إِسلامُه
يجوز أن نبحث عن سببٍ واحدٍ للعمل الذي يعمله الرجل اليوم وينساه غدًا، أو يكرره كل يوم ولا يلتفت إلى عقباه، أو يلتفت إلى عقباه ولا يتوقع لها أثرًا يغير في مجرى حياته؛ فسببٌ واحدٌ لعمل من هذه الأعمال كافٍ، ولا حاجةَ بعده إلى استقصاء.
لكنَّ العملَ الذي تتحول به حياة الإنسان تحولًا حاسمًا لن يرجع إلى سبب واحد، ولن نستغني في تفسيره عن عدة أسباب، بعضها حديث وبعضها قديم، ومنها الظاهر الطيع والخفي المستعصي، وقد يجهل صاحبها بعض هذه الأسباب، وينسى المهم منها، ويتعلق بالهين القريب.
فالرجل الذي يغير موطنه أو معيشته أو زيه لا يفعل ذلك عفو الساعة، ولا تلبيةً لاقتراح يوحى إليه في مجلس فراغ، وقد يتوهم هو أنه سمع الاقتراح فلبَّاه، وأنه لم يكن ليلبيه لولا ما سمع في تلك اللحظة العارضة، فهجر أهله، وترك موطنه، وغيَّر صناعته من أجل كلمة، وإنك سائله ساعتئذ: «إنك قد هجرت أهلك، وتركت موطنك، وغيَّرت معيشتك لأنك لبيت اقتراحًا، فهل تعلم لم لبيت الاقتراح؟» فإذا سألته ذلك السؤال رددته إلى نفسه، فعلم أنَّ الأسباب الصحيحة وراء ذلك، وأنه لم يتحول لأنه سمع الاقتراح المزعوم، بل سمع الاقتراح ولباه لأنه كان قبل ذلك مستعدًّا للتحول، ماضيًا في طريقه. ولو سمعه مائة معه لم يكونوا مستعدين مثله، لما عملوا به، ولا التفتوا إليه.
وأين تغيير المعيشة والموطن والزي من تغيير العقيدة الدينية؟ إننا إذا استصغرنا السبب الواحد في تفسير تلك التغييرات، فهو لا مراء أصغر من ذلك جدًّا في تفسير التحول الحاسم إلى دين جديد.
فسبب واحد لا يغيِّر هذا كله دفعة واحدة.
ولا بدَّ لتمام هذا التغيير من أسباب سابقة مهيئة، وأسباب موقوتة هي أظهر تلك الأسباب، وقد تكون أضعفها وأقلها تفسيرًا لذلك الحدث العظيم في العالم، وهل يتغير الإنسان هكذا إلا وقد أحاط بالعالم — في نظره — حدث عظيم؟
ونحن قد أشرنا — فيما تقدم — إلى ندمِ عمر لشكاية المرأتين اللتين عارضهما في الإسلام، وإلى ما كان لندمه من كسر حِدَّته، واستلال ضغنه، وترويض عناده، والتقريب بينه وبين الخشوع الديني، والهداية الإسلامية، فهل نقف عند هذا الندم وكفى؟ وهل انتهينا به إلى حيث يستقر الوقوف؟
ومما لا شك فيه أنَّ عمر كان مقتربًا من الإسلام يوم رثى لأم عبد الله بنت حنتمة، وتركها تنطلق إلى الهجرة وهو يدعو لها بالسلامة، وكانت هي على صواب حين طمعت في إسلامه ورجالها يائسون منه، فقد سألها عامر بن ربيعة مستغربًا مستبعدًا: كأنك قد طمعت في إسلام عمر؟ قالت: نعم. قال: إنه لا يسلم حتى يسلم حمار الخطاب!
ولكن الرجل أخطأ، وصدقت المرأة، إذ ليس أسرع من المرأة أن تلمح جانب الرقة وجانب الغضب من قلب الرجل في خطفة عين، أليست حياتها كلها من قديم الزمن منوطة بذلك الغضب، كيف تتلطف في تحويله؟ وبتلك الرقة كيف تتلطف في ابتعاثها من مكمنها، وهل تحجبها عنها القوة وهي ما نفذت إلى نفس الرجل قط إلا من وراء القوة؟
فعمر كان مقتربًا من الإسلام يوم رثى للمرأة المهاجرة، ودعا لها بصحبة الله، وكان على تمام الإسلام يوم رأى الدم على وجه أخته، ورأى زوجها منطرحًا لا يقوى على دفاع.
