جيل المأساة
إذا كان نجيب محفوظ يقدم لنا هذا الاعتراف الكبير في صوَرِه الثلاث، ألا يحق لنا أن نستكشف أبعاد هذه العلاقة الوثيقة بين الشخصية في الواقع، والشخصية في الفن؟ أليست هذه العلاقة هي التي تضيء لنا جوانب الشخصية الإنسانية للفنان الذي يجسد لنا في أعماله أزمة جيل؛ بل مأساة مجتمع؟
لقد تساءل الكثير فور قراءتهم للجزء الأخير من الثلاثية:
ألا ينبغي أن يكون لها جزء رابع حتى نعرف إلامَ انتهت مصائر هذه الشخصيات وتلك الأحداث؟
ويُخيل إليَّ أن هذا التساؤل جاء نتيجة لتصور ما هو المفهوم «التاريخي» للرواية. أي أن الفنان هنا يقوم بعملية تسجيل تاريخي ومسح اجتماعي لإحدى مراحل حياتنا التي تبدأ أثناء الحرب العالمية الأولى، وتنتهي في أواخر الحرب الثانية. ولا شك في أن مؤلف «بين القصرين» و«قصر الشوق» و«السكرية» استخدم هذه المرحلة التاريخية كأحد العناصر الأساسية في عمله الفني، ولكنه فيما أرى لم يستهدف تسجيلها قط أو مسحها اجتماعيًّا … وإنما أحس في طبيعتها «إطارًا» يصلح لأن يضم بين معالمه قضية أخرى على جانب من الخطورة؛ بل هي تشكل المحور الرئيسي للبناء الروائي. كذلك أتاحت هذه المرحلة للفنان أن يعبر عن فكرته الخاصة في الزمن كعنصر موضوعي مستقل عن إدراكنا. كما أن هذه الفترة على وجه التحديد أسهمت في صياغة الأزمة التي عرض لها الفنان بشيء من الإسهاب والتفصيل.
أما القضية الخطيرة التي احتواها ذلك الإطار التاريخي المتسع فهي القضية الفكرية التي تجسدت في شخصية كمال عبد الجواد، كواحد من أبناء ذلك الجيل الذي استقبل الحياة في عشرينيات هذا القرن مع نيران الحرب الأولى ولهب ثورتنا الوطنية عام ١٩١٩م. وأما فكرة نجيب محفوظ عن الزمن فإنها مستمدة من النظرية القائلة بحتمية التطور التاريخي. وأما هذه الفترة التي أسهمت في صياغة أزمة كمال عبد الجواد فإنها أكثر فترات تاريخنا الحديث تعبيرًا عن مأساة الحرية في المجتمع المصري؛ لذلك كان الفنان صادقًا كل الصدق في اتخاذه من هذه المرحلة نسيجًا فنيًّا وفكريًّا ربما تضمن تفسيرًا معينًا للتاريخ أو تسجيلًا لحركة المجتمع، ولكن هذا التفسير أو ذاك التسجيل لم يكن إلا خادمًا للقضية الكبرى في الرواية.
والحق أن نجيب محفوظ كان صادقًا كل الصدق مرة أخرى، حين قدم لنا اعترافه بأن الجانب العقلي من شخصية كمال عبد الجواد في الثلاثية يمثل الجانب العقلي من شخصيته هو في الواقع. غير أننا بحاجة لأن نستكشف — كما قلت — طبيعة هذه العلاقة بين الشخصية الفنية والشخصية الواقعية حتى ندرك أبعاد تلك القضية الكبيرة التي يعرض لها، كما ندرك — فيما بعد — المحاور الفكرية والفنية التي تدور حولها بقية أعماله. فنجيب محفوظ الذي تبلور لنا في شخصية كمال عبد الجواد هو بعينه الذي قدم لنا الشيء الكثير، قبل وبعد الثلاثية.
غير أن نجيب محفوظ لم يكن رائدًا في أدب الاعتراف الروائي، فقد سبقه معظم رواد القصة على نحو من الأنحاء: توفيق الحكيم في «عودة الروح»، وطه حسين في «الأيام»، والعقاد في «سارة»، والمازني في «إبراهيم الكاتب» … وغيرهم. إلا أن هذه الأعمال الرائدة جميعها لم تتضمن قضايا فكرية ترتفع بها من مجرد المحاولة الروائية أو تشخيص إحدى العلل الاجتماعية أو استعراض الحياة الشخصية الموغلة في الذاتية والتفرد … إلى أن تكون تجسيدًا لأزمة جيل كامل، أو مأساة مجتمع. ومن هنا تكون إضافة نجيب محفوظ ذات أهمية بالغة؛ فقد أفاد بلا ريب من المحاولات السابقة عليه؛ تعلم منهم جميعًا الأصول الفنية للرواية، والتحليل النفسي والاجتماعي، والشجاعة في تعرية الذات … ثم أضاف بعد ذلك كله روعة القضية الفكرية حين تصبح المحور الحقيق للعمل الفني، ويصبح كل شيء عداها خادمًا لها.
