النبي إليسع
لا يَرِد ذكر إليسع، أو أليشع كما يُدْعَى في التوراة، إلا مرتين في القرآن باعتباره من أنبياء الله الصالحين، ومن دون إعطاء أي تفصيلاتٍ عن سيرته وقومه وأعماله:
وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ (٦ الأنعام: ٨٥–٨٦).
وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ (٣٨ ص: ٤٨).
ولإلقاء مزيدٍ من الضوء على هذه الشخصية النبوية التوراتية، سنُقدِّم فيما يأتي نبذةً مختصرةً عن سيرته اعتمادًا على سِفْر الملوك الثاني، الإصحاحات من ٢ إلى ١٠.
بعد أن غادر النبي إيليا الأرض وصعد في عربةٍ نارية إلى السماء، أمسك تلميذه أليشع برداء إيليا الذي سقط عنه، ورجع ووقف على شاطئ الأردن وقال: أين هو الرب إله إيليا؟ ثم ضرب الماء بالرداء فانفلق وسار على اليبس. فقال من رآه من الناس: قد استقرَّت روح إيليا على أليشع.
تابع أليشع مهمة إيليا في التبشير في المملكة الشمالية. وكانت أولى معجزاته في مدينة أريحا التي عبر إليها بعد أن فلق الماء. فقد جاء إليه رجال المدينة وقالوا له: إن نبع الماء الذي يشربون منه قد صار رديئًا وغير صالحٍ للشرب. فجاء أليشع إلى النبع وطرح فيه بعض الملح، فصار ماؤه سائغًا لا شائبة فيه. ثم خرج من هناك إلى جبل الكرمل حيث أقام مدة يتعبَّد، عاد بعدها إلى مدينة السامرة، فجاءت إليه امرأة أرملة كانت زوجة لرجلٍ صالحٍ، وقالت له: إن المرابي يطالبها بدَيْن على زوجها ويهدِّدها بأخذ ولديها عَبْدين له إذا امتنعت عن تسديد الدَّيْن. فقال لها أليشع: ماذا يوجد في بيتك؟ فقالت: ليس عندي إلا بقية من زيتٍ لا تُسمن ولا تغني من جوعٍ. فقال لها أليشع أن تجهِّز أوعيةً فارغةً وتصب فيها من الإناء الذي يحتوي على بقية الزيت، فإذا امتلأت فعليها أن تستعير من جيرانها أوعيةً أخرى وتملأها أيضًا. ففعلت ذلك وباعت الزيت وسدَّدت الدين وعاشت بالباقي.
وعلى الرغم من الودِّ المفقود بين أليشع وأسرة الملك آخاب، إلا أنه أنقذ ابن آخاب الذي ورثه على العرش يهورام من الهلاك عطشًا هو وجيشه. وتفصيل القصة أن يهورام ملك إسرائيل ويهوشافاط ملك يهوذا اتفقا على السير معًا لمحاربة ملك مؤاب، ثم عقدَا حلفًا مع ملك آدوم في الجنوب، وتوجَّهت جيوشهما معًا لاصطحابه معهما. وعندما تقدَّمت الجيوش الثلاثة في برية آدوم نفدت لديهم مئونة الماء، فداروا سبعة أيامٍ ولم يجدوا ماءً للجيش والبهائم. فقال يهوشافاط ملك يهوذا: أليس هنا نبي للرب فنسأل الرب به؟ فأجاب واحد من ضُباط يهورام ملك إسرائيل وقال: هنا أليشع الذي كان يخدم إيليا. فجاءوا به. فقال أليشع ليهورام: ما لي ولك، اذهب إلى أنبياء أُمك وأبيك (أي أنبياء البعل وعشيرة). فقال له يهورام: كلَّا لا أذهب لأني رأيت أن الرب قد دعا هؤلاء الملوك الثلاثة ليهلكهم على يد ملك مؤاب. فقال له أليشع: لولا أنِّي أريد أن أرفع وجه يهوشافاط ملك يهوذا ما كنت أنظر إليك. لا ترون ريحًا ولا مطرًا ولكن هذا الوادي يمتلئ ماءً فتشربون. وفي الصباح ذبح وأوقد وأصعد محرقة، وإذا مياه آتية عن طريق آدوم وامتلأت الأرض ماءً.
وكانت امرأة من بلدة شونم تستضيف أليشع كلما عبر إلى البلدة، فقالت لزوجها أن يبني له غرفةً على السطح ليضطجع فيها كلما مرَّ بهم. وفي أحد الأيام جاء واضطجع في الغرفة وقال لغلامه أن يدعو المرأة إليه. فسألها ماذا يستطيع أن يفعل من أجلها لقاء معروفها. فقالت له إن ما يُنغِّص حياتها هو عدم إنجاب طفلٍ لزوجها. فقال لها إنه في مثل هذا الوقت من العام القادم يكون لها ولدٌ. فحبلت المرأة ووضعت صبيًّا بعد تسعة أشهرٍ. وفي ذات يومٍ خرج الولد مع أبيه إلى الحصاد، فأصابه وجعٌ في الرأس، فعاد إلى البيت وجلس على ركبتَيْ أمه إلى الظُّهر ومات. فصعدت إلى غرفة أليشع وأضجعت الولد على سرير أليشع، ثم انطلقت على أتان إلى رجل الله في جبل الكرمل. عندما علم أليشع بالأمر نزل وانطلق معها، فدخل الغرفة وتمدَّد فوق الغلام فسخن جسده، وما لبث أن عطس سبع عطساتٍ وفتح عينيه.
