حياته وأثرها في أدبه
وُلِدَ المازني في ١٩ أغسطس سنة ١٨٩٠، وتُوُفِّيَ في ١٠ أغسطس سنة ١٩٤٩، ودَوَّنَ المازني في مؤلَّفاته الشعرية والنثرية كُلَّ ما أصابه في حياته بين هذين التاريخين؛ بحيث تُعْتَبَر مؤلَّفاته أَصْدَق مَرْجع لتاريخ حياته، وإن يكن خيال الفنان ومنهجه في الحياة، وبعض ضرورات المجتمع قد حرَّفَتْ أحيانًا من وقائع تلك الحياة، أو حاوَلَتْ تنكيرها، ولكن من السهل أن نميز بين عَمَلِ خياله وواقع حياته، لنَخْرُج من مؤلفاته بتاريخ حياة رائعة، قد تكون قليلةَ الأحداث والمفاجآت، ولكنها حياةُ فِكْرٍ وقَلْبٍ متصلة الحلقات، دائمة التطور، وثيقة الاتصال بإنتاجه الأدبي، حتى لَيُعْتَبر المازني نسيجًا وحده في انعكاس حياته في أدبه، فهو أدب شخصي لا موضوعي، ومع ذلك يَعْمُر بالحقائق الإنسانية الصادقة، التي تفلت من ملابسات الزمان والمكان، وتصدق صدقًا مطلقًا يضمن لها الخلود.
ولقد يتساءل المرء كيف استطاع المازني أن يتخذ من حياته الخاصة المَعِين الأول لأدبه دون أن يَمَلَّه القراء، أو ينصرفوا عنه، فيفقد أدَبُه قِيمَتَه، والجواب على ذلك نستطيع أن نجده في حقيقة عميقة اهتدى إليها المازني بغريزته الأدبية السليمة التي تشبه الإلهام، وهذه الحقيقة هي الملاءمة بين صورة أدبه ومضمونه، ففي اليوم الذي تغيَّرتْ فيه نَظْرته إلى الحياة وطريقة إحساسه بها وحُكْمه عليها، تَغَيَّرَتْ صورة أدبه من الشعر إلى النثر، وإذا كانت نظرة شبابه إلى الحياة لم تُمْحَ من نفسه محوًا تامًّا لشدة تأصُّلها في صميم الحياة ذاتها، بعد أن حَقَّقَ أكبر نَصْر يستطيع المرء أن ينتصره على نفسه، فإن هذه النظرة القديمة لم تَعُدْ تتسلل إلى أدبه إلَّا لمامًا، ومن فترات عابرة لا تلبث أن تختفي نتيجةً لانتصاره المتجدد على نفسه وعلى الحياة.
لقد كان هَمُّ المازني الأول في صدر حياته قول الشعر، ثم حدث ذلك التطور الخطير الذي يمثله استواء فلسفته في الحياة على سُوقها، وتغييرها التام لمنحى حياته وتفكيره وأدبه، إلى حدٍّ جَعَلَ المازني نفسه يرثي المازني القديم بعد أن ظهر المازني الجديد، وسَجَّلَ أديبنا هذه الظاهرة في مقدمة إبراهيم الثاني حيث قال: إبراهيم الثاني هو إبراهيم الكاتب، أو كأنه على أصلح القولين ثمَّ تَغَيَّر جدًّا، فلو أمكن أن يلتقي الإبراهيمان لاحتاجا إلى من يقوم بينهما بواجب التعريف، وقديمًا قُلْتُ في هذا المعنى أيام كنت أقول الشعر:
وإذن فقد كان هناك مازني قديم نجده في شعره بنوع خاصٍّ. ثم مازني حديث نجده في مجموعات مقالاته، وهو المازني الناثر الساخر الذي تَحَدَّثْنا عن فلسفته فيما سبق، وإن لم يكن من الصحيح أن المازني القديم قد مات عن آخره ولم يُخَلِّف شيئًا في المازني الحديث، فكثيرًا ما يحتل المازني القديمُ المازنيَّ الحديث، ويأخذ الاثنان في العراك والتنابذ، كما يحدث أن يجلس المازني الحديث وأمامه شبح المازني القديم أو شخصه، ثم يتحاور الاثنان، وإن كان الجديد هو الذي يقود الحوار ويسلخ القديم بألسنة حداد، وأكبر الظن أن المعارَضة التي نقرأها بين إبراهيم الكاتب وإبراهيم المازني في مقدمة تلك القصة إنما هي معارَضة بين المازني الجديد والمازني القديم، أو شبحه الذي لم يَمُتْ عن آخره كما قلنا.
لقد كان المازني في صدر حياته شابًّا ثائرًا، صاخبًا، متشائمًا، عنيفًا، ناقمًا على الحياة والأحياء، فآثَرَ الشعر للتعبير عن أحاسيس نفسه، وكَوَّنَ هو وعبد الرحمن شكري وعباس العقاد مدرسة سَمَّوْها «مدرسة التجديد»، وقادوا معركة مزدوجة، أَحَد سِلَاحَيْها قَرْض الشعر، والسلاح الآخر حملة نقدية عنيفة على الشعراء والأدباء الذين وَصَمُوهم بالتقليد والسير في الدروب المطروقة البالية، ولكن مِن الملاحَظ أن هذه المدرسة الجديدة لم تُغَيِّر شيئًا من الفنون الكلية للشعر العربي التقليدي، بينما غَيَّرَ شوقي ومطران مجرى ذلك الشعر.
وكان مطران هو الرائد الأول لهذا التغيير الخطير، إذ نقل الشعر العربي من المجال الشخصي الغنائي إلى المجال الموضوعي القائم على شعر الملاحم والقصص والدراما، ثم جاء شوقي فاستحدث الشعر التمثيلي في مسرحياته المعروفة، بينما ظَلَّ شِعْر المدرسة الجديدة في جملته شعرًا غنائيًّا شخصيًّا، وإن زَعَمَ بعضهم كالعقاد أن بعض قصائده كقصيدة «ترجمة شيطان» تَدْخل في باب الملاحم؛ وذلك لأن العقاد نفسه يَعْتَرف في رثائه للمازني أنه نَظَمَ هذه القصيدة ليَنْفُض عن نفسه المِحَن والآلام الشخصية التي نَفَضَها المازني في ديوانه، ونَفَضَها شكري في الجزأين الثالث والرابع من ديوانه.
