فلسفة المازني وحياته
لقد كنت أعجب في صدر حياتي لماذا اختار إبراهيم عبد القادر المازني لِكُتُبه تلك العناوين العجيبة مثل «حصاد الهشيم»، و«قبْض الريح» و«صندوق الدنيا»، وكنت أتساءل عن السرِّ الذي يدعو مثل هذا الكاتب الموهوب إلى الحطِّ أو محاولة الحطِّ من قيمة كُتُبه، بوصفه إياها بأنها حصاد هشيم أو قبض ريح أو ملهاة أطفال، وهي كُتُب فَتَحَتْ لنا آفاقًا ونحن في مقتبل الحياة، وبصَّرَتْنا بأسرار، وقادَتْنا إلى التفكير، أو أثارت فينا الأحاسيس، وزادنا حيرة وتساؤلًا، ذلك الاطمئنان العجيب إلى الصحراء التي كان المازني يقطن على حدودها بحي الإمام؛ حيث تتلاقى القبور والمساكن، عندما كَتَبَ الكتب السابقة، وقد صدَّر حصاد الهشيم بمقال عن هذه الصحراء، اتَّخذ له عنوانًا «على تخوم العالمين»، واستهله بقوله: «بيتي على حدود الأبد — لو أنه كان للأبد حدود! — وليس هو بيتي وإن كُنْتُ سَاكِنَه، وما أَعْرِف لي شبر أرض في كل هذه القرى، ولقد كانت لي قصور — ولكن في الآخرة! — بِعْتُ بعضها، والبعض مرهون بحينه من الضياع، ووقفت معلَّقًا بين الحياتين، كما سَكَنْتُ على تخوم العالمين!»
ثم وصف تردُّده بين الحياة والصحراء، فقال: «وفي كل يوم أهبط إلى ساحل الحياة، وأتريث على حِفَافِيها بُرْهة، أَشْهَد عُبَابها المتدفق ينهزم على الرمال، ويتكسر على الحصى والصخور، ويقذف بأشلاء غرقاه، ثم يرتد ليئوب بسواهم مطويِّين في أكفان أثباجه، محمولين على نعوشٍ مِنْ مربد أمواجه، وبعد أن أقضي حق العين من التأمل والشهود، كأني مُوكَل بِعَدِّ الموتى وحساب البيود، أَكُرُّ راجعًا إلى صحراواتي!» ويختتم هذا المقال الرائع بقوله: «ويا عجبًا، أهبط إلى ساحل العيش كل يوم وأعود وبي حاجة أن أُمِيطَ عن نفسي ما عَلِقَ بها من الأوحال، فأغشى الصحراء فأصفو من الأخلاط والأوشاب، وأرجع ولم يَعْلَق حتى بثوبي التراب …» نعم، كُنْتُ أعجب من كل هذا، وأتساءل عن سرِّه، حتى شاء الزمن أن نمدَّ من أفق ثقافتنا، وأن نبلو الحياة، وإذا بما غَمُضَ في صدر الحياة يتضح عند نضوجها، وإذا بنا ندرك أن المازني — رحمه الله — قد كانت له فلسفة، وأن هذه الفلسفة لم تكن نظريات، بل إحساسًا وسلوكًا في الحياة.
لقد انتهى المازني إلى السخرية من الحياة ومَنْ في الحياة وما في الحياة، ولم يَعُدْ يعبأ بشيء، وامتدت تلك السخرية حتى شَمِلَتْ عصارة نفسه وجُهْد حياته، فلم يَرَ فيما يَكْتُب غير حصادِ هشيمٍ، وقَبْض ريح، وملهاة أطفال، وإن لم يَنْتَهِ إلى هذه الفلسفة المرة الحزينة إلَّا بعد جهادٍ مرير بَيْنَهُ وبين نفسه من جهة، وبينه وبين واقع الحياة من جهة أخرى، وما نظن أن انتصاره قد كان كاملًا؛ وذلك لأنك لن تَعْدَم أن تجد من حين إلى حين وميضًا خلال الرماد، وإذا كان الكاتب الموهوب قد قال يومًا في حصاد الهشيم تحت عنوان «صفحة سوداء من مذكراتي»: «وإني لأقضي أيامي على نحوٍ ما؛ أروح وأجيء، وأكتب وأتكلم، وأَضْحَكُ وآكل وأَشْرَبُ، ولكني لا أرجو ولا أغضب، ولا أحزن ولا أَطْرَب، ولا أَرْهَبُ ولا أَرْغَب؛ لأني لست حيًّا الآن.» نعم إذا كان الكاتب الموهوب قد قال هذه العبارات المحزنة يومًا من الأيام، فإنها ولا ريب لم تكن إلا لمحات قاتمة لا بد أن ضوء الحياة قد بُدِّدَ من ظلامها.