وقد تعددت الروايات في إسلام عمر، واختلف بعض هذه الروايات في اللفظ، واتفق في المغزى، وجعل أناس ينظرون فيها كأنما الصحيح منها لا يكون إلا رواية واحدة وسائرها باطل لا يشتمل على حقيقة، فلمَ لا تكون صحاحًا كلها؟ ولم لا تكون أسبابًا متعددات في أوقات مختلفات؟ فمن المستطاع المعقول أن نسقط منها قليلًا من الحشو هنا، ثم نخلص منها إلى جملة أسباب لا تعارض بينها في الجواهر، وقد يعزز بعضها بعضًا في نسق السيرة وفي لباب النتيجة.
هاتان الروايتان هما أجمع الروايات للأسباب «المباشرة» التي قربت بين عمر والإسلام، وتتفرع منهما روايات منوعة يزيد بعضها تارةً أنَّ عمرَ قد أُوفد لقتل النبي من قبل قريش، ويزيد بعضها تارةً أخرى آيات من القرآن الكريم قرأها عمرُ في بيت أخته غير الآيات التي تقدمت الإشارة إليها في سورة طه، وأشبهها بالتصديق أنه لما اطلع على الصحيفة قرأ فيها اسم «الرحمن الرحيم» فذُعِر وألقاها، ثم رجع إلى نفسه فتناولها، وجعل كلما مر باسم من أسماء الله ذُعِر، فلما بلغ وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ قال: أشهد أنَّ لا إله إلا الله وأنَّ محمدًا رسول الله.
وهذه على اختلافها رواياتٌ متقاربةٌ يبدو لنا أنها قصة واحدة شطرت شطرين وزيدت عليها الحواشي والأطراف، فاختلفت في ألفاظها ومواعيدها، واتفقت في جوهرها ومدلولها؛ لأنها تمس نفس عمر من الناحية التي هي أشبه أن تهديه إلى طريق جديد.
وهي — كما أسلفنا — تجمع لنا الأسباب «المباشرة» التي اقترنت بإسلام عمر، ولا تغنينا عن الأسباب الأخرى التي هي أساس هذه الأسباب ومرجعها، ولأجلها كان خليقًا أن تأخذه بلاغة القرآن، وأن تميل به الرحمة إلى الإيمان.
فقد كان مهيأ للإسلام لا محالة، وكانت مجافاته للإسلام خليقة أن تنتهي بعد قليل، وألا تطول إلا ريثما تعن المناسبة للشهادة باللسان بعد التهيؤ بالفطرة والضمير.
فلم يكن بين عمر والإسلام في بداية الأمر إلا باب واحد للعداء.
وكل ما عدا ذلك من الأبواب فقد كان مفتوحًا بينه وبين هذا الدين الجديد، ما هو إلا أنْ يراه بالعين حتى يندفع فيه.
ذلك باب العداء الوحيد الذي كان بين عمرَ والإسلام، وهو بابٌ لا يطول مدخله في نفسٍ طُبِعَتْ على العدل والإنصاف.
فما من سببٍ يصل بين الجاهلي الشريف وهذا الدِّين الجديد إلا كان موصولًا بنفس عمرَ أوثق صلة، وما علمنا من سبب للإسلام إلا كانت له عقدة في نفس عمر وثيقة القرار.
فربما أسلم أناس لأنهم أخذوا ببلاغة القرآن، وأسلم أناس كرهوا المنكر الذي كان يشيع في الجاهلية، أو لأنهم ورثوا النزعة الدينية والخلائق المستقيمة، أو لأنهم جبلوا على روحانية تصل بينهم وبين عالم الغيب وحظيرة الأسرار، أو لأنهم قد عرضت لهم عارضة موقوتة، حركت ما فيهم من كوامن تلك الأسباب.
وكل أولئك كان عمر على استعداد له عظيم.
وكل أولئك لم يكن عمر فيه بالوسط المكرر، بل كان فيه العَلَم المترفع المضيء بين الأعلام.