وبالرجوع إلى كتاب «الشعر: غاياته ووسائطه» الذي يتحدث فيه المازني عن آرائه في الشعر، وبالرجوع إلى مقدمات الدواوين وإلى مقالات النقد التي كتبها أعضاء هذه المدرسة الجديدة، نتبين أن الهدف الأولَ والأسمى في التجديد الذي كانت تدعو إليه تلك المدرسة، هو الصدق في الإحساس، والصدق في التعبير، حتى ليُعَرِّف المازني نفسه الشعر بقوله: «إنه خاطر لا يزال يجيش بالصدر حتى يَجِدَ مَخْرَجًا ويصيب متنفَّسًا»، ومعنى ذلك أن الشاعر لا يقول الشعر بعمل إرادي، وفي موضوع يختاره من التاريخ أو من حياة الناس المعاصرين له، وإنما يقوله عندما تجيش الخواطر في صدره وتلتمس لها مَخْرجًا، فتنطلق من نفسه شعرًا غنائيًّا شخصيًّا، وبذلك تنحصر وظيفة الشعر في التنفيس الشخصي عن قائله، والواقع أن المازني وشكري والعقاد قد سَلَخُوا شبابهم في جوٍّ قاتم مضطرب، وكان طموحهم الأدبي تغمره ظلال العمالقة الذين سَمَّوْهُم بالشعراء المقلدين، فهاجت ثائرتهم وأعملوا معاولهم، وإن كانت شاعريتهم لم تستطع أن تقهر شاعرية أولئك المقلدين، وإن لم يمنعهم ذلك من أن يُحْدِثوا في الشعر العربي حدثًا بتوجيهه نحو الصدق في التعبير عن المشاعر الخاصة، والآلام والآمال التي سيطرت على حياتهم، مؤمنين بأن الألفاظ لا يمكن أن تَسْتَنْفِذ مشاعر النفس، وأن الشعر لا بد معتمد على الإيحاء والتصوير، أكثر من اعتماده على الفصاحة الخطابية وقوة الإبانة اللفظية، وقد ضرب المازني لذلك مثلًا بقول كثير عزة:
وعَلَّقَ على هذين البيتين بقوله: «هذان بيتان ليس فيهما معنًى رائع، ولا فِكْر دقيق، ولكنهما يصفان حال قائلهما أَبْلَغ وَصْف، ويتغلغلان إلى النفس تغلغُل الماء إلى كبد الملتاح، وإنما يرجع الفضل في ذلك إلى قوة الخيال؛ وشَرْحُ ذلك أن الشاعر لم يتجاوز الإشارة في بيته إلى التبيين، والتلميح إلى التصريح، فذَكَرَ الدلَّ ولم يذكر كيف دلُّها وإن يكن مَثَّلَ لك فِعْلَه وتأثيره، وقال: «وخَلَّفْتِ ما خَلَّفْتِ بين الجوانح»، ولم يقل: ماذا خلفت، فترك لذلك مضطربًا واسعًا للخيال ليتصور لُطْف دَلِّها وسِحْره وفتنته، وصبابة الشاعر وشغفه وحُرْقته، وسائر ما ينطوي تحت قوله: «وخَلَّفْتِ ما خَلَّفْتِ» فجاءا بيتين كلما زِدْتَهُمَا نظرًا وترديدًا زاداك جمالًا وحسنًا، ولو أن الشاعر أراد الإحاطة بجميع ما خَلَّفَتْ لكَلَّفَ نفسه أمرًا شديدًا، إذا لانت له جوانبه كان استيعابه هذا قيدًا للخيال، وحِمْلًا ثقيلًا يرزح تحته وينوء به؛ لأن الشعر يُلِذُّ قارئه، إذا كان للمعاني التي يثيرها في ذهن القارئ في كل ساعة تجديد، وفي كل لحظة توليد.»
وفي الشعر العربي — وبخاصة القديم منه — أمثلة كثيرة، كان المازني يستطيع أن يَقِفَ عندها ليؤيد نظرية الإيحاء والتصوير أو الرمز في الشعر، ومن خير هذه الأمثلة التي توحي بموقف إنساني نافذ التأثير قول ذي الرمة:
والواقع أن قول الشعر عند المازني وزملاء مدرسته يُشْبِه أن يكون إحدى ضرورات الحياة، أو هكذا خُيِّلَ إليهم؛ ولذلك جاء شعر المازني تعبيرًا عن حياته التي تَجَمَّعَتْ فيها آلام ومِحَن لا بد أنَّ حساسيته الفنية وخياله الخصب قد بَالَغَا مِنْ وَقْعِهَا، فجاء شعرًا حزينًا يكاد يكون يائسًا، ولا غرابة في ذلك، فالشباب هو عصر التشاؤم والخصومة مع الحياة، بينما يقل هذا التشاؤم حدة، ويزداد المرء تسامحًا كلما طال العمر واتسعت التجارب، وكأن معاشرة الحياة تنتهي إذا طالت بالصلح معها وقبولها على علاتها، أو الاستخفاف بها والانتقام من مآسيها بالسخرية، على نحو ما فَعَلَ المازني؛ ولذلك يقول النقاد: إن الشعر هو إنتاج الشباب، وهو لا يتطلب معرفة عميقة بالحياة، ولا تجارب عديدة فيها، كما يقولون: إن القصة هي عمل النضوج.
لقد اتخذ المازني إذن الشعر صورة للتعبير عن إحساسه إزاء الحياة في صدر شبابه، وكان إحساسًا قاتمًا متشائمًا، فهل نستطيع أن نجد في حياته ونشأته وظروفه ما يفسِّر هذا الإحساس ويبرِّر تلك النظرة؟
والواقع أن المازني لم يترك صغيرة ولا كبيرة من أحداث حياته وأسباب نعيمه أو شقائه إلا تَحَدَّثَ عنها في مؤلفاته، إما حديثًا مباشِرًا أو حديثًا متنكِّرًا في أثواب الخيال والقصص، وبذلك مَكَّنَنَا من أن نتتبع فلسفة حياته وتطوُّرها تتبعًا دقيقًا، وأن نفسر كل ذلك لا على أساسِ ما نستطيع أن نصل إليه من وقائع وظروف حياته، بل على أساسِ وقْع تلك الأحداث. والظروفُ الواحدة قد تُحْدِث آثارًا وتوجيهاتٍ مختلفة تبعًا لاختلاف طبائع مَنْ وَقَعَتْ لهم تلك الأحداث أو أحاطت بهم تلك الظروف، فأغنانا المازني عن الحدس والاستنتاج بإفصاحه عن وقْع كل شيء في نفسه — وبخاصة بعد أن انتصر على نفسه ذلك الانتصارَ الرائع، الذي أَبْدَلَه من الكبت الذي كان خليقًا بأن يعصر حياته ويصيبها بالعقم — إفصاحًا واستخفافًا وسخرية مَكَّنَتْه من أن يتحدث عن جميع نقائصه أو ما ظَنَّهَا نقائص، كما تحدَّث عن مواهبه وأمجاده بأسلوبه المستخفِّ الساخر، الذي نستطيع أن نَسْتَشِفَّ مِنْ خَلْفه حقائق يقينه وآرائه الجادة.
