يؤمن المسلمون بأن القرآن الكريم هو كلام الله أنزله على رسوله الكريم بواسطة الملاك
جبريل.
وقد استغرق نزول القرآن على النبي مدة اثنتين وعشرين سنة. وكان كلما تلقَّى شيئًا منه
جمع
الصحابة في اليوم التالي وقال لهم: إن ربكم يأمركم بكذا وينهاكم عن كذا. وتروي الأخبار
المتواترة عن الصحابة وعن أزواج الرسول أنه كان يُعاني من نزول الوحي ألمًا شديدًا، فيتصبَّب
عرقًا ويتصدَّع رأسه، وربما أُغميَ عليه. وكان الوحي ينزل بآيةٍ واحدةٍ أو بجملة آياتٍ
متتابعات، فيعمد الرسول إلى توجيه كُتَّاب الوحي لأن يضعوا الآيات الجديدة في مكانها
الصحيح من
السياق القرآني.
يتألف القرآن، وَفْق المصحف الذي أقرَّه الخليفة الثالث عثمان بن عفان، وهو المصحف
المتداول
اليوم، من ١١٤ سورة. والسورة تعني القطعة من البناء، فهي والحالة هذه قطعةٌ أو قسم من
الأقسام
المكوِّنة للقرآن. وقيل أيضًا: إن السورة من السُّور؛ فهي تُحيط بآياتها إحاطة السور
بأحياء
المدينة. وتتميز كل سورةٍ باسم خاصٍّ بها يميزها عن بقية السور، مستمد من طبيعتها وأبرز
موضوعاتها، فنقول: سورة آل عِمران، أو المائدة، أو يوسف، أو يونس، وما إلى ذلك. وتتألَّف
كل
سورةٍ بدورها من عددٍ من الآيات جرى ترقيمها لسهولة الرجوع إليها. فأقصر السور يتألف
من ثلاث
آياتٍ فقط، مثل سورة العصر وسورة الكوثر، وأطولها وهي سورة البقرة تحتوي على ٢٨٦ آية.
والسُّورة تنقسم إلى نوعين؛ النوع الأول يُدْعَى بالسور المكية، وهي التي نزلت على
الرسول
وهو في مكة، والنوع الثاني يُدْعَى بالسور المدنية، وهي التي نزلت بعد هجرته إلى المدينة،
سواء
نزلت بالمدينة (يثرب) نفسها أو بمكة بعد عام الفتح، أو نزلت أثناء سفر من أسفار الرسول.
وتتميَّز السور المكية بقصر الآيات، والكلام القوي المُكثَّف والمسجوع، واللهجة الخطابية
التي
يكثر فيها الوعد والوعيد؛ كما تتميز بأطروحاتها الجدلية، ووحدة موضوعاتها التي تدور حول
شجب
الكُفر والشرك بالله، والدعوة إلى عبادة الله الواحد، وقرب يوم القيامة، ومشاهد الآخرة،
والملائكة والجن والشياطين، والاستشهاد بأحداث الماضي وأخبار الأمم الغابرة. أما السُّور
المدنية، فتتميز بندرة السجع، وطول نفَس الآيات، والخطاب السردي الهادئ، وقلة الجدل،
وقلة أخبار
الأمم الغابرة ومشاهد القيامة واليوم الآخر، وظهور التشريع الذي نادرًا ما تطرَّقت إليه
السور
المكية.
هذه السور كانت تُكْتَب بأمر النبي مُفرقةً على الرقاع وعظام الأكتاف وعُسُب النخل
وتُحْفَظ
في بيت النبي، أما عن جمعها في كتابٍ واحدٍ هو المصحف الشريف، فإن الأخبار متضاربةٌ بهذا
الشأن.
فبعض الأخبار تقول: إن الجمع قد تمَّ في حياة الرسول؛ فقد رُوِيَ عن قتادة قال: «سألت
أنس بن
مالك: مَن جمع القرآن على عهد النبي؟ قال: أربعة كلهم من الأنصار، وهم أُبَيُّ بن كعب
ومعاذ بن
جبل وزيد بن ثابت وأبو زيد، ونحن ورثناه.»