كان عمر بليغًا حسن النقد للبلاغة، هواه منها الصدق والطبع وجمال التفصيل، فكان يطرب لقول زهير:
وربما قضى الليلة ينشد شعره حتى يبرق الفجر، فيقول لجليسه: «الآن اقرأ يا عبد الله.»
وجاءه يومًا بعضُ آل هرم بن سنان ممدوح زهير، فقال عمرُ: أما وإنَّ زهيرًا كان يقول فيكم فيحسن. فقيل له: كذلك كنَّا نعطيه فنجزل. فعاد عمرُ يقول: ذهب ما أعطيتموه، وبقي ما أعطاكم.
وجاءه وفد من غطفان فسألهم من الذي يقول:
قالوا: نابغة بني ذبيان. فسألهم: ومن الذي يقول:
قالوا: هو النابغة. فقال: هو أشعر شعرائكم.
وطالما أعجب بقول عبدة بن الطبيب:
وينشده فيقول: على هذا بنيت الدنيا.
وندر بين أئمة الدين من غاص في أدب قومه غوصَهُ، ووعى من أشعارهم وطُرَفهم مثل ما وعاه. قال الأصمعي: «ما قطع عمر أمرًا إلا تمثل فيه ببيت من الشعر.» ونحن نرجعُ إلى الشعر الذي تمثل به فنراه في أحسن موقع وأصدق شاهد، ونَلْمح من قليلِ أخبارِهِ في خلوته أنَّ الأدبَ كان جانبًا من جوانبه التي ترق فيها حاشيته، ويأنس فيها إلى قلبه، ويرجع فيها إلى فطرته. جاء عبد الرحمن بن عوف إلى بابه، فوجده مستلقيًا على مزحفة له، وإحدى رجليه على الأخرى وهو ينشد بصوت عالٍ:
فلما دخل عبد الرحمن وجلس قال له: يا أبا محمد، إنا إذا خلونا قلنا كما يقول الناس.
ونوادره مع الشعراء والرواة كثيرة، تدل على شغفه بالبلاغة الصادقة، وحفظه لأجمل ما يحفظ بين أهل عصره، كما تدل على ذلك خطبه ورسائله وشواهده وأمثاله.
وقد يصح أنه نظم الشعر أو لا يصح، فقد نسبت إليه أبيات وأنكر هو أنه شاعر؛ حيث يقول: لو نظمت الشعر لقلته في رثاء أخي. ولكن الصحيح أنه كان يحب الشعر البليغ، ويرويه، ويوصي بروايته، وأنه نشأ في قوم يحبون مثل ما أحب، ويعجبون بمثل ما أعجبه، ومنهم أبوه الذي نظم الشعر في أكثر من مناسبة، وروى عنه أنه قال لما توعده أبو عمرو بن أمية:
إلى آخر ما نسب إليه.
فأقرب شيء إلى الواقع — وإلى المتوقع — أن يؤخذ ببلاغة القرآن رجل نشأ هذه النشأة، وأحب الكلام البليغ هذا الحب، وأن يخشع لآياته، ويعجب لتفصيله، فيفتح من قلبه مسالك الإصغاء.
وكان عمر مستقيم الطبع مفطورًا على الإنصاف، فلم يكن رجل مثله ليستريح إلى فساد الجاهلية، أو يخفى عليه فسادها، إذا نبه إليه وهُدِي إلى ما هو خير منه.
وكانت النزعة الدينية وراثة في أسرته على ما يظهر من مبادرة أخته فاطمة وابن عمه سعيد بن زيد إلى الإسلام، وكان له قبل الإسلام رجل من عمومته يقدح في الوثنية، ويبحث عن الحق في النصرانية واليهودية، ويبتلي أهله بالخلاف، ويبتلونه بالإيذاء والحبس والإرهاق، ونعني به زيد بن عمرو بن نفيل.
وكانت العوارض تمر به فتعطفه إلى الإسلام تارةً من طريق الرحمة، وتارةً من طريق العدل والنخوة، فيخشع ويندم، ويراجع عناده وكبرياءه؛ إذ ليس أبغض إلى الرجل الأبي المنصف من أن يحارب أناسًا لا يحاربونه، ويلج في إيذاء قوم لا يقدرون على أذاه.
