إبليس الملاك الساقط
(١) الخلفية التاريخية
- (١)
الشرور الطبيعانية: مثل البراكين والزلازل والأعاصير والفيضانات والحرائق.
- (٢)
الشرور البيولوجية: مثل الألم والمرض والشيخوخة والموت.
- (٣)
الشرور الأخلاقية: مثل السرقة والاغتصاب والتسلط والظلم.
ولكن أديان الإنسان القديم لم تربط بين هذه الشرور ومصدرٍ كونيٍّ للشر، وإنما عَزَتْهَا إلى وجود أرواحٍ أو آلهةٍ خيِّرة بطبيعتها وأخرى شريرة بطبيعتها. فالنظام المستقر والمتوازن على المستوى الطبيعاني والبيولوجي تدعمه هذه، والخروج على النظام تقوم به تلك. وقد قاده هذا التصور إلى تطوير نوعَين من الطقوس؛ الأول: يهدف إلى طلب عون الآلهة الخيِّرة، والثاني: يهدف إلى اتقاء أذى الآلهة الشريرة. أما الشر الأخلاقي فقد بقي شأنًا اجتماعيًّا لا يتصل بتلك القوى الماورائية أرواحًا كانت أم آلهة، فالذي يسرق أو يظلم أو يعتدي ليس مدفوعًا من قِبَل إلهٍ شرير، والذي يُنصف ويُعين ويرأف ليس أيضًا مدفوعًا من قِبَل إله خير. وهكذا تُرِكَت المجتمعات الإنسانية لتدير شئونها الأخلاقية من خلال أعرافها وعاداتها المحلية دون وصاية من قوة قدسيةٍ ما.
من خلال هذه التصورات، لم يكن وجود الشر في العالم يطرح أي مشكلةٍ على الفكر الديني للإنسان القديم، ولكن هذه المشكلة غَدَتْ أكثر إلحاحًا مع ميل الفكر الديني المشرقي إلى مفهوم التوحيد في سياق الألف الأول قبل الميلاد، عندما أخذ ذلك الفكر ينظر إلى الكون باعتباره وَحْدة مترابطةً متكاملة يسودها نظامٌ دقيقٌ يجمع الأجزاء إلى بعضها في توازنٍ محكمٍ، ويرى وراء هذا الكون قدرة إلهية واحدة غير مُجزَّأة، كلية الحضور وكلية القدرة وكلية المعرفة، إليها تُعْزَى كل الكمالات التي تنتهي جميعًا إلى كمال الخير. عند هذه النقطة وجد الفكر التوحيدي نفسه أمام مشكلةٍ تتطلَّب الحل؛ فإذا كان الله هو الخير المحض فمن أين يأتي الشر؟ أمام هذا السؤال تحوَّلت آلية التفكير الجدلية بطبيعتها عند الإنسان إلى مفهوم الشيطان الكوني. وهذا الشيطان ليس كائنًا ماورائيًّا شريرًا من تلك الكائنات التي عرفتها الديانات السابقة، وإنما هو أصل الشر ومنبعه على المستوى الطبيعاني والبيولوجي والأخلاقي، إنه نقيض الله على كل صعيدٍ.
(٢) الشيطان في التوراة
لم تتعرض قصة الخلق التوراتية إلى خلق الملائكة أو الشياطين أو أي كائنات ماورائية أخرى، على الرغم من أن هذه الكائنات تبدأ بالظهور تباعًا بعد ذلك، ولكن محرِّر سِفْر التكوين ترك لنا جملةً غامضةً في نهاية قصة الخلق يقول فيها: «فأُكْمِلَت السموات والأرض وكل جندها، وفرغ في اليوم السابع من عمله.» وهذا يعني أن يهوه لم يكن وحيدًا عندما فرغ من خَلْق العالم، بل كان مُحاطًا بحشدٍ من الكائنات الماورائية التي دعاها المحرِّر بجند السماء. وعلى الرغم من استخدام المحررين التوراتيين معاني مختلفة لتعبير جند السماء. إلا أنهم استخدموه في معظم الأحيان كمرادف لتعبير ملائكة الرب، وهؤلاء هم خدمه العاملون على تنفيذ أوامره ومساعدته في تدبير شئون الكون. نقرأ في سِفْر أخبار الأيام الثاني على لسان النبي ميخا: «قد رأيت الرب جالسًا على كرسيِّه، وكل جنود السماء وقوف عن يمينه ويساره» (٢ أخبار ١٨: ١٨). وفي المزمور ١٠٣: «باركوا الرب يا ملائكته المقتدرين قوةً، الفاعلين أمره عند سماع صوت كلامه، باركوا الرب يا جميع جنوده، خدامه العاملين مرضاته» (١٠٣: ١٩–٢١).