١ وعن زيد بن ثابت: «كُنَّا عند رسول الله نؤلف القرآن من الرقاع.»
٢ وعن محمد بن كعب القرظي: «جَمَعَ القرآن على عهد رسول الله خمسةٌ من الأنصار، هم:
مُعاذ بن جبل وعُبادة بن الصامت وأُبَي بن كعب وأبو الدرداء وأبو أيوب الأنصاري.»
٣ وعن علي بن إبراهيم: «إن النبي أمر بجَمْع القرآن الذي كان في صحفٍ وحرير وقرطاس في
بيته؛ لكيلا يضيع كما ضُيِّع التوراة والإنجيل.»
٤
وبعض الأخبار تقول: إن الجمع قد تمَّ بعد وفاة الرسول مباشرةً، وإن الإمام عليًّا
كرم الله
وجهه هو من تصدَّى لهذه المهمة. فيُرْوى عن فقيه البصرة محمد بن سيرين قوله: «لما تُوفِّيَ
النبي أقسم عليٌّ ألَّا يرتديَ برداءٍ حتى يجمع القرآن في مصحفٍ، ففعل.»
٥ ويُرْوَى عن ابن المنادي سماعه لروايةٍ تقول: إن عليًّا لما رأى من الناس طيرةً عند
وفاة النبي، أقسم أنه لا يضع عن ظهره رداءه حتى يجمع القرآن؛ فجلس في بيته ثلاثة أيامٍ
حتى جمع
القرآن، فهو أول مصحفٍ جُمع فيه القرآن من قبله.»
٦ ويبدو أن مصحف عليٍّ هذا كان مُرتبًا حسب النزول. يقول السجستاني: «فمنهم من
رتَّبها على النزول، وهو مصحف علي كان أوله سورة اقرأ ثم المدثر ثم نون ثم المزمل، وهكذا
إلى
آخر المكِّي والمدني».
٧
وبعض الأخبار تقول بجمع الخليفة الثالث عثمان بن عفان للقرآن. فقد قال الشعبي: «لم
يجمع
القرآن أحدٌ من الخلفاء الأربعة إلا عثمان.»
١٢ وفي روايةٍ ثانيةٍ أن عمر تُوفِّي قبل أن تكتمل عملية جمع القرآن، فقام عثمان بن
عفان فقال: من كان عنده من كتاب الله شيءٌ فليأتنا به. وكان لا يقبل من ذلك شيئًا حتى
يُشْهِدَ شاهدين.
١٣ وفي روايات أخرى، فإن عثمان لم يجمع القرآن وإنما أخذ المصحف الذي جُمِع تحت إشراف
عمر في عهد أبي بكر، وكان محفوظًا في بيت عمر حتى قُتِل، فآل إلى ابنته حفصة زوجة الرسول،
وهو
المعروف بمصحف حفصة، فأرسل إليها عثمان يطلبه من أجل استنساخه على أن يُعيده إليها بعد
انتهاء المهمة.
١٤
(١) دعاوى التحريف واختلاف القراءات
هذا الغموض الذي يُحيط بعملية جمع القرآن خلال العَقدَين اللذَين أعقبا وفاة الرسول؛
يوضِّح لنا سبب وجود اختلافاتٍ في عدد سور القرآن في مصاحف الصحابة، إضافة إلى اختلافاتٍ
في
القراءة. فمصحف عبد الله بن مسعود كان يحتوي على ١١٢ سورةً بدل ١١٤ سورةً في المصحف العثماني؛
لأنه ترك المعوذتين، أي سورة الفلق «قل أعوذ برب الفلق …» وسورة الناس: «قل أعوذ برب
الناس»؛
لظنِّه أنهما ليستا من القرآن؛ فقد كان يرى النبي يعوِّذ بهما الحسن والحسين في صغرهما
مثلما
كان يعوِّذهما بقوله: «أعوذ بكلمات الله التامة …»، وبغير ذلك مما ليس من القرآن.