ولم يكن المازني بغافل عن سُبُل النجاح في هذه الحياة، التي لا تعرف الرفق ولا تَسْكُن إلى الملاينة، ولقد كتب هو نفسه في حصاد الهشيم أيضًا عن النجاح فقال: «إن الحياء شيء حسن له فَضْلُه ومَزِيَّتُه، ولكنه على ذلك ثَوْب يَحْسُن أن يَخْلَعه المرء إذا شاء أن يفوز بحقه، ويظفر بما هو أهْل له، فقد تكون أقوى الناس استعدادًا، وأَكْثَرَهم مواهب وملكات، وأَقْدَرَهم على الاضطلاع بالأعباء والقيام بخطيرات الأمور وجلائل المساعي، ويَحْرِمك الحياءُ أن تَجْنِي ثمرة تعبِك وزهرة غَرْسك، وليس للخجل معنًى في الحياة أو نتيجةٌ إلَّا أن الناس يَمْلَئُون بطونهم وأنت جائع، ويَدْخُلون وأنت واقف بالباب، ويتقدمونك وأنت متردِّد، واعلم أنك إذا أَنْزَلْتَ نفْسك دون المنزلة التي تستحقها لم يَرْفَعْك الناس إليها، بل أغلب الظن أنهم يدفعونك عما هو دونها أيضًا، ويزحزحونك إلى ما وراءها.» لم يكن المازني إذن بغافل عن سبل النجاح في مثل هذه الحياة، ولكنه بالرغم من ذلك لم يكن يَحْفِل بشيء، وكان يسخر من كل شيء، وأكبر الظن أنه لم يُعَادِ هذه الحياةَ إلا بعد أن انتهى به طُول النظر، إلى الإيمان بأن النجاح والفشل سِيَّان، وبذلك يدخل كاتبنا الموهوب في عداد كبار المتشائمين.
ولقد أفصح المازني — رحمه الله — في قصته المسماة إبراهيم الكاتب، أو على الأصح في مقدمة هذه القصة، عن الكيفية التي انتهى بها إلى هذه الفلسفة الساخرة المتشائمة، وذلك عندما حَاوَلَ أن يُدَلِّل في دعابة لطيفة على أنه لم يَتَّخِذْ من نفسه بطلًا لقصته، فقال: «ولست أحتاج أن أقول إني لست بإبراهيم الذي تَصِفُه الرواية، وإن هذا المخلوق ما كان قط، ولا فَتَحَ عينيه على الحياة إلا في روايتي … ثم إني لست أرضى أن أكونه، فما تعجبني سيرته ولا مزاجه ولا الْتِفَاتَات ذِهْنه، وقد ندمت على خَلْقه بعد أن سَوَّيْتُه، فلو كان دمية لحطمْتُها وطَحَنْتُها، ولو كان صديقًا لجفوته ونَبَوْتُ به، ذلك أنه يتناول الحياة باحتفال، وأنا أتلقاها بغير احتفال، وهو يعبس للدنيا وأنا أَفْتَرُّ لها عن أعذب ابتساماتي، وأُحِسُّ السرور بها يقطر من أطراف أصابعي كالعرق، وهو مُغْرَم بالتفلسف وأنا أَعُدُّ الواحد من هذا الطراز مرزوءًا يستحق المرثية، وهو وعْر متكبر وأنا سَمْح متواضع، وهو عنيد وأنا رَيِّض سلس، وهو نَفُور وأنا عَطُوف، وفي نفسه مرارة وأنا مغتبط بالحياة راضٍ عنها قانع بها، وهو كأنما يريد أن يخلق الدنيا والناس على هواه؛ ولذلك تراه قليلَ التسامح، ضيِّق الصدر، وأنا لا أرى في الإمكان أَبْدَعَ مما كان، ولستُ مِثْلَه أُومِن بالتثليث في الحب أو الكره، ولم أَمْرَض قط بالبينيمونيا … إلخ، فليس بيننا — كما ترى — مِنْ تَشَابُهٍ، سوى أن كلينا قصير قميء، وأنا أَزِيدُ عليه أني أُصِبْتُ بالعرج، فليته كان هو المصاب وأنا الناجي المعافى.»