تحدَّث المازني في مقال له في صندوق الدنيا تحت عنوان «الحقائق البارزة في حياتي» بأسلوبه الساخر عن نَسَبِه وأجداده في صورة حوار، يقول إنه جرى بينه وبين دكتور كان يراسل صحيفة نمساوية أتاه على أَثَر نَشْر المازني لمقال عنيف، نَقَلَتْه صحيفة فرنسية بنصه وفصه عن بعض حقوق الصحافة، فأثار ضجة، وأتى هذا الدكتور إلى المازني ليسأله عن تاريخ حياته ونشأته، ويجمع عنه ما يستطيع من معلومات، ودار بينهما حوار طريف نستشفُّ منه استخفاف المازني وسخريته بالأصول والأنساب، وبعد أن أوضح لمُحَدِّثه الأجنبي أنه لا يقل شرفًا وأرستقراطية عن أن ينتمي إلى أعظم جد وأجلِّ شيخ — وهو آدم نفسه — لم يَضِنَّ على فُضول مُحَدِّثه، فانحدر إلى الحديث عن بعض أجداده «الأقربين» من بني مازن! فزعم أن منهم مالك بن الريب بن حوط المازني، الذي كان زعيمًا لقومه، وبَلَغَ من قوَّته وسطوته أنه كان هو ورفقاؤه؛ أي: أتباعه، يقطعون الطريق على رعايا الخليفة، ويَسُومُون الناس ما شاءوا، غير أن الخليفة لم يَحْتَمِل هذه المنافَسة، ولم يُطِقْ صبرًا على هذا المُزَاحِم فطَلَبَهُ، وكان مالك قد رأى أن البلاد لم يَبْقَ بها ما يَستحقُّ أن يؤخذ، فتركها للخليفة، ومضى بثلته إلى فارس، حيث لم يَكُفَّ عن ركوب الناس بالأذى، حتى أجرى عليه الوالي مبلغًا شهريًّا، فلم توافقه هذه الحياة الوديعة، فمات بعد الكف بقليل.
ثم يقصُّ المازني أنباء هلال بن الأسعر المازني، ومسعود بن خرشة المازني، ولكنا نترك المازني عند مباهاته الساخرة، لنصل إلى جدته لأمه التي يقول في «رحلة الحجاز» إنها كانت مكيَّة، زَوَّجُوها وهي بنت العشرين سنة رجلًا فحلًا من أهل المدينة فنشزت فطلقوها منه، ثم احتملوها إلى مصر بعد وفاة أبيها وخراب بيته وتجارته، فتزوَّجَتْ جده، وأما أبوه فمازني مثله! «وقد انحدرت إليه هذه المازنية ثم إلى ابنه من بعده على نحو ما انحدرت إلينا الآدمية»، ولقد يكون كل هذا من الأدب الخفيف الرقيق، ولكننا نتركه أيضًا لنقف عند «الحارة اللعينة» التي يتحدث عنها في «خيوط العنكبوت» وفيها يقع مسكن أُسْرته عند صحراء الإمام، وعلى تخوم العالَمَيْنِ؛ عالَم الموتى وعالَم الأحياء، وكان بيتًا من البيوت التي يَدْعُونها بيوت الغز الذين يتحدث عنهم وعن هذا البيت بقوله: «ولا عِلْمَ لي بهؤلاء الغز، ولا رأيت منهم أحدًا في حياتي، وكنت في حداثتي أخجل أن يقال إن بيتنا من بيوت الغز لتوهمي أن الغز لا شك أناس معيبو السيرة، فلما كبرت عرفت أن المراد المماليك أو من في حكمهم، ممن كانوا هم السادة في وقت من الأوقات، ويظهر أن بيتنا كان لرجل دائم الوجل، لا يزال يتوقع العدوان ويحذره، ويحب أن يتقي مفاجآته، فقد كانت بوابته كبوابة المتولي، كبيرة هائلة تغطيها المسامير الضخمة، التي يعدل رأس الواحد منها رأس طفل، وكان له رتاج غليظ يدخل في جدار عظيم السُّمْك، أما المدخل مما يلي البوابة فطريق ملتوٍ ينعطف يمنة ويسرة، وفيه مخابئ ومكامن تتصل بها دهاليز خفية، والمرء لا يستطيع في النهار أن يُبْصِر كَفَّه من شدة الظلمة، وكنا نضع مصباحًا، ولكن لم يَكُنْ يضيء شيئًا، بل كان كل ما له من النفع هو أن يرينا شدة السواد، ويزيده وقعًا في النفوس.»
ثم يمضي المازني على هذا النحو في وصْف منزل الأسرة الذي نشأ فيه، ووصْف الحارة اللعينة؛ وهو وصْف يَنِمُّ في وضوحٍ عن مَبْلَغ الضيق الذي استشعره المازني في صباه داخل المنزل العتيق المغلق كالحصن، ولم تكن بيئته الاجتماعية أقلَّ ضيقًا وتزمتًا من هذه البيئة المادية، فقد نشأ في بيت دين؛ خاله من رجال الدين، وكان أبوه محاميًا شرعيًّا، كما كان أخوه الأكبر محاميًا شرعيًّا أيضًا، خلف أباه في تولي الشئون الشرعية للقصر الملكي، ومات أبوه وهو في إهاب الطفولة، وبدَّدَ أخوه الأكبر ثروة أبيه قبل أن يشبَّ إبراهيم ويستطيع إنقاذ ما ورثه عن أبيه، ومنذ ذلك الحين عَرَفَ إبراهيم شظف الحياة والجد فيها، حتى يستطيع أن يقوت نفسه، وأن يقوت بعد ذلك ذويه، وإن يكن قد لقي من أُمِّه التي أنجبَتْه بعد أن ثكلت طفلين — كما أنجبت أخًا له هو أحمد الذي يصغره بخمسة أعوام — كل حنان ورعاية، وبلغ من حب إبراهيم لأمه أنْ زَعَمَ في أكثر من موضع مما كتب، أن هذا الحب قد استنفد طاقته العاطفية، فلم يَعُدْ في قلبه مكان عميق لحب امرأة أخرى، ومن خير ما يصوِّر علاقة إبراهيم المازني بأمه وتعاطُفه معها، وتشارُكهما في التعزي عن نكبات الحياة وشظفها قوله:
وقد كان لهذا الشظف المادي أَثَرُه البالغ في حياته، فبعد أن أتمَّ دراسته الابتدائية بمدرسة القربية، ثُمَّ دراسته الثانوية بمدرسة التوفيقية، ثم بمدرسة الخديوية، الْتَحَقَ بمدرسة الطب ليتخرَّج طبيبًا كبعض أفراد أسرته، ولكنه لم يَكَدْ يشهد صالة التشريح وما فيها من جثث حتى أُغْمِيَ عليه وولَّى هاربًا، فحاوَلَ أن يلتحق بمدرسة الحقوق، ولكن حال دون تحقيق رغبته ما حدث في ذلك العام من رَفْع رسوم هذه المدرسة من ١٥ جنيهًا إلى ثلاثين، وهو مبلغ لم يكن يستطيع دَفْعَه، فانتهى به الأمر إلى مدرسة المعلمين التي لم تكن مجَّانية فحسب، بل وكانت تعطي مكافأة دراسية لمن يلتحق بها من طلاب، ولم يكن في تلك المدرسة عندئذٍ تخصُّص؛ فلا أدبي ولا علمي، بل دراسة موحدة، وقد شقي المازني بدراسة الرياضة كما شقي فيما بعد بتدريسها، حتى لَيَزْعُم بسخريته المعهودة أنه كان يلتمس العون من تلاميذه في فَهْمِ وحَلِّ مسائل الحساب التي تُضْنِيه وينفر منها، وإن يكن الجبر والهندسة قد كانا أخف حملًا على نفسه، وكان يصارح تلاميذه بأنه منكوب بتدريس الرياضة، وأن الوزارة هي المسئولة عن هذه النكبة، وبَلَغَتْ بأحد تلاميذه السذاجة البريئة حَدَّ موافقته على أن الوزارة آثمة إذ تعيِّن «جاهلًا» لتدريس مادة لا يفهم فيها شيئًا!