بين هذه الكائنات الشريرة التي تعمل تحت إمرة يهوه شخصية رئيسة تُدْعَى بأكثر من اسم؛ فتحت اسم عزازيل نجده أشبه بالجن التي تسكن البوادي والقفار غير المأهولة، وهو يقتسم قربان الخطيئة مع يهوه، أي القربان الذي يغسل بدمه خطايا الشعب، الأمر الذي يدلُّ على علو مكانته. نقرأ في سِفْر اللاويين: «ويأخذ هارون التيسَين ويوقفهما أمام الرب لدى باب خيمة الاجتماع، ويلقي على التيسَين قرعتَين؛ قرعة للرب وقرعة لعزازيل. ويقرِّب هارون التيس الذي خرجت عليه القرعة للرب ويعمله ذبيحة خطيئةٍ، وأما التيس الذي خرجت عليه القرعة لعزازيل فيوقفه حيًّا أمام الرب ليُكفِّر عنه ليرسله إلى عزازيل في البرية» (اللاويين ١٦: ٥–١٠). وتحت الاسم بليعال نجده موكلًا بشئون فاعلي الإثم الذين يدعوهم النص ببني بليعال (راجع على سبيل المثال سِفْر القضاة (١٩: ٢٢–٢٣)، وسِفْر الملوك الأول (٢١: ١٠). وتحت الاسم شيطان، وهو بالعبرية شطن أي المقاوم والمعاند، نجده في اتفاقٍ مع يهوه يُنفِّذ مهام تُوكل إليه، على ما نستنتج من المزمور ١٠٩ الذي يدعو كاتبه ربه أن يُرسل من عنده شيطانًا على خصمه: «فأقم أنت عليه شريرًا وليقف شيطان عن يمينه. إذا حوكم فليخرج مذنبًا، وصلاته فلتكن خطيئة» (المزمور ١٠٩: ٦–٨). كما نجده يعمل في استقلالٍ عن يهوه معارضًا لمشيئته، على ما نجد في سِفْر زكريا، حيث ينتهر الرب الشيطان لأنه وقف عن يمين الكاهن زكريا ليقاومه: «وأراني (الملاكُ) الكاهنَ العظيم يهوشع قائمًا قدام الرب، والشيطان قائم عن يمينه ليقاومه. فقال الرب للشيطان: لينتهرك الرب يا شيطان، لينتهرك الرب الذي اختار أورشليم» (زكريا ٣: ١–٢).
والشيطان كشخصيةٍ مستقلةٍ في عملها قادرٌ على خداع يهوه، على ما نرى في سِفْر أيوب عندما أوغر صدر يهوه على عبده الصالح أيوب، بعدما سمع منه مديحًا بحقه، ووصَفه بأنه رجلٌ صالح كامل ومستقيم، فقال له: إن أيوب لا يتَّقيه مجانًا، وإنما لما أغدق عليه من سعةٍ في الرزق وصحةٍ في البدن، ولكن إذا ناله الضرُّ من ربه فإنه سيجدف عليه. عند ذلك أطلق يهوه يد الشيطان في أيوب ليُنْزِلَ به المصائب في ماله وأهله وصحته، لكي يختبر قلبه.
