المازني والمقالة
وعلى أية حال يمكن القول بأن المازني قد هَجَرَ الشعر إلى المقالة النثرية وإلى الصحافة منذ أن اندلعت الثورة الوطنية الكبرى في سنة ١٩١٩، عندما أَخَذَ يكتب في جريدتَي «الأفكار» و«الأخبار» مقالاتٍ وطنيةً متأججة بإمضاء «مُطَّلِع» ساهَم بواسطتها في بث الوعي الوطني القوي مع المرحوم أمين الرافعي الكاتب الوطني الكبير مساهَمَةً فَعَّالة، حتى إذا تَصَدَّعَتْ جبهة الثورة وانشقت إلى أحزاب، فترتْ حماسته السياسية بعض الشيء، وإذا كانت أرستقراطيته العقلية قد مالت به نحو أحزاب الأقلية غير الشعبية، فإن تجاربه مع رجال السياسة ورجال الأحزاب لم تلبث أن زادته فتورًا، حتى استقر على رأيٍ في الأحزاب أَجْمَلَهُ في كتابه «من النافذة» ص٨٥-٨٦ حيث يقول: ما هذه الأحزاب السياسية التي نراها؟ أليست صورة أخرى للأشراف الذين عفى على عهدهم الزمن؟! والذين كانوا لا يَنْفَكُّون يقتتلون على السلطان والمجد؟! والأحزاب تطلب الحكم، وتزعم أنها إنما تبغيه لتخدم بلادها! وإنها لصادقة، ولكنها كاذبة أيضًا؛ هي صادقة لأن غرور الإنسان يجعله يتصور أنه أخطر ممن عداه، ولأنه لا داعي لأن يفرض المرء أن هذا الحزب أو ذاك إنما يَنْشُد الحُكْم ويسعى لولاية الأمر ليسيء عمدًا، فما يفعل ذلك إلا عدو أو خصم للجماعة كلها، أو مضغن على العالم يريد — كما يقول المتنبي — أن يروي رمحه غير راحم، ولكنها كاذبة حين تزعم أن غايتها الخير للجماعة وحدها، وأنها لا تبغي لنفسها جاهًا أو سلطانًا، ولا يعنيها أن تنعم بمزايا الحكم، على أن إرادة الحكم لما يفيده من المزايا، لا تنفي الإخلاص في إرادة الخير للجماعة، والصدق في دعوى التنزه عن المآرب الشخصية.
ووَجْه الصدق والإخلاص هنا أن الإنسان يظل يلهج بخير الجماعة حتى يوحي ذلك إلى نفسه فيصبح وهو يعتقد أنه لا يبغي إلا هذا الخير العام، وأنه لو جاءه هو خير عن طريق الحكم لَزَهِدَ فيه وأَعْرَضَ عنه، فالذي يحسه من نفسه ويعرفه من غاياته هو هذا الخير للجماعة، والمستور عنه بفعل الإيحاء الملح هو المجْدُ الشخصي والمطامع الذاتية، ويمضي في الحديث عن الحزبية والأحزاب في نفس الموضع من الكتاب إلى أن يقول: «وكل حزب في الدنيا عبارة عن أحزاب شتى، وكل مَنْ فيه ينشد البروز والارتقاء إلى القمة، والحرب دائرة أبدًا بلا فتور، والسلاح لا يُلْقى في الليل أو النهار، فهذا يؤخِّر نفسه ويقدِّم غيره، ويتخذ من مظهر إنكاره الذات وسيلة للكيد لمنافس له، وما يُقَدِّم غيره على نفسه إلا ليكون آلة في يده، وتراه لا يَكُفُّ عن الثناء عليه والشهادة له ليجعله أَلْيَن في يده لفرط ما يَسُرُّه كل ساعة، ويلازمه ولا يفارقه ولا يدعه يغيب عن عينيه لحظة؛ ليأسره بمظهر الإخلاص؛ وليصبح وجوده إلى جانبه عادة له؛ وليَمْنَع من أن يتمكن من أُذُنِه غيره، ويرى غيرُهُ هذا فيسخطون ويتبرمون، ويتجه سعيهم إلى التفرقة، وقد يتعمدون أن يكتموا النصيحة والرأي السديد ليبدو خطل الرجل وصاحبه، وتسأل عن الخير العام للجماعة فلا تراه، وإنما ترى منافسات وأحقادًا ودسائس وسعايات لا آخر لها، وتسأل عن إرادة الخير ماذا صَنَعَ الله بها فلا تكاد تَتَبَيَّنها.»