١٧ وفي روايةٍ أخرى أن مصحف ابن مسعود تنقصه الفاتحة أيضًا، وبذلك يكون عدد سوره ١١١ سورة.
١٨
أما مصحف أُبَي بن كعب، فقد كان يحتوي على ١١٦ سورةً بعد أن أضاف افتتاح دعاء القنوت
وظنَّه سورتَين؛ لأنه رأى الرسول يدعو بهما في الصلاة فظنَّهما من القرآن.
١٩ وهنالك من يقول: إن السورتَين الزائدتَين في مصحف أُبَي هما دعاء الخلع: «اللهم
إنا نَستعِينُك ونَسْتغفرُك، ونُثني عليك ولا نَكْفُرك، ونَخْلَع (أي ننزع من بيننا)
ونَتْرُك
من يَفْجُرك»، ودعاء الحفد: «اللهم إيَّاك نَعبُد، ولك نُصلِّي ونَسجُد، وإليك نسعى ونَحفِد
(أي نأتي خفافًا)، نرجو رحمتك ونخشى نقمتك، إن عذابك بالكافرين مُلْحِق (أي آتٍ).»
٢٠ ويبدو أن غير واحدٍ من الصحابة قد اعتبر هذَين الدعاءَين من القرآن؛ فقد رُوِيَ
أن عمر قد قرأ في صلاته بعد الركوع فقال: بسم الله الرحمن الرحيم، اللهم إنا نستعينك
ونستغفرك
… إلى آخر الدعاءَين.
٢١ وهنالك من يقول: إن مصحف أُبَي كان يحتوي على ١١٥ سورةً لا على ١١٦ سورة؛ لأنه
أدمج سورة الفيل وسورة قريش في سورةٍ واحدةٍ.
٢٢
ويُقال بالمقابل: إن مصحف عثمان الموحد قد أسقط من نصِّه أكثر من آيةٍ لعدم ثبوتها
عن
طريق شاهدَين. ويبقى العلم عند الله أن تكون من القرآن أم لا؛ فقد رُوِيَ عن عائشة قولها:
«كان فيما أُنْزِل من القرآن: عَشْر رَضَعاتٍ معلوماتٍ يُحَرِّمن.»
٢٣ ورُوِيَ عنها أيضًا: «لقد نزلت آية الرجم، ورضاعة الكبير عشرًا. ولقد كانت في
صحيفة تحت سريري، فلما مات رسول الله وتشاغلنا بموته دخل الداجن فأكلها.»
٢٤
ويُروَى أن عمر أتى بآية الرجم إلى زيد بن ثابت فلم يكتبها؛ لأن عمر كان وحده.
٢٥ ولكن عمر بقي مُصرًّا على موقفه، ويُروَى عنه أنه قال غاضبًا: «لولا يقول الناس
زاد عمر في كتاب الله لكتبت آية الرجم بيدي.»
٢٦ وآية الرجم تقول وفق رواية أُبَي بن كعب: «إذا زنى الشيخ والشيخة فارجموهما البتة
نكالًا من الله، والله عزيز حكيم.»
٢٧
ومن الأخبار القائلة بسقوط آياتٍ كثيرةٍ من مصحف عثمان، ما هو مغرقٌ في المبالغة،
ولكننا
نذكره من باب العلم بالشيء؛ فقد رُوِيَ عن عائشة قولها: «كانت سورة الأحزاب تُقْرَأ في
زمن
النبي مائتَي آية، فلما كتب عثمان المصاحف لم يقدر منها إلا على ما هو الآن (أي ٧٣ آية).»
٢٨ ويُرْوَى عن زر بن حبيشٍ قال: «قال لي أُبَي بن كعب: كأيِّن تقرءون سورة الأحزاب؟
قلت: ثلاثًا وسبعين وإما أربعًا وسبعين. قال: قط؟ إن كانت لتقارب سورة البقرة أو هي أطول
منها، وإن كانت فيها سورة الرجم.