ومن جاني أعتقد أن أدب القضايا الفكرية هو المستوى الأعمق بين مختلف ألوان الأدب واتجاهاته وعصوره؛ إلا أن الآداب الأوروبية في القرن العشرين تنحاز بصورة واضحة إلى جانب التركيز على أزمات الفكر المعاصر. ولكن التراث الحضاري الضخم الذي يحمله المفكر أو الفنان الأوروبي في عقله ووجدانه، لا يُلجِئه إلى الأشكال البسيطة في التعبير الجمالي؛ لأن قارئه تَمثَّل عديدًا من الخبرات والمذاهب. ومن ثَم يصوغ الأديب الأوروبي تجربته في أطر تناسب المستوى الحضاري العام الذي بلغ شوطًا من التعقيد. وقلما نجد روائيًّا في أوروبا يستخدم الشكل الاستعراضي في أدب الاعتراف للتعبير عن إحدى القضايا الفكرية أو الأزمات الروحية. وإذا كان معظم النقاد يعدون رواية «دروب الحرية» تعبيرًا مباشرًا عن سارتر … فإن سارتر لم يكن معبرًا في ثلاثيته عن أزمة شخصية فحسب؛ بل عن جيل ومجتمع وحضارة. وبالرغم من ذلك فهو لم يلجأ إلى التبسيط «المركز أحيانًا» إلا في الجزء الأول «سن الرشد»؛ أما في الجزء الثاني والثالث فإنه لم يستطع أن يتجنب التكثيف والتعقيد.
وسوف تفيدنا المقارنة كثيرًا بين ثُلاثيتَي سارتر ونجيب محفوظ، من عدة زوايا. إلا أن ما أثرته حتى الآن بصدد الشكل الفني أقصد به أن أؤكد على ما أراه حقيقة جديرة بالاعتبار. وهي أن اختيار نجيب محفوظ للشكل «التاريخي» في الثلاثية يتناسب أولًا مع المستوى الحضاري العام للقارئ العربي، فيقدم له الفنان هذا الإطار الذي قد لا يصدمه. ويقدم له في نفس الوقت قضية فكرية ربما صدمته … ولكن بعد أن يكون الإطار التاريخي للتجربة أعده الإعداد النفسي الكافي لتلقِّيها، ومن هنا يتم التفاعل بين القارئ والكاتب، وتحدث الإضافة المرجوة. والدليل على ذلك أن نجيب محفوظ لم يكن بحاجة إلى هذا الإطار وهو يقدم «أولاد حارتنا» أو «اللص والكلاب» أو «السمان والحريف»؛ لأنه يعي أن قارئه أصبح مُهَيَّأً لاستقبال هذه التجارب والأزمات والقضايا.
كيف يكون الفنان إذن في مستوى العصر؟ لا تتم المعاصرة بالنسبة للفنان العربي حين يستورد أحدث منجزات التكنيك الغربي؛ بل عندما يستطيع أن يوائم بين الإطار الحضاري لمجتمعه من خلال مرحلته التاريخية، وبين أخطر الهموم البشرية إلى يعانيها الإنسان في كل مكان من عالمنا، أي أن التفاعل الحي العميق بين مختلف عناصر التجربة الفنية هو الذي يعطى للعمل الأدبي الناضج صفاته المحلية وخصائصه الإنسانية على السواء. ويرتفع الفنان إلى مستوى العصر إذا لم يختلَّ التوازن بين هذه وتلك اختلالًا تنتفي معه سماتُنا الخاصة أو السمات الجوهرية في العصر.
لهذه الأسباب، سوف أستعين بالمقارنة بين ثُلاثيتَي سارتر ومحفوظ … ذلك أن الكاتبين يجسدان بالتعبير الفني مرحلتين حضاريتَين مختلفتين كيفيًّا، ومع ذلك فهما، معًا، في مستوى عصرهما الذي طبعهما ببعض الصفات المشتركة، وإن لم يخفَ في نفس اللحظة أنه عصر متعدد الأبعاد بحيث ينعكس على المجتمعات المختلفة في صور حضارية متنوعة.
ما هي طبيعة المرحلة الحضارية التي يجتازها الغرب؟ إن تعليل ما يشوب الوجدان الإنساني بالأسى على ضوء ما يسمونه بانهيار الحضارة الأوروبية هو تعليل خاطئ إلى حد كبير. كذلك القول بأن الإحساس بعبثية الوجود الإنساني هو النتاج النفسي لفترة ما بين الحربَين، هو قول خاطئ إلى حد كبير أيضًا. ذلك أنني لا أرى الحضارة الأوروبية في صورتها الإمبريالية فحسب؛ فالاشتراكية هي من صلب هذه الحضارة من ناحية، كما أن الجانب الإمبريالي من الحضارة في أوروبا الغربية لا يمثل بقية الجوانب المشرقة. أما الشعور بلامعقولية الكون والعالم فقد عرفه الإنسان منذ العصور الأول، وعبرت عنه آدابه وفنونه أصدق تعبير … فما الجديد إذن؟
يخيل إليَّ أن آمال الإنسان الغربي في حضارته العظيمة قد فوجئت بأن ما بناه في عدة قرون مضت بدأ يتحطم على صخرة ضخمة من صنع هذه الحضارة نفسها، إذ كانت الفاشية والنازية تتويجًا رهيبًا للنظام الرأسمالي الذي كانت الديمقراطية من دعائمه الأساسية فأضحت الدكتاتورية العسكرية من أبرز معالمه، أي أن الإصابة الأولى لوجدان الإنسان في الغرب استهدفت أكبر مكاسبه وآماله في الحرية والديمقراطية. ثم كان التقدم العلمي المذهل الذي لم يستطع في ظل أنظمة الاحتكار الإمبريالي أن يسهم في حل مشكلات المجتمع، فضلًا عن عجزه في حل طلاسم الوجود.