وهذا الرأي الصحيح في جملته هو الذي صَرَفَ المازني عن أن يتعصب لحزب من الأحزاب، ولعلنا نستطيع أن نضيف إليه ما سمعناه منه شخصيًّا من سوء الظن بالأحزاب ورجالها، واستغلالهم لرجال الفكر والقلم لتحقيق مطامعهم، وجذْب الشعب إليهم، ثم تَنَكُّرهم بعد ذلك لكل صاحب رأي، بعد استغلال مجهوده بالطرق السياسية الملتوية غير الشريفة، التي ينفر منها رجال الفكر، بل ويعجزون عن حذقها، فضلًا عن اصطناعها.
وإذا كان المازني قد عاد في آخر حياته إلى مناصرة النقراشي وحزبه، بكتابة المقالات السياسية في جريدة الأساس، فقد كان ذلك لزمالةٍ وصداقةٍ قديمة بالنقراشي، الذي تخرَّج معه في نفس العام من مدرسة المعلمين العليا، كما كان لإيمانه الخاص بنزاهة النقراشي وسلامة قصده، وهُما صفتان كان يرى فيهما ما يشفع لضيق الأفق أو عدم اتساع الحيلة.
وعلى أية حال فقد أراد الله بالمازني وبالأدب العربي الحديث خيرًا، عندما صَرَفَه عن الحزبية والأحزاب، رغم اشتغاله بالصحافة واحتلاله مكانًا في الصدارة بين كُتَّابها، كما أراد بهما خيرًا عندما صَرَفَه عن الشعر وهداه إلى فلسفته الرائعة التي صدر عنها في نثره؛ إذ كتب مجموعات من المقالات تُعْتَبَر من خير ما كُتِبَ في الأدب العربي الحديث، وهي مجموعات «حصاد الهشيم»، و«قبض الريح»، و«صندوق الدنيا»، و«خيوط العنكبوت»، و«من النافذة»، و«ع الماشي»، وهي مقالات تَجْمَع بين الأبحاث والدراسات الاجتماعية والنقدية، وبين المقالات الفكاهية والقصصية والوصفية والتصويرية، وجانب كبير منها — إن لم يكن معظمها — يدور حول حياته الخاصة وذكريات طفولته وشبابه، والحياة في بيئته المصرية في البيت والمدرسة والشارع والتدريس والصحافة والمجتمع، وفيها مادة إنسانية غزيرة، وروح ساخرة أو شاعرة رقيقة نافذة.
والملاحظ أن فن المقالة قد تَطَوَّرَ تطورًا ملحوظًا عند المازني، الذي كان يحفل في أول حياته بالمطالعة والدرس وتجويد الأسلوب، ثم أَخَذَ يغترف بعد ذلك من حياته الحاضرة والماضية، ومن حياةِ مُجْتَمَعِه، ويسترسل في أسلوبه؛ فلا يجري وراء تجويد، ولا يغوص خلف لفظ أو تعبير، وإنما ينطلق على سجيته، ولا يَنْفر من اللغة الدارجة عندما يُحِسُّ أنها أكثر مواتاة وأصدق تعبيرًا؛ لأنه هو نفسه يعترف بأن الصحافة إذا كانت قد جنحت به نحو السرعة والسطحية، فإنها قد نأت به عن اللفظية والأكاديمية، وقَرَّبَت بينه وبين الحياة التي تُعْتَبَر الصحافة من أهم مراصدها، وإذا كان من الحق أن الصحافة قد جَنَتْ على أدبه بطول الزمن، وطَغَتْ عليه بعض الشيء بعيوبها المعروفة، فإن من الحق أيضًا أن الصحافة لا تَحْمِل الوزر كله، وإنما يشاركها فيه كبار كُتَّابها عندما يَطْمَئِنُّون إلى ذيوع صيتهم واستحواذهم على ثقة الجماهير وإعجابهم، وإقبال أصحاب الصحف عليهم لترويج صحفهم، فتقلُّ قسوتهم على أنفسهم، ويَضْعُف احتفالهم بما يكتبون وتشدُّدهم في التجويد والعمق والابتكار، مما يصح معه قول ديهامل: «إن النجاح قبر مُذَهَّب.»