٢٩ وقيل في سورة براءة (أو التوبة) الشيء نفسه. فقد رُوِيَ عن مالك أن سورة براءة
كانت تَعْدِل بطولها سورة البقرة.
٣٠
وحول الموضوع نفسه لدينا أخبار أقل مبالغة من سابقاتها. فقد روى أبو سفيان القلاعي
أن
مسلمة بن مخلد الأنصاري قال لهم ذات يوم: أخبروني بآيتَين في القرآن لم تُكْتَبا في المصحف،
فلم يخبروه وعندهم أبو الكنود سعد بن مالك. فقال لهم: «إن الذين آمنوا وهاجروا، وجاهدوا
في
سبيل الله بأموالهم وأنفسهم، ألا أبشروا أنتم المفلحون. والذين آووهم ونصروهم، وجادلوا
عنهم
القوم الذين غضب الله عليهم، أولئك لا تعلم نفسٌ ما أُخْفي لهم من قرة عين، جزاءً بما
كانوا يعملون.»
٣١ وروى المسوَّر بن مخرمة قال: قال عمر بن الخطاب لعبد الرحمن بن عوف: ألم تجد فيما
أُنْزِل علينا: «أن جاهدوا كما جاهدتم أول مرةٍ؟» فإنَّا لا نجدها. قال ابن عوف: أُسْقِطَت
فيما أُسْقِط من القرآن.
٣٢ ويُروَى عن أبي واقدٍ الليثي قال: كان رسول الله إذا أُوحِيَ إليه أتيناه
فعلَّمنا مما أوحي إليه، فجئت ذات يومٍ فقال: «إن الله يقول: إنا أنزلنا المال لإقامة
الصلاة
وإيتاء الزكاة، ولو أن لابن آدم واديًا لأحب أن يكون إليه الثاني، ولو كان إليه الثاني
لأحبَّ
أن يكون إليهما الثالث، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب.»
٣٣ وهذه الآيات غير موجودةٍ في مصحف عثمان، ويُروَى عن عبد الله بن عباس أنه قال:
لما نزلت: «وأَنْذِر عَشِيرَتَك الأقرَبِين، وَرَهطك مِنهُم المخلصين.»
٣٤ ولا تحتوي الآية المذكورة (الشعراء: ٢١٤) في مصحف عثمان على «ورهطك منهم
المخلصين». ويُرْوَى عن عبد الله بن الزبير أنه كان يقرأ في مصحفه: «ولتكن منكم أمةٌ
يدعون
إلى الخير، ويستعينون بالله على ما أصابهم.»
٣٥ ولا تحتوي الآية ١٠٤ من سورة آل عمران على جملة «ويستعينون بالله على ما أصابهم».
وكان ابن الزبير يقرأ أيضًا: «لا جُناح عليكم أن تبتغوا فضلًا من ربكم في مواسم الحج،
فإذا
أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام…»
٣٦ وقد وردت الآية ١٩٨ من سورة البقرة في مصحف عثمان على الشكل الآتي: «ليس عليكم من
جناح أن تبتغوا فضلًا من ربكم، فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام …»
ونلاحظ
هنا أن مصحف ابن الزبير قد زاد جملة «في مواسم الحج»، كما قرأ «ليس عليكم من جناح»: «لا
جناح
عليكم». وهذا ما يُحِيلنا إلى نوعٍ آخر من الاختلافات وهو الاختلاف في القراءة، وهو ما
سنلتفت
إليه الآن، دون مزيدٍ من الأمثلة بخصوص النقص والزيادة.
فقد رَوَى البعض أن عمر بن الخطاب صلَّى في الناس فقرأ في سورة الفاتحة: «صراط من أنعمت
عليهم، غير المغضوب عليهم، وغير الضالين». وهي في مصحف عثمان:
صِرَاطَ
الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا
الضَّالِّينَ؛ وأنه قرأ الآية الأولى من سورة آل عمران: «الم، الله لا إله إلا هو
الحي القيام» بدلًا من
الْحَيُّ الْقَيُّومُ.