ولقد يقال: إن شظف العيش لم يبلغ بالمازني وبأسرته حد الحرمان، وإنَّ مثله مثل الملايين من الناس الذين يَقْنَعُون بالكفاف، ويعيشون من يدهم إلى فَمِهِمْ كما يقول المثل الإنجليزي، وهذا صحيح، ولكن هذه أمور نسبية تقاس إلى طبيعة كل فرد وحالته العصبية، كما تقاس إلى وضْع الفرد الاجتماعي واتجاه تَطَوُّره من سعة إلى ضيق، ومن رخاء إلى شظف، وذلك فضلًا عن شكوى المازني المُرَّة من المهنتين الوحيدتين اللتين قُدِّرَ له أن يزاولهما في حياته؛ وهُمَا التدريس، ثم الصحافة والكتابة، بما يلازم هذه المهنة الأخيرة من عدم الاستقرار والقلق على المستقبل، إلى حدٍّ جَعَلَ المازني يخاف مما يَسُرُّ، خَوْفَه مما يسوء، فيقول:
ومنذ تَخَرَّج المازني من مدرسة المعلمين العليا سنة ١٩٠٩ في دفعة محمد فريد أبو حديد، ومحمود فهمي النقراشي، ومحمود جلال، اشتغل مدرسًا للتاريخ بالعبيدية الثانوية، ثم الخديوية، إلى أن نَقَلَه حشمت باشا — وزير المعارف عندئذٍ — من الخديوية إلى دار العلوم لتدريس الإنجليزية للطلبة المبتدئين، الذين لا يعرفون من تلك اللغة شيئًا، فتبرَّم المازني بهذا النقل، وحَسِبَ أن نَقْدَه لشعر عبد الرحمن شكري ثم لشعر حافظ إبراهيم — صَفِيِّ وزير المعارف وجليسه — قد كان سبب هذا النقل الانتقامي الذي زاد في تبرُّمه بمهنته، وسَخَطِه عليها، وضِيقه بقيود الوظيفة الحكومية، مما انتهى به إلى الاستقالة في سنة ١٩١٣ ليعمل في التدريس بالمدارس الحرة كالمدرسة الإعدادية، ومدرسة وادي النيل، والمدرسة المصرية الثانوية التي أفلستْ، وكان إفلاسها في سنة ١٩١٧ آخر عَهْدِهِ بالتدريس وبدء انقطاعه للصحافة، التي كان قد أَخَذَ يتصل بها ويكتب لها منذ سنة ١٩٠٧، وهو لا يزال طالبًا مع طه حسين وحسين هيكل وعبد الرحمن شكري وعباس العقاد، الذين كانوا يكتبون عندئذٍ في الدستور والبيان ليُقَرِّروا المبادئ التي يريدون أن يقوم عليها التجديد الأدبي والثقافي ويضربون له الأمثلة.
ومنذ ذلك التاريخ أَخَذَ المازني يزاول تلك المهنة الشاقة التي يُسَمُّونها الصحافة، والتي تُشْبِه ذلك البرميل المثقوب القاع، الذي زعم الإغريق أن الآلهة قَضَتْ على بعض المغضوب عليهم أن يَمْلَئُوه، فأنفقوا حياتهم دون أن يَصِلُوا إلى هذا الهدف، ومثلهم مثل سيزيف، ذلك البطل البائس الذي أَغْضَبَ يومًا كبيرَ آلهة الإغريق، فقضى عليه بأن يُدَحْرِجَ إلى قمة جبل شاهقٍ حجرًا ضخمًا، كلما دحرجه دورةً عاد الحجر دورةً إلى الخلف وهكذا، حتى فني البطل دون هذا الجهد المضني العقيم، وإن يكن جهد المازني لم يأتِ — لحسن الحظ — عقيمًا، بل أتى بخيرِ ما خلف في رأينا، وهو سلسلة المقالات الرائعة التي جمعها المازني في «حصاد الهشيم» و«قبض الريح»، و«صندوق الدنيا»، و«خيوط العنكبوت» وغيرها.
وهي مقالات غزيرة بمادتها الإنسانية، ولطيفة نافذة بروحها الشعرية حينًا، ونغماتها الساخرة حينًا آخر، وإن اسْتَخَفَّ بها المازني وشكا من تبديد حياته في جمعها ونَسْج مادتها، فقال في مقدمة «صندوق الدنيا»: «كنت أجلس إلى الصندوق أيام طفولتي وأنظر إلى ما فيه، فصِرْتُ أحمله على ظهري وأجوب به الدنيا، أَجْمَع مناظرها وصور العيش فيها، عسى أن يستوقفني نفر من أطفال الحياة الكبار، فأحط الدكة وأضع الصندوق على قوائمه وأدعوهم أن ينظروا ويعجبوا ويتسلَّوْا ساعةً بملاليم قليلة، يجودون بها على هذا الأشعث الأغبر، الذي يَشْبُر فيافي الزمان، وما له منقلب سوى آماله وهي لوافح، أو نجْم سوى ذكرى نورُها خافت، ولا أزال أجمع له وأحشد، وما فتئ السؤال الأبديُّ عندي منذ حملتُ صندوقي على ظهري: «ماذا أُصَوِّر؟» هذه هي المسألة، كما يقول هَمْلِتْ في روايته الخالدة، والفرق بيني وبين هَمْلِتْ أنه هو مُعْنًى بالحياة والموت، وبأن يكون أو لا يكون، وبأن يُبْقِيَ على نفسه أو يبخعها، أما أنا فلا يُعْنِيني شيء من هذا، ولست أراني أحفل لا الحياة ولا الموت، ولا الوجود ولا العدم، أو لعل الأصح والأشبه بالواقع أن أقول: إني لا أرى وقتي يتسع للتفكير في هذا، ذلك أني صِرْتُ كالذي زعموا أنه كانت له زوجة ترهقه بالتكاليف وتضنيه بالأعمال التي تَعْهَد إليه فيها أو تأمره بأدائها، قالوا: فأشْفَقَ عليه صاحبٌ ورثى له، وأشار عليه أن يطلقها لينجو بنفسه من هذا العناء، فطأطأ الرجل رأسه ثم رفعه، وقال: «ولكن متى أطلقها؟ لا أرى وقتي يتسع لهذا!»
