مقدمة الطبعة الثالثة
أعتذر للقارئ سلفًا عن اضطراري إلى اجتزاء المقطع التالي، والطويل نسبيًّا، والذي سيكتشف أنه خاتمة السطور الأخيرة في الطبعة السابقة من هذا الكتاب.
قلت في المقطع المذكور «ولن يستطيع هذا الجيل — وفي المقدمة منه أدب نجيب محفوظ — أن يتجاوز مقتضيات التاريخ، لن يستطيع أن يرى رؤيا جديدة، مهما كتب وغزُر إنتاجها عامًا بعد عام؛ ذلك أن موقف الكاتب الآن من مجتمع ما قبل الخامس من يونيو، كموقفه بعد الثورة من مجتمع ما قبلها: هل يسمح لنفسه أن يكون ناقدًا للماضي وحسب، مهما امتدت رواسب الماضي إلى قلب الحاضر؟ إنه حينئذٍ لن يصنع أكثر من ترديد كلام سبق أن قاله بصورة أفضل، أو أن يقول كلامًا يرادف الصمت … وإما أن يختار الصمت طوقَ نجاةٍ من حكم التاريخ.
وإذا كانت السنوات السبع العجاف في حياة نجيب محفوظ من ١٩٥٢ إلى ١٩٥٩م قد أثمرت، جدليًّا، السنوات السبع العظام من ١٩٦٠ إلى ١٩٦٧م، فهذه السنوات بعينها هي التي تؤدي — بنفس المنطق الجدلي — إلى خواء المرحلة القادمة بالنسبة للجيل الحالي، وفي المقدمة منه نجيب محفوظ.
وإذا كان الخامس من يونيو ١٩٦٧م في المستوى السياسي، وأدب نجيب محفوظ قبل هذا التاريخ في المستوى الفني، قد أعلن أن العَنقاء احترقت بعشها، فإنه لن يتيسر للثورة المصرية وثقافتها بعث جديد إلا على أكتاف جيل جديد ورؤيا جديدة تتجاوز الهزيمة وثقافتها المدحورة؛ فنحن لسنا بحاجة إلى معجزة جيل أدى رسالته على خير وجه؛ وإنما نحن بحاجة إلى جيل المعجزة القادرة على أن تقيم إليعازَر من بين الأموات، أو أن تبعث من الرماد المحترق عنقاءَ جديدة، تجوب الأرض والسماء، لتجمع أطيب النباتات، وتبني عشها من جديد. ولعل هذا هو التحدي أمام الجيل القادم؛ هل يستطيع أن يصنع المعجزة من رماد تخلَّف عن احتراق العنقاء القديمة؟» (ص٤٤٩ و٤٥٠ من طبعة دار المعارف بالقاهرة ١٩٦٩م).
كتبت هذه الكليات إذن منذ أحد عشر عامًا.
وأذكر الآن جيدًا كيف تأخر الكتاب بعد طبعه ثلاثة أشهر في الرقابة بسبب الفصل الأخير بأكمله «المنتمي في أرض الهزيمة»؛ ولذلك بادرت أثناء لقائي بالشاعر أدونيس في بغداد عام ١٩٦٩م وأعطيته الفصل لينشره في العدد الخامس من مجلة «مواقف» حتى أضع نفسي والرقابة أمام الأمر الواقع.
وتم الإفراج عن الكتاب بعد مداخلات حارة من جانب الدكتور إسماعيل صبري عبد الله المشرف على التحرير في دار المعارف حينذاك، والشاعر الراحل عادل الغضبان مديرها العام.
وبظهوره في الأسواق قامت القيامة.
كان نجيب محفوظ كعادته رجلًا دمثًا خلوقًا، فأثنى على الفصل الجديد علنًا وكرر رأيه التقليدي في «المنتمي» منذ ظهرت طبعته الأولى عام ١٩٦٤م.
ولكن «النقد» كان له رأي آخر، أنسباء الرقابة وأصهار السلطة زايدوا على الرقابة والسلطة، وقالوا إن الإضافة الجديدة تحمل رؤيةً سوداوية متشائمة، تشكك في قدرة النظام السياسي والاجتماعي على البقاء.
أما دراويش نجيب محفوظ فقد زايدوا عليه وعليَّ معًا؛ زايدوا عليه لأن الرجل أحب «المنتمي» بصدق، وتفهم الفصل الجديد بذكاء واقتدار، ولأنه أيضًا يثق في البناء الذي شيده طيلة ثلاثين عامًا، ولأنه يثمن الجهد الذي بذله شاب في التاسعة والعشرين من عمره حين أكبَّ على أول دراسة شاملة حول إنتاجه، لم يتوفر عليها الكهول، فضلًا عن الشيوخ.