فإذا تفتحت هذه الأبواب جميعًا بين عمر والإسلام، فبابٌ واحدٌ موصدٌ لن يحجبه طويلًا عن هذا الدين، ولن يحجب هذا الدين طويلًا عنه.
وقد تفتحت في يوم من الأيام.
تفتحت كلها فدخلها دخول العاصفة من جميع الأبواب، وأسلم الجاهلي الشريف، كما كان ينبغي أن يسلم، وكما كان يقينًا سيسلم في مناسبة من المناسبات.
فإذا العالم الإنساني قد تفتحت فيه صفحة جديدة: صفحةٌ يقرأ فيها القارئ قبل كل شيء ماذا يصنع الإسلام بالنفوس، ويعلم منها قبل كل علم أنَّ هذا الدين كان قدرة بانية منشئة من لَدُن المقادير التي تسيطر على هذا الوجود، كان قدرة تلابس الضعيف فيقوى، وتلابس القوي فتنمي قوته، وتجري به في وجهته، وكان يدًا خالقة حاذقة تأخذ الحجارة المبعثرة في التيه، فإذا هي صرح له أساس وأركان، وفيه مأوى للضمائر والأذهان. جاهلي كسبه الإسلام فكسبه العالم الإنساني كله إلى آخر الزمان … ونفس ضائعة ردت إلى صاحبها فعرف منها ما كان ينكر، واطلع منها على ما كان يجهل، ونفع بها أمته، وأممًا لا تحصى، وصنع بها الإسلام أعظم وأفخم ما تصنعه قدرة بناء وإنشاء، حيثما كانت قدرة بناء وإنشاء.
رأت كيف يصبح العدل والحق طبيعة حياة، وكيف يصبح مخلوق من اللحم والدم، وكأنه لا يأكل طعامه ولا يروي ظمأه إلا ليعدل ويعرف الحق، وكأنه لا يصحو ولا ينام إلا ليعدل ويعرف الحق، وكأنه لا يتنفس الهواء إلا ليمتنع الظلم عن الناس وتدول دولة الباطل بين الناس، وكأنما العدل والحق دَين عليه يطالبه به ألف غريم، وهو وحده أقوى في المطالبة بهما من ألف غريم.
لقد كان هذا الرجل المجيد يبغض أن يظلم غيره أشد من بغضه أن يظلمه غيره، وهذه منزلة في الأنفة لا تطاولها المنازل؛ لأنها منزلة الأبطال الذين يسمون على أنفسهم، ولهم أنفس أسمى من عامة الأبطال.
وإننا لنعلم كم حز في قلبه الكريم أن يضرب بريئًا على دين الحق كلما رجعنا إلى أيامه الأولى بعد الإسلام، وهي أيام لا تنسى في تاريخ البطولة والأبطال.
فما شغله أمر بعد إعلان الدين إلا أن يخرج ليضربه أناس كما كان يضرب أناسًا في سبيل ذلك الدين.
وراح يسأل النبي: يا رسول الله، ألسنا على الحق إن مِتْنا أو حيينا؟ فقال عليه السلام: بلى، والذي نفسي بيده إنكم على الحق إن متم وإن حييتم. قال: ففيم الاختفاء؟ والذي بعثك بالحق لتخرجن!
لقد كان له في تحديه هذا لقريش عدتان: شجاعته وعدله، فما كانت شجاعته في هذا التحدي بأظهر من عدله، ولا كان عدله فيه بأظهر من شجاعته؛ إذ الشجاع الحقُّ مطبوعٌ على الأنفةِ من الظلم؛ لأنه شديد الإحساس بذله، ومن كان شديد الإحساس بذل الظلم، فهو شديدُ الإحساس بعزَّة العدل من طريق واحد، وقلَّما أغضب العادل الشجاع شيء كاستطالة الظالم وظنه أنَّ المظلوم لا يستطيل عليه، فذلك هو التحدي الذي يثير الشجاعة، ويثير النقمة على الظلم، أو يثير حب العدل في وقت واحد، وإنَّ الموت لأهون من الصبر على هذا التحدي المرذول، وهذا الصلف القبيح. وما الشجاعة إن لم تكن هي الجرأة على الموت كلما وجب الاجتراء عليه؟ وأي امرئ أولى بالجرأة من الشجاع الذي يعلم أنَّ الحق بين يديه؟ ألسنا على الحقِّ إن حيينا وإن متنا؟ فعلى الحق إذن فلنمت، ولا نعيش على الباطن، فالباطل كريه والجبن كريه، وذانك ملتقى العدل والشجاعة في قلب العادل الشجاع.
