(١) ظهور اللغة العربية في أوروبا منذ القرون الوسطى
يرتقي عهد اهتمام الأوروبيين باللغة العربية إلى القرن العاشر للميلاد. فمن ذلك
الحين أخذوا يحشدون في خزائنهم ما ألَّفه العرب في الطب والفلسفة والرياضيات
والطبيعيات والكيمياء والنجامة والأدب واللغة. وجعلوا يترجمونها إلى لغاتهم، ولا
سيما إلى اللغة اللاتينية التي كانت وما برحت لغة العلم عندهم. ثم ازداد هذا
الاهتمام على أثر احتكاك الإفرنج بالشعوب الشرقية في أثناء الحروب الصليبية
(١٠٩٦–١٢٩١)، فكانوا يبتاعون ما تقع عليه عيونهم من المخطوطات الشرقية؛ لاعتبارهم
إياها من الآثار القديمة الغريبة الشكل واللسان والمجهولة في بلادهم.
ومن الأدلة الراهنة على ذلك أن لويس التاسع ملك فرنسا (١٢٢٦–١٢٧٠م)، لما عاد من
الحرب الصليبية نقل معه من مدينة دمياط مخطوطات عربية وقبطية، زين بها خزائن قصره،
واحتذى حذوه كثيرون من أمراء الفرنسيس وأغنياء حجَّاجهم الذين رافقوا الملك في
زيارته الأماكن المقدسة.
١
زد على ذلك أن علماء الاستشراق وقناصل دول الغرب، وتُجَّار الإفرنج، الذين أمُّوا
البلاد الشرقية في آونة مختلفة استفادوا من جهل سكانها، وقلة اكتراثهم لذخائر
الأجداد. فابتاعوا ما تيسَّر لهم من تلك الكنوز الكتابية، وأغنوا بها خزائن أوروبا
ومتاحفها.
وخلاصة القول أن صرعى الكتب وعشَّاقها في الغرب أقاموا عملاء تسوَّقوا لهم
المخطوطات بأثمانٍ غالية من جميع أنحاء الشرق. على أن من أتيح له أن يتفقد دور
الكتب الشهيرة في لندن وباريس وفينَّا ورومة والفاتيكان وفلورنسا وميلانو ومجريط
(مدريد) وبرلين وليبسك ومونيخ ومنشن وبون وغوتنجن وغوطا وبلجكا وكوبنهاغن وأوبسالا
وليننغراد … إلخ، لا يتمالك من الإعجاب ممَّا أفرغ الإفرنج من الجهود، وما أنفقوه
من الأموال لاكتناز تلك الثروة العلمية التي لا يعادلها ثمن.
(٢) ترجمة كتب الفلسفة والطب العربية، وتدريسها في جامعات أوروبا
شاعت اللغة العربية في القرون الوسطى بين علماء أوروبا؛ لكثرة الأقوام المتكلمين
بها؛ ولشهرة فلاسفة الإسلام بينهم كابن رشد وابن سينا وابن زهر والفارابي والرازي.
فظلَّت تدرس فلسفتهم وطبهم في جامعات أوروبا حتى السنة ١٦٥٠ للميلاد. وعثر داڨيك في
مدرسة مونپليه على ترجمة القرآن في اللغة اللاتينية، بقلم الأخ دومينيك جرمان
الصقلي، فنشرها في المجلة الآسيوية.
٢
وفي السنة ١١٣٠م تأسست في طليطلة كلية لترجمة الكتب العربية إلى اللاتينية برعاية
الأسقف ريموند. وقام بعده جيرار دي كريمونا سنة ١١٧٠م، فترجم كتب الرازي والزهراوي
وابن سينا. وما كان القرن الخامس عشر حتى بلغ عدد الجامعات في إسبانيا ست عشرة
جامعة. فكانت قرطبة بمكتبتها العامرة موضوع إعجاب الأوروبيين. وألقت جامعة إشبيلية
دروسها باللغة العربية.
