تاريخ التوراة العبرانية
التوراة العبرانية، هو الكتاب المقدس عند اليهود، ويُشكل القسم الأول من الكتاب المقدس المسيحي تحت اسم «العهد القديم». ويؤمن كلا الطرفين بأن أسفار هذا الكتاب قد دُوِّنَت بإلهامٍ من روح الله، على الرغم من أن يد البشر هي التي خطَّته.
والتوراة أشبه بمكتبةٍ منها بكتاب؛ فهي مجموعةٌ من الكتب عكف على تدوينها محرِّرون مختلفون وعلى فتراتٍ زمنيةٍ متباعدةٍ، ولكن فكرة واحدة تنتظمها جميعًا، وهي علاقة الإله يهوه بشعب إسرائيل الذي اختاره شعبًا خاصًّا له، وسار إلى جانبه عبر جميع مراحل تاريخه. أما عن زمن تدوين هذه الكتب فأمرٌ خلافيٌّ بين علماء التوراة، ولكن الرأي الأكثر قبولًا لدى معظمهم اليوم هو أنها قد دُوِّنت بعد عودة سبي يهوذا من بابل، وعلى مدى قرنَين أو ثلاثة قرون، وذلك من أواسط القرن الخامس قبل الميلاد إلى أواسط القرن الثاني قبل الميلاد. وبما أن التاريخ الذي تكتبه التوراة لشعب إسرائيل القديم ينتهي مع تدوين سفر نحميا، وأن آخر حدثٍ في هذا السِّفْر هو سِفْر نحميا إلى البلاط الفارسي عام ٤٣٣ق.م.، فإن المحررين الذين عكفوا على رواية تاريخ بني إسرائيل، كانوا يقصُّون عن أحداثٍ معظمها مغرق في القِدَم وتفصلهم عنها قرون متطاولة. وهذا ما يُلقي اليوم ظلالًا من الشك على مصداقية الرواية التوراتية، التي دُوِّنَت من وجهة نظر دينيةٍ، وعلى قيمتها التاريخية.
- (١)
كتاب حروب الرب: (سِفْر العدد ٢١: ١٤).
- (٢)
سِفْر ياشر: (سِفْر يشوع ١٠: ١٣ وصموئيل الثاني ١: ١٨).
- (٣)
سِفْر أمور سليمان: (سِفْر الملوك الأول ١١: ٤١).
- (٤)
سِفْر أخبار الأيام لملوك يهوذا: (سِفْر الملوك الأول ١٤: ١٩ و١٥: ٧).
- (٥)
سِفْر أخبار الأيام لملوك إسرائيل: (سِفْر الملوك الثاني ١: ١٨ و١٤: ٢٨).
- (٦)
أخبار صموئيل الرائي: (سِفْر أخبار الأيام الأُوَل ٢٩: ٢٩).
- (٧)
أخبار ناثان النبي: (سِفْر أخبار الأيام الثاني ٩: ٢٩).
- (٨)
أخبار شمعيا النبي وعِدُّو الرائي: (سِفْر أخبار الأيام الثاني ١٢: ١٥).
- (٩)
أخبار ياهو بن حناني: (سِفْر أخبار الأيام الثاني ٢٠: ٣٤).
- (١) الأسفار الخمسة، أو اﻟ Pentateuch باللغة اليونانية. وتُدْعَى أيضًا بأسفار موسى الخمسة؛ لأن الأسطورة تعزو إلى موسى نفسه أصولها الأولى. وهي: التكوين، والخروج، واللاويين، والعدد، وتثنية الاشتراع. تنقسم موضوعات سِفْر التكوين إلى قسمَين؛ في القسم الأول يقصُّ المحرر عن خلق العالم وخلق نباتات الأرض وكائناتها الحية ثم خلق الإنسان، وعن الأجيال الأولى للبشرية، وعن الطوفان الكبير الذي أفناها، ثم عن عروق البشر التي تسلسلت من أولاد نوح الثلاثة؛ وفي القسم الثاني يرُكز على سيرة أسرةٍ واحدة فقط هي أسرة الأب الأول إبراهيم، وأولاده وأحفاده وصولًا إلى يوسف الذي رحل إلى مصر واستقدم إليه أباه إسحاق وإخوته الأحد عشر، حيث تكاثروا هناك ثم وقعوا تحت نير العبودية بعد وفاة يوسف.