لذلك كان الإحساس بالغربة هو نقطة الانطلاق الأولى لأجيال المثقفين في الغرب منذ إرهاصات الحرب الأولى إلى وقتنا هذا … فالقيم من حولهم لا تكفل لهم الأمن والطمأنينة؛ بل تزيدهم عذابًا إذا أطلوا برءوسهم ناحية الشرق؛ حيث تزداد قلوبهم هلعًا من مصير الحرية قضية القضايا في حياتهم، ولهذا كان إحساسهم بالعبث مضاعفًا بالنسبة لإحساس الأجيال الماضية. فالتقدم العلمي الضخم كاد يجزم بأن أسرار الوجود تخرج عن دائرة نفوذه، والتقدم الاجتماعي كاد يصبح مقصورًا على فئات قليلة. وعمت الفوضى الفكرية والنفسية جميع الأفئدة والنوازع. إلا أن موقف المثقف الغربي إزاء الأزمة لم يكن موقفًا موحدًا، فقد كان رد الفعل عند البعض هو المزيد من الانتماء إلى القيم، أي المزيد من الثورية. أما البعض الآخر فقد رفض القيم نهائيًّا لا لأنها فشلت في حماية مكاسبه؛ بل لأنها أصبحت حائلًا بينه وبين تحقيقه الذاتي للحرية فكان اللاانتماء — أي رفض القيم — هو التوحد مع الذات والاغتراب عن العالم، وتأكيد الحرية للوجود الفردي الخاص. وكان هناك فريق ثالث رفض القيم في البداية ما دام الوجود يؤكد عبثيته أكثر من أي وقت مضى، ولكنه رفض في نفس الوقت أن يعيش في قمقم أنانيته الفردية، فاختار التمرد سبيلًا إلى تجاوز نفسه نحو الآخرين.
ومعنى ذلك أن الغرب قد عرف أنماطًا ثلاثة رئيسية في التعبير عن أزمته الفكرية وهم: المنتمي، واللامنتمي، والمتمرد. وأضحت الغلبة لهذه العناوين في سوق القراءة؛ لأن معركة الإنسان المعاصر في الغرب لم تخرج قط عن كونها معركة مع القيم. كانت القيم هي المحك الأصيل لانتماء الفرد أو لاانتمائيته أو تمرده. وكانت القيم هي الحصيلة الحضارية لأزهى عصور البشرية من العصر اليوناني القديم إلى عصر النهضة إلى عصر التنوير إلى عصر الثورات إلى العصر الحديث. أي أن هذه القيم لم تكن أسيرة عصر متخلِّف من بداوة الظلمات؛ بل هي العصارة النقية الخالصة لتطورات الفكر البشري. ومعنى ذلك أن القيمة «الإنسانية» في هذه الحال ليست هي القيمة الدينية أو القيمة الاجتماعية أو القيمة التاريخية … وإنما هي الخلاصة المركزة لمجموعة المبادئ التي خبِرتها البشرية عبر التاريخ بما أضيف إليها من علم وما حذف منها من عواطف بدائية وأساطير. ولقد تعارفت الإنسانية في كل مكان على تسمية هذه المجموعة من القيم بالاشتراكية.
والاشتراكية في أحدث صورها ليست قيمة إنسانية بالمعنى الأخلاقي القديم؛ لأنها بناء فلسفي وعلم. ومن ثم يتحدد موقف المثقف الغربي المعاصر من القيم على ضوء موقفه من الاشتراكية كبناء نظري ومنطق علمي محدد؛ ذلك أن هزيمة الفكر النازي والفاشستي لم تكن هزيمة عسكرية أو سياسية بقدر ما كانت إعلانًا حاسمًا عن إفلاس الأيديولوجية البرجوازية إفلاسًا روحيًّا بعيد المدى. فلم تكن ثمة قيم إنسانية يتعاطف معها الجوهر الإنساني حتى يمكن بقاؤها؛ وإنما كان ثمة تناقض واضح بين الجذور الفكرية للنازية والفاشية وبين سلوكها العملي. أما جذورها الفكرية فتستمدها من الإيمان المطلق بالفرد والقوة بينما هي تستغل — عمليًّا — صفة القوة في الفرد لتسحقه.