ونهج عمر طريقه في الإسلام كما نهج طريقه إلى الإسلام، كلاهما طريق صراحة وقوة لا يطيق اللف والتنطع، ولا يحفل بغير الجد الذي لا عبث فيه، فلا وهن ولا رياء، ولا حذلقة ولا ادعاء، وما شئت بعد ذلك من إسلام صريح قويم فهو إسلام عمر بن الخطاب.
قال في بعض عظاته: «لا تنظروا إلى صيام أحد، ولا إلى صلاته، ولكن انظروا من إذا حدَّث صدق، وإذا ائتمن أدى، وإذا أشفى — أي همَّ بالمعصية — ورع.»
وقال في هذا المعنى: «لا يعجبنكم من الرجل طنطنته، ولكن، من أدى الأمانة إلى من ائتمنه، وسلم الناس من يده ولسانه.»
وقال في عمل الدنيا والآخرة: «ليس خيركم من عمل للآخرة وترك الدنيا، أو عمل للدنيا وترك الآخرة، ولكن خيركم من أخذ من هذه ومن هذه، وإنما الحرج في الرغبة فيما تجاوز قدر الحاجة، وزاد على حد الكفاية.»
فكان يقول: «إنَّ المتوكل الذي يلقي حبة في الأرض ويتوكل على الله.» و«لا يقعد أحدكم عن طلب الرزق، ويقول اللهم ارزقني. وقد علمتم أنَّ السماء لا تمطر ذهبًا ولا فضة، وأنَّ الله تعالى يرزق الناس بعضهم من بعض.»
وكان يضرب من يتماوت ويستكين ليظهر التخشع في الدين، فنظر إلى رجل مُظهِر للنسك متماوت، فخفقه بالدرة وقال: «لا تمت علينا ديننا أماتك الله.» وأشاروا له إلى رجل يصوم الدهر، فضربه وهو يقول له: «كل يا دهر! كل يا دهر!» ينهاه عن الصوم الذي يعوقه عن معاشه، ولا يوجبه عليه الدين.
وكان كلما رأى شابًا منكسًا رأسه صاح به: «ارفع رأسك فإن الخشوع لا يزيد على ما في القلب، فمن أظهر للناس خشوعًا فوق ما في قلبه فإنما أظهر للناس نفاقًا إلى نفاق.»
دينُ الرجل القوي الشجاع الذي ينتصر بدينه في ميدان الحياة، وليس بدين الواهن المهزوم الذي تركته الدنيا، فأوهم نفسه أنه هو تاركها ليقبل على الآخرة.
وكانت شجاعته في دينه أندر الشجاعات في النفوس الآدمية؛ لأنها الشجاعة التي يواجه بها تهمة الجبن، وهو أرذل من الموت عند الرجل الشجاع. فإنَّ كثيرًا من الناس ليعدلون عن الصواب الذي يظهرهم بمظهر الخوف ليقال إنهم شجعان، وإنهم في عدولهم عنه لمن الجبناء المستعبدين للثناء، ولم يكن عمرُ يعدل عن صواب فهمه، ولو قيل في شجاعته ما قيل، وتلك أشجع الشجاعات.
•••
•••
وربما التبس الأمر من نوادر عمر في التقشف واجتناب المتع والمناعم، فحسبت فرائض يوجبها، ويجري فيها على طريقة أولئك النساك المتخشعين الذين كان ينهاهم أن يميتوا الدين، ويهزأ بهم كلما تنطعوا وأوجبوا ما لا يجب على المؤمنين.
فلا يلتبسن الأمر هذا الملتبس، فهو واضح بيِّن التفرقة من سيرته ومن الأحاديث التي صحبت تلك النوادر، ففسرتها ودلت على الغرض منها. فعمرُ كان مسلمًا، وكانُ خليفة للمسلمين، وفرَّق بين محاسبة المسلم نفسه وهو مسئول عنها دون غيرها، وبين محاسبة الخليفة نفسه حتى يقع الشك في عمله، وينزه يده وأيدي أهله عما ليس لهم بحق من سلطان الحكم أو المال، ثم يفي لذكرى صاحبه الذي خلفه على المسلمين، فلا يعيش في مكانه خيرًا من عيشته، ولا يمنح نفسه وذويه ما لم يمنحه النبي لآله وذويه.