هذه هي الملامح العامة لشخصية الشيطان كما تتبدَّى لنا في النص التوراتي. وكما نلاحظ، فإن الشيطان التوراتي لم يتحوَّل إلى مبدأ كونيٍّ للشر حتى اختتام الأسفار القانونية في القرن الثاني قبل الميلاد. والسبب في ذلك راجع إلى تقصير الأيديولوجيا التوراتية عن بلوغ مفهوم الكمال والخير المُطلق في شخصية يهوه، الذي بقي يتصرف حتى النهاية كزعيمٍ قبلي مدفوع بردود أفعاله الآنية وبعواطفه الفطرية، مثل الغضب والغيرة والانتقام، وهذا ما دفع بالشيطان إلى دائرة الظل عبر أحداث الرواية التوراتية؛ لأن يهوه هو صانع الخير وصانع الشر في آنٍ معًا، على ما يعلن محرر سِفْر إشعيا على لسان إلهه: «أنا الرب وليس آخر. مصور النور وخالق الظلمة. صانع السلام وخالق الشر. أنا صانع كل هذا» (إشعيا ٤٥: ٦–٧). ونقرأ في سِفْر يشوع بن سيراخ: «الخير والشر، الحياة والموت، الفقر والغنى، من عند الرب» (١١–١٤). ولكن شخصية الشيطان تطوَّرت بعد ذلك على يد محرري الأسفار غير القانونية التي مارست تأثيرًا كبيرًا في الفكر التلمودي وفي العقائد اليهودية، على الرغم من بقائها على هامش النص الرسمي للكتاب. وقد كان للأفكار الدينية الزرادشتية أثرٌ كبير في نضوج لاهوت الشيطان في العقائد اليهودية بعد أن آلت المنطقة السورية إلى الحُكم الفارسي بين عام ٥٣٩ و٣٣٣ق.م.
بعد ذلك يتابع الكاتب فيقول: إن زوجات هؤلاء الملائكة الساقطين ولَدْن لهم أولادًا عمالقة أكثروا من الشر في الأرض وأكلوا الأخضر واليابس، وعندما لم يبقَ ما يكفي لطعامهم راحوا يلتهمون البشر أيضًا، فصعد صراخ البشر إلى السموات. عند ذلك نظر الملائكة ميخائيل وسورافيل وجبرائيل من الأعالي ورَأَوْا ما يجري على الأرض من شرٍّ وعنفٍ، فمضوا إلى الرب وأطلعوه على الأمر، فبعث الرب مع الملائكة إلى أخنوخ يأمره أن يذهب إلى الساقطين، وينقل لهم قضاء السماء بشأنهم؛ فهم سيشهدون ذبح أولادهم العمالقة ثم يُقَيَّدون في ثنايا الأرض حتى يوم الدينونة عندما يُقادون إلى هوة النار والعذاب الأبدي. سمع الساقطون حكم الرب عليهم فارتاعوا، والتمسوا من أخنوخ التوسط لهم لدى الرب علَّه يقبل استرحامهم واستغفارهم. فمضى أخنوخ وجلس عند ضفة النهر حيث قرأ استرحام الساقطين، ثم غرق في نومٍ عميقٍ وعرضت له رؤيا حملته إلى السماء، حيث وضعه الملائكة في حضرة الرب الذي كلَّمه قائلًا: «لا تخَفْ يا أخنوخ أيها الرجل الطيب يا كاتب الصدق. تقدم إليَّ واسمع صوتي. اذهب إلى ساهري السماء (وهو لقب الساقطين لأنهم كانوا مُكلَّفين بالسهر على أحوال الأرض، وتفقُّدها على الدوام) وقل لهم: كان أحرى بكم أن تسترحموا من أجل الإنسان لا أن يسترحم الإنسان من أجلكم. وقل لهم: لماذا توليتم عن السماء العليا المقدسة لتناموا مع النساء وتتدنسوا ببنات الناس، وتأخذوا لكم زوجات مثل بني البشر وتنجبوا منهنَّ أولادًا عمالقة؟ … لقد أعطيتُ رجال البشر زوجات يخصبونهنَّ حتى لا يفنى جنسهم على الأرض، أما أنتم فكنتم روحانيين وخالدين على مرِّ أجيال الأرض، فلم أُعطكم زوجاتٍ لأن السماء مسكنكم. والآن فإن العمالقة أولادكم، نسل الروح والجسد، سيدعون أرواحًا شريرةً لأن أرواحًا خبيثةً سوف تنشأ عن أجسادهم (المذبوحة) ويكون في الأرض مسكنها … سوف يسببون الأذى والعنف والدمار على الأرض، ويدفعون الناس إلى الخطيئة وإلى المعصية … عندما يهلك العمالقة سوف تعيث الأرواح الخارجة منهم فسادًا، وترتع بلا رادعٍ إلى يوم الحساب الأخير يوم يهلك الساهرون الساقطون.»