وزايدوا عليَّ؛ لأن محبتي واحترامي وافتتاني بنجيب محفوظ وفنه فوق كل شبهة؛ فقد كنت أنا ذلك الشاب الذي تعرف عليه عام ١٩٥٦م فلم يترك ندوته في «كازينو أوبرا» أسبوعًا واحدًا حتى دخلت المعتقل السياسي عام ١٩٦٠م، لأعود بعد ثلاث سنوات وكأنني لم أنقطع عن الندوة وصاحبها «جمعةً» واحدة. وفي عام ١٩٦٤م يصدر لي «المنتمي»، فيستقبله نجيب محفوظ والنقاد بما أخجل تواضعي. وبعدها نترافق في «الأهرام» سنوات طويلة في طابق واحد.
هذه المزايدة المثلَّثة على السلطة ونجيب محفوظ وعليَّ، راحت تتساءل بعد قراءة الفصل الأخير الجديد: إلى أي مدى يحق للناقد أن «يتنبأ» بنهاية كاتب؟ ألا يمكن أن يفاجئنا الفنان بموهبته الخارقة، بما يهزم كل النبوءات؟
وأجبت حينذاك: نعم، ليس من حق الناقد أن يتنبأ، ونعم من الممكن للمبدع أن يفاجئ، ولكن من حق الناقد أن يحلل، وأن يسلك تحليلاته في نسق من الرؤيا، كما هو حال الفنان تمامًا؛ فالحق بينهما مشترك، أن يرى الكاتب وأن يرى الناقد وأن تختلف أو تتفق الرؤيتان. كذلك من الممكن للفنان أن يفاجئ؛ بل هذا هو الفن: أن يفاجئ ويكشف ويرى ما لا يراه الآخرون، ولكن الفنان ليس خارج التاريخ؛ إنه يحلم بطاقة تكونت على مدى السنين. والقدرة على الحلم والرؤيا ليست بلا حدود، إنما هي محدودة بالمكونات الأصلية والمتغيرات المؤثرة في البنية الإبداعية للكاتب؛ لذلك كان كل عمل فني مفاجأة بحد ذاته. كذلك التطور من اتجاه أدبي إلى آخر ليس مستحيلًا، ولكن الرؤيا الشاملة التي تولد جنينًا موروثًا من البيئة والطبيعة والتاريخ، والتي تشب في حضن الثقافة والمجتمع، والتي تصقلها الخبرة والتجارب والموهبة، ليست من الأمور التي يمكن أن تنقلب رأسًا على عقب. من الممكن أن تنتصر الرؤيا وأن تنكسر، أن تنمو وتتطور وتتعملق وتخبو بالتدريج، ولكنها لا تفاجئنا مطلقًا بالتغير الميتافيزيقي من نقيض إلى نقيض، وهنا أتكلم عن الرؤيا الجمالية التي لا أسمح باختزالها أو تبسيطها لأن تكون مجرد مذهب سياسي أو ديني أو فلسفي. إن الأديب قد يقول في الحياة العامة والخاصة ما شاء له القول المباشر في شئون السياسة والدين والفلسفة، ولكنه حين يكتب فإن رؤياه الجمالية هي استقلال نوعي عن هذه الآراء والإفتاءات والتصريحات.
وفي هذه الحدود لم يعرف التاريخ الأدبي في العالم كاتبًا-نبيًّا لثورتين. إن أعظم الكتاب والفنانين لم يكونوا من السياسيين، والكاتب العظيم هو من استطاع أن يحلم بالثورة ولم يتوحَّد بسلطتها حين تتحقق. والكاتب العظيم لا يقلق من تجاوز التاريخ لثورته؛ لأنه يثق في أن فنه سيبقى ساري المفعول تراثًا في شرايين الأجيال المطالعة. والكاتب العظيم هو الذي يستطيع أن يحافظ على توازنه إذا انتكست مسيرة الثورة وتلاشى الحلم، سواء بسبب الثوار أو بسبب أعدائهم.
ونجيب محفوظ — كما قلت حينذاك — كاتب عظيم؛ لأنه أعطى هرمًا عملاقًا في تاريخ الرواية العربية، وكفاه. ولأنه سيبقى في العروق الجديدة دمًا غاليًا يغذي الحاضر والمستقبل بأسباب الحياة، حتى إذا لم يكتب حرفًا جديدًا. ولكني أعتقد — هكذا استطردت في الجواب — أن هزيمة ١٩٦٧م هي هزيمة رؤيا شاملة، لا مجرد هزيمة عسكرية أو سياسية. وإن أدب نجيب محفوظ هو أحد الأعمدة الرئيسية في بناء تلك الرؤيا التي كفت عن العطاء. وإن المشكلة في الحقيقة ليست مشكلة نجيب محفوظ؛ بل هي مشكلة الأدب الجديد والأدباء الجدد الذين يتعين عليهم بناء رؤيا جديدة كما فعل نجيب محفوظ من قبل.
