عُمر والنَّبي
يندر أن يظفر الباحثون في طبائع الإنسان بمغنم نفسي هو أوفر ثمرة وأنفس محصولًا من دراسة عمر بن الخطاب؛ لأن الظواهر المختلفة التي تتجلى في هذه النفس العظيمة ليست من ظواهر كل يوم ولا ظواهر كل دراسة، ولأن اتفاقها البسيط مع تركيبها العجيب مما يتعذر جدًّا في النفوس التي نعهدها، ومما يتعذر جدًّا حتى في نفوس الأفذاذ من العظماء.
بيد أنَّ المغنم الأكبر في هذه الدراسة إنما هو مغنم علم الأخلاق؛ لأن علم الأخلاق أحوج إلى الاستقلال بالظواهر الطبيعية، وأفقر إلى الأسناد والدعائم التي تقيمها أمثال هذه الدراسات.
فكل نفس — عظمت أو صغرت — دراستها مغنم لعلم النفس لا شك فيه، كائنة ما كانت النتيجة التي تتأدى إليها من بحث خفاياها وتنظيم شواهدها.
لكن الوصول إلى نتائج علم الأخلاق هو الصعب الجديد الذي لن يزال اليوم وبعد اليوم صعبًا وجديدًا إلى أمد بعيد.
فالمفروض أنَّ نتائج علم الأخلاق «فكرية تكليفية»، يستنبطها الفكر الذي يختلف في صوابه كما يختلف في خطئه، ويمليها التكليف الذي يطاع ولا يطاع، ويراض عليه الإنسان رياضته على الأمر الغريب «الأجنبي» عن نوازع الطباع.
فإذا اهتدينا إلى نفس تعزز تلك النتائج الفكرية التكليفية التي هي أقرب إلى الآمال المنشودة منها إلى الوقائع الموجودة، فقد ظفرنا بمغنم كبير.
وإذا ظفرنا بحقيقة نفسية هي في الوقت نفسه حقيقة فكرية وحقيقة خلقية، فذلك هو المغنم المضاعف الذي قلما يُنَال.
ونفس عمر بن الخطاب هي تلك النفس التي تدعم علم الأخلاق من الأساس، وهي ذلك الصرح الشامخ الذي ننظر إلى أساسه، فكأننا تسلفنا النظر إلى ذروته العليا؛ لأنه قرَّب بين الآمال والقواعد أوجز تقريب، إذ هو التقريب الملموس.
آمال كثيرة من آمال محبي الخير ودعاة الإصلاح هي في نفس عمر بن الخطاب وقائع مفروغ منها، كأنها وقائع المرئيات والمسموعات.
فمنها فيما أسلفناه أنَّ القوة لا تناقض العدل في طبيعة الإنسان، بل يكون العدل هو القوة التي تخيف فيخافها الظالمون.
ومنها فيما نحن بصدده الآن أنَّ القوة لا تناقض الإعجاب على خلاف ما يتبادر إلى الأكثرين.
فإن الأكثرين يحسبون أنَّ الرجل الذي يعجب به الناس لا يعجب هو بأحد، وأنَّ البطل الذي يقدسه عشاق البطولة لا يعشق البطولة في غيره، وأنَّ التطلع إلى الأعلى صفة ينطبع عليها الصغار ليرتفعوا بعض الارتفاع ويحسنوا الخدمة والعون للكبار، ولكنها صفة ينفر منها الكبير ويحس فيها الغضاضة أن يصغر إلى جانب المتفوقين عليه ممن هم أكبر قدرًا وأحق بالإعجاب.
لكن البطل الذي ندرسه هذه الدراسة ينقض ذلك الحسبان أقوى نقض مستطاع؛ لأنه بطل يروع، ويعرف روعة البطولة، ويستحق الإعجاب غاية استحقاقه، ثم يخيل إليك من فرط ولائه لمن يفوقونه أنه خُلِق للإعجاب بغيره، ولم يُخلَق ليكون هو موضع إعجاب.
فعمر كان يحب محمدًا حب إعجاب، ويؤمن به إيمان إعجاب، ويستصغر نفسه إذا نظر إلى عظمة محمد، وما هو فيما خلا ذلك بصغير في نظر نفسه ولا في نظر الناس.
كان محمد — عليه السلام — كما نعلم قدوة في الدعة وحسن المعاملة لجميع صحبه وتابعيه، وكان يعاملهم جميعًا معاملة الإخوان والزملاء، فلا يغمرهم برهبة التفاوت الشاسع والتفوق البعيد، فلو جاز أن ينسى أحدٌ فارقًا بينه وبين عظيم لنسي أصحاب النبي هذا الفارق بما يلقونه من مساواته وحسن معاملته، ولو نسيانًا إلى حين.
إلا أنَّ عمر «العظيم» سمع مرة من صديقه محمد — عليه السلام — كلمة «يا أخي» فظل يذكرها مدى الحياة.
استأذنه في العمرة فأذن له وقال: «يا أخي لا تنسنا من دعائك»، فما زال عمر يقول بعدها كلما ذكرها: «ما أحب أن لي بها ما طلعت عليه الشمس، لقوله يا أخي!»