٣٧ ورُوِيَ أن عبد الله بن مسعود قرأ في مصحفه الآية ٤٠ من سورة النساء: «إن الله لا
يظلم مثقال نملة» بدلًا من
مِثْقَالَ ذَرَّةٍ؛ وأنه قرأ الآية ٤٣
من سورة آل عمران: «واركعي واسجدي في الساجدين» بدلًا من
وَاسْجُدِي
وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ؛ وأنه قرأ في الآية ٦٤ من سورة المائدة: «بل يداه
بسطان» بدلًا من
بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ؛ وأنه قرأ الآية
١٩٧ من سورة البقرة: «وتزوَّدوا، وخير الزاد التقوى» بدلًا من
وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى؛ وقرأ في الآية ٦١ من سورة
البقرة: «من بَقلها وقثائها وثومها» بدلًا من
مِنْ بَقْلِهَا
وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا.
٣٨
ورُوِيَ عن أصحاب ابن مسعود أنهم قرءوا في الآية ٢٠٢ من سورة البقرة: «أولئك لهم نصيبٌ
ما
اكتسبوا» بدلًا من
أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا؛
وفي الآية ١٤٨ من سورة البقرة: «ولكلٍّ جعلنا قبلة يرضونها» بدلًا من
وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا؛ وفي الآية ١٩٦ من سورة البقرة: «وأقيموا
الحج والعمرة للبيت» بدلًا من
وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ
لِلهِ؛ وفي الآية ١٤٤ من سورة البقرة: «وحيثما كنتم فولوا وجوهكم قِبله» بدلًا من
وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ؛ وفي
الآية ١١٠ من سورة الإسراء: «ولا تُخافت بصوتك ولا تُعال به» بدلًا من
وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا.
٣٩ ويتابع السجستاني في كتاب المصاحف — الذي نعتمد عليه هنا — تعداد ١٣٠ موضعًا في
القرآن اختلفت فيه قراءة ابن مسعود عن قراءة مصحف عثمان. ثم ينتقل إلى مصحف ابن عباس
الذي
نقتطف من اختلافاته مع مصحف عثمان المواضع الآتية؛ فقد قرأ ابن عباس في الآية ١٥٨ من
سورة
البقرة: «فلا جُناح عليه ألا يطوَّف بهما» بدلًا من
فَلَا جُنَاحَ
عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا؛ وفي الآية ٢٠٢ من سورة البقرة: «أولئك لهم نصيبٌ
مما اكتسبوا» بدلًا من
مِمَّا كَسَبُوا؛ وفي الآية ١٧٥ من سورة
آل عمران «إنما ذلكم الشيطان يُخوفكم أولياءه» بدلًا من
يُخَوِّفُ
أَوْلِيَاءَهُ؛ وفي الآية ١٩٦ من سورة البقرة: «وأقيموا الحج والعمرة للبيت» بدلًا
من
وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلهِ؛ وفي الآية ١٥٩ من
سورة آل عمران: «وشاورهم في بعض الأمر» بدلًا من
وَشَاوِرْهُمْ فِي
الْأَمْرِ؛ وفي الآية ٣٠ من سورة ياسين: «يا حسرة العباد» بدلًا من
يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ؛ وفي الآية ١٨٧ من سورة الأعراف: «كأنك
حفيٌّ بها» بدلًا من
كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا؛ وفي الآية ٢٢٧
من سورة البقرة: «وإن عزموا السراح» بدلًا من
وَإِنْ عَزَمُوا
الطَّلَاقَ، وكذا الأمر في عشرة مواضع أخرى.