نعم، أَفْصَحَ المازني في هذه الفقرات عن الكيفية التي انتهى بها إلى فلسفته الساخرة المتشائمة؛ وذلك لأن إبراهيمَ الكاتب بطلَ القصة هو إبراهيمُ المازني كاتبُ القصة، ولا عبرة بما يَدَّعِيه من أن الشخصين مختلفان، فتلك إحدى حِيَلِه الكتابية العديدة، والذي لا شك فيه أن المازني كان يَجْمَعُ بين جوانحه صفات الشخصيتين، أو على الأقل أنه قد تنقَّل، وربما ظل يتنقل بين الشخصيتين، فمن احتفال بالحياة إلى عدم احتفال بها، ومن سخرية إلى سرور، ومِنْ تَكَبُّر إلى تواضُع، ومن عناد إلى سلاسة، ومن مرارة إلى غبطة، ومن تشاؤم إلى رضًى، ولا أَدَلُّ على ذلك من أن يَصِفَ هذا الكاتب الموهوب سروره من الحياة بقوله إن هذا السرور «يقطر من أطراف أصابعه كالعرق»، وليس هذا من السرور في شيء، وإنما هو جهد الحياة وعَرَقها القاني، ولسنا ندري عندئذٍ كيف تكون هذه من صفات إبراهيم المازني الطروب الذي لا يريد أن يكون إبراهيمَ الكاتب العابس.
لقد جمع المازني إذن بين التعلُّق بالحياة والإعراض عنها، وإن تَكُنْ فلسفتُه قد انتهت إلى السخرية من كل شيء والتنكر لكل شيء، وكأنه بتلك السخرية وهذا التنكر كان ينتقم من الحياة التي لم تُصِبْه بغير الضنى، ولم تَتْرُك له راحة ولا استجمامًا، وكأنه مشدود بعجلتها التي لا تَرْحَم، وكأن مواهب النفس لا تستحق الرحمة في هذه الحياة، وكأنما قد كُتِبَ على هذه المواهب أن تضنى بالاحتراق البطيء أو السريع لكي تضيء السبل لأناس لا يدركون من حقائق النفس البشرية غَيْرَ ظاهرها الضحل، ولا يُحِسُّون بما في أعماقها من مآسٍ.
والذي لا شك فيه أن قراءات المازني قد ساهَمَتْ في تكوين فلسفته كما ساهَمَتْ في تكوين حياته، وفلسفته — كما قلنا — فلسفة حياة، وهو من النفوس الخصبة التي لا ترى في الكتب التي تُطَالِعُها مخازنَ لتحصيل المعارف، بل وسائل للتفكير الشخصي، وتسديد ملكات النفس وتوجيهها في الحياة، حتى ليتمثل ما يقرأ ويهضمه إلى حدٍّ يختلط فيه المقروء بنتاج نفسه، ولا يعود يميز بين ما أَخَذَهُ عن الغير وما نَبَعَ من ذاته، وربما كان هذا من الأسباب التي دَعَتْ بعضَ النقاد إلى الإسراف في اتهامه بسرقة منتجات الغربيين أو الشرقيين والسطو عليها وانتحالها لنفسه.