شهادة لعظمة محمد أن يؤاخي الناس كبارًا وصغارًا، وأنَّ الناس كبارًا وصغارًا لا ينسون ما في مؤاخاته من فخر وغبطة، وما بينهم وبينه من فارق بعيد.
وشهادة لعظمة عمر أنه أهل لذلك الإخاء؛ لأنه يدرك ما فيه من عظمة، ويشعر بما فيه من رضوان.
وما يدريك ما عمر الذي يشيع في قلبه الفرح بهذا الإخاء؟
ليس بالرجل الذي يحب تواضع المرائين، وليس بالرجل الذي يُجهَل مقداره، أو يهاب مخلوقًا بغير الحق وبغير الإعجاب.
نعم، هو عمر أقدر المسلمين كما يعلم، وهو عمر الذي يستصغر نفسه إذا نظر إلى المثل الأعلى والقدوة الفضلى، وهو إذن أكبر ما يكون بهذا الاستصغار.
أكان يقولها لأنه كان يجهل أنه أكفأ العرب للخلافة بعد صاحبيه؟ كلا، بل كان يقولها لأنه يعرف النظر إلى المثل الأعلى، يعرف الإعجاب بما فوقه، يعرف محمدًا ويعرف أنَّ اللحاق به أمل لا يطال، يعرف الإعجاب بطلًا معجبًا ببطل، ويشاء فضله أن تحصى له هذه بين أصدق شواهد البطولة فيه.
ومن الخطأ أن يتوهم المتوهم أنَّ عمر كان يتصاغر لأنه يشعر بصغره، ويتواضع لأنه يشعر بضعة فيه.
إنَّ الصغير لا حاجة به إلى تصاغر لأنه صغير، وربما كانت حاجته الكبرى إلى مداراة شعوره الدخيل بتفخيم الرواء، وتزويق الطلاء، والتخايل بالمسكن والكساء.
وإنما كان عمر يتصاغر لأنه يشعر بعظمته، ويكبح ما يخامره من اعتداد بنفسه، ومحال أن تمتلئ نفس بمثل هذه القوة، ثم تخلو من شعور بقوتها واعتداد بقيمتها؛ فليس ذلك من معهود الطباع في حي من الأحياء، ولا نقصر القول على الإنسان.
وانظر هنا إلى كلمة «أمير المؤمنين» يقولها الابن، ثم انظر إلى كلمة «أباك» يقولها أمير المؤمنين.
ومن قبيل هذا ركوعه لله ذليلًا خاشعًا يوم أمر أبا سفيان أن ينقل الحجر من مكانه فنقله، فخشع لله الذي جعله يأمر أبا سفيان في شعاب مكة فيستمع لما أمر.
وليس هذا وأشباهه تصاغرًا يكشف الصغر، إنما هو تصاغر يكشف القوة والاعتداد بها، ويكبحها بعنان متين هو نفسه دليل القوة والاعتداد.
بل يشاء بأس هذا البطل أن تتمادى فيه الصفات إلى غايتها، وهي متناقضة في النظرة الأولى، فإذا بهذا التمادي يردها إلى الوفاق والتكافؤ، ولا يوسع ما بينها من ظواهر الاختلاف.
فمما رأيناه أنه عادل يفوق العدول، وقوي يفوق الأقوياء، فإذا العدل والقوة فيه وفقان متساندان لا يختصمان ولا يتناقضان.
ومما رأيناه أنه بطل تُعجِب بطولته الأصدقاء والخصوم، ثم هو في إعجابه بالبطولة كأنه خلو من دواعي الإعجاب.
وبقي من موافقاته النادرة أنَّ الإعجاب عنده لا ينقض الاستقلال، ولا يهدد «الشخصية» بالفناء والزوال، فيعجب بمن يفوقه غاية الإعجاب، ويحتفظ معه باستقلال رأيه غاية الاحتفاظ، ولا يتناقض الأمران.
فلم يكن أحد يعجب بمحمد أكبر من إعجاب عمر.
ولم يكن أحد مستقلًّا برأيه في مشورة محمد أكبر من استقلال عمر، فهو آية الآيات على أنَّ فضيلة الإعجاب لا تغض من صراحة الرأي عند ذي الرأي الصريح.
فما أحجم عمر قط عن مصارحة النبي — عليه السلام — برأي يراه، ولو كان ذلك الرأي من أخص الخصائص التي يقف عندها الاستقلال.
فمحمد في بيته وهو صاحبه، ومحمد في شريعته وهو صاحبها كان يستمع إلى عمر حين يقترح، وحين يستنزل الأحكام، وحين يستدعي الوحي في أمر من الأمور.
فكان يشير على النبي — عليه السلام — أن يحجب نساءه، ويبلغ ذلك إحدى أمهات المسلمين زينب فتقول له: إنك علينا يا بن الخطاب والوحي ينزل علينا في بيوتنا! وتخرج إحداهن — سودة — وهي تحسب أنَّ أحدًا لا يعرفها لاستتارها بالظلام فيعرفها بطول قامتها ويناديها «عرفتك يا سودة!» ليؤكد ضرورة الحجاب، فيؤمر المسلمون بعد ذلك ألا يسألوهن إلا من وراء حجاب.