وعمر الذي كان يقنع بالخشن الغليظ من المأكل والملبس، ويأبى أن يذوق في المجاعة مطعمًا، لا يسع جميع المسلمين، إنما هو الخليفة الذي يحاسب نفسه قبل أن تحاسبه الرعية، وقد وجد منهم من لامه لأنه طرح كساءه وفيه فضل ملبس. فاتقاء هذا الحساب وما وراءه من حساب الله، هو الذي توخاه خليفة النبي في معيشته ومعيشة أهله، مما يشبه تقشف النساك.
وعلى هذا كله كان أعلم الناس أنَّ الطيبات حلال، وأنَّ النهي عن الحلال تنطع في الدين يأباه الإسلام.
كتب إليه أبو عبيدة أنه لا يريد الإقامة بأنطاكية لطيب هوائها ووفرة خيراتها مخافة أن يخلد الجند إلى الراحة، فلا ينتفع بهم بعدها في قتال، فأنكر عليه ذلك وأجابه: «إنَّ الله — عز وجل — لم يُحرِّم الطيبات على المتقين الذين يعملون الصالحات، فقال تعالى في كتابه العزيز: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ.
وحدث حذيفة بن اليمان أنه أقبل على الناس وبين أيديهم القصاع، فدعاه عمر إلى الطعام وعنده خبز غليظ وزيت! فقال حذيفة: أمنعتني أن آكل الخبر واللحم ودعوتني على هذا؟ قال: إنما دعوتك على طعامي، فأما ذاك فطعام المسلمين.
فللمسلمين حل ما شاءوا من الطعام، أما الرجل الذي ينفق من بيت المال فله ما يكفيه. والحرج كل الحرج عليه — وهو في عدل عمر وحزمه وجلده — أن يأخذَ منه ما لا حاجة به إليه، وإنه ليزداد حرجًا على ما فيه من قناعة أن يكون من أصحاب رسول الله، ويعلم كيف كان رسول الله يأكل في بيته، وماذا كان يجد من الملبس له ولأهله، ثم يصيب من هذا أو ذاك خيرًا مما أصاب الرسول.
وللولاة عنده مثل ما للمسلمين عامة من حق المتعة السائغة، والنعمة التي ترضاها الرجولة، لا يأخذهم بمحاكاته؛ لأنهم يتولون الأمر كما تولاه، بل ربما لامهم على التقتير كما كان يلومهم على الإسراف.
ومن تمام العلم بإسلام عمر، أن نعلم فضل إسلامه مع من لم يكن من أهل الإسلام، فإن الحقَّ الذي يتبعه الرجل مع أهل دينه وحدهم لحق محدود يدخل في باب السياسة القومية أكثر من دخوله في باب الفضيلة الإنسانية، وإنما يصبح حقًّا جديرًا باسم الحق حين يتبعه الرجل مع أهل دينه ومع الخارجين عليه.
وعمر كان — ولا ريب — أشد المسلمين في إسلامه.
فلو كان الإسلام ظالمًا بطبيعته لمن لم يدخلوا فيه، لكان عمر أشد المسلمين ظلمًا لهم وقسوة عليهم، لكنه كان في الواقع أشد المسلمين رعاية لعهدهم مُذ كان أشد المسلمين غيرة على دينه وعملًا بأدبه.
فكان شأنه مع من حاربوه شأن المحارب الشريف، ولن ينتظر محارب من محارب إلى آخر الزمان معاملة أقوم ولا أصدق من معاملة عمر لمحاربيه.
وكان شأنه مع من صالحوه وعاهدوه أن يفي بعهدهم، ويخلص في الوفاء به إخلاص من يطالب نفسه به قبل أن يطالبوه، ومن يراقب نفسه فيه قبل أن يراقبوه.