في سِفْر الخروج، وسِفْر العدد، واللاويين، وتثنية الاشتراع، يقصُّ المحرر عن خروج موسى ببني إسرائيل من مصر وإنقاذهم من العبودية، وإعطائهم الشريعة التي تلقَّاها من الرب، والسير بهم إلى الأرض التي وعد الرب إبراهيم أن يعطيها لنسله.
- (٢) الأسفار التاريخية: وتحكي قصة بني إسرائيل منذ دخول أرض كنعان حتى العودة من السبي البابلي، وهي:
-
سِفْر يشوع: ويحكي قصة الاقتحام العسكري لفلسطين، أو بلاد كنعان كما يدعوها النص التوراتي، وذلك بقيادة يشوع بن نون خليفة موسى، وكيف وزَّع يشوع الأراضي المكتسبة على القبائل الإسرائيلية الاثنتي عشرة، ويُفترض أن أحداثه قد تمَّت في آخر القرن الثالث عشر قبل الميلاد.
-
سِفْر القضاة: ويغطي أحداثًا جرت على مدى قرنَين من الزمان فيما بين عام ١٢٠٠ق.م. و١٠٣٠ق.م. وقد عاش بنو إسرائيل خلال هذه الفترة دون سلطةٍ مركزيةٍ تجمعهم، وكانوا موضع اضطهادٍ وتعدياتٍ من قبل ممالك الفلسطينيين المجاورة لهم، وممالك شرقي الأردن.
-
سِفْر صموئيل الأول: ويحكي قصة صعود الملك شاؤل وتأسيسه لأول سلطةٍ مركزيةٍ للقبائل الإسرائيلية، وحروبه مع أعداء بني إسرائيل حتى مقتله في آخر معركة له مع الفلسطينيين. ومن المفترض أن شاؤل قد حكم من عام ١٠٣٠ق.م. إلى عام ١٠٠٩ق.م.
-
سِفْر صموئيل الثاني: ويقصُّ عن عصر الملك داود الذي بدأ حياته العامة كحامل لسلاح الملك شاؤل، وكيف شقَّ طريقه في الجيش والحياة العامة وصولًا إلى كرسي الملك، وكيف أسَّس بعد ذلك لمُلْك مستقر، ووسَّع حدود ممتلكاته التي امتدَّت من حدود مصر إلى نهر الفرات. ومن المفترض أن داود قد حكم من ١٠٠٩ق.م. إلى ٩٦٩ق.م.
-
سِفْر الملوك الأول: ويقصُّ عن العصر الذهبي للمملكة الموحَّدة لكل إسرائيل، إبَّان فترة سليمان بن داود، وعن حكمته وثرائه وأعماله وسلطته على كل مَنْ حوله من الممالك، وبنائه لبيت الرب في العاصمة أورشليم، ومنجزاته العُمرانية الأخرى، ثم وفاته وانقسام مملكته إلى مملكةٍ شماليةٍ تُدْعَى إسرائيل (أو السامرة فيما بعد)، ومملكة جنوبية تُدْعَى يهوذا عاصمتها أورشليم. ومن المفترض أن سليمان قد حكم من ٩٦٩ق.م. إلى عام ٩٣١ق.م.
-
سِفْر الملوك الثاني: ويتناول الأحداث التي جرت في المملكتَين، ودورهما في الصراعات الإقليمية، وصولًا إلى نهاية مملكة إسرائيل وتدمير عاصمتها السامرة من قبل الآشوريين عام ٧٢١ق.م.، ثم نهاية مملكة يهوذا بعد ذلك بنحو قرنٍ ونصف القرن، وتدمير عاصمتها أورشليم على يد الكلدان البابليين عام ٥٨٧ق.م. وقد أعقب كلا التدميرين سبيٌ واسع النطاق لسكان المملكتَين باتجاه مناطق بلاد الرافدَين.