ولما همَّ النبي — عليه السلام — بالصلاة على عبد الله بن أُبَي كبير المنافقين يوم وفاته تحول عمر حتى قام في صدره، وأخذ يذكره مساوئ عبد الله وأقاويله في النكاية بالإسلام، وحكم القرآن فيه وفي أمثاله أن اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ.
وألح في التذكير حتى أكثر على النبي — عليه السلام — وهو يبتسم ويقول له: «أخِّر عني يا عمر، لو أعلم أني إن زدت على السبعين غُفِر له زدت»، ثم صلى عليه، ومشى معه حتى فرغ من دفنه، ثم ما كان إلا يسيرًا — كما قال عمر — حتى نزلت هاتان الآيتان: وَلَا تُصَلِّ عَلَىٰ أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَىٰ قَبْرِهِ.
وروى أبو هريرة عن النبي — عليه السلام — أنه أنفذه إلى رهط المسلمين فقال له: اذهب إليهم «فمن لقيت من وراء هذا الحائط يشهد أنَّ لا إله إلا الله مستيقنًا بها قلبه فبشره بالجنة»، فكان أول من لقي عمر، فصده وعاد به إلى النبي يسأله: «يا رسول الله، بأبي أنت وأمي، أبعثت أبا هريرة من لقي يشهد أنَّ لا إله إلا الله مستيقنًا بها قلبه بشره بالجنة؟» قال النبي: «نعم»، فلم يتريث عمر أن قال: «فلا تفعل يا رسول الله! فإني أخشى أن يتكل الناس عليها، فخلِّهم يعملون»، فوافقه عليه السلام وقال: «فخلهم!»
وفي التشريع أو التحليل والتحريم كان عمر لا يقنع حتى يصل إلى القول الفصل فيما يستفسر عنه ويتردد في حكمه، فما زال يسأل عن الخمر حتى حُرِّمت وبطل فيها الخلاف، وهو هو الذي كانت الخمر شهوة له في الجاهلية يحبها ويكثر منها، ولو شاء لالتمس الرخصة فيها ولم يكثر من السؤال عن تحريمها، ففي سؤاله عنها وحذره منها فضل أكبر من فضل الاستقلال بالرأي والإخلاص في المراجعة، وهو فضل الغلبة على النفس والتحصن من الغواية بالأمر الذي لا هوادة فيه.
فلما ناداه: «ابن الخطاب، إني رسول الله، ولن يضيعني الله أبدًا»، ثم علم أنه الفتح المنتظر، ثاب إلى الرضا وكف عن السؤال.
هذه المراجعة كانت من خلائق عمر التي لا يحيد عنها ولا يأباها النبي — عليه السلام — وكثيرًا ما جاراه واستحب ما أشار به وعارض فيه فلا جرم يراجع النبي في كل عمل أو رأي لم يفهم مأتاه ومرماه ما أمكنته المراجعة، وما قلقت خواطره حتى تثوب إلى قرار.
وكانت هذه سنته في حياة النبي وبعد موته في كل عمل لا يستريح إليه، فلم يحجم عن مراجعة أمره حيًّا وميتًا في مسألة ليست من مسائل الوحي الذي فيه فصل الخطاب، وما كانت المسألة مسألة رأي فهو ناهض لها برأيه حتى يؤمن بخطئه أو يرده عن المعارضة أمر مطاع.
وغضب أبو بكر وكان جالسًا فوثب وأخذ بلحية عمر وهو يهتف به: ثكلتك أمك وعدمتك يا بن الخطاب! استعمله رسول الله وتأمرني أن أنزعه؟!
ولمثل هذا السبب — ولا شك — نهى عن زواج المتعة، ونهى عن التحلل من بعض مناسك الحج ولم يكن منهيًّا عنهما كل النهي في حياة النبي — عليه السلام — فكان الرجل يتزوج بالمرأة لأجل معلوم ثم يتركها، وكان منهم من ينوي الحج، ثم يتحلل من بعض مناسكه، فنهى عمر في أيام خلافته وقال: «متعتان كانتا على عهد رسول الله ﷺ أنا أنهى عنهما وأضرب عليهما.»
وموافقات عمر للقرآن وللسنة كثيرة لا يدعونا المقام هنا إلى إحصائها واستيفائها، وكذلك مراجعاته ومناقشاته فيما يرد عليه من أحكام لا تنجلي مآتيها ومراميها، فحسبنا منها دلائل استقلاله وصراحة عقله فيما سردناه، وحسب الإسلام فخرًا أن يؤمن به الإنسان إيمان عمر ثم يستقل برأيه وطبعه استقلال عمر، فالإيمان في أقصاه لا يعطل الرأي المستقل في أقصاه، وكل صفة في عمر فهي صفة مستقصية لا وسط فيها؛ إذا آمن فذلك غاية الإيمان، وإذا استقل فذلك غاية الاستقلال، وإذا أعجب فذلك غاية الإعجاب … وإنَّ الظفر الذي يظفره علم الأخلاق من دراسته لمبعثه هذا الشاهد من الصفات التي تتناقض في ظاهرها وهي على عهدنا بها في عمر متفقات متساندات، لا تستغني واحدة منها عن سائرها.