كتب للنصارى في بيت المقدس أمانًا على أنفسهم وأولادهم ونسائهم وأموالهم وجميع كنائسهم؛ لا تهدم ولا تسكن. وحان وقتُ الصلاة وهو جالسٌ في صحنِ كنيسة القيامة، فخرج وصلَّى خارجَ الكنيسة على الدرجة التي على بابها بمفرده، وقال للبطرك: لو صليت داخل الكنيسة لأخذها المسلمون من بعدي، وقالوا: هنا صلى عمر! ثم كتب كتابًا يوصي به المسلمين ألا يصلي أحد منهم على الدرجة إلا واحدًا واحدًا غير مجتمعين للصلاة فيها ولا مؤذنين عليها.
وكذلك كان يفعل في كل موضعٍ صلَّى فيه من الكنائسِ التي عاهد النصارى على تركها وتحريم هدمها وسكناها.
أما عهده لهم فقد كان مثالًا من السماحة والمروءة، لا يطمع فيه طامع من أهل حضارة من حضارات التاريخ كائنة ما كانت.
وليس لذي عهد من ظافر أن يطمع في أمان أكرم من هذا الأمان.
وسمع أنَّ بني تغلب لا يزالون ينازعون واليهم الوليد بن عقبة وينازعهم، وأنهم أوغروا صدره، فقال فيهم يتوعدهم:
فخشي أن يضيق بهم صبره فيسطو عليهم، فعزله وأمَّر غيره.
ولعل حاكمًا من الحكام لا يرام منه أن يبلغ في البر بمخالفيه في الدين مبلغًا أكرم وأرفق من إجراء الصدقة على فقرائهم، ولا سيما الحاكم الذي يدعو إلى دين جديد.
وقد تقدم أنَّ عمرَ أجرى الصدقة على شيخ يهودي مكفوف البصر، وقال: ما أنصفناه أن أكلنا شبيبته، ثم نخذله عند الهرم.
وإذا أحصيت له في سيرته الطويلة أوامر وخُطًا تحرم الذميين بعض الحريات، أو بعض الحقوق، فكن على يقين أنه قد صدر في ذلك جميعه عن حكمة توجبها سياسة الدولة، ويقرها العقل والعرف، كما يقرها الدين والكتاب، ولم يصدر فيه قط عن حيف مقصود، أو عن رغبة في حرمان الذميين حرية يستحقونها، أو حقًّا هم أحرار فيه.
ولعل الذي يُحصَى له من هذه الأوامر والخطط، لا يعدو النهي عن استخدام بعض الذميين، ومنعم أن يتشبهوا في الأزياء والمظاهر بالمسلمين، وإجلاء بعضهم عن الجزيرة العربية في إبان الفتوح، والحذر من الكيد والتجسس والانتقاض.
وطلب يومًا من أبي موسى رجلًا ينظر في حساب الحكومة، فأتاه بنصراني، فقال: إني سألتك رجلًا أشركه في أمانتي فأتيت بمن يخالف دينه ديني. وقلما نهى عن استعمال اليهود والنصارى إلا ذكر بعدها: إنهم أهل رشا، ولا تحل في دين الله الرشا.
وكان له عبد من أهل الكتاب يقال له أسبق، فعرض عليه أن يسلم حتى يستعين به على بعض أمور المسلمين فأبى، فأعتقه وأطلقه وقال له: اذهب حيث شئت! فلم يكن نهيه عن استخدام أهل الكتاب في مهام الدولة إلا إيثارًا للعدل وكراهة للرشوة والزيغ في الحكومة، وما نظن أحدًا ينكر أنَّ استخدامَ الغرباءِ عن الدولة خليق أن يحاط بمثل هذا الحذر، وأن يُجتَنب فيه مثل هذه الآفة؛ إذ يكثر بين المرتزقة الذين يخدمون دولة من الدول، وهم غرباء عنها، كارهون لمجدها وسلطانها، أن ينظروا إلى منفعتهم قبل أن ينظروا إلى منفعتها، وأن يساوموا على نفوذهم قبل أن يستحضروا الغيرة على سمعتها، والرغبة في خيرها وخير أهلها، ولا سيما في زمن كانت الدولة تميز بالعقائد قبل أن تميز بالأوطان.
وما من أمة في عهدنا هذا تبيح الوظائف العامة إلا بقيود وفروق متفق عليها: أولها تحريمها على الأجانب، ما لم تكن في استخدامهم منفعة عامة.