كذلك أنا زوج الحياة التي لا يستريح من تكاليفها، أقوم من النوم لأكتب، وآكل وأنا أفكر فيما أكتب، فأَلْتَهِمُ لقمة وأخطُّ سطرًا أو بعض سطر، وأنام فأحلم أني اهتديت إلى موضوع، وأفتح عيني فإذا بي قد نَسِيتُه، فأبتسم وأذكر ذاك الذي رأى في منامه أن رجلًا جاءه فأنقده تسعًا وتسعين جنيهًا فأبى إلا أن تكون مائة، فلما انتسخ الحلم ورأى كفه فارغة عاد فأطبق جفونه وبسط راحته، وقال: «رضينا فهات ما معك.»
وأشتاق أن أداعب أولادي، فيصدني أن الوقت ضَيِّق لا يتسع للَّعِب والعبث، وأن عليَّ أن أكتب، وأرى الحياة تزخر تحت عيني فأشتهي أن أضرب في زحمتها وأسوم سرحها، ولكن المطبعة كجهنم لا تشبع، ولا تمل قولة: «هات»، وأكون في المجلس الحالي بحسان الوجوه رقاق القلوب، وبكل من كان مهيار يتحسر على مثلها ويقول:
فأشرد عنهن وأذهل عن سحر جفونهن، وأروح أُفَكِّر في كلام أكتبه صباح غد، وأشرب فلا أسهو، وأضحك فلا أراني ألهو، ويضيق صدري فأتمرد، وأخرج إلى الطرقات أُمَتِّع العين بما فيها مما تعرضه الحياة، فإذا بي أقول لنفسي: إن كيت وكيت مما تأخذه العين يَصْلُح أن يكون موضوع مقال، فأقنط وأكرُّ راجعًا إلى مكتبي لأكتب، وهكذا كأني موكل بفضاء الصحف أَمْلَئُه كما كان ذلك الشاعر القديم المسكين موكلًا بفضاء الله يذرعه.»
وفي نفس المقدمة يعترف المازني بأنه قد صدق فيما كتب به إلى صديق على صورة له:
وسواء أأنْصَتْنا لفتى مازن الثائر المستخف الساخر، أم للمازني الشاعر المتبرم الساخط، الشاكي من الحياة ومِنْ مجيئه إليها، فإننا لن نخرج إلا بنتيجة واحدة هي ضِيقُه بهذه الحياة، وتَبَرُّمه بذلك الجهد المضني المتصل، الذي يَسْتَعْبِد حياته في غير رحمة ولا هوادة، مقابل مليمات قد يجود بها — وقد لا يجود — أولئك الأطفال الكبار الذين يلهون بالنظر من صندوق الدنيا الذي حَمَلَهُ المازني على ظهره سنين طويلة؛ لكي يُرَفِّه به عن الناس مقابل لقمة العيش، التي يتناولها معجونةً بعرق جبينه، بل بدم حياته.
هذه بعض هموم الحياة التي نَكَبَ بها المجتمعُ المازنيَّ في حياته العامة، فما بالنا بحياته الخاصة التي لم تَقِلَّ نكدًا ولا همومًا، وقد دلف إلى الحياة قصيرًا ضئيل الجسم، بل وخُيِّلَ إليه أنه قميء، وإن لم يَخْلُ هذا الخيال من شطط، ثم حَدَثَ أن كان يتسلق ليأتي امرأته الأولى بدواء من صندوق معلَّق بالحائط، فسقط وأصيب في ساقه إصابة خلَّفَتْ به عرجًا، وإن يكن خفيفًا، إلا أنه لم يَنْسَهُ طوال حياته، ثم عانى من اختلاف الطبائع وعدم الفهم المتبادل للحياة بينه وبين تلك الزوجة آلامًا مريرة خلال ثلاث سنوات، حتى انتهى به الأمر إلى أن يستنجد بقراءاته وتفكيره لحلِّ ذلك الخلاف، ووُفِّقَ إلى ما أراد، وتحدَّث عن هذه التجربة الكبيرة في مقدمة المسرحية الوحيدة التي كتبها وهي «بيت الطاعة» أو «غريزة المرأة» التي يقول إنه استخلصها من تجربة حياته الخاصة، ويزعم الأستاذ محمد علي حماد في كتابه «المعول» أن المازني قد سرقها من رواية «الشاردة» لجالزورثي مما اضطر المازني إلى أن يُتَرْجِم بنفسه هذه «الشاردة»؛ لكي يحكم القرَّاء بينه وبين ناقده، وإن كان المازني نفسه يعترف في مقدمة الجزء الثاني من ديوان شعره بأنه كثيرًا ما يجد عند غيره من الأدباء والشعراء تعبيرًا عمَّا في نفسه، فينقله شعرًا أو نثرًا إلى اللغة العربية منسوبًا لذويه، كما يَحْدُث أن تذوب بعض معاني الغير في بوتقة نفسه، وتتوه في لا وَعْيِه ثم تَبْرُز على غير عِلْم منه فيما يشعر أو ينثر.
وبالرغم من تغلُّب المازني على الخلاف المستحكم بينه وبين زوجته الأولى، واستقامة حياتهما هانئة وادعة ست سنوات أخرى، فإن القدر لَاحَقَهُ فاختطف تلك الزوجة، ثم تزوَّج المازني مرة أخرى ورُزِقَ ثلاثة أبناء كما رُزِقَ بنتًا، ولكنه فَقَدَها كما فَقَدَ ابنته من الزوجة الأولى، وقد حزن حزنًا مبرحًا على وفاة هاتين البنتين، وتحدَّثَ عن البنت الأخيرة في مقدمة كتابه المسمى «في الطريق» حديثًا يرتفع إلى مستوى أروع ما كَتَبَ الشعراء والأدباء عن أبنائهم الذين ثكلوهم، فقال: «في بعض الأحيان أكون جالسًا إلى مكتبي قبل طلوع الشمس وأمامي الآلة الكاتبة، أدق عليها، وأرمي بورقة إثر ورقة، وإلى جانبي فنجان القهوة أرشف منه وأذهل عنه، فأحس راحتَيْكِ الصغيرتين على كتفي، فأدير وجهي إليك، وارفع وجهي لأصبح على بستان وجهك، وأستمد من عينيك النجلاوين وافترار ثغرك النضيد، ما أفتقر إليه من الجلَد والشجاعة، وأدفع يدي فأطوقك بذراعي وأضمك إلى صدري وألثم خدك الصابح، وأمسح على شعرك الأثيث المرسل على ظهرك، وجانب محياك الوضيء، وأتملى بحسنك وأنشر في كهف صدري المظلم نور البشر والطلاقة، فتدفعين ذراعك الغضة وتتناولين ببنانك الدقيقة ورقة مما كتبت، وترفعينها أمام عينيك وتزوين ما بينهما، وتتخذين هيئة الجد الصارم، وتفيضين على نفسك السمحة العطوف وأنت مضطجعة على ذراعي سمتًا وأبهة، يغريان بالابتسام.