فإن لم يكن في دراسة عمر إلا أن نرى رجلًا عادلًا بالغًا في عدله، قويًّا بالغًا في قوته، معجبًا بالبطولة بالغًا في إعجابه، مستقلًّا بالرأي بالغًا في استقلاله، لكفى بذلك ظفرًا لعلم الأخلاق، وكفى بسيرة واحدة أن تقرر لنا هذه الحقائق التي تستكثر على عشرات السِّيَر، وهي أنَّ القوة لا تناقض العدل، وأنَّ البطولة لا تناقض الإعجاب، وأنَّ الإعجاب لا يناقض الاستقلال، وتلك الحقائق أثبت في عمر من معارف بدنه وملامح سيماه.
وكانت مودة النبي لعمر كمودة عمر للنبي شرفًا له من جانبيه، وشهادة لعظمته وعظمة معلمه ومؤدبه وهاديه.
ولا يتأتى أن ينظر النبي الملهم إلى عمر دون أن يرى فيه أولى مشابهاته للطبائع النبوية؛ وهي الإلهام الديني والبصيرة الروحية، فكان — عليه السلام — يقول فيه: «قد كان قبلكم من بني إسرائيل رجال يكلمون من غير أن يكونوا أنبياء، فإن يكن في أمتي أحد فعمر.»
ومثله قوله في بعض ما نقل عنه عليه السلام: «لو كان بعدي نبي لكان عمر بن الخطاب»، وقوله: «إنَّ الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه»، وقوله: «عمر بن الخطاب معي حيث أحب، وأنا معه حيث يحب، والحق بعدي مع عمر بن الخطاب حيث كان.»
وتلك لمحات نبي ملهم إلى بصيرة ملهمة تقارب بصيرة الأنبياء، وإنَّ في هذه اللمحات لمعرفةً بالنفس ونفاذًا إلى الضمير، من أجلها كان محمد مصلح نفوس وهادي ضمائر، وفاتح عهد روحي في تاريخ الإنسان.
ومن تحصيل الحاصل أن نقول إنَّ محمدًا قد أحاط بكل فضيلة من فضائل عمر، وكل خليقة من خلائق طباعه، وراقبه قبل إسلامه وبعد إسلامه فلم تفته كبيرة ولا صغيرة من مواطن العظمة فيه، إلا أنه لم يحمد منه شيئًا كما حمد حبه للحق وكراهته للباطل، فهي الخصلة التي تلاقيا فيها وتقاربا من قِبَلها، وإن كان محمد لأرحب صدرًا، وأعلم بالناس من أن يكلف صاحبه أن يشبهه كل الشبه في علاج الحق والباطل، فلا بد من فارق بين الرجلين هو الفارق الذي لا بد منه بين المعلم والمريد وبين الإمام والمأموم.
وتلك قصة تكبر عمر مرة وتكبر النبي مرات، فلا يسمعها السامع فيخطر له أنَّ محمدًا كان يقبل الباطل الذي يأباه عمر، أو كان يهوى اللغو الذي يُعرِض عمر عن سماعه، وإنما يسمعها فيعلم أي الرجلين يهدي صاحبه في مناهج الحق، ويدربه على كراهة الباطل، ويعلم أنَّ الإمام يطيق ما لا يطيقه المريد، ويتسع صدره لما تضيق به صدور تابعيه، وأنَّ محمدًا أراد أن يعوِّد الناس مهابة عمر، وأن يستبقي لعمر سورته في محاربة الضلال، والأيام كفيلة بترويض تلك السورة فيما ينبغي أن تراض عليه.
وهنا يتجلى مذهبان في كراهة الباطل، ويتجلى فارق واضح بين مذهب المعلم ومذهب المريد.
فعمر كان ينكر الباطل إنكار المحارب، ويرفع له سلاحه حيثما رآه، ومحمد كان ينكره ولا يرفع له سلاحه حيثما رآه؛ لأنه يعلم ضروبًا من الباطل وضروبًا من الإنكار.
ومن الإنكار أحيانًا أن يتجاوز عنه، وأن يشفق عليه إشفاق الرجل على سخف الطفل الصغير، وأن يتربص به الأيام حيث يزول، وأن يعالجه بسلاح المحارب وبغير سلاح المحارب، وهو بذلك قد أعد له ضروبًا من الإنكار، وكان أكمل عدة له من الراصدين له في ميدان واحد.
أنقول إنَّ الفارق بين محمد وعمر في هذا هو الفارق بين نبي وخليفة؟!
إن قلنا ذلك فقد قلنا حقًّا جامعًا لا شبهة فيه، ولكنا لا نعدو به تحصيل الحاصل وتكرير الأسماء؛ فمحمد نبي وعمر خليفة، ما في ذلك خلاف، ولا بد بينهما من فارق، ما في ذلك خبر جديد، فما هو الفارق الذي يعدو تكرير الأسماء، أو تكرير الصفات؟ الفارق فيما نرى هو الفارق بين إنسان عظيم ورجل عظيم.