وأصاب البرص نعمان قائد جيش ملك دمشق، وكان ذا حظوةٍ لدى الملك. فسمع بوجود نبيٍّ في السامرة مُستجابٍ عند الرب، فأرسل كتابًا بيد نعمان إلى ملك السامرة يقول فيه: قد أرسلت إليك نعمان عبدي فاشفه من برصه عند وصول هذا الكتاب. فلما قرأ ملك إسرائيل الكتاب، اعتقد أن ملك دمشق يحاول خلق مسوغات لغزو عاصمته السامرة. فمزَّق ثيابه وقال: هل أنا إله لكي أُحييَ وأُميت؟ فلما سمع أليشع بأن ملك إسرائيل قد مزَّق ثيابه أرسل إلى الملك يقول: لماذا مزقت ثيابك؟ ليأتِ نعمان إليَّ فليعلم أنه يوجد نبي في إسرائيل. فجاء نعمان بخيله ومركباته ووقف عند باب أليشع. فأرسل أليشع إليه من يقول له: اذهب واغتسل سبع مراتٍ في نهر الأردن فيرجع إليك لحمك وتطهر. فغضب نعمان وقال: أليس نهرا دمشق إبانه وفرفر أحسن من جميع مياه إسرائيل؟ أما كنت أغتسل بهما فأطهر؟ ولما ألحَّ عليه مرافقوه أذعن وغطس في مياه الأردن سبع مرات فشُفِيَ. ورجع إلى أليشع وقال له: الآن عرفت أنه لا يوجد إله إلا في إسرائيل.
وكان بعد مدةٍ أن الصراع قد احتدم بين دمشق والسامرة. ووصلت جيوش آرام إلى السامرة وحاصرتها. وعندما طال الحصار عمَّت المجاعة في المدينة وفُقِد القمح والشعير. فاعتقد ملك إسرائيل أن أليشع هو المسئول عن ذلك بلعناته التي يستنزلها على إسرائيل، فأقسم أن يقطع رأسه، وأرسل إليه ضابطًا وثُلة من الجنود لتأتي به، فقال لهم أليشع: غدًا يكون الدقيق متوفِّرًا حتى تصبح كيلته بشاقل واحد وكيلتا الشعير بشاقل في باب السامرة. فقال له أحد الجنود ساخرًا: وهل يصنع الرب كُوًى في السماء يُنزل منها القمح والشعير؟! وكان في المساء أن الرب أسمع جيش دمشق صوتَ مركباتٍ وخيلٍ لجيش عظيم، فظنُّوا أن نجدةً جاءت من مصر لمساعدة ملك إسرائيل، فقاموا على عَجَلٍ وهربوا تاركين وراءهم خيامَهم ومقتنياتهم. وفي الصباح خرج الإسرائيليون ونهبوا معسكر الآراميين، وصارت كيلة الدقيق بشاقل وكيلتا الشعير بشاقل حسب قول الرب.
بقيَ على أليشع أن يُحقِّق رغبة الرب في إبادة بيت آخاب من أجل عبادتهم لبعل وعشيرة. وكانت قوات يهورام الابن الثاني لآخاب تحارب قوات حزائيل ملك دمشق في شرقَي الأردن، عندما أُصيب بجرحٍ بليغٍ وانسحب إلى وادي يزرعيل (= مرج ابن عامر) في الداخل ليبرأ من جراحه، وترك جيشه تحت إمرة قائده ياهو، فأرسل أليشع أحد تلاميذه إلى مقرِّ قيادة ياهو ليمسحه ملكًا. فمضى الرسول ودخل على ياهو وهو بين ثُلةٍ من ضباطه، فاختلى به في داخل خبائه وأخرج قنينة الزيت وصبَّ منها على رأسه، وقال: هكذا قال الرب إله إسرائيل، قد مسحتك ملكًا على شعب الرب فتضرب بيت آخاب سيدك وانتقم لدماء جميع عبيد الرب من إيزابيل، فتأكلها الكلاب وليس من يدفنها.
وعندما خرج ياهو على ضباطه وأخبرهم بما جرى في الداخل، هتفوا له وضربوا بالبوق وقالوا: قد ملك ياهو. أما هو فقد انطلق بثلَّةٍ من جنوده إلى وادي يزرعيل. وعندما قارب على الوصول إلى مقر يهورام عرفه المراقبون على البرج وأخبروا سيدهم. فتطَيَّر يهورام من هذه الزيارة وتوقَّع شرًّا، فخرج إليه بمركبته. وعندما التقيا صاح يهورام: أسلام يا ياهو؟ فقال له: أي سلام وزنا أمك إيزابيل وسحرها دائم. فلوى يهورام أعنة أحصنته وهرب وهو يصيح: خيانة، خيانة. فعاجله ياهو بسهمٍ اخترق قلبه، وقبل دخوله إلى السامرة دبَّر قَتْل أبناء آخاب السبعين، وجيء إليه برءوسهم في سللٍ إلى وادي يزرعيل.
وفي السامرة جمع ياهو كل الشعب وقال لهم: إن آخاب قد عبد البعل قليلًا، أما أنا فأعبده كثيرًا، ادعوا لي جميع أنبياء البعل وكل عابديه وكل كهنته؛ لأن لي ذبيحةً عظيمةً للبعل، فأتى الجميع واجتمعوا في معبد البعل، فدخل ياهو مع جنوده وأبادهم جميعًا (الملوك الثاني: ٢–١٠).