ولعل الغرب المعاصر يعي جيدًا أن التاريخ لم يعرف عدوًّا للحرية والديمقراطية كما عرف النازي والفاشِست. ولهذا لم توجد أزمة روحية بينه وبين الهتلرية؛ وإنما كانت حربٌ عالميةٌ مسلحةٌ تضافرت فيها قوى الاشتراكية والديمقراطية الغربية، على السواء. ولم تعد النازية أو الفاشية عنوانًا لأية قيمة إنسانية يتخذ منها المثقف الغربي أي موقف انتمائي؛ بل أصبح الانتماء مرادفًا للثورية. ولا يعني ذلك مطلقًا، أن الانتماء إلى اليمين الأوروبي أصبح شيئًا لا معنى له؛ فما تزال منظمات اليمين في غاية النشاط السياسي، ولكنها تعاني حقًّا أزمة فكرية حادة لا تدع المنتمين إليها سياسيًّا، يشعرون بالحصانة الأيديولوجية التي تقيهم شر الهزات العنيفة.
ولذلك كان الانتماء الحقيقي في الغرب هو الانتماء إلى اليسار في البناء النظري المتكامل والتنظيم السياسي المعبر عن هذا البناء. ولذلك أيضًا لا يعيش المنتمي اليساري في أزمة روحية؛ بل هو يحقق وجوده كاملًا في ظل التقاليد الديمقراطية العميقة الجذور في تربة الحضارة الغربية؛ أما اللامنتمي الأوروبي فهو بطل العصر في الغرب؛ لأنه شخصية منقسمة على ذاتها، يرغب بشدة في الانتماء ولكنه لا يستطيع، على النقيض من المتمرد الذي لا يتورط في الانتماء إلى أبنية نظرية أو تنظيمية، ومع هذا لا يتوقف لحظة عن المشاركة في الأحداث التي تتجاوز مصيره الفردي الخاص إلى مصائر الآخرين. اللامنتمي في الغرب هو بطل العصر لأنه النمط الروحي الأكثر تأزمًا من غيره، فقد كان رد الفعل للفاشية والنازية عنده أن يتبلور معنى الحرية في قوقعة فردية لا تتجاوز الذات كحصن أخير من كافة أشكال الطغيان. وكان السياج الفكري الذي يحيط هذا الحصن هو رفض القيم في مختلف صورها مهما كانت وُعود هذه القيم للإنسانية؛ فليس هناك شيء حقيقي وآخر غير حقيقي على الإطلاق. أي أن أزمة اللامنتمي الغربي مع القيم هي في جوهرها أزمته البناء الشمولي في الماركسية وتطبيقاتها العملية، فبالرغم من أنه يحس إحساسًا عميقًا بأن الشيوعية يمكنها أن تصنع شيئًا من أجل الخير العام؛ إلا أن موقفه الأصيل من الحرية، كرد فعل للنازية والفاشية، أصابه بسوء الظن من كافة الأُطُر والقوالب التي قد تضحِّي بالفرد في سبيل الجماعة أو في سبيل فرد آخر أكثر امتيازًا. أقول إن هذا الموقف من جانب اللامنتمي الغربي إزاء الماركسية كان رد فعل نفسي أكثر منه أي شيء آخر.
وسوف ندرس هذا النموذج في «دروب الحرية» بمقابلته بنموذج مختلف في «بين القصرين» يتشابهان في بعض السمات ويفترقان في بعضها الآخر. فبينما كانت الحرية هي أزمة اللامنتمي في الغرب، نجدها هي بعينها مصدر أزمة المنتمي العربي في مصر؛ ذلك أن الشرق العربي في المرحلة الحضارية الراهنة لا يعيش في ذروة الحضارة العربية في عصر عطائها العظيم؛ وإنما نحن نرث بقايا أبشع عصور التخلف، ونعيش في ظل حضارة ليست من صلبنا. ففي الوقت الذي وصلت فيه أوروبا إلى مرحلة عالية من التقدم، هيأت لها أنظمتها الاقتصادية والاجتماعية الوافدة، مع اتساع مقدراتها على الإنتاج والاستغلال؛ هيأت لها أن تسيطر على الشرق العربي آجالًا طويلة … تضافرت فيها هذه السيطرة مع وحشية أكثر النظم رجعية في أن تتخلف بنا عشرات السنين عن ركب الحضارة الإنسانية التي أرست قواعدها في الغرب منذ عصر التنوير والاكتشافات العلمية.