ومن الصغائر الآدمية التي كثيرًا ما يطيقها الإنسان العظيم، ويبرم بها الرجل العظيم كل غرور صبياني يحيك بنفوس الناس، وهو ضروب ليست لها نهاية: غرور الشاعر بأماديحه، وغرور الفنان بصنعته، وغرور المرأة بجمالها، وغرور الشيخ بتراثه، وغرور الأحمق بخيلائه، وغرور الجاهل بعلمه، وفي كل ضرب من هذه الضروب كان بين محمد وعمر فارق واضح وتفاوت محسوس، وكانت بينهما دروس تجري بها الحوادث تعليمًا وهدى كما تجري عرضًا غير ظاهر فيه قصد التعليم والتلقين.
وعمر — رضي الله عنه — قد استفاد من دروس معلمه وهاديه في هذه الضروب شتى الفوائد، كما ظهر من سياسته في أيام خلافته ومن مراجعة نفسه والنبي — عليه السلام — بقيد الحياة.
وكان عمر يستكثر صلاة النبي على عبد الله بن أُبي بعد موته، ويستعظم أن يهب له قميصه، وأن يكفنه أهله في ذلك القميص. وكان النبي يرعى في ذلك حق ابنه الذي أخلص في إسلامه، وبلغ من إخلاصه أنه اقترح على النبي قتل أبيه، وسئل النبي كما جاء في بعض الروايات: لمَ وجهت إليه بقميصك وهو كافر؟ فقال: إنَّ قميصي لن يغني عنه من الله شيئًا، وإنني أؤمل من الله أن يدخل في الإسلام كثير بهذا السبب! فقيل إنَّ ألفًا من الخزرج أسلموا لما رأوا زعيمهم يطلب الاستشفاء بثوب الرسول، وخرجت الصحابة وعمر في طليعتها بعبرة باقية من هذا الدرس النبوي الحكيم.
وشبيه بدرس عبد الله بن أبي درس الخطيب المفوَّه سهيل بن عمرو الذي أُسِر في بدر، فأشار عمر على النبي بكسر ثنيتيه السفليين ليعجز عن الكلام إذ كان مشقوق الشفة السفلى، فأبى النبي «عسى أن يقوم مقامًا لا تذمه»، فما زال وما زال عمر حتى رآه في حروب الردة يقطع بلسانه كما يقطع السيف، فحمد له ذلك المقام.
وجاء الفتح بعد صلح الحديبية، فرأى عمر كما رأى المعارضون معه أنَّ قريشًا خسرت ولم تربح بالصلح الذي عارضوه، وأنَّ المسلمين ربحوا ولم يخسروا بقبوله، وأنهم زادوا عددًا وزادوا حلفاء من غير المسلمين، وأنَّ الذين رفضهم النبي من تابعيه عملًا بالصلح لم ينفعوا قريشًا، بل كانوا بلاء عليها أشد من بلاء القتال، وبدا ذلك من مبدأ الأمر لعمر فاعتبر به وقال: «ما زلت أتصدق وأصوم وأصلي وأعتق من الذي صنعت يومئذ مخافة كلامي الذي تكلمت به حتى رجوت أن يكون خيرًا.»
فهذا عمر تلميذ محمد في الإسلام، وهذا عمر شاهد دروس ابن سلول ومن على شاكلته من المنافقين والمشركين، وهذا عمر المستفيد بما وعى من تلك الدروس، ومعنى ذلك جميعه أنَّ محمدًا أعظم من عمر، وليس معناه أنَّ عمر لم يكن بعظيم.
وربما أعوزه ما يعوز الأقوياء في معظم الأحايين، وهو أن يذكروا أنَّ الناس جميعًا ليسوا بأقوياء، وأنَّ الناس جميعًا ليسوا بعمر بن الخطاب، فإذا استطاع عمر أن يمنع الخمر مرة واحدة فقد يشق ذلك على آخرين، وإذا استطاع أن يتصدى للموت في كل لحظة فليس ذلك في وسع كل مسلم، وقلما يستحضر الأقوياء هذه الحقيقة إلا بعد تذكير وروية. أما على البداهة فهم يقيسون الناس على أنفسهم ويحسبونهم أهلًا لما هم أهل له وكفؤًا لما هم قادرون عليه، ولهم من الشرف في نسيان هذه الحقيقة فوق ما لهم من الشرف في تذكارها ودوام استحضارها.
بل هذا الذي نقوله هو الذي قاله أبو بكر — رضي الله عنه — في شدة عمر ولينه، فكلما تحدثوا إليه بغلظته قال: إنما يشتد لأنه يراني لينًا، ولا غلظة على الضعفاء فيه.
فكان جميلًا بعمر أن يسهو عن تلك الحقيقة، وأن يحتاج فيها إلى تذكير واستحضار، وكان أفضل واجبيه لا مراء أن يعرض البأس حتى يؤبى، ثم يثوب إلى اللين ولا جناح عليه.
وهو اليقين الذي لا يخامرنا الشك فيه أنَّ عمر كان خليقًا أن يفهم تلك الحقيقة بتفصيلاتها لو جعل باله إليها، ولم يجعل باله إلى تقديم ما عنده «والجود بأقصى جوده» في انتظار القول الفاصل من رأي النبي — عليه السلام — ولولا استعداده لفهم تلك الحقيقة وما شابهها لما انتفع بالقدوة، ولا أغنت معه المثل والتجاريب.