ولقد كَشَفَ الأستاذ العقاد في رثائه للمازني المنشور بمجلة مجمع اللغة العربية جزء ٧ سنة ١٩٥٣ عن مدى تأثُّر المازني بقراءاته وتوجيهها له في الحياة، فقال: «أما الجانب الذي أَوْحَتْ به المطالعة فأحسبه راجعًا — على الأرجح — إلى كتابين من القصص الروسي: أحدهما قصة «سانين» لمؤلفها أرتزيباشف، والآخر قصة «الآباء والأبناء» لتورجنييف، وكلتاهما تخلق الاستخفاف — على الأقل حين قراءتها — لمن لا عَهْد له بالاستخفاف، ولست أنسى هزة وجدانه بأفاعيل سانين بطل القصة الأولى، مع إنكاره منها لتلك الحيوانية اللجوج التي مَثَّلَه بها مؤلف القصة، وقد بلغ من رضاه عنها أنه تَرْجَمَها باسم «ابن الطبيعة»، وأنه كان يردد بعض لوازم سانين في كلامه بعد قراءتها بسنوات.» بل إن المازني لَيَعْتَرِفُ هو نفسه في بعض ما كَتَبَ بأن قصة سانين قد أعانته على الخروج من الأزمة النفسية العنيفة التي انتابته بعد وفاة زوجته الأولى.
ولعل المازني قد كان من بين القلائل الذين تأثَّروا — وهم من المسلمين — تأثُّرًا كبيرًا بالكِتاب المقدس، وبخاصة بالعهد القديم منه، وألفاظ «حصاد الهشيم» و«قبض الروح» مأخوذة من هذا الكتاب، إذ وَرَدَتْ في سِفْر الجامعة، وهو سِفْر مليء بالتشاؤم والسخط على الحياة والتبرُّم بها، واعتبار كل ما فيها باطلًا، وقبض الريح، وإنك لَتُحِسُّ بتأثير هذا السِّفر في الكثير مما كتبه المازني عن نفسه أو عن الحياة أو عن الناس، مما يقطع أنه قد تأثَّر به أَعْمَقَ التأثُّر، والراجح أن الذي وَجَّهَهُ نحو الكتاب المقدس، هو ما طَالَعَهُ في كتابٍ لفيكتور هيجو يتحدَّث فيه عن شكسبير ويستعرض كبار العباقرة في الشعر والأدب، فيذكر هومير وفرجيل، ثم أيوب الذي يُعْزَى إليه السِّفر المسمى باسمه «من العهد القديم»، فتطلعَتْ نَفْسُه المُولَعة بالقراءة واستكشاف المجهول إلى قراءة هذا الكتاب كله، وإذا به يستكشف كنوزه، ويتمثل روائعه، وإذا بهذه الكنوز والروائع لا تتضح في فلسفته فحسب، بل ويتخذ منها باقات يزين بها الكثير من كتاباته، وبخاصة قصته «إبراهيم الكاتب» التي وَضَعَ في رأس كل فَصْل من فصولها آية من آيات العهد القديم، وإنك لتقرأ في رأس هذه الفصول: «كل الأنهار تجري إلى البحر والبحر ليس بملآن» أو «وكان مساء وكان صباح، يومًا واحدًا» أو «إلى أن يفيح النهار وتنهزم الظلام أَذْهَب إلى جبل المر وإلى تل اللبان» أو «ارجعي! ارجعي! يا شولميت! ارجعي ننظر إليك!» أو «أيتها الجالسة في الجنات! الأصحاب يسمعون صوتك فأسمعيني» … إلخ … وأمثال تلك الآيات الساذجة الحلوة التي يُغَشِّيها حُزْن خفيف، أو أسَفٌ لاذِع على هروب الحياة وسرعة زوالها، وكثرة مآسيها، وكل هذه معانٍ تجري في فلسفة المازني كما تجري في آيات العهد القديم، ذلك العهد الذي يضم أسفارًا كسفر الجامعة وسفر أيوب، كما يضم مزامير داود ونشيد الأنشاد.