ولم تكن صقلية وجنوب إيطاليا بأقل حظًّا من إسبانيا؛ ففي القرن الحادي عشر
للميلاد تأسست جامعة ساليرنو التي سيطر عليها الفكر العربي مدة قرنين. وكان
لقسطنطين الإفريقي اليد الطولى في إدارتها. ثم قامت جامعة پالرنو ومونپليه، وتلتها
جامعات باريس وبولونيا وأكسفورد وبادوا وغيرها، وعُنِيَتْ هذه الجامعات كلها بتدريس
العلوم العربية، فأثارت في الغرب ثورة فكرية جديدة أنارت سبل أوروبا، وفتحت أمامها
أبواب ثروة علمية استفادت منها فائدة عظمى.
٣
ومن أعظم المستشرقين الذين تفانوا في نشر اللغة العربية، وتشويق أهل أوروبا إلى
درسها كان «راموندلول»، الذي أدرك أوائل القرن الرابع عشر للميلاد. فهو أول من شعر
بخطورة اللغة العربية في أوروبا فأحكم أصولها وعشق آدابها، بل هو أول من اجتهد في
تدريسها، على رجاء أن تكون وسيلة قوية للتفاهم بين الشرق والغرب.
٤
(٣) حديث الرحالة ابن جبير عن العروبة في بلاط ملوك صقلية
بعد تقلُّص مُلك العرب عن صقلية في القرن الحادي عشر للميلاد لبثت لغتهم شائعة
فيها حتى في قصر الملك نفسه، فإن الملك روجه الثاني (١١٠١–١١٥٤م)، وهو مثقف بثقافة
العرب أطلق لهم الحرية في إقامة فروضهم الدينية وضمهم إلى بلاطه. واستدعى بعض
العلماء من المسلمين كالشريف الإدريسي (١٠٩٩–١١٦٤م)؛ ليستفيد من معارفهم المتنوعة.
٥ وأضاف شارة محمد إلى شارة المسيح في ضرب نقوده. فنقش على إحدى صفحتيها
«لا إله إلا الله محمد رسول الله». وبعد روجه قام الملك غليوم الأول (١١٥٤–١١٦٦م)،
فتأثره واتخذ العربية لغة لأهل بلاطه.
٦
ولما ارتحل ابن جبير إلى صقلية في عهد ملكها غليوم الثاني (١١٦٦–١١٨٩م) وصفه
بقوله: «وشأن ملِكهم هذا عجيب في حسن السيرة واستعمال المسلمين … وهو كثير الثقة
بالمسلمين، وساكن إليهم في أحواله والمهم من أشغاله، حتى إن الناظر في مطبخته رجل
من المسلمين. وله جملة من العبيد السود المسلمين وعليهم قائد منهم … وليس في ملوك
النصارى أترف في المُلك ولا أرفه منه، وهو يتشبه في الانغماس في نعيم الملك، وترتيب
قوانينه ووضع أساليبه، وتقسيم مراتب رجاله وتفخيم أبهة الملك وإظهار زينته بالملوك
المسلمين … ومن عجيب شأن المتحدث به أنه يقرأ ويكتب بالعربية، وعلامتُه على ما
أعلمنا به أحد خدَمته المختصين به «الحمد لله حق حمده»، وكانت علامة أبيه «الحمد
لله شكرًا لأنعمه».
٧
أما فردريك الثاني إمبراطور النمسا (١١٩٤–١٢٥٠م)، فقد شمل بحمايته جامعة بولونيا
الشهيرة في إيطاليا، فوهبها طائفة من المخطوطات باللغة العربية، ولا سيما كتب الطب.
هكذا تسرَّبت إلى منابر بولونيا فلسفة ابن رشد، كما تسربت قبل ذلك إلى منابر جامعة
بادوا.
واحتذى فردريك الثاني المشار إليه بمثال ألفونس التاسع صاحب قشتالة (١١٥٨–١٢١٤م)،
فجمع إليه المترجمين من العرب وفريقًا من الإفرنج المثقفين بالعربية، فبلغ ما
ترجموه ٣٠٠ مجلد إلى اللغة اللاتينية لغة العالم ما عدا ما نقلوه إلى غيرها. وما
مرَّ القليل حتى أصبحت جزيرة صقلية في ذلك العصر معقل العربية المنيع، وغدا ملوكها
يحسنون صلة العرب فقربوا علماءهم، وجمعوا في بلاطهم حلقة من شعرائهم، وجعلوا من
العربية لغة الأدب العالي. وخلاصة القول أن ملوك صقلية وأمراءها كانوا عربًا في
ثقافتهم وحياتهم وطرق حكمهم ولباسهم وقصورهم ومعيشتهم وحفلاتهم.