ومهما يكن من حاجته إلى دروس معلمه وهاديه، فالذي نعتقده أنَّ مكانه من الخلافة لم تقرره الحاجة إلى تلك الدروس؛ لأن الصحابة كلهم على حكم واحد في هذا الاعتبار سواء منهم الخلفاء الراشدون وغير الخلفاء الراشدين، فما من رجل كان بين أصحاب محمد — عليه السلام — إلا كان مفتقرًا إلى جانب من جوانب هديه وتهذيبه وتقويمه، وما كان عمر على التخصيص بأشد افتقارًا إلى ذلك من رفاقه وتابعيه وإن اختلف ما يعوزه وما يعوزهم من مواضع الهدي والتهذيب والتقويم.
قال عبد الله بن أبي زمعة: إنَّ عمر لقيني فقال لي: ويحك! ماذا صنعت بي يا بن أبي زمعة؟ والله ما ظننت حين أمرتني إلا أنَّ رسول الله ﷺ أمرك، ولولا ذلك ما صليت بالناس. قلت: والله ما أمرني رسول الله ﷺ بذلك! ولكن حين لم أر أبا بكر رأيتك أحق من حضر بالصلاة.
والواضح من كلتا الروايتين أنَّ النبي — عليه السلام — قصد إلى اختيار أبي بكر للقيام في مقامه من إمامة المسلمين وضمن ذلك ما ضمنه من معنى الاستخلاف والتقديم.
فعلى أي وجه نفهم هذا الاختيار الذي صدر عن قصد وروية ولم يصدر عن مصادفة واتفاق؟ وعلى أي وجه تساءل النبي — عليه السلام — حين سمع صوت عمر ولم يسمع صوت أبي بكر فقال: «يأبى الله ذلك والمسلمون؟»
إننا لا نفهم ذلك إلا على وجه واحد يجمل بمحمد، ويجمل بأبي بكر، ويجمل بعمر، كما يجمل بالمسلمين.
فمن البديه أن ينظر النبي في اختيار خليفته إلى جميع الاعتبارات التي تدخل في الحسبان، ولا يقنع بالنظر إلى اعتبار واحد.
فإذا نظر النبي إلى جميع الاعتبارات فأي غضاضة على عمر أن يقع الاختيار على أبي بكر ولا يقع عليه؟
ومع هذا الرجحان الذي انفرد به أبو بكر ترجيح آخر لاستخلافه في الموقف الذي كان منظورًا بعد موت النبي — عليه السلام — وهو موقف رضا ومسالمة بين المسلمين يغنيان إذا جرت الأمور في مجراها الطيب المأمون، فإذا تأزمت واضطربت ونفدت حيلة اللين حتى نبذه أبو بكر في رفقه وهوادته، فذلك إذن موطن الإجماع، وإذا صلب غيره واجتمعت كلمتهم على الصلابة ولم يبقَ من يلين في الأمر سواه، فصلابتهم أقمن إذن أن تنعطف بلينه إلى الإجماع الذي لا شذوذ فيه.
فالنبي — عليه السلام — قد حسب للعواقب كل حساب، وقد نظر في استخلافه إلى كل اعتبار، وقد وازن بين أمور كثيرة ولم يوازن بين صاحبين ليس بينهما محل للتنافس والملاحاة.
ولم يخف معنى الرؤيا على معبريها؛ لأنها لا تحتمل غير تعبير واحد، وهو الذي أشار إليه الشافعي — رحمه الله — ففسر ضعف النزع بقصر المدة وعجلة الموت، والاشتغال بحرب أهل الردة عن «الافتتاح والازدياد الذي بلغه عمر في طول مدته.»
ويجوز أنَّ النبي — عليه السلام — قد أدخل في حسابه تقديرات أخرى من هذا القبيل لا يحيط بها أبناء عصره ولا نراها نحن في عصرنا، فلهذه المسائل في جميع العصور نواحيها الموضوعية ونواحيها الخاصة التي لا يدركها كل من عاش بينها، ولا يتأتى نقلها بالكتابة والتدوين. ومتى كانت هذه هي التقديرات التي فصلت في مسألة الترشيح للخلافة، فأي غضاضة فيها على عمر؟ إنها شيء لا يتناوله وحده، وليست لكفاءة أبي بكر ولا لكفاءته هو كل اليد فيه، وإنَّ الذي حدث لا يعدو أن يكون موازنة بين أحوال ثم تقديمًا للصالح في تلك الأحوال، أو هو تأخير موعد ومناسبة، وليس بتأخير حق وكفاءة، فأبو بكر كفء للخلافة، وعمر كفء للخلافة، لكن تقديم أبي بكر أصلح وأولى وأوفق لأحوال الزمن ولكرامة الصحابة والمسلمين أجمعين.
وإنك لتكونن على ثقة من حقيقة واحدة في رهط محمد تجزم بها وأنت آمن أن تخالف التاريخ فيما بطن وفيما ظهر، وذلك أنه عليه السلام لم يبرم قط أمرًا فيه غضاضة على أحد من أصحابه، ولا سيما في مسألة الاستخلاف أو التقديم للإمامة والصلاة بالناس، فكل الذي حدث فيها فهو الذي يجمل بالنبي من تقدير وتدبير، ويجمل بصاحبيه من إيثار وتوقير، ويجمل بالإسلام من تمكين وتعمير، وانتفاع بعمل كل عامل، واقتدار كل قدير.