٤٠
وقد اختلفت قراءات التابعين مثلما اختلفت قراءات الصحابة، فقد قرأ عبيد بن عُمير الآية
الأولى من سورة العلق: «سبح اسم ربك الذي خلقك» بدلًا من
اقْرَأْ بِاسْمِ
رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، وقرأ عطاء الآية ١٧٥ من آل عمران: «الشيطان يُخوفكم
أولياءه» بدلًا من
الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ؛ وقرأ
عكرمة في الآية ١٨٤ من سورة البقرة «وعلى الذين يطوِّقونه» بدلًا من
وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ؛ وقرأ مجاهد الآية ١٥٨ من سورة البقرة: «فلا جناح
عليه ألَّا يطوف بهما» بدلًا من
فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ
بِهِمَا، وقرأ سعيد بن جبير أيضًا في الآية ٥ من سورة المائدة: «اليوم أحلَّ لكم
الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب من قبلكم»، وجملة «من قبلكم» غير واردةٍ في مصحف عثمان؛
وقرأ ابن جبير أيضًا في الآية ١١٧ من سورة الأعراف: «فإذا هي تلقم ما يأفكون» بدلًا من
تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ؛ وقرأ علقمة الأسود في سورة الفاتحة: «صراط
من أنعمت عليهم» بدلًا من
صِرَاط الَّذِين أَنعَمت عَلَيهِم …
وأمور أخرى من هذا القبيل.
٤١
ومن الاختلاف في القراءات ما هو ناجمٌ عن الاختلاف في لفظ بعض الكلمات تبعًا للهجات
العرب
المتباينة، فكان مَنْ سمع الآية ينطقها بلهجة قومه. وهذا ما يُدْعَى باختلاف الأحرف.
وعلى
الرغم من أن الرواة قد أوردوا أحاديث عن الرسول يُفْهَم منها أنه قد أجاز مثل هذا الاختلاف،
كقوله: «نزل القرآن على ثلاثة أحرف» أو «نزل القرآن على أربعة أحرف» أو «نزل القرآن على
سبعة
أحرف»، إلا أن الموقف الحقيقي للرسول من هذه المسألة يوضِّحه ما رواه الإمام أحمد في
مسنده عن
زر بن حبيش، عن ابن مسعود قال: أقرأني رسول الله
ﷺ سورة الأحقاف وأقرأها آخر فخالفني
في آيةٍ منها، فقلت: من أقرأك؟ قال: أقرأني رسول الله
ﷺ فقلت له: لقد أقرأني رسول الله
ﷺ كذا وكذا. فأتيت رسول الله
ﷺ وعنده رجل فقلت: يا رسول الله ألم تُقرِئني كذا
وكذا. قال: بلى. قال الآخر: ألم تُقرِئني كذا وكذا. قال: بلى. فتمعَّر وجه رسول الله
ﷺ
فقال الرجل الذي عنده: لِيَقْرأْ كلُّ واحدٍ منكما كما سمع، فإنما هلك أو أُهْلِكَ من
كان
قبلكم بالاختلاف. فما أدري أأمره بذاك أو شيء قاله من قِبَله.
٤٢ وهذا هو الموقف الذي تبنَّاه عمر بن الخطاب عندما أمر ابن مسعود أن يُقرئ القرآن
بلغة قريش، مما رويناه سابقًا.
مع انتشار العرب في الأمصار عقب الفتوحات، استفحل أمر الاختلافات في القراءة، الأمر
الذي
دعا الخليفة الثالث عثمان بن عفان إلى القيام بخطوته الجريئة في توحيد المصاحف في مصحف
قانونيٍّ واحد. ويُرْوَى عن أنس أن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان، وكان يغازي أهل الشام
في
فتح أرمينيا وأذربيجان مع أهل العراق، فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة، فقال لعثمان:
يا أمير
المؤمنين أَدْرِك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى … فأمر
عثمان
بجمع المصاحف.