يُقدِّم لنا هذا النص شرحًا لأسباب وجود الشر في العالم، إلا أنه يبقى ضمن الرؤيا التوراتية الرسمية للخير والشر على أنهما من صنع يهوه، الذي على الرغم من عقابه للعمالقة إلا أنه ترك أرواحًا شريرةً تنشأ عن أجسادهم القتيلة، تدفع الناس إلى الخطيئة وإلى المعصية، أما الملائكة الساقطون فسيبقون على قيد الحياة إلى يوم الحساب الأخير. هذه الفكرة سوف يجري تطويرها في سِفْر اليوبيليات (= الخمسينيات) الذي تنضج فيه شخصية الشيطان كرئيسٍ للأرواح الشريرة، وتبدأ باتخاذ خصائص المبدأ الكوني للشر.
«فأمرنا الرب إلهنا (والكلام هنا للملاك الذي يُمْلِي الكتاب على موسى) أن نوثِّقهم جميعًا، ولكن رئيس الأرواح مستيما مَثَل أمام الرب، وقال له: أيها الإله الخالق، اترك لي بعضًا منهم ليستمعوا إليَّ ويفعلوا ما آمرهم به؛ لأنه إذا لم يبقَ منهم أحدٌ معي لا أستطيع بسط سلطاني على بني البشر؛ لأن شر البشر عظيم، وبنو الإنسان منذرون للضلالة قبل أن يصدر حكمك بشأني. فأمر الرب أن يبقى عُشر الأرواح الشريرة مع مستيما، وأن ينزل التسعة أعشار الباقية إلى مكان الحساب، ثم أمر واحدًا منا أن يُعلِّم نوحًا كل سبل الشفاء من شر الشياطين؛ لأنه يعرف أن البشر لن يسيروا ولن يجاهدوا في سُبل الحق والخير.»
«ولقد انتصب الرئيس مستيما أمامك يا موسى، وحاول تسليمك ليد فرعون، كما أنه حاول مساعدة سَحَرة مصر الذين مارسوا سحرهم أمامك … ولكن الرب ضربهم بقروحٍ رديئةٍ، ومنعناهم عن إتيان معجزةٍ واحدة. ولكن الرئيس مستيما لم ينخذل بل استجمع قواه وأهاب بالمصريين أن يلاحقوك بكل جيوشهم وبكل عرباتهم وخيلهم، ولكني حُلْتُ بين المصريين وإسرائيل، وخلَّصنا إسرائيل من يد فرعون وشعبه … وفي الأيام الرابع عشر والخامس عشر والسادس عشر والسابع عشر، كان الرئيس مستيما مُقيَّدًا ومحجوزًا خلف مكان بني إسرائيل؛ لكي لا يلاحقهم ويوقِع بهم. وفي اليوم الثامن عشر حَلَلْنَا قيوده مع أتباعه لكي يساعد المصريين على ملاحقة إسرائيل، فشدَّد عزيمة المصريين وقوَّاهم، ثم قيدناه مجددًا … إلخ.»
يبقى هذا النص أمينًا لفكرة مسئولية يهوه عن وجود الشر في العالم، ثم يضيف إليها فكرة المهلة التي منحها يهوه للشيطان لكي يُتابع مهامه في غواية البشر. بعد ذلك تتطور قصة الشيطان نحو شكلها الأخير، حيث نجد أن سقوط الملاك الرئيس ومَنْ تبعه من أوليائه، لم يكن بسبب رغبتهم في نساء البشر. وإنما بسبب عصيان الملاك الرئيس أمر ربه بالسجود لآدم. وهذا التنويع على القصة موجود في أكثر من نصٍّ.