وأنا انظر إليك وفي قلبي سَكِينةٌ، وجوًى مِنْ قُرْبك معطَّرٌ بمثل أنفاس الروضة الأنف في البكرة الندية، وألمح شفتيك الرقيقتين تختلجان، وعينيك تلمعان، فتطيب نفسي بسرورك الصامت، ثم أسمع ضحِكَتَكِ الفضية، وأراك تغطين وجهك الحلو بالورقة فيستطيرني الفرح ويستخفني الجذل، ولكني أتظاهر بالخوف على الورقة التي لا قيمة لها أن يمزقها أنفك الجميل، فترمين رأسك على ذراعي وينسدل شعرك الذهبي المتموج كالستار، وتصافِحُ سمعي من ضحكاتك العذبة موجاتٌ لينة، ثم تعتمدين على ساقي وتدفعين ذراعيك، فتُطَوِّقين بهما عنقي، وتجذبين وجهي إليك، ولكنك تُشْفِقِين على رقة شفتيك من خشونة خدي، فتلثمين أذني الطويلة … وتعضينها أيضًا فأصرخ، فتَثِبِين إلى قدميك خفيفةً مرحةً، وتَخْرُجين بعد أن خلَّفتِ في صدري انشراحًا، وفي قلبي رضًا، وفي روحي خفة، وفي نفسي شفوفًا، وفي عقلي قوة، وفي أملي بسطة واتساعًا، وفي خيالي نشاطًا، فأضطجع مرتاحًا وأغمض عيني القريرة بحبك، ثم أفتحها على:
إي والله، لولا الإغراق ما كان الحرمان، وهل الشعور به إلا من الإسراف في الرغبة، واللجاجة في الطلب؟
بل أفتح العين على جثة صغيرة حَمَلْتُها بيديَّ هاتين إلى قبرها وأنزلتها فيه ووسدتها التراب، بعد أن سويته لها بكفي، ورفعت من بينه الحصى الدقاق، ثم انكفأت إلى بيتي جامد العين، وعلى شفتي ابتسامة متكلَّفة، وفي فمي يدور قول ابن الرومي:
وتدخل عليَّ زوجتي لتحيِّيني تحية الصباح، فأتلقاها بالبِشر والبشاشة، وأهُمُّ بأن أُحَدِّثها بما كَبُرَ في وهمي قبل لحظة، ولكني أزجر نفسي وأَرُدُّها عن التعزِّي باللغط، ولو أني شرعتُ أحدثها بشيء من ذلك لما فرغتُ، فما أخلو بنفسي قط إلا رأيتُني أستطيب أن أتخيل فتاتي على كل صورة وكل هيئة وفي كل حالة، ويحلو لي أن أفشي بيني وبينها الحديث في كل موضوع من جد وهزل، ويَسُرُّني أن أسمع نكتها، وأراني أستملح فكاهتها، وأنتحلها فيما أكتب وأضحك أحيانًا بصوت عالٍ، بل أُقَهْقِهُ غيرَ محتشِم، فإذا تعجَّب لي داخلٌ متطفلٌ علي في هذه الخلوة المحببة إلى نفسي رفَعْتُ له وجهًا كالدرهم المسيح وهربْتُ بالتبالة من الجواب الذي يطلبه بعينه أو لسانه، وتركْتُه يظن بعقلي ما يشاء، وماذا أقول له؟ في وسعي أن أكذب؛ فما لِبَاب الكذب مفتاح، ولكن الكذب ينغص عليَّ المتعة التي استفدتها من الحوار، الذي كان يدور بيني وبين حياة.»
هذه صفحةٌ تَنْطِق بمبلغ رهافة إحساس المازني، وهي رهافة تكاد تَبْلُغ حد المرض والهذيان، ورؤية الأشباح أو مخاطبتها، وهي ليست فريدة في كتاباته، فهذه الحساسية المفرطة تطالعنا في أكثر من موضع، ولقد أصيب المازني لعدة سنوات بالنورستانيا، نتيجة لترديه في إحدى الليالي — وهو عائد إلى بيته — في أحد القبور، وشدة الرعب الذي استولى على نفسه من ملامسة الجثث، أو ما ظنه جثثًا، وما رآه أو ظن أنه رآه من أشباح، حتى سيطرت عليه الأفكار السوداء، وتجمَّعَت في الخوف من الموت، فأخذ يتردد على جميع الأطباء لمرض موهوم، وتحدَّث عن كل ذلك في مواضع كثيرة مما كتب.
هذه الحالة العصبية المرهفة هي التي أَوْحَتْ للمازني بشعره أولًا، ثم بصفحات النثر العاطفي التي تتخلل أدبه الساخر المستخف، كما تتخلل الجمرات التراب المتخلف عن النيران، وإذا كان قد كتب هذه الصفحة الرائعة عن ابنته «مندورة» التي يسميها «حياة»، وهي صفحة تُذَكِّرنا بقصائد فيكتور هيجو في رثاء ابنته التي غرقت في السين مع زوجها الشاب، كما تُذَكِّرنا برثاء ابن الرومي لابنه؛ فقد كتب صفحات أخرى زاخرة بالعاطفة في رثاء أمه، وفي التحدُّث عن بعض ذكريات شبابه، كحبه الأول وما إليه.
وليس من شك في أن هذا الإحساس المرهف، وتلك الظروف المُضْنِية هي التي أَوْحَتْ إلى المازني بِأَنْ يَصِفَ عصره هذا الوصف القاتم الذي ساقه في الجزء الثاني من ديوان النقد عند حديثه عن المنفلوطي حيث قال: «إنا نعيش في عصر تفكير عميق، وعهد قَلَقٍ عظيم، واضطراب كبير، وشكٍّ مخيف، عصر تُعْتَصَر فيه العقول، ويُسْتَنْفَد في حيرته مجهود القلوب، وقد استولت الظلمة على عوالمنا السياسية والخُلُقية والعقلية، وصارت حياتنا محيطًا زاخر العباب، يَضْطَرِب بنا مَتْنُه في عَشِيِّ ليالينا المتجاوبة بصيحات الشك، والظمأ إلى المعرفة، والحنين إلى النور.»