لقد كان المازني إذن من أولئك الكُتَّاب المسلمين القلائل الذين لم يقرءوا الكتاب المقدس فحسب، بل صاحَبُوه حتى تَمَثَّلُوه، وتَكَوَّنَتْ لهم بمساعدته فلسفة، بل وسلوك في الحياة لِمَا وجدوا له مِنْ تَجَاوُب مع نفوسهم، وإنه لمن خطل الرأي أن نظن أن فلسفة المازني في الإعراض عن الحياة والسخرية منها، قد هَزَمَتْ في نفسه غريزة الحياة وحب الحياة، ومن البيِّن أننا لا نحرص على الانتقام مما لا نحفل به، وكل ما يمكن أن يقال عن الطريقة التي كان المازني يَوَدُّ أن لو أَخْضَعَ بها الحياة قد أفصح هو نفسه عنه في قصته عن إبراهيم الكاتب، حيث قال: «ولكنك عبد الحياة، عَبْدها الباكي الشاكي بغنائه، الذي لا يُعْجِب الأحرار الطلقاء، وأحسب أنك معذور إذا بَكَيْتَ إسارك، وحاوَلْتَ أن تتلهى في سجنك، ولا بأس! أَرْسِلْ صَوْتَك ليؤديه الصدى مُقَطَّعًا! نعم غنِّ وتسلَّ، كما يصيح الصبي في الظلام ليطرُدَ عن نفسه المخاوف! واحْلُم — على الرغم من الرق والأسر — بالخلود، وغَالِطْ نَفْسَكَ، وقُلْ: إن الجمال وحْي وإن الحب … لا أدري ماذا أيضًا! ولكن ألا تسمح لي أن أسألك ما وحي الأزاهر الذي يذكي أنفاسها؟ وكيف تغدو الأشجار رفَّافة الغصن فَيْحَاء الثمار؟ أو أين وحي الينبوع فاضَتْ به الأصلاد؟ لا بأس! غنِّ يا عبد الأيام وألعوبة الليالي.»
نعم، في هذه الفقرات يُفْصِح المازني عن الطريقة التي كان يود أن لو سَيْطَرَ بها على الحياة، وهذه الطريقة هي الاكتفاء الذاتي على نحو ما يغرِّد الطير ويرف الشجر وتفوح الثمار وتفيض الينابيع عن الأصلاد غيرَ محتاجة إلى وحْي خارجي أو إلى عَوْنٍ تستمده من غيرها، ولَكَمْ كانت تحلو الحياة عندئذٍ لرجل كالمازني الذي ضاقَ ذرعًا بالحياة والأحياء حتى أصابه منهم اليأس، وتَفَجَّرَ هذا اليأس سخريةً وتنكُّرًا للحياة ومَنْ في الحياة وما في الحياة.
وعلى الرغم من هذا التعلُّق بالحياة والنزوع إلى الاكتفاء بالذات، لم يُفْلِت المازني من أن يُحِسَّ بهبوطِ هذه الحياة هبوطًا ذاتيًّا أيضًا عندما تتقدم بنا السنون وتجفِّف من عصير قلوبنا، فقال في نفس القصة: «متى جاء الخريف وبدأ المرء يشعر بأنه قد رأى خير ما كُتِبَ له من عمره، وأن ما تَبَقَّى من رحلته في هذه الدنيا أَشْبَهُ شيء بأن يكون وجودًا منه بأن يكون حياة — استمرار أَوْ مجرد اندفاع في الطريق الذي كانت تجري فيه الحياة الأولى كما يجري النازل من التِّرام خطوات إلى جانبه — عرف المرء أن أُذُنَه التي كانت تثملها همسة الحب الخافتة لن تسمع بعد ذلك تلك اللغة العذبة، وصار القلب الذي كان يَطْفِر إذا هَتَفَ بالنفس هَاتِفٌ مِنْ أَمَل أو طماح، يَخْفِق بلا احتفال ولا يخرج من دقة عن الانتظام، وبدأَت الآمال والرغائب التي كنا نعتز بها ونحرص عليها تَفْقِد حلاوتها وقُوَّتها ونضارتها … وتتعرَّى زهراتها من أوراقها، وتَصْفَرُّ وتتساقط على اليد، ويطيرها النسيم هنا وها هنا.» وفي هذه الفقرات يَبْلُغ المازني من التشاؤم حدًّا لا يمكن تجاوُزه؛ لأنه تشاؤم مستمَدٌّ من صميم الحياة ذاتها، فلم تُمْلِه ظروف خارجية، ولا أوضاع اجتماعية ولا دَخْل للغير فيه، وإنما هي الحياة ذاتها تخبو بين أيدينا، ونحن عاجزون عن أن نعود فنُشْعِل ثقابها.