في كتاب حياة آدم الذي يعود تاريخ نصِّه الأصلي إلى زمن ما بين القرن الأول قبل الميلاد والقرن الثاني الميلادي، نجد أن سبب سقوط الملاك الرئيس هو رفضه السجود لآدم. والقصة هنا يرويها الشيطان نفسه لآدم بعد طرده من الفردوس عندما حاول إغواءه وزوجته مجددًا، فصرخ آدم في وجهه قائلًا: الويل لك أيها الشيطان. لماذا تُهاجمنا دون سبب؟ وما الذي فعلناه حتى تُلاحقنا دومًا بالمكر والخديعة؟
(٣) في القرآن الكريم
يستخدم النص القرآني الاسم إبليس في قصِّه عن سقوط الملاك الرئيس، الذي يقوم على العناصر نفسها التي رأيناها في الأسفار التوراتية غير القانونية، وفي نصوص الهاجاداه التي غدت جزءًا من الأدبيات التلمودية. أما بعد سقوط الملاك وتحوُّله إلى عدو البشر، فإن النص القرآني يستخدم الاسم شيطان في بقية أخباره عن نشاط ذلك الملاك الأسود في التاريخ وصولًا إلى اليوم الأخير.
- (١) وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ * قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ * قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ * قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ * قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ * قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (٧ الأعراف: ١١–١٨).
- (٢) وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ * فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ * قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ * قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ * قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ * قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ * إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ * قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ * قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ * إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (١٥ الحجر: ٢٨–٤٣).
- (٣) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا * قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا * قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا * وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا * إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا (١٧ الإسراء: ٦١–٦٥).
- (٤) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى * فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (٢٠ طه: ١١٦–١١٧).
- (٥) إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ * فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ * قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ * قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ * قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ * قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ * إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ * قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ * قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ * لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (٣٨ ص: ٧١–٨٥).
- (٦) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (١٨ الكهف: ٥٠).
نلاحظ من البنية اللغوية للأمر الإلهي بالسجود لآدم، ورفض إبليس الانصياع لهذا الأمر، وذلك في التنويعات الخمسة الأولى على القصة، أن إبليس كان من الملائكة؛ لأن الاستثناء في قوله: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى، وتنويعاته الأخرى هو استثناء متصلٌ لا منقطع؛ لأن وقوع الإباء منه دليلٌ على أن الأمر الإلهي يشمله وأنه من الملائكة، ولكن التنويع السادس يشذُّ عما سبق؛ إذ يُعلمنا أن إبليس كان من الجن لا من الملائكة. فإذا كان الأمر كذلك، فإن الأمر الإلهي الموجه إلى الملائكة لا يشمله، كما إن إباءه من السجود لا يكون معصيةً لأن المأمور غيره. وهذا من متشابهات القرآن التي لم يصل المفسرون إلى اتفاق بشأنها.
على الرغم من أن القصة القرآنية هي أكثر اختصارًا وإيجازًا من مثيلاتها في الأسفار غير القانونية، إلا أنها تتفق معها في العناصر الرئيسة، وهي:
(٣-١) الأمر الإلهي وعصيانه
«بعد خروج آدم من يد الخالق إنسانًا تام التكوين، أمر الرب الملائكة كلهم أن يسجدوا له ففعلوا، وكان رئيسهم ميكائيل أول الساجدين لكي يضرب للآخرين مثالًا في الطاعة، ولكن الملاك الرئيس ساتان الذي أضمر الغيرة والحسد لآدم رفض السجود» (الهاجاده).
وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ * فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (٥ الحجر: ٢٨–٣١).
(٣-٢) إبليس يسوِّغ سلوكه
«قال ساتان للرب: لقد خلقتنا من ألقك وبهائك، فكيف تأمرنا أن ننطرح أمام من خلقته من تراب الأرض؟ فأجابه الرب: ومع ذلك فإن تراب الأرض هذا يفوقك حكمًا وفهمًا» (الهاجاداه).
قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ * قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (١٥ الحجر: ٣٢–٣٣). … قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (٧ الأعراف: ١٢).
(٣-٣) الطرد والسقوط
«فلما سمع منه الرب ذلك أمسك به ورماه خارج دائرة السماء، فهوى نحو الأرض وتبعه حشدٌ من الملائكة الذين شجَّعهم تمرده على إظهار ما كتموه في أنفسهم من حسدٍ لآدم» (الهاجاداه).
قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (٧ الأعراف: ١٣). قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (٣٨ ص: ٧٧–٧٨).
(٣-٤) طلب المهلة
«فأمرنا الرب إلهنا أن نوثقهم جميعًا (= الأرواح الشريرة)، ولكن رئيس الأرواح مستيما مَثَل أمام الرب وقال له: أيها الإله الخالق، اترك لي بعضًا منهم ليستمعوا إليَّ ويفعلوا ما آمر به؛ لأنه إذا لم يبقَ منهم أحدٌ معي لا أستطيع بَسْط سلطاني على بني البشر … فأمر الرب أن يبقى عُشْر الأرواح الشريرة مع مستيما، وأن يُنْزل التسعة أعشار الباقية إلى مكان الحساب» (سِفْر أخنوخ الأول).
قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (٧ الأعراف: ١٤–١٥).
قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ * إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (١٥ الحجر: ٣٦–٣٨).
(٤) وعيد إبليس
يكتفي النص التوراتي من وعيد إبليس بقوله: ومنذ ذلك الوقت صارت عداوة بين الإنسان والشيطان (الهاجاداه). أما في النص القرآني فإن إبليس يسترسل في وعيده عارضًا بأسلوب فظٍّ وسائله في الانتقام:
قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٣٨ ص: ٨٢).
قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (١٥ الحجر: ٣٩–٤٠).
ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (٧ الأعراف: ١٧).
أمام هذا الوعيد يتحدَّى الله إبليس بأنَّه مهما فعل فلن يقدر على إغواء الصالحين من عباده: قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا * وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا * إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا (١٧ الإسراء: ٦٣–٦٥).
وعلى الرغم من أن الرواية القرآنية لا تنصُّ صراحةً على أن حشدًا من الملائكة تبعوا إبليس وتحوَّلوا إلى شياطين، إلا أن الإشارات اللاحقة إلى الشياطين بالجمع، وإلى جنود إبليس وذُرية إبليس، تدلُّنا على ذلك: فَكُبْكِبُوا فِيهَا١٠ هُمْ وَالْغَاوُونَ * وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (٢٦ الشعراء: ٩٤–٩٥). … أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ … (١٨ الكهف: ٥٠). وكلمة ذرية هنا لا تعني النسل بالمعنى البيولوجي وإنما النظائر والأشباه، وذلك كقوله تعالى: إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ … (١٧ الإسراء: ٢٧). أي إن المبذرين كانوا من نوع الشياطين.
بعد سقوط إبليس ودخوله في التاريخ، نراه تحت اسم الشيطان يتربَّص ببني آدم ليضلَّهم عن سبل الحق: … إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا (١٧ الإسراء: ٥٣). … وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكْمُ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٢ البقرة: ٢٠٨). الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ … (٢ البقرة: ٢٦٨). … وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (٤ النساء: ٦٠). إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ والْبَغْضَاءَ … (٥ المائدة: ٩١). … وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ … (٢٧ النمل: ٢٤).
ولا أدل على سلطان الشيطان على بني البشر من قدرته على التلاعب بعقول أنبياء الله أنفسهم، والتشويش على عملية الوحي، وذلك بأن يزرع في قلوبهم آياتٍ شيطانيةً تبدو لهم للوهلة الأولى آتية من الرحمن. وهذا هو مؤدى قوله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آيَاتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (٢٢ الحج: ٥٢–٥٣). ومن أقوال بعض المفسرين في أسباب نزول هذه الآيات من سورة الحج، ومنهم الطبري، نورد الملخص الآتي:
ورد في خبر حديث الغرانيق أن الرسول تمنَّى في نفسه أن ينزل عليه من الوحي ما يُقرِّب بينه وبين قومه المشركين في مكة، ويُحبب إليهم الإيمان. وكان ذات يومٍ جالسًا في نادٍ من أنديتهم وقد نزلت عليه سورة «والنجم إذا هوى»، فأخذ يقرؤها عليهم حتى إذا بلغ قوله: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى وكان تمنِّيه لا يزال عالقًا في نفسه، فأجرى الشيطان على لسانه: «تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترجى.» ومضى الرسول يقرأ حتى أتمَّ السورة ثم سجد وسجد معه المسلمون، وكذلك المشركون من قريش، ثم تفرَّق الناس وخرجت قريش مسرورةً بما ذكر محمدٌ عن آلهتهم أحسن الذكر. وقد بلغ خبر السجدة مَنْ بأرض الحبشة من المهاجرين، وقيل لهم: قد أسلمت قريش. فهَمَّ بعضهم بالرجوع وتريَّث آخرون. ثم إن جبريل أتى إلى النبي وقال: ما صنعت يا محمد؟ لقد تلوتَ على الناس ما لم آتِك به. فجزع الرسول، ولكن الله كان به رحيمًا، وأنزل عليه ما نسخ الذي أجراه الشيطان على لسانه: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى * أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى * تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى * إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ (٥٣ النجم: ١٩–٢٣).