هذه الحساسية المسرفة إلى حدٍّ يُشْبه المرض كانت خليقة إما بأن يأكل بعضُها بعضًا فتُفْنِي صاحبَها، أو تصيب ملكاته بالعقم، وتنتهي به إلى الاستسلام إلى اليأس ولزوم الصمت — كما حدث لعبد الرحمن شكري — وإما أن تسوقه إلى العناد والإسراف في الكبرياء والاعتداد بالنفس عندما يعتقد صاحبها أن المجد لم يسارع إليه ولم يطامن له من غربه — كما حدث للأستاذ عباس العقاد — وإما أن ينتصر الإنسان على نفسه وعلى الحياة بالسخرية والاستخفاف وعدم المبالاة، فيستطيع أن ينفِّس عن كافة آلامه وآماله الخائبة، أو التي يعتقد أنها خائبة، وبذلك يبلغ من المجد ما بلغه سر فانتيس عندما يئس من كل مجْد، فأخذ يسخر منه في قصة من أروع ما عَرَفَت الإنسانية من قصص، وهي قصة «دون كيشوت» التي يسخر فيها سرفانتيس من البطولة والأبطال، ومن المجد والماجدين، وإذا به يصل إلى أعلى قمم المجد بفضل هذه القصة ذاتها.
وأية حساسية وأي يأس يمكن أن يتجاوز رثاء المرء لنفسه وهو حي، بعد أن آمن بضلال أحلامه وآماله، وأصبح يخشى أن يموت فلا يرثيه أحد، وهذا هو ما يسجله المازني في رثائه لنفسه حيث قال:
وأي بَوْنٍ شاسع بين هذا الشعر اليائس الحزين وبين شعر أحد أجداده «المازنيين»، وهو مالك بن الريب المازني التميمي الذي ذَكَرَهُ المازني بين أجداده، وقد أصابه مرض شديد وهو عائد من خراسان مع واليها سعيد بن عثمان بن عفان، وأوشك على الموت، فلم يَسْخَرْ من نفسه ولا من أحلامه ولا تنكَّر لبطولته وفتكه، ولا استنكر غرامه ومغامراته، بل ذَكَرَ كل ذلك في قصيدته الرائعة:
وإن لم يمنعه ذلك من أن يتحسر على الحياة، ولا أن يغمط نفسه حقها، فيطلب إلى رفاقه أن يترفقوا به ويحترموا مرضه ويوسعوا له في قبره حيث يقول:
ولكنْ مالِكٌ كان فاتكًا من فُتَّاك العرب، الذين يغالِبون الحياة ولا يتطرق إلى نفوسهم يأسٌ قاتمٌ من الحياة والأحياء، كذلك الذي تسرَّب إلى نفس حفيده إبراهيم عبد القادر، وهو لا يزال في مستهلِّ الشباب.
وفي الحق إن بلوى إبراهيم المازني لم تكن في بيئته وفي عصره بِقَدْر ما كانت في أعصابه هو وحنايا نفسه، ولا أَدَلُّ على ذلك من هذه الأبيات يخاطب فيها شكري والعقاد بقوله:
والظاهر أن مشكلة المجد الأدبي كانت من المشاكل التي أَضْنَت المازني كما أَضْنَت صاحبيه شكري والعقاد في صدر شبابهم، وكما لا يزال يضني الكثير من الأدباء الناشئين ذوي الطموح، وكان الأولمب محتلًّا عندئذٍ بطلائع النهضة الأدبية الحديثة مثل شوقي وحافظ والمنفلوطي، بل واشتعلتْ روح المنافسة العنيفة بين أبناء الجيل الجديد ذاته، فتحزَّب المازني والعقاد ضد شكري، وقاوَمَهُم شكري مقاوَمة عنيفة فترة من الزمن، ثم ألقى سلاحه ولَزِمَ الصمت وهَجَرَ الأدب، بعد أن هاجمه المازني هجومًا عنيفًا جَمَعَ بعضه في كتاب النقد المسمى «بالديوان»؛ حيث سماه صنم الألاعيب، ولم يترك نقيصة أدبية — بل وأخلاقية — إلا نسبها إليه، والذي يبدو لنا عن سبب هذه الخصومة العنيفة هو أن شكري بحكم اطلاعه الواسع على الأدب الغربي — وبخاصة الإنجليزي — قد فرض رقابةً دقيقة على المازني، فأخذ يتتبع شِعْره ليدل على ما سماه سرقات المازني، الذي ربما كان يظن أن الآداب الغربية مجهولة أو شبه مجهولة في جيله الأول، وأن أحدًا لن يروح ينقِّب وراء اقتباساته الأدبية، أو محصول ذاكرته الغامض المختلط، أو توارُد خواطره واتفاق حالاته النفسية مع غيره من شعراء الغرب، وبخاصة شعراء الإنجليزية الذين كان يدمن قراءتهم، وإذا بشكري يتتبع كل هذا بيتًا بيتًا ويشير إليه، مما اضطر المازني إلى التسليم ببعض هذه المطابقات، وأخذ نَفْسَه بالحيطة والحذر، كما يتضح في مقدمة الجزء الثاني من ديوان شعره، وكما يتضح من مقارنة الجزء الأول والجزء الثاني؛ حيث نراه ينص في الأخير على ما ترجمه أو استوحاه من شعراء الغرب.
وأما عن الجيل السابق، فقد رَفَعَ كلٌّ من المازني والعقاد مِعْوَلَه على كتفه وأَخَذَا ينهالان عليه تحطيمًا، والذي لا شك فيه أن الجيل الناشئ كان أوسع ثقافة، وأكثر اطلاعًا ودرسًا للآداب الغربية وبخاصة الإنجليزية، ولكنه لسوء الحظ كان أضعف موهبة شعرية؛ ولذلك جاءت آراء هذا الجيل الناشئ في الشِّعر أقوى من شِعْرهم نفسه، كما أن حَمْلة النقد القوي العنيف التي قاموا بها قد مهَّدت السبيل إلى فهْم وظيفة الشعر والأدب، فَهُما أسمى من الفهم القديم، فقد حاربوا تسخير الشعر للمدح والتملق والنفاق، ودَعَوْا فيه إلى الصدق والإخلاص في التعبير عن أحاسيس الشاعر وآرائه في نفسه وفي الحياة وفي المجتمع الذي يراه في نفسه.
والواقع أن المازني الذي انتهى إلى فلسفته الهادئة الساخرة الرقيقة قد كان في صدْر شبابه عنيف الخصومة صارم اللدد، ولقد كتب هو نفسه مقالات في صندوق الدنيا وغيره، يروي فيها ذكريات شبابه، ويقرر أنه كان في طفولته عفريتًا من الجن، وأنه في معارك تلك الطفولة كان يُعَوِّض ضعْف جسمه وضآلته بجرأته البالغة، وعدم مبالاته في أي مكان يصيب مَنْ ينازله، ولا يخشى للقتال مغبَّة، وهذه الروح نستطيع أن نلمسها في نقده العنيف لحافظ إبراهيم الذي تَنَاوَلَ شِعْره في سلسلة مقالات نَشَرَها في مجلة «عكاظ»، ثم جَمَعَها في كتيِّب صغير باسم «شعر حافظ إبراهيم»، ثم استنكر هذا العنف بل هذا النقد كله في أخريات حياته، وودَّ لو طواه النسيان، وإن كنا لم نعثر له على مثل هذا الندم بالنسبة لعبد الرحمن شكري الذي سماه صنم الألاعيب، وإن يكن قد أَسْقَطَ من ديوانه الشعري بعض أبيات من قصيدة هجاء عنيف لشكري «كان الغضب والسخط قد أملياها» ومع ذلك ظَلَّت القصيدة بالِغَة العنف، وهي التي مَطْلعها:
كان لنا صديق أَخْلَصْنا له الولاء وصَدَقْناه الإخاء، فما زال يوهن من حبلنا، ويفصم من عرى وُدِّنا حتى انفرجت الحال، ووقعت النبوة، وجرى بيننا كلام، فبَعَثْنا له بهذه القصيدة.