وكان من نتيجة ذلك التحالف التاريخي بين الاستعمار الأجنبي والرجعية المحلية أن تمزَّق تاريخنا وتراثنا الحضاري تمزيقًا رهيبًا، فتعرضت بعض حلقاته للبتر والأخرى للتزييف … وأضيفت عناصر غير أصيلة لا ترتبط بحضارتنا بأي وشيجة أو اتصال. ولم يتم التفاعل بيننا وبين العالم في مناخ صحي يسمح بالازدهار، فأُخضعت التفاعلات بيننا وبين الخارج لظروف يتحكم فيها الهوى أكثر من العقل المفتوح على كافة النوافذ … وبينما كان العالم يتجاوز بخُطى هائلة أنظمة العبودية الاجتماعية والاقتصادية إلى أنظمة أكثر تقدمًا، ظللنا نحن نرسف في أغلال العلاقات الإقطاعية والعبودية والقيم البدوية والرعوية والتقاليد الراسخة في معاداة الديمقراطية. ولهذا لم يكن بُد أمام المثقف العربي الحديث من اتخاذ الانتماء قدرًا تاريخيًّا لحياته الروحية والاجتماعية على السواء، فقد كانت تجربتنا الرئيسية معركة مع التخلف الحضاري المرعب والتقاليد غير الديمقراطية في أسلوب الحكم … على النقيض من تجربة المثقف الغربي الذي عرف المكاسب الديمقراطية في وقت مبكر، وعندما أقبلت النازية والفاشية تهدد هذه المكاسب. كانت تجربته الرئيسية معركة مع طغيان الأنظمة الشمولية التي تتيح له أن يتخذ موقف اللاانتماء كرد فعل نفسي مرير على ضراوة الانسحاق المذل الذي تعرض له في حربين عالميتين. أما نحن العرب فقد كانت أمامنا مهام جسيمة قبل أن نصل إلى ذلك المستوى الحضاري الذي أنبت اللامنتمي. كانت أمامنا جبال من المسئولية إزاء أنفسنا حتى ننعَتِق من براثن الرجعية العفنة والاستعمار الرهيب. كان الانتماء هو السبيل الوحيد لكي نحقق وجودنا كاملًا، لكي نؤكد حريتنا السليبة. لهذا لم تلد حضارتنا قط نموذج «اللامنتمي» … وإنما كانت هناك نماذج أخرى إلى جانب المنتمي سوف أعرض لها بالحديث المفصل فيما بعد، غاية ما يمكن أن أقوله بصدد هذه النماذج الآن، إنها لم تكن تحقق وجودها، لأنها كانت تعاني أساسًا من ازدواج الشخصية. الأمر الذي لم يصادفه المنتمي بالرغم من أنه هو الذي يمثل بطولة العصر في مرحلتنا الحضارية الراهنة … ذلك هو النموذج الوحيد الذي يعاني من انفصام الشخصية (لا ازدواجها)، فهو أنه ليس منتميًا حرًّا يعيش في أوج حضارة مكتملة؛ بل هو منتمٍ مأزوم … ومصدر أزمته مشكلة الحرية. والحرية في بلادنا لها معنى خاص، والمنتمي نفسه له معايير مختلفة عن مثيله في أوروبا … أكثر من ذلك أنه يشترك مع اللامنتمي الغربي في كثير من الأشياء؛ لأن الأساس في أزمتهما وبطولتهما يبدو كما لو كان أساسًا واحدًا. والواقع أنه ليس كذلك، غير أن بعض عناصره متشابهة مع الآخر، وهذا لا ينفى أنهما نقيضان؛ فالمنتمي العربي في مصر يرغب بشدة في اللانتماء، ولكنه لا يستطيع. ذلك أن الحصيلة الحضارية للمنتمي واللامنتمي الغربيَّين كليهما تمنح أيًّا منهما قدرًا من الحرية، له رصيد تاريخي من المكاسب الديمقراطية؛ أما الحصيلة الحضارية للمنتمي العربي في مصر فهي خواء من أية مكاسب ديمقراطية. والسبب، فيما أعتقد، هو أن حركة التاريخ في أوروبا قد مضت في مسار مختلف عن حركة التاريخ المصري؛ بحيث إن موجة الثورات العلمية والاقتصادية والصناعية التي اجتاحت أوروبا خلال المائتَي سنة الأخيرة أضافت إلى تكوين الإنسان الأوروبي روحًا جديدة، هي روح الخالق لحضارة جديدة، ولمجموعة من القيم الجديدة، وهي أيضًا روح الحارس لهذه الحضارة، ولتلك القيم. المنتمي العربي المعاصر يعيش في ظل الحضارة الأوروبية أو في «ريف» هذه الحضارة كأرفع مستوى بلغته الإنسانية المعاصرة. هو يعيش دور المستهلك لا دور المنتج؛ لذلك يحيا المنتمي في بلادنا أزمة المسافة الخطيرة بيننا وبين أوروبا بين منطقنا العقلي وسلوكنا العملي، بين الداخل والخارج في كياننا الروحي. إنه يعاني انفصام الشخصية، فيحيا بطولة تراجيدية.
