذا الذي ناديت به؟ قال: أَوَسَمِعْتهُ؟ قال: نعم، أنا وَكُلُّ من في المسجد.
فقال: وقع في خلدي أنَّ المشركين هزموا إخواننا، وركبوا أكتافهم، وأنهم يمرون بجبل، فإن عدلوا إليه قاتلوا من وجدوه وظفروا، وإن جاوزوه هلكوا، فخرج منِّي هذا الكلام.
وجاء البشيرُ بعد شهر، فذكر أنهم سمعوا في ذلك اليوم، وتلك الساعة حين جاوزوا الجبل صوتًا يشبه صوت عمر، يقول: يا سارية بن حصن، الجبل! الجبل! فعدلنا إليه، ففتح الله علينا.
ولا داعي للجزم بنفي هذه القصة استنادًا إلى العقل أو إلى العلم أو إلى التجربة الشائعة، فإن العقل لا يمنعها، والعلماء النفسانيون في عصرنا لا يتفقون على نفيها، ونفي أمثالها، بل منهم من مارسوا «التلباثي» وسجلوا مشاهداته، وهم ملحدون لا يؤمنون بدين، إلا أنَّ المهم من نقل هذه القصة في هذا الصدد، أنَّ عمرَ كان مشهورًا بين معاصريه بمكاشفة الأسرار الغيبية، إما بالفراسة، أو الظن الصادق، أو الرؤية، أو النظر البعيد، وهي الهبات التي يلحقها بالعبقرية علماء العصر الذين درسوا هذه المزية الإنسانية النادرة، وراقبوها، وأكثروا من المقارنات فيها، والتعقيبات عليها.
فهو رجلٌ نادرٌ بما تراه منه العين، نادر بما تشهد به الأعمال والأخلاق، نادرٌ في مقاييس الأقدمين ومقاييس المحدثين.
أو هو رجل ممتاز، وعبقريٌّ موهوبٌ في جميع الآراء.