٤٣ ويُرْوَى عن حذيفة نفسه قوله: غزوت في فتح أرمينيا فحضرها أهل العراق وأهل الشام،
فإذا أهل الشام يقرءون على قراءة أُبَي بن كعب، فيأتون بما لم يسمع به أهل العراق، فتُكفِّرهم
أهل العراق؛ وإذا أهل العراق يقرءون بقراءة ابن مسعود فيأتون بما لم يسمع به أهل الشام،
فتُكفِّرهم أهل الشام، فأمرني عثمان أن أكتب له مصحفًا.
٤٤
ويبدو أن حُذيفة بن اليمان قد أوكل بمهمة الإشراف على إعداد المصحف الموحد، وأن هذه
العملية قد تمَّت من قِبَل لجنة شُكِّلَت لهذا الغرض؛ فقد روى السجستاني في كتاب المصاحف
أن
عثمان استدعى الكُتَّاب وهم: زيد بن ثابت، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن حارث بن هشام،
وعبد
الله بن الزبير، وأمرهم بإعداد المصحف الموحَّد، وقال لهم: ما اختلفتم فيه فاكتبوه بلسان
قريش، فإنما نزل بلسانهم. وورد في رواية أخرى أن عدد أفراد هذه اللجنة كان اثني عشر كاتبًا
من
المهاجرين والأنصار.
٤٥ أما عن الطريقة التي اتبعتها هذه اللجنة في العمل، فيبدو أنها اعتمدت أساسًا مصحف
حفصة بنت عمر، بدليل الخبر القائل بأن عثمان أرسل إلى حفصة يقول: «أرسلي إليَّ بالصحف
ننسخها
في المصاحف، ثم نردها إليك.»
٤٦ وأن هذا المصحف قد قورن على المصاحف الأخرى. وفي مواضع الاختلاف كان يجري
الاستعانة بالشهود، وذلك بدليل الرواية التي تقول: إن عثمان عندما جمع القرآن قام في
الناس
فقال: من كان عنده شيءٌ من كتاب الله فليأتنا به، وكان لا يقبل من ذلك شيئًا حتى يُشهد
شاهدين.
٤٧ وبعد انتهاء العمل من المصحف الموحد، الذي دُعِيَ منذ ذلك الوقت بالمصحف
العثماني، نُسِخَت منه نُسخٌ وُزِّعَت على الأقطار الإسلامية، وأمر عثمان بإحراق بقية
المصاحف
ومنع تداولها. وقد أثنى علي بن أبي طالب على ما فعله عثمان وقال: «لو وُلِّيتُ لفعلت
مثلما فعل.»
٤٨ ووفق روايةٍ ثانيةٍ: «لو كنت أنا لصنعت في المصاحف ما صنع عثمان.»
٤٩ وهكذا ظهر المصحف القانوني الموحد قبل انقضاء أربعة عقودٍ على وفاة الرسول
الكريم.
على أن المشكلة لم تنتهِ عند هذا الحدِّ؛ فالحروف العربية لم تكن بعدُ قد قبلت الحركات
الصوتية التي تُوضع فوق الحروف الساكنة لتحريكها وضبط أواخر الكلمات، مثلما لم تكن الحروف
المتشابهة قد قبلت النقاط بعددها ومكانها من الحرف للتفريق بينها، وذلك مثل التاء والياء
والباء والنون، فكلمة «
ٮٮٮ» يمكن أن تُقْرَأ
«بنت» أو «بيت» أو «نبت»؛ ولذلك كان لا بد من الشروع بعملية الإعجام وهي تزويد الحروف
المتشابهة بالنقاط، وبعملية التنقيط وهي وضع الحركات الصوتية فوق الحروف. وهاتان العمليتان
تُدْعَيان اختصارًا بالتنقيط، وقد تمَّ تنقيط القرآن الكريم في العصر الأموي. وتُعْزَى
هذه
العملية إلى الخليل بن أحمد الفراهيدي تارة، وإلى أبي الأسود الدؤلي تارة أخرى. وبهذه
الطريقة
تم ضبط القرآن بشكلٍ نهائيٍّ مع نهاية القرن الأول الهجري.