كل هذه العناصر تجتمع فتُكَوِّن فلسفة المازني الذي اتخذ السخرية سبيلًا للتعبير عنها، وهي عناصر بعضها مستمَدٌّ من طبيعة حياتنا المصرية، وبعضها مستمَدٌّ من طبيعة الحياة في ذاتها، والبعض الأخير استقاه كاتبنا الموهوب من مطالعاته، وبخاصة في الكتاب المقدس، ومن الغريب أن يَحْسَبَ بعضُ الناس أن سخرية المازني كانت دعابة ومَرَحًا، أو كانت مجرد صنعة وأسلوب في الكتابة، وهم بذلك يُخْطِئُون معنى هذه السخرية الدفين، كما يَعْجِزون عن إدراك روح المازني الحقيقية، وما كان في تلك الروح مِنْ حُزْن ومرارة.
لقد كان المازني يبدو وديعًا متواضعًا في حياته، ولكنها كانت وداعة تَنِمُّ عن احتقار شامل للحياة ومَنْ فيها وما فيها، وكان تواضعًا ينطق بأنَّ صاحبه يؤمن بتفاهة الحياة ومَنْ فيها وما فيها، حتى لَيُؤْمِنُ بأنه مهما اتَّضَعَ أو تواضَعَ فلن يَهْبِطَ إلى أَقَلَّ من مستواها العام، بل لعله يؤمن بأن اللآلئ لا تذوب في الأوحال، وليس بَعْدَ هذا كبرياء، وليست بعدَ تلك قوةٌ بل شراسة، وهو القائل في صدر حياته وقبل أن تكبح فلسفته عُنْف شاعريته:
لقد كان المازني بارعًا في استخدام سلاح السخرية، وهو سلاح لا يَفْضُل الصرخات العاطفية فحسب، بل ويَفْضُل الأسلوب التقريري العقلي أيضًا؛ وذلك لأن الاعتزاز بالنفس وملَكاتها وادعاء القدرة على الهيمنة على الفكر لا تَظْهَر في السخرية كما تَظْهَر في التقرير، كما أن السخرية لا تخلو من روح الدعابة ولا يَطْغَى عليها الجفاف على نحو ما يطغى على التقرير أحيانًا كثيرة، وفي كل هذا ما يشحذ من سلاح السخرية ويُكْسِبه مَضَاءً.
وإذا كان هناك خطر من استخدام السخرية فهو إفلات معانيها من بعض القراء، ولكن من البيِّن أن الكاتب لا بد أن يَفْتَرِضَ في قارئه نفاذَ البصيرة، وما دام أسلوبه خاليًا من الالتواء أو التلميحات البعيدة، فعلى القارئ أن يَفْهَمَ عنه ما يريد، وليس عليه أن يقتصر على كتابة ما يستطيع أن يفهمه كل قارئ، وإلا ذَهَبَتْ أسرار الكتابة واستُعْبِدَتْ مواهبها.
هذه صورة روحية للمازني، وهي تَنِمُّ عن فلسفة ماضية في الحياة، وليس من شك في أن فيها ما يغري بالبحث عن كيفية تكوُّن هذه الفلسفة وتطوُّرها ومَظَاهِر إنتاجها الأدبي شعرًا ونثرًا، وذلك ما سوف نحاوله في المحاضرات القادمة باستعراض حياته وبيئته وثقافته، وما خَلَّفَه من نتاج أدبي أصيل يُفْرِد له مكانًا خاصًّا في الأدب العربي المعاصر، بل في الأدب الإنساني العام.