سئل نجيب محفوظ سؤالًا مباشرًا: هل تعتقد أن كمال عبد الجواد يمثل شخصية اللامنتمي كما يذهب بعض النقاد، أم أنه ينتمي إلى عقيدة فكرية حددتها اهتماماته التي ذكرتَها في الرواية، وإن تم ذلك في إطار من السلبية؟ وبمعنى آخر ما هي مأساة كمال في نظرك: الانتماء، أم اللاانتماء، أم شيء آخر؟
- أولهما: أن المنتمي العربي في مصر ليس نموذجًا مطابقًا للمنتمي الغربي، فالانتماء في الغرب هو الارتباط المنظم بحزب سياسي يخضع لنظرية متكاملة في الفلسفة والاقتصاد والسياسة والمجتمع. والانتماء في الشرق العربي لا يتطلب هذه الدرجة من الارتباط والتنظيم؛ إذ يكفي المنتمي عندنا الالتفاف حول إحدى النظريات الفكرية أو التعاطف مع أحد الأبنية العقائدية حتى يصبح منتميًا إلى اليمين أو اليسار؛ ذلك أن التخلف الحضاري الرهيب يتيح للمثقف العربي درجات متفاوتة من الانتماء تبدأ بالتعاطف النظري وتنتهي عند الارتباط العملي. ويخلق هذا التخلف أيضًا حالة الانتماء إلى اليمين؛ لأن اليمين هنا يستند على جدر نظرية متكاملة أو قريبة من التكامل، ومؤسسات دينية واجتماعية وسياسية تمنحه الأمان والطمأنينة التي يفتقر إليها اليميني الغربي.
- العامل الثاني: الذي يبرر ارتياب نجيب محفوظ في أن يكون كمال عبد الجواد مثالًا للمنتمي، هو أن المنتمي في بلادنا لا يتمتع، كما قلت، بأية مكاسب ديمقراطية؛ ولذلك فهو منتمٍ مأزوم لا يعيش في ظروف طبيعية، وبالتالي لا يمكن صياغته في القوالب المحددة الحاسمة للانتماء في أوروبا. إنه في ظل التقاليد غير الديمقراطية في أسلوب الحكم لا يتمثل أحدث وأنضج المقومات الفكرية المعاصرة لاتجاهه؛ لهذا يفتح اليسار العربي كلتا ذراعيه لمختلف درجات الانتماء الفكرية والعملية التي ربما يُعد بعضُها يمينيًّا في الغرب.
أي إن محاولة تصنيف شخصية كمال عبد الجواد في اتجاه اللامنتمين الغربيين محاولة خاطئة من الأساس؛ إذ إن اللامنتمي نبت طبيعي في الحضارة الغربية وحدها، ولأن الانتماء في شرقنا العربي هو قدر أجيال المرحلة الحضارية الراهنة؛ أما رغبة كمال الشديدة في اللاانتماء فتدخل في طبيعة المنتمي المأزوم في بلادنا كجزء من بطولته التراجيدية، فليس لنا أن نقول: هذا هو كمال يحس بعبث الوجود الإنساني وذاك هو ماتيو في ثُلاثية سارتر يحس بنفس المشاعر؛ وإنما يحق لنا أن نسأل ما هو الدافع الأساسي لرفض الحياة عند كليهما؟ ولماذا كانت تحل بماتيو رغبة شديدة في الانتماء على النقيض من كمال؟ … كذلك ليس لنا أن نقول: هذا هو كمال لم يرتبط بأي تنظيم سياسي، وذاك هو ماتيو لم يصنع نفس الشيء؛ وإنما يحق لنا أن نسأل: ألم ينحَز كمال عبد الجواد إلى اتجاه أيديولوجي بعينه؟ ولماذا ردد مرارًا: نحن جيل الأزمة، نحن جيل كُللت أيامُه بالسواد؟
إن شخصية كمال عبد الجواد هي الدافع الأساسي الذي جعلني أتخذ من نجيب محفوظ مثالًا لدراسة أزمة المنتمي العربي في مصر، كما أن شخصية ماتيو هي التي دفعتني لاتخاذ سارتر مثالًا لأزمة اللامنتمي الغربي في أوروبا.
ذلك أن الشخصيتين الفنيتين كلتيهما كانتا تجسيدًا عميقًا للأزمة الشخصية الخافقة بين أضلع الكاتبين؛ فالحق أن سارتر جعل من الحرية جوهرًا لكافة المشكلات والقضايا التي أثارها في فلسفته؛ بل إن ريادته للعديد من التساؤلات المطروحة من جانب الاتجاه الوجودي تدَع من المطابقة بين موقفه الفلسفي وموقفه السلوكي وموقفه الروائي أمرًا يسير المنال … فليس أمرًا صعبًا أن نتعلم من تاريخ الفكر الغربي الحديث أن الوجودية كانت أكثر الأصداء الفكرية لمرحلة الهزيمة تعبيرًا عن أزمة الإنسان الغربي المعاصر بشكل عام، وعن جيل الهزيمة بشكل خاص. من اليسير أيضًا أن نتعرف على سارتر كواحد من أبناء هذا الجيل اللامنتمي من مثقفي أوروبا فيما بين الحربين. وبالرغم من أن الكثير من الأعمال الروائية والفكرية لأبناء هذا الجيل جسدت هزيمتهم تجسيدًا عميقًا، فإن أحدًا — غير سارتر — لم يجرؤ على استعراض أزمته الشخصية كتعبير عن أزمة جيل وهزيمته؛ بل كتعبير عن مرحلة حضارية كاملة.