وعلى الرغم من عصيان الشيطان وتنفيذه للعهد الذي قطعه على نفسه بمقاومة أعمال الرحمن، ومن وصفه بالكفر في بعض الآيات: … وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (١٧ الإسراء: ٢٧)، إلا أنه يبدو في بعض الأحيان، وكما هو الحال في النص التوراتي، خاضعًا للرحمن يأتمر بأمره متى يشاء: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (٤٣ الزخرف: ٣٦–٣٧). أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا * فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (١٩ مريم: ٨٣–٨٤). وبعد أن وُصِف الشيطان بالكفر في المقتبس السابق من سورة الإسراء، نجده يعلن إيمانه في سورة الحشر: كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (٥٩ الحشر: ١٦). وهو يتوَّعد المشركين، بدلًا عن الله، بالعذاب الأليم: وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ … مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (١٤ إبراهيم: ٢٢).
وكما هو الحال في الروايات التوراتية، فإن البشر موزَّعون بين فريقَين هم أهل اليمين الواقعون تحت سلطة الرحمن فهو وليُّهم، وأهل الشمال الواقعون تحت سلطة الشيطان فهو وليُّهم: اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ … (٢ البقرة: ٢٥٧). فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (١٦ النحل: ٦٣). وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ * فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ * وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ * وَظِلٍّ مَمْدُودٍ * وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ (٥٦ الواقعة: ٢٧–٣١). وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ * فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ * وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ * لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ (٥٦ الواقعة: ٤١–٤٤). ومن الجدير بالذكر أن الإنجيل أيضًا قد أتى على ذكر أهل اليمين وأهل الشمال، وذلك في قول يسوع عن عودته في اليوم الأخير: «ومتى جاء ابن الإنسان في مجده وجميع الملائكة القدِّيسين معه، فحينئذٍ يجلس على كرسي مجده ويجتمع أمامه جميع الشعوب، فيميز بعضهم عن بعضٍ كما يميز الراعي الخِرافَ من الجِداء، فيقيم الخراف عن يمينه والجداء عن اليسار. ثم يقول الملك للذين عن يمينه: تعالوا يا مباركي أبي رِثوا الملكوت المُعَد لكم منذ تأسيس العالم … ثم يقول أيضًا للذين على اليسار: اذهبوا عنِّي يا ملاعين إلى النار الأبدية المُعدة لإبليس وملائكته. فيمضي هؤلاء إلى عذابٍ أبديٍّ، والأبرار إلى حياة أبدية» (إنجيل متى ٢٥: ٣١–٤٦).
أما عن مصير إبليس عند اختتام تاريخ العالم، فلا نمتلك إلا إشاراتٍ عابرة تدلُّ على أن مآله هو وأتباعه إلى النار الأبدية. من ذلك ما ورد من المقتبس السابق من سورة الأعراف: لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ. وفي المقتبس من سورة الشعراء: فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ * وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ.
W. F. Allbright, Yahweh and the Gods of Canaan, Anchor, 1969, pp. 186, 139-140.
J. H. Charlesworth, edt, The Old Testament Pseudepigrapha, New York, 1983, Vol. 1, p. 13 ff.