ولكن أحدًا لم يقتنع.
ولم أغير بدوري من قناعتي.
وحين خرجت من مصر أوائل عام ١٩٧٣م كان نجيب محفوظ قد أصدر — بعد صدور الطبعة الثانية من كتابي — مجموعتين من القصص القصيرة (شهر العسل – حكاية بلا بداية ولا نهاية ١٩٧١م)، وروايتين (المرايا ١٩٧٢م – الحب تحت المطر ١٩٧٣م). وفي أول مقابلة صحفية أجرتها معي مجلة لبنانية سئلت: ها أنت ذا ترى نجيب محفوظ يكتب ولم يكُف عن العطاء، فما رأيك؟
وأجبت بأنه لم يكف عن الكتابة، ولكنه كفَّ عن العطاء، فها هو يسترجع الذكريات ليُدين الجميع ويبرئ نفسه (المرايا)، وها هو ذا يكتب على الصعيد الفني تحقيقًا صحفيًّا لا رواية (الحب تحت المطر). وقلت لصاحب السؤال: ليس في القاهرة من لا يعرف شخصيات المرايا واحدًا واحدًا، وليس ذلك بالعمل الروائي الجيد. وقلت له: سأبوح لك بسر، أسجله هنا من جديد على مسئوليتي الكاملة؛ إن «الحب تحت المطر» المنشورة في كتاب هي إحدى الصور لهذه الرواية وليست الصورة الوحيدة. لقد كتبها نجيب لمجلة «الشباب» بعد أن اعتذر الأهرام عن نشرها، وتدخل الرقيب في نشرها في المجلة فحذف من النص كما يشاء، ذلك كان الرقيب على الصحافة. وفي الوقت نفسه كان الناشر يعدها للصدور في كتاب، وقد تصادف أنني كنت في مكتب نجيب محفوظ وهو يرد على التليفون، وإذا به يحذف ويضيف ويعدل في النسخة المعدة للنشر في كتاب، فقد كان الذي يتكلم على الطرف الآخر هو رقيب النشر. ومن يريد أن يسجل تاريخ حرية التعبير في ذلك الوقت (أكرر أنه عام ١٩٧٣م) عليه أن يقارن بين «الحب تحت المطر» المنشورة في مجلة الشباب، و«الحب تحت المطر» المنشورة في الكتاب، و«الحب تحت المطر» الباقية لدى نجيب محفوظ.
وعندما ظهر الكتاب سألت نجيب محفوظ بصراحة: لماذا يبدو عليها طابع التحقيق الصحفي وقد خلت من الزخم القديم؟ وأجابني بما جزعت له يومها، قال: صدقني إنها رواية بالصدفة، فلقد تبقت عدة شخصيات — ثلاثة ربما — من المرايا (لا أدري إلى الآن كيف تبقت، ولماذا لم تضم للكتاب السابق) فنسجت لها أحداثًا تناسبها فكانت «الحب تحت المطر».
هكذا كان الكاتب العظيم قد بدأ رحلة الانحدار على الصعيد الفني، الذي يعكس سقوط رؤيا انتهت.
وزاد عواء المزايدين، واتهموني علنًا بالرغبة في تحطيم نجيب محفوظ، القمة الأدبية العربية. وفضلًا عن أنه لم يولد بعدُ الناقد الذي يستطيع هدم موهبته، فإنه بدا لي غريبًا أن أُتهم أنا بالذات صاحب المصلحة المباشرة في «قيمة» نجيب محفوظ، بأنني أريد تحطيمها.
وأثناء غيابي عن الوطن أصدر نجيب محفوظ ثلاث مجموعات من القصص القصيرة (الجريمة ١٩٧٣م – الحب فوق هضبة الهرم ١٩٧٩م – الشيطان يعظ ١٩٧٩م)، وكذلك ست روايات (كما يحب أن يسميها) هي: الكرنك ١٩٧٤م – حكايات حارتنا ١٩٧٥م – قلب الليل ١٩٧٥م – ملحمة الحرافيش ١٩٧٧م – عصر الحب ١٩٨٠م.
ولسوء الحظ فقد ترافقت هذه التواريخ مع أحداث سياسية جدلية هزت مصر والوطن العربي كله، فأخذ الاختلاف أو الاتفاق مع نجيب.
وثالثًا، لأن كثيرًا من هؤلاء الذين «فوجئوا» لم يوضعوا في الامتحان العسير، ولأن بعضهم كتب ما كتب في بحبوحة الأرض التي أتاحت لهم أو طلبت منهم أن يكتبوا ما كتبوه.