ولا يختلف الأمر بالنسبة لنجيب محفوظ من حيث دلالته على عصرنا، فقد كانت معظم التيارات الفكرية التي عاصرها شبابه «مستوردة» من الخارج، وكلها شيء جديد للغاية على جيل الأزمة الذي شب في جحيم التخلف الحضاري المرعب، والتقاليد غير الديمقراطية في أسلوب الحكم، جحيم التحالف الرهيب بين السيطرة الأجنبية والطغيان الرجعي، جحيم الزيف والافتعال والبتر في حضارة لم يبقَ من نضارتها شيء. من الطبيعي إذن أن يغلب على شباب ذلك الجيل الشكُّ والرفض والقلق؛ فهو لم يخبر هذه الأفكار القادمة من وراء البحار خبرة الصانع لها، والخالق لقيمتها، وهو لم يرَ في تراثه الممزق ما يمسك الرمق ويشد الأزر في معركته الخطيرة. أجل، كان هذا الجيل المعذب يحس بأنه ولد مرتبطًا بمصير مجتمعه وشعبه وحضارته، ولكن هذا الارتباط ظل مفتقرًا إلى البوصلة الموجهة لخطوات الطريق. لقد فتح عينيه على موائد لم يشارك في إعدادها، فاقتضى الصدق الكامل مع النفس ألا يغتر وينحاز إلى واحدة منها بغير تجربة وتفاعل عميقين، كما اقتضى الصدق الكامل مع النفس أن ينحاز إلى قضية هذا المجتمع، وهذا الشعب، وهذه الحضارة. ولعل المطالعة السريعة لكتابات نجيب محفوظ في ثلاثينيات هذا القرن بالمجلة الجديدة تكشف بوضوح عن طبيعة هذه الأزمة وتحدد بدايتها، فنحن نقرأ له أبحاثًا في الفلسفة ليست في واقع الأمر أبحاثًا بالمعنى العلمي الدقيق؛ بل هي أقرب إلى استعراض التيارات الفلسفية الكبرى من وجهات نظر مختلفة لا ينتهي منها كاتبها إلى موقف معين أو رأي خاص، ولكنه إذا تحدث عن جيل الرواد (سلامة موسى، طه حسين، العقاد) فإننا نستشف منه بغير صعوبة أنه يقف إلى جانب التقدم والعدل الاجتماعي؛ بل هو يصارحنا في عدد أكتوبر من المجلة الجديدة عام ١٩٣٠م في مقال تحت عنوان «احتضار معتقدات وتولد معتقدات» بأنه: «لو أننا أردنا أن نتنبأ بالمذهب الذي سوف يكون له الفوز من بين المذاهب لقلنا — أو لأحببنا أن نقول — بأنه مذهب الاشتراكية.» ومعنى ذلك أن نجيب محفوظ أحس بتلك المسافة الضبابية التي تفصل بين انتمائه إلى قضية الحضارة التي يعيشها، وبين البوصلة الفكرية لهذا الانتماء، ومن هنا كان البون الشاسع بين إيمانه الاجتماعي وميله السياسي وبين شكه الفلسفي واللاتحدد في تكوينه الفكري. ولن نجد روائيًّا مصريًّا أحس بوطأة هذا التناقض الحاد، ثم جسده في اعتراف فني كبير إلا نجيب محفوظ في ثُلاثيته؛ حيث انعكست أزمته الفكرية المعبرة عن أزمة جيله وحضارته في شخصية كمال عبد الجواد التي ربما كانت الإعلان الحقيقي عن ميلاد البطل التراجيدي في الرواية المصرية — على المستوى الفني — كما كانت ميثاقًا حضاريًّا عن أزمة جيل مأساة الحرية في بلادنا على المستوى الفكري والسياسي والاجتماعي.
وأعود مضطرًّا إلى مشكلة الصياغة الجمالية للتجربة الفكرية بين ثُلاثِيَّتَي سارتر ومحفوظ فأكرر أن سارتر بدأ روايته والبطل في أتون الأزمة … أما نجيب فقد توسَّل بالمنهج التاريخي إلى حماية تجربته من صدود القارئ وإعراضه، فراح يفصل له الجذور العميقة للمأساة حتى تظل حرارة الاقتناع مصاحبة للقارئ إلى النهاية، فلا يكف عن التساؤل بعدئذٍ، بالإضافة إلى التفاعل الخصب الخلَّاق؛ لهذا يبدأ من طفولة كمال التي استُخدمت في «بين القصرين» لمجرد أن تكون الكاميرا المتحررة من قيود الزمان والمكان في التقاط الجزئيات التي لا تتاح مشاهدتها للكبار من الرجال أو النساء، والتي قد تضيء بتلك المقدمة البانورامية أبعاد القضية الرئيسية الوافدة مع «قصر الشوق» و«السكرية».
