معارض المخطوطات النفيسة في مكتبات أوروبا
(١) معارض مكتبات باريس ولندن وبرلين وفينا
اعتاد الغربيون أن يقيموا حينًا بعد آخر معارض عامة أو خاصة، يدبِّجونها بكل ما استنبطوه من الاختراعات، وما تفرَّدوا به من الصناعات. فتفننوا في ذلك تفنُّنًا عجيبًا حمل القريب والبعيد على ارتياد تلك المعارض، والتمتع بمشاهدة غرائبها، فأصبحت أقوى ذريعة لإنعاش بلدانهم وترويج أسواقهم ودر الخيرات الوافرة عليهم، وما عدا المعارض الصناعية والفنية، فإن الغربيين برَّزوا أيضًا في إنشاء معارض رائعة، زيَّنوها بما أحرزوه من الآثار النفيسة والكنوز الثمينة.
وإذا حصرنا البحث في معارض دور الكتب دون سواها، وجدنا بعضها يُقام في مواسم خاصة أو في أيام محدودة حولًا بعد حول. ورأينا البعض الآخر تفتح أبوابه لزيارة الخاص والعام في ساعات معدودة من كل يوم على مدار السنة. وقد يؤمُّ تلك المعارض نظرًا إلى خطورتها فريق من الملوك ورؤساء الحكومات وعلماء المشرقيات، فضلًا عن رواد الآداب الرفيعة.
وليست المعارض المذكورة إلا وسيلة للتنافس بين الدول، فتعرض كلٌّ منها أبدع ما لديها من التُّحف الكتابية؛ لتباهي بها سائر زميلاتها، لأن الدولة الواحدة تملك مثلًا من تلك الذخائر الغابرة ما لا يملكه غيرها.
أما أشهر دور الكتب التي تفرغت في أوروبا لإقامة مثل هذه المعارض، فهي: دار الكتب الأهلية في باريس، والمتحف البريطاني في لندن، ومكتبتا برلين وڨينا، والمكتبة الواتيكانية، وقد أتيح لنا أن شاهدنا معرضًا طريفًا أنشأته دار الكتب الأهلية في نيسان سنة ١٩٢٥ بباريس، استعرضت فيه أفخر ما لديها من المخطوطات المدبجة بالزخارف والتصاوير في اللغات الشرقية، كالعربية والسريانية والعبرانية والفارسية والتركية والحبشية والقبطية. وجرى افتتاح ذلك المعرض رسميًّا برئاسة السيد غستون دومرغ رئيس الجمهورية الفرنسية. فانتدبتْنا إدارة المكتبة لنشرح للرئيس المشار إليه ولأقطاب دولته محتويات المعرض، ومزايا مخطوطاته العربية، ونلخص لهم لمحة من تراجم مؤلفيها، فنهضنا بتلك الخدمة الأدبية محبورين مغتبطين.
وأعظم معرض للمخطوطات الإسلامية أنشئ في المتحف البريطاني بلندن سنة ١٩٣٤ بإدارة المستر تشستربيتي، فكان موضوع إعجاب الجميع لاحتوائه على رقوق نادرة، وخطوط غريبة الأشكال، ومصاحف كتبت في عصور مختلفة، ومصنَّفات ذات قيمة تاريخية، وشوهد بين تلك الكنوز مخطوطات اقتناها المتحف البريطاني بما يؤازي ثقلها ذهبًا، ومما برهن على خطورة ذلك المعرض أن الملك جورج الخامس، والملكة ماري زوجته شرفاه بزيارتهما الملكية.
(٢) معرض المكتبة الواتيكانية
لا يخفى أن في المكتبة الواتيكانية برومة معرضًا مدهشًا، يشتمل على خرائد وفرائد لا قرين لها في سائر المكتبات الكبرى. ثم ضمت إليه أهم التحف التي أهديت عام ١٨٨٧ إلى البابا لاون الثالث عشر في يوبيله الكهنوتي الذهبي. وقد زرناه مرتين عام ١٩٠٠ وعام ١٩٢٢، فلفت نظرنا كثير من ذخائره نذكر منها: كتاب «رتبة القداس» مرصع بالجواهر الغوالي، أهداه إلى البابا المشار إليه إمبراطورُ النمسا فرنسيس يوسف الأول (١٨٤٨–١٩١٦)، ونسخة من التوراة مجلدة تجليدًا فاخرًا، وموشاة باللآلئ النادرة قدمها للبابا حاخام اليهود الأكبر في برلين. ومركع للصلاة مطعم بالحجارة الكريمة قدمته للحبر الأعظم أميرات مملكة إسبانيا وسيداتها النبيلات.
(٣) معرض يوبيل المجمع العلمي الروسي
(٤) معارض مكتبات القسطنطينية والقاهرة وبيروت
كان للخليفة عبد الحميد الثاني السلطان العثماني (١٨٧٦–١٩٠٩) شغف عظيم بالمخطوطات القديمة الجميلة. حشد منها طائفة صالحة في خزائن «يلدز» قصره في الآستانة، وكان يتباهى بها أمام الملوك والعظماء، الذين يزورونه أكثر من تباهيه بما خلّضفه السلاطين أسلافه من التحف والجواهر. وبعد خلعه يمَّم بيروت بعض أولاده وحفدائه وباعوا بها طُرَفًا شتى التقطوها من بلاط السلطان الخليع، فاقتنى مؤلف هذا المقال أفخر ما استحضروه معهم من المخطوطات وأندرها.
على أن الشرقيين أخذوا بتوالي الأزمان يقلدون الغربيين في معارضهم الكتابية، وكان المجلِّي في هذا المضمار أولياء دار الكتب المصرية، فإنهم أفسحوا فيها بعض الخزائن لعرض أثمن ما لديهم من المصاحف والمخطوطات القديمة النادرة. وانتهج المتحف القبطي في القاهرة نهج دار الكتب المصرية، فخصَّص بالكتب القبطية النفيسة دائرة تلفت أنظار الزائرين بزخارف محتوياتها، وقدامة عهدها.
ولما جرى افتتاح دار الكتب اللبنانية رسميًّا في بيروت بتاريخ ٧ حزيران ١٩٣٧، رأى أمينها مؤلف هذا المقال أن يكون لها شأنها ومقامها بين زميلاتها المشار إليها. فأنشأ فيها معرضًا ممتازًا اشتمل على ما حوته خزائن تلك الدار، وما حوته خزائنه الخاصة من عتائق الرقوق، وبدائع المخطوطات، وروائع الخرائط والمصورات. وأصبح ذلك المعرض الكتابي أول معرض من نوعه في هذه الديار الشرقية.