ورابعًا، لأن البعض وظَّف قلمه لخدمة غرض مشبوه لا علاقة له بنجيب محفوظ، وإنما له علاقة بتحطيم العطاء المصري للثقافة العربية؛ بإنكار هذا العطاء أصلًا وتشويهه إن وجد؛ بدءوا بطه حسين، ومروا بنجيب محفوظ، وانتهوا برفاعة رافع الطهطاوي، ألمع الرموز في التاريخ العربي للثقافة المصرية الحديث. وكأن الذين توهموا أنه يمكن وراثة مصر قد عثروا في بعض الأقلام المصرية وغيرها معاول تهدم الماضي والحاضر والمستقبل.
وخامسًا، لأن الصلح مع إسرائيل ليس مجرد «معاهدة»؛ بل هو ثقافة كانت وكائنة، يروج لها — وهنا المفارقة — بعض الذين يرفعون الصوت عاليًا ضد نجيب محفوظ والثقافة المصرية، فالدكتاتورية والعشائرية والطائفية والعرقية والانفتاح على الغرب والعداء للاشتراكية؛ هذه كلها «ثقافة» تغني حتى عن توقيع المعاهدات، ولكنها تنجز مهام «الصلح» مع العدو الوطني والقومي والحضاري.
وكما أنني كنت صاحب «المنتمي»، وبالتالي صاحب الحق في كتابة «المنتمي في أرض الهزيمة»، كذلك أقول إن صاحب ذلك الفصل-الخاتمة، يملك الحق في الاختلاف مع الذين زايدوا قديمًا ثم اعتذروا فزايدوا من جديد.
كيف؟
-
ليس دفاعًا عن نجيب محفوظ أقول إنه كان أحد المشاركين في ندوة فكرية بدار الأهرام (أبريل (نيسان) ١٩٧٢م) مع العقيد القذافي حول الإسلام من ناحية، وفلسطين من ناحية أخرى. وفي هذه الندوة التي لم ينشر منها الأهرام سوى الجزء الخاص بالإسلام (في ٧ / ٤ / ١٩٧٢م) كان نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم وحسين فوزي من الشجاعة بمقاييس ذلك الوقت بحيث أعلنوا أن الحل الوحيد للمشكلة هو الصلح مع إسرائيل. لم يُنشر هذا الجزء من الندوة، ولو نُشر لأمكن التصدي لرأي محفوظ وزميليه، لأمكن تفنيد هذا الرأي علنًا، ولأمكن تفادي «المفاجأة» التي صدمت الكثير بعد خمسة أعوام كاملة حين قام محفوظ وغيره بتأييد زيارة القدس المحتلة واتفاقيات كامب ديفيد ومعاهدة الصلح.
-
إن محفوظ لم يسقط عام ١٩٧٧م كما يؤرخ البعض؛ بل سقطت رؤياه قبل هذا التاريخ بعشر سنوات. وهي رؤيا جيل كامل من المثقفين المصريين، ورؤيا طبقة كاملة في المجتمع المصري. لقد تربى هذا الجيل، وازدهرت تلك الطبقة في رحاب ثورة ١٩١٩م، التي يُنسب لقائدها أنه وصف العرب بأنهم «صفر + صفر + صفر»، وكان الزعيم الشعبي الذي سحق المحاولة الأولى لإقامة حزب اشتراكي في مصر. ومعنى ذلك أن مفهوم «الوطنية» عند ذلك الجيل وتلك الطبقة كان بعيدًا كل البعد عن القومية العربية والاشتراكية، وكان كل ما يعنيه هو الدستور والجلاء؛ لذلك حين يقدم النظام المصري الراهن نفسه عام ١٩٧١م وإلى اليوم كمحامٍ عن الدستور وكمحرر للأرض، فإن أصحاب المفهوم القديم للوطنية المصرية يجدون أنفسهم في هذا النظام أكثر كثيرًا من النظام السابق.
ويثبت نجيب محفوظ في هذا الصدد، أن الكاتب مهما كان عظيمًا، فإنه لا يتجاوز مقتضيات التاريخ ولا مكوناته الرئيسية الأصلية، ولا رؤيا للطبقة التي ينتمي إليها فكريًّا أو اجتماعيًّا.
-
ومع ذلك فنجيب محفوظ السياسي يزول، ويبقى نجيب محفوظ مؤسس الرواية العربية الحديثة وباني عمارتها الشامخة. وتراثه العظيم والمستقل عن مواقفه الأخيرة هو ملكٌ للأمة العربية كلها سواء أراد أو لم يرد، أراد الآخرون أو لم يريدوا، فهو التراث الذي شارك ويشارك في صياغة العقل والوجدان العربي المعاصر، وهو أخيرًا التراث الذي يدين صاحبه.
باريس، ٣ / ٦ / ١٩٨١م