هذا المازني الشاب البالغ العنف، المفرط الحساسية، هو الذي أصبح فيما بعدُ المازنيَّ الهادئ الوديع، الساخر المستخف بالحياة وما فيها من آمال وآلام، المتسامح فيما له من حق، وإن ظل يتمسك بما عليه من واجب، فلا تهتُّك ولا انحلال، ولكن لا خصومة ولا عنف، ولا تعصُّب حزبي في الأدب أو السياسة أو الحياة الخاصة، وإن يكن المازني الأول لم يَفْنَ تمامًا كما زعم، بل ظل كامنًا يطالعنا بنبراته بين الحين والحين، كما يلون السخرية بروح الشعر أو يلهبها بنار العاطفة، وبذلك اجتمعت له الصفتان اللتان يرى فيهما الكاتب الفرنسي الكبير جورج ديهامل أَهَمَّ خصائص الموهبة الأدبية، وهما الدعابة الساخرة والروح الشعرية، وبهما أنقذ أَدَبَه الذي يكاد يدور كله حول شخصه ومشاكل حياته، فأدبه أدبٌ شخصي لا موضوعي، ومشاكل عصره أو مجتمعه التي يعرض لها، لا ينظر إليها في ذاتها وإنما يراها من خلال نفسه، ويلونها بلون الوقع الذي أحدثته فيها.
هذه هي فلسفة المازني في الحياة، حاوَلْنا أن نَرُدَّها إلى ظروف حياته وعصره، موضحين التطور الواسع الذي مرَّت به نظْرته إلى الحياة، وانتصاره على نفسه وتغلُّبه على آلامه ومِحَنه، ومشقات حياته بفضل تلك الفلسفة، وإن ظَلَّت طبيعته العضوية، وخصائص نفسه المفطورة تُغَالِب تلك الفلسفة وتغلبها بين الحين والآخر، فنلمح المازني العاطفي الحساس الثائر المتمرد والمتشائم الساخط.
وفي الحق إن تحديد روح الكاتب وخصائص نفسه وأسلوبه في الحياة إنما هو تحديد لمكانة الكاتب ولقيمة فنه؛ لأن العبرة بالروح والأسلوب وبالفلسفة الحيوية التي يصدر عنها الكاتب، وأما ما دون ذلك فيدخل في صور الأدب وقوالبه وأصوله الفنية، وكلها أمور لا يمكن أن تَجْعَل من الإنسان كاتبًا موهوبًا مؤثِّرًا في الإنسانية؛ لأن الروح هي التي تؤثِّر، وهي التي تخاطب الأرواح.
بهذه الروح، وتلك الفلسفة، قَرَضَ المازني الشعر، كما تناوَل غيرَه بالنقد، ثم كتب المقال والقصة والأقصوصة، فهو شاعر وناقد وكاتبُ مقالٍ وقَصَّاص، ولكن شعره ونقْده صَدَرَا عن طبيعته الأولى، وقبل أن تستوي له فلسفته الساخرة الهادئة المستخفة، بينما يصدر بقية إنتاجه عن تَطَبُّعه الأخير الذي أوشك أن يصبح طبعًا، بل وأوشك أن يصبح في آخر حياته تصنُّعًا في بعض الأحيان، حيث تخطئ السخرية مجالها وتبدو الفكاهة مجتلبة غير مواتية، وهذا عيب يتعرَّض له الكثير من الكُتَّاب عندما يتمذهبون، على نحو ما نجد عند بعض الكتاب العالميين أَنْفُسِهم، كما نجده عن كبار كتابنا المعاصرين.
ولعل أناتول فرانس من الأمثلة الواضحة لهذه الحقيقة؛ إذ نرى مذهبه في الشك وعدم الجزم والنفور من البت في المسائل بآراء قطعية، ينتهي به إلى نوع من الفوضى العقلية، التي لا تبت في شيء، ولا تلتزم بشيء، وكأنها تهرب من كل مسئولية، بل وتهرب من الحياة، مما دعا إلى ظهور مذهب جديد في الأدب وفي الحياة، ينادون به اليوم في فرنسا، وهو مبدأ الالتزامية في الأدب؛ أي: ضرورة تحمُّل الكُتَّاب لمسئولية الرأي والجزم فيه بوجهة نظرهم، فلا يَكْتَفُون مثلًا بأن يصفوا بؤس البائس أو شقائه، بل يجب أن يحكموا ككُتَّاب ذوي رسالة ومسئولية في هذا البؤس والشقاء، فيستنكروه أو يبرروه، ويتحملوا مسئولية رأيهم، ويلتزمون بها أمام قرائهم، ولعلنا نستطيع أن نجد أمثلة لتلك المذاهب أو الاتجاهات التي تستفحل أحيانًا فيصيبها الوهن، وتجانب صدق الحياة واتزانها عند كاتبِين مصريين معاصرين كالعقاد وطه حسين، حيث استفحل منهج العقاد العقلي وجدله الفلسفي، فجنح في أحيان كثيرة إلى المغالطة العقلية، أو اقتسار الجدل وتسخيره ضد الحقائق التي تكاد تكون بديهية، وحيث نجد موسيقى الألفاظ وسهولة التعبير وانطلاقه تجنح عند طه حسين نحو فيضان الألفاظ المسرف، وذوبان ذرات المعاني أو الأحاسيس في ذلك الطوفان اللفظي، وبالمثل استفحلت السخرية والاستخفاف، بل والشك وعدم الجزم عند المازني؛ حتى أوشكت أن تصبح أحيانًا اصطناعًا أو فوضى عقلية.
والآن، وقد تتبعنا روح المازني منذ ثورة شبابه حتى فلسفة رجولته، واستفحال تلك الفلسفة في أخريات حياته وصيرورتها مذهبًا يكاد يُضْعِف من قيمتها الإنسانية، ويَخْرُج بها عن جادة الصدق وخدمة الحياة، وانتصار الإنسانية على مِحَن تلك الحياة وآلامها، وتُلْقيها بروح راضية مطمئنة — بل باسمة مستخفة — نستطيع أن ننتقل إلى الحديث عن الصور الأدبية لفن المازني كشاعر وناقد وكاتبِ مقالٍ وقَصَّاص، وذلك ما سوف نُجْمِل عنه الحديث في المحاضرات القادمة.