-
سِفْرا أخبار الأيام الأول والثاني: ويعيد هذان السِّفْران (اللذان كُتِبَا في وقتٍ متأخر) سَرْد الأحداث الواردة في أسفار صموئيل والملوك من منظورٍ سياسيٍّ وأيديولوجي مختلف.
-
سِفْرا عزرا ونحميا: ويقصَّان عن عودة سبي يهوذا من بلاد بابل وإعادتهم لبناء مدينة أورشليم المهدَّمة، وبناء هيكل سليمان القديم بشكلٍ أكثر تواضعًا. وعلى هذا الشكل تنتهي الرواية التوراتية نحو أواسط القرن الخامس قبل الميلاد.
-
سِفْر أستير: ويحكي قصة فتاة يهودية تُدْعَى بهذا الاسم، تزوَّجها الملك الفارسي، وقد أفادت من مكانتها لديه وحَمَتْ شعبها من الإبادة التي كان يُخطط لها الوزير هامان.
-
- (٣)
أسفار الحكمة: مجموعة أسفارٍ يغلب عليها التأمل الفلسفي، وهي: راعوث، ويونان، وأيوب، والأمثال، والمزامير، ونشيد الإنشاد.
- (٤)
أسفار الأنبياء: وتحكي عن حياة وتعاليم ونبوءات عددٍ من أنبياء بني إسرائيل، وهم: إشعيا، وإرميا، وحزقيال، ودانيال، وهوشع، ويوئيل، وعاموس، وعوبديا، ويونان، وميخا، وناحوم، وحبقوق، وصفنيا، وحجي، وزكريا، وملاخي.
عندما اكتملت الترجمة السبعينية للتوراة في أواسط القرن الثاني قبل الميلاد، على يد عددٍ متنوعٍ من المترجمين وعبر عقودٍ طويلةٍ متتاليةٍ، كانت هذه الفترة تشهد نشاطًا أدبيًّا يهوديًّا لا مثيل له في الفترات السابقة، الأمر الذي أدى إلى ظهور أسفارٍ توراتيةٍ جديدة كتبها مُؤلفون مجهولون ونسبوها إلى شخصياتٍ توراتيةٍ بارزةٍ. وعندما شاع تداول هذه الأسفار الجديدة بين اليهود (وبعد ذلك بين المسيحيين)، وذابت الفوارق بين ما هو قانونيٌّ وغير قانونيٍّ في الأدبيات التوراتية، لا سيَّما بعد دمار أورشليم على يد الرومان عام ٧٠م، وفقدان السلطة الدينية المركزية، ارتأى عددٌ من الربانيين اليهود وَضْع حدٍّ لهذه الفوضى، فاجتمعوا في مدينة يمنيا (يبنة القديمة) قرب حيفا، من أجل إقرار قراءةٍ موحدةٍ للأسفار من بين قراءاتٍ متعددةٍ، وأيضًا من أجل إقرار الأسفار التي اعتبروها مُلهمةً من الرب، والأسفار الأخرى الزائفة. وبذلك ظهر إلى الوجود النص الموحد للتوراة العبرانية الذي بين أيدينا اليوم، وعدد أسفاره ٣٩ سِفْرًا، بعد أن استبعد مجمع يمنيا الأسفار الثمانية الزائدة في الترجمة السبعينية التي كُتِبَت أصلًا باليونانية، وغيرها من الأسفار العبرية التي اعتُبِرَت زائفةً، ولكن القول بأن نص مجمع يمنيا الموحد هو النص الذي بين أيدينا اليوم، ليس دقيقًا تمامًا؛ وذلك لأننا لا نملك نسخةً من ذلك النص من جهة، ومن جهةٍ أخرى لأن النص القانوني الأول كان مكتوبًا بالأحرف العبرية الساكنة، وكان تحريكه يعتمد على التقاليد الشفوية المتوارثة. أما النص الحقيقي الذي يُشكل أساس الترجمات الحديثة فهو النص الماسوري المحرَّك الذي أنجزه العلماء الماسوريون أثناء الفترة الانتقالية من القرن التاسع إلى القرن العاشر الميلادي، انطلاقًا من النص القانوني لمجمع يمنيا، وكلمة ماسوريين وماسوري مُشتقةٌ من ماسوراه التي تعني التقليد أو الموروث؛ لأن علماء الكتاب في ذلك الوقت قرَّروا وَضْع الصيغة التقليدية النهائية لقراءة كتاب التوراة؛ خوفًا من الاختلاف في القراءات بعد أن صارت اللغة العبرية القديمة في عداد اللغات الميتة، وحلَّت محلها لهجات عبرية شعبية كان اليهود يستعملونها في حياتهم اليومية.