٨
(٤) اندماج ألفاظ عربية في لغات الإفرنج وفي معاجمهم
لم يغمض ملوك الفرنسيس عن الاعتناء باللغة العربية، بل نهجوا في تعزيزها نهج ملوك
إسبانيا وصقلية، فأنشأوا في باريس عاصمتهم مدرسًا عامًّا؛ لتعليمها منذ أواسط القرن
الثالث عشر للميلاد،
٩ هكذا اندمجت في لغة الفرنسيس وفي سائر لغات أوروبا ألفاظ عربية كثيرة،
ولا سيما في العلوم البحرية والطبية، وغير خافٍ أن الطب العربي كان أساس علم الطب
عند الفرنسيس أخذوه مع كثير من ألفاظه، وأثبت المستشرق العلامة الأب هنري لامنس أن
اللغة الفرنسية استعارت نحو ٩٠٠ لفظة من اللغة العربية، واستعملتها وأدخلتها
رسميًّا في معاجمها.
١٠
ونشر المستشرق فرنكل (١٨٥٣–١٩٠٩م) الألماني أستاذ أصل اللغات في كلية برسلو تآليف
وبحوثًا خطيرة، حدَّد فيها الكلمات العربية الدخيلة على اللغات الأوروبية،
١١ وألف كذلك كتابًا في الألفاظ التي اتخذها العرب من السريان، فدقَّق
وعمَّق وحقَّق.
١٢
(٥) انصراف علماء الاستشراق إلى نشر أهم الكتب العربية
ما اكتفى علماء الاستشراق في أوروبا بدرس اللغة العربية، واذِّخار كتبها، لكنهم
انصرفوا منذ عهد اختراع الطباعة إلى طبع الشيء الكثير من تواريخ بلاد العرب
وجغرافيتها وتراجم رجالها وأصول شعوبها. هكذا تيسر للأوروبيين أن ينشروا أهم تلك
الكتب في مختلِف العلوم العقلية والنقلية. ومن جملتها أول طبعة من القرآن باللغة
العربية، نشرها بابا غانيني في مدينة البندقية. ثم نشر أندريا أريڨابن من مانتو أول
طبعة للقرآن باللغة الإيطالية،
١٣ وما عتَّم أن طبع هذا المصحف في سائر لغات أوروبا كالإنكليزية
والفرنسية والإسبانية والألمانية والهولندية والروسية واليونانية واللاتينية
والبوهيمية والمجرية والدنماركية والبولونية والقشتلانية والبرتغالية والروتانية
والبلغارية والصربية والألبانية والأسوجية.
وفي السنة ١٦١٧ نشرت مطبعة ليدن بهولندا قصة يوسف البار من القرآن. وهو أول كتاب
أبرزته المطابع مضبوطًا بالشكل الكامل،
١٤ ونشرت مطبعة أكسفورد سنة ١٧٤٣ السيرة النبوية من تاريخ أبي الفداء،
١٥ وقد ذهب بعض المؤرخين إلى أن ما طبع من مؤلفات أسلافنا في أوروبا
وأميركا على يد المستشرقين من أهل تينك القارتين بلغ أضعاف أضعاف ما طبعوه بسائر
لغات الشرق. ذلك كله يؤيد مبلغ عناية الإفرنج بلغتنا وحضارتنا وتاريخنا وعلومنا.
١٦
وأثبت الأب لويس شيخو في كتابه «أطرب الشعر وأطيب النثر» ما يلي:
١٧ «أن المطبوعات العربية وحدها التي تصدر في أنحاء أوروبا فضلًا عن بقية
اللغات الساميَّة، تنيف كل عام على الألف والثلاثمائة بين التآليف الصغيرة والكبيرة
الحجم ذات المواضيع المتوسطة والخطيرة، وذلك بلا مراء أقوى دليل يثبت ما في علماء
الغرب من الكَلَف بنشر آثار لغتنا.»