•••
بقي جانب من جوانب العلاقة بين النبي وعمر لا يسكت عنه لكثرة ما قيل فيه، فضلًا عن وجوب النظر فيه؛ لأنه يتمم العلم بتلك العلاقة ويزيدنا فهمًا لها واستقصاء لمداها واطلاعًا على طريقة عمر في الموازنة بين الواجبات والشئون حيثما اشتجرت بين يديه، ونريد به جانب العلاقة بين عمر وآل البيت، وبين عمر وابني عم النبي الكبيرين علي وابن عباس بعد انتقال النبي إلى الرفيق الأعلى.
فالذين أولعوا في التاريخ بخلق القضايا والمخاصمات يقولون كثيرًا في هذه العلاقة، ويمثلون عمر على صورة الرجل الذي كان يتحدى بني هاشم ويناجزهم مناجزة لعصبية فيه عليهم، ولكنهم لا يذكرون من الوقائع ما يعزز شبهة، أو يرجح بظن في هذه الوجهة، وكل ما حفظته لنا أنباء العصر فإنما تخلص بنا إلى الخلاصة التي تجمل بعمر وتحمد منه، وهي الوفاء المحض لذكرى النبي — عليه السلام — في آله وخاصة بيته، والأمانة المحض لمصلحة العرب والإسلام مقدمة على كل مصلحة خاصة أو عامة، وكل ما عدا ذلك لغو وباطل.
فعند تقسيم الأعطية كان لآل النبي النصيب الأوفى والمكان المقدم بين الصحابة، وكان لهم التفضيل في كل حق من حقوق المسلمين، حسبما كان بينهم وبينه عليه السلام من رحم وقرابة، وفضلهم عمر على أقرب الناس إليه في اللقاء والحفاوة، فكان في بعض الأيام ينتظر الحسين بن علي — رضي الله عنه — فذهب إليه الحسين، فلقي عبد الله بن عمر في الطريق فسأله: من أين جئت؟ قال: استأذنت على عمر فلم يأذن لي. فرجع الحسين ولم يذهب إليه، ثم لقيه عمر معاتبًا وسأله: ما منعك يا حسين أن تأتيني؟ قال: قد أتيتك ولكن أخبرني عبد الله بن عمر أنه لم يؤذن له عليك فرجعت. فعزَّ ذلك على عمر وقال له: وأنت عندي مثله؟! وأنت عندي مثله؟! وهل أنبت الشعر على الرأس غيركم؟
وكسا عمر أصحاب النبي فلم يكن في الأكسية ما يصلح للحسن والحسين — رضي الله عنهما — فبعث إلى اليمن فأتى لهما بكسوة تصلح لهما وقال حين رآها: الآن طابت نفسي!
وسافر إلى الشام، فاستخلف عليًّا — رضي الله عنه — على المدينة، وأخذ نفسه باستفتائه والرجوع إليه في قضائه متحرجًا من دعوته إليه حين يحتاج إلى سؤاله. استفتاه بعضهم في مجلسه فقال: اتبعوني، وأخذهم إلى علي فذكر له المسألة، فقال علي: ألا أرسلت إليَّ؟ قال عمر: أنا أحق بإتيانك.
ولم يحجم عن توليتهم الولايات إلا كما أحجم عن تولية الجلة من الصحابة ورءوس قريش الذين أبقاهم عنده للمشورة وصانهم عن محاسبته وعتابه، وفي ذلك يقول لابن عباس: إني رأيت رسول الله ﷺ استعمل الناس وترككم، والله ما أدري أَصَرَفَكم عن العمل أو رَفَعَكم عنه وأنتم أهل ذلك؟ أم خشي أن تُعاوَنوا لمكانكم منه فيقع العتاب عليكم ولا بد من عتاب؟
أما مسألة الخلافة فالذي يزعمه فيها الذين يخوضون في القضايا والمخاصمات أنَّ عمر — رضي الله عنه — تعمد أن يحول بين علي والخلافة بصرفه النبي عن كتابة الكتاب الذي أراد أن يبسط فيه وصاياه فلا يضل المسلمون بعده، ويزعمون أنه هو قد حال بين علي والخلافة مرة أخرى يوم تركها للشورى ولم يستخلفه باسمه لولايتها.
فاستكثر المستكثرون هذه الصرامة وعدوها من إصرار عمر على الإجحاف بعلي وإقصاء بني هاشم عن الخلافة.
أما القول بأن عمر هو الذي حال بين النبي — عليه السلام — والتوصية باختيار علي للخلافة بعده فهو قول من السخف بحيث يسيء إلى كل ذي شأن في هذه المسألة، ولا تقتصر مساءته على عمر ومن رأى في المسألة مثل رأيه.
فالنبي — عليه السلام — لم يدعُ بالكتاب الذي طلبه ليوصي بخلافة علي أو خلافة غيره؛ لأن الوصية بالخلافة لا تحتاج إلى أكثر من كلمة تقال، أو إشارة كالإشارة التي فهم المسلمون منها إيثار أبي بكر بالتقديم، وهي إشارته إليه أن يصلي بالناس.