وهذه هي سياسة عمر في مسألة الوظائف القومية، بغير إعنات للدولة ولا إعنات للرعية، وكفى باتقاء الإعنات أنَّ العبد المملوك يخير في الوظيفة والإسلام فيأبى، فلا يصيبه من ذلك ضيم، ويطلق له زمامه يفعل ما يشاء.
أما نهيه عن تشبُّه الذميين بالمسلمين، وكراهته أن يبدلوا أزياءهم التي ولدوا عليها، فلا يُلام عليه حتى نعلم لمَ كان أناس من الذميين يودون التشبه بالمسلمين في الزي والشارة! أكانوا يتشبهون بهم حبًّا لدينهم، فهم إذن مسلمون لا يمنعهم مانع أن يجهروا بالإسلام، أم يتشبهون بهم كيدًا لهم ورغبة في التسلل بينهم والإفلات من عهودهم والتزاماتهم، وما توجبه الدولة عليهم في تلك العهود والالتزامات؟
إن كانوا يفعلونه لهذا، فلا لوم على عمرَ أن يأباه، وبخاصةٍ في الزمن الذي كان المسلمون فيه جميعًا في حكم الجنود، وما من دولة ترضى أن تبيح أزياء جنودها لمن يشاء.
وأما إخراج بعض الذميين من الجزيرة، فما خرج منهم أحد إلا وقد غدر بذمته، وكرَّر الغدر مرة بعد مرة، كما صنع أهل خيبر.
ومنهم من أُجلي عن الجزيرة لأنه طلب الجلاء فضلًا عن نقضه العهد، كما فعل أهل نجران.
فقد صالحهم النبي على أن يبقوا في مساكنهم، ولا يأكلوا الربا، ولا يتعاملوا به، وجاء أبو بكر فجدد الصلح على ذلك، ثم استخلف عمر، فرجعوا إلى الربا وأفرطوا فيه، وكانوا قد بلغوا أربعين ألفًا فتحاسدوا بينهم، وأتوا عمر يسألونه إجلاءهم، فاستحب هذا الجلاء.
ولا يفوتنا في هذا الصدد أمران مقترنان بخطة الإجلاء التي لجأ إليها عمر، وأيقن بصوابها وضرورتها؛ فأول الأمرين: أنَّ الجزيرةَ حرم الإسلام الذي كان يحيط به أعداؤه، ويتربصون به الدوائر، ويثيرون الفتنة على أطرافه، كما صنع الفرس بالعراق، والروم بالشام، ولا أمان على حرم يسكنه أناس فيهم من يغدر بأهله، بل فيهم من هؤلاء كثيرون.
وثاني الأمرين: أنَّ عمرَ قد سوى بين الإسلام والنصرانية في هذه الخطة، فحفظ حرم النصرانية ببيت المقدس للمسيحيين، لا يسكنه معهم من لا يقبلونه، كما حفظ حرم الإسلام بالجزيرة العربية للمسلمين، لا يسكنه معهم من يحذرون غدره.
•••
كان مسلمًا شديدًا في إسلامه، فلم تكن شدته في إسلامه خطرًا على الناس، بل كانت ضمانًا لهم ألا يخافه مسلم ولا ذمي ولا مشرك في غير حدود الكتاب والسنة.
وكان جاهليًّا فأسلم، فأصبح إسلامه طورًا من أطوار التاريخ. ولو لم يكن الإسلام قدرة بانية منشئة في التاريخ الإنساني، لما كان إسلام رجل طورًا من أطواره الكبار.
•••
وكان هذا الرجل يحب ويكره، كما يحب الناس ويكرهون، ولكن لا ينفعك عنده أن يحبك، ولا يضيرك عنده أن يكرهك إذا وجب الحق ووضح القضاء، قال يومًا لأبي مريم السلولي قاتل أخيه: والله لا أحبك حتى تحب الأرض الدم المسفوح! فقال له أبو مريم: أتمنعني لذلك حقًّا؟ قال: لا. قال: لا ضير! إنما يأسى على الحب النساء.
وحسبك من إسلام يحمي الرجل من خليفة يبغضه وهو قادر عليه، فذلك المسلم الشديد في دينه، والذي يشتد فيأمنه العدو والصديق.