حتى أواسط القرن العشرين كان الاعتقاد سائدًا لدى علماء التوراة بأن النص الماسوري المنقط الذي يعود في أصوله إلى نص مجمع يمنيا، هو أقدم نصٍّ مكتوب للتوراة، وأننا لن نعثر في المستقبل على ما هو أقدم منه. ولكن حدث في عام ١٩٤٨م اكتشافٌ غَيَّر مجرى الدراسات التوراتية، حين بدأت الوثائق المعروفة بمخطوطات البحر الميت تظهر تِباعًا من كهوف وادي قمران على السفوح الغربية للمرتفعات الفلسطينية المنحدرة نحو البحر الميت، وقد تبيَّن أنها من نتاج فرقةٍ يهوديةٍ غير أرثوذوكسية (ربما كانت الفرقة الأسينية) كانت تُقيم في دير في هذه البوادي البعيدة عن المراكز الحضرية، وقد تمَّ العثور بين هذه المخطوطات على نصوصٍ كاملةٍ لعددٍ لا بأس به من أسفار التوراة، إضافة إلى نصوص منقوصةٍ أو شذرات نصوصٍ من بقية الأسفار. وبما أن مخطوطات قمران تعود بتاريخها إلى القرن الأول قبل الميلاد والنصف الأول من القرن الأول الميلادي (تمَّ تدمير دير قمران نحو عام ٧٠م من قِبَل الرومان)، فإن أقدم مخطوط لكتاب التوراة الآن هو مخطوط قمران الذي يفوق في القدم نص مجمع يمنيا بنحو قرنَين من الزمان.
وقد ألقت هذه المخطوطات ضوءًا على أصول الترجمة السبعينية، التي كانت تبدو بين بقية الترجمات اليونانية تنتمي وحدها إلى تقليدٍ مختلفٍ وأصلٍ مستقل. كانت لفافة سِفْر إشعيا أول ما تمَّ ترميمه ودراسته. وقد تبيَّن أنها تتبع بدقةٍ النص الماسوري حتى في أصغر جزئيات التهجئة، الأمر الذي أكد قِدَم أصل النص الماسوري، إلا أن العثور بعد ذلك على لفافة سِفْر صموئيل الأول، قد قدَّم للعلماء مفاجأةً؛ لأنه قدَّم لنا نصًّا يتفق مع الترجمة السبعينية كلمة فكلمة تقريبًا، الأمر الذي دلَّ على أن جماعة قمران كانت تحتفظ بلفائف تنتمي إلى أكثر من أصلٍ وتقليدٍ، وأن الترجمة السبعينية تُمثِّل فعلًا تقليدًا يختلف عن تقليد النص الماسوري. أما عن الأسفار الثمانية الزائدة في الترجمة السبعينية، فقد قُيِّض لها الاستمرار في النص المقدس للعهد القديم عندما تبنَّت الكنيسة الكاثوليكية النص الماسوري وأضافت إليه هذه الأسفار التي دُوِّنَت أصلًا باللغة اليونانية، واعتبرتها أسفارًا قانونيةً من الدرجة الثانية، ولكن حركة الإصلاح البروتستانتي التي انطلقت في القرن السادس عشر عادت إلى التقليد القديم، والتزمت في عهدها القديم الأسفار العبرية فقط، والبالغ عددها ٣٩ سِفْرًا.
John Allegro, The Dead Sea Scrolls, Penguin Books, 1996.