وقد عاش النبي بعد طلب الكتاب فلم يكرر طلبه، ولم يكن بين علي وبين لقائه حائل، وكانت السيدة فاطمة زوج علي عنده إلى أن فاضت نفسه الشريفة، فلو شاء لدعا به وعهد إليه.
وفضلًا عن هذا السكوت الذي لا إكراه فيه، نرجع إلى كل سابقة من سنن النبي في تولية الولاة فنرى أنه كان يجنب آله الولاية ويمنع وراثة الأنبياء، وهذه السنة مع هذا السكوت لا يدلان على أنَّ محمدًا — صلوات الله عليه — أراد خلافة علي فحيل بينه وبين الجهر بما أراد.
ولم يعتمد عمر على الشورى في اختيار الخليفة بعده وله مندوحة عنها، فقد رأى من أصحابه — كما قال — حرصًا سيئًا وخلافًا لا يحسمه رأي واحد، وكانت حيرته عظيمة بين الاستخلاف وترك الاستخلاف، فلما قيل له وهو طعين يودع الحياة: ماذا تقول لله عز وجل إذا لقيته ولم تستخلف على عباده؟ أصابته كآبة ثم نكس رأسه طويلًا ثم رفع رأسه وقال: «إنَّ الله تعالى حافظ الدين، وأي ذلك أفعل فقد سُنَّ لي، إن لم أستخلف فإن رسول الله ﷺ لم يستخلف، وإن استخلفتُ فقد استخلف أبو بكر.»
واختار للشورى في أمر الخلافة أناسًا ليس بين المسلمين أولى منهم بالاختيار، وكأنهم كانوا مسمين بأسمائهم لهذه المهمة لو لم يرشحهم هو لرشحهم لها كل مختار.
ولم يكن الفكاك من التبعة هو الذي أوحى إليه أن ينفض يديه، ويلقي بالعبء على عواتق غيره؛ فعمر لا ينجو بنفسه ليوقع أحدًا فيما يحاول النجاة منه، ولكنه قدر أنَّ الرجل الذي تختاره كثرة المحكمين هو أولى أن ينعقد عليه الإجماع وينحسم بترجيحه النزاع، فمن خرج عليه فهو باغي فتنة يتبعها الأقلون ويردعها الأكثرون.
وكان مع هذا يود لو اجتمع الرأي على اختيار علي بعد المشاورة فقال لابنه: لو ولَّوها الأجلح — أي المنحسر الشعر — لسلك بهم الطريق، فسأله ابنه: فما يمنعك أمير المؤمنين أن تقدم عليًّا؟ قال: أكره أن أحملها حيًّا وميتًا.
وفيما عدا الاستخلاف بعد النبي والاستخلاف بعد عمر، فالسياسة التي جرى عليها عمر كانت كلها سياسة عامة قائمة على أساس عام لا تفرقة فيها بين بني هاشم وغيرهم ولا بين عليٍّ وغيره.
فكان يكره أن تستأثر بالأمر عصبة دون غيرها بالغة ما بلغت منزلتها، ولم يكره ذلك من بيت هاشم دون سائر البيوت.
وجمع عليًّا وعثمان في مجلس الشورى لاختيار الخليفة، فالتفت إلى علي فقال: «اتق الله يا علي إن وليت شيئًا، فلا تحملن بني هاشم على رقاب المسلمين.»
والتفت إلى عثمان فقال: «اتق الله إن وليت شيئًا، فلا تحملن بني معيط على رقاب المسلمين»، أو قال بني أمية.
وكان أكبر همه أن يعصم الإسلام من المُلك الذي يستأثر به مستأثر لأناس دون أناس، وكثيرًا ما سأل: والله ما أدري أخليفة أنا أم ملك؟ مستعيذًا بالله من كل سلطان لا يعم جميع رعاياه بالخير. وكلمته لابن عباس حيث قال: «إنَّ الناس كرهوا أن يجمعوا لكم النبوة والخلافة، وإنَّ قريشًا اختارت لأنفسها فأصابت»، هي كلمته حيثما تكلم في هذا الصدد لا يخص بها بيتًا دون بيت ولا معشرًا دون معشر ولا قبيلة دون قبيلة، إلا الأمانة لمصلحة المسلمين جميعًا حيثما اتفقوا عليها، أو كان لهم رجاء في الاتفاق.
وما اختار ابنه عبد الله للفصل بين الفئتين المتساويتين إلا لأنه خارج من الاختيار، ثم لم يجعل له القول الفصل؛ حتى يفتح للناس مخرجًا من رأيه إن شاءوا ألا يتبعوه.
ولن يقضي بأمثل من هذا القضاء في مأزق الفتنة أحد له قضاء عادل منزه عن خبايا القلوب.
فما اتخذ عمر من حكم بين الناس فهو الحكم الذي يجمل به ويحمد منه، ولا ينتفع به قبل أن ينتفع سائر الناس، هو الحكم الذي يعم ويعدل ولا يخص ويتحيز، وهو الحكم الذي لو سئل فيه النبي سيد بني هاشم لأعاد فيه قوله: «عمر بن الخطاب معي حيث أحب، وأنا معه حيث يحب، والحق بعدي مع عمر بن الخطاب حيث كان.»