ثمة بذور غرستها أحداث بين القَصرين في تكوين كمال الطفل أخذت تنمو وتترعرع في شبابه وأسهمت بصورة أو بأخرى في نضج مأساته. فالمواقف الأساسية البارزة على جبين هذه المأساة تتألق جذورها في مواقف صغيرة رافقت طفولة كمال: موقفه من الدِّين، والزواج، والثورة الوطنية … إلى بقية هذه القائمة المليئة بنبوءات الغد. كمال هذا يرى إحدى الصور المعلقة في إعلان ملون لامرأة مضطجعة على ديوان وبين شفتيها القرمزيتين سيجارة يتطاير منها خيط دخان متعرج معتمدة بساعدها على حافة نافذة يلوح وراء ستارتها المنحسرة منظر يجمع بين حقل نخيل ومجرى من مجريات النيل. فماذا فعلت به هذه الصورة في خياله الغض؟ راح يحلم بأنه يقاسمها حياتها الرغيدة في وادٍ أخضر أو أنه يعبر بها أحد الأنهار بزورق كالطيف وهو يجلس بين يديها مشدودًا بخيط غير مرئي إلى عينيها الساحرتين. هذا الحلم الرومانسي الذي يقتحم يقظة كمال يومئ بالمناخ الروحي الذي يعيش فيه الطفل، المناخ الذي يجمع في طبيعته تناقضًا هائلًا بين القيم التقليدية في ظل الإقطاع والعلاقات الاجتماعية الجديدة القادمة مع البرجوازية، فتتولد الشرارة الرومانسية وتلفح بوهجها الوجدانات الموغلة في الرهافة والحساسية. ولقد تميز كمال منذ طفولته بالخيال الجامح فكان يختلق الأحداث اختلاقًا ليرويها بأسلوب حار يشي بالصدق والانفعال، وكأنه يود أن يباري أخاه الأكبر «يس» فيما يردده من أشعار أو يحكيه له من قصص، وأمه التي شحنت خلايا دمه بأساطير لا حصر لها عن الجان والشياطين ومن إليهم … حتى إن هيامه بسيدنا الحسين لم يكن نتيجة دروس الدين؛ بل هو قد بلغ ذروته من خلال الجو الأسطوري «وكم وقف حيال الضريح حالمًا مفكرًا، يود لو ينفذ ببصره إلى الأعماق ليطلع على الوجه الجميل الذي أكدت له أمه أنه قاوم غِير الدَّهر بسره الإلهي فاحتفظ بنضارته ورونقه، حيث يضيء ظلمة المثوى بنور غُرته.» وكثيرًا ما تمنى أن ينساه أبواه في المسجد فيلتقي سرًّا بالحسين ويفضي إليه بمتاعبه من تصور العفاريت والامتحانات التي تلاحقه، وأن يمد في عمر أمه إلى ما لا نهاية، وأن يغير من طبع أبيه، وأن يدخله هو وجميع أفراد أسرته الجنة بغير حساب. وإلى جانب الخيال الرومانسي بشأن الجنس الآخر والجو الأسطوري بشأن الحسين، كان هناك موقفه من الأب العملاق أحمد عبد الجواد الذي كفل له الفنان صفحات الجزء الأول من ثلاثيته؛ لكي يتضح دوره الخطير في نشأة ابنه كمال الذي كان يرتعد فَرَقًا من أبيه ولا يتصور أنه يخاف العفريت لو طلع له وزعق فيه. وليس الخوف وحده الذي يشعر به نحو أبيه؛ فإجلاله له لم يكن دون خوفه منه، كان يعجب بمظهره العظيم القوي، ومهابته التي تعنو لها الهام، وأناقة ملبسه وما يعتقده فيه من قدرة على كل شيء، ولعل حديث الأم عن سيدها هو الذي هوَّله عنده فلم يتصور أنه يوجد في الدنيا رجل يضارعه في قوته أو جلاله أو ثروته، ومع ذلك لم يقتنع كمال الطفل يومًا أنه يستطيع أن يخضع لأبيه بلا تردد، إذن لقضى أيامه بغير لعب ولهو، فكان يختلس بعض الوقت من وراء ظهر الأب حتى لا يعيش عمره مكتوف اليدين. على أنه سأل أمه يومًا: أيخاف أبي الله؟ فتولتها الدهشة، ولكنه أردف «لا أتصور أن أبي يخاف شيئًا.» والحق أن أحمد عبد الجواد كان يمثل في أحد وجوهه صورة «الله» القادر على كل شيء في ذهن كمال على الأقل، فهو لم ير في سلوكه مع إخوته أو مع أمه إلا ما يؤكد له أن سلطان هذا الرجل بلا حدود. وقد كان لفكرة الأب هذه دور هام في تطور كمال العقلي والروحي.
وتساءل كمال منذ طفولته عن الزواج لماذا كان مصير كل حي؟ ولم يكن يعي من الزواج سوى أنه يخطف شقيقتيه عائشة وخديجة إلى بيت آخر، وأنه يحول بينه وبين قضاء الليل في حضن الأم. كان يحس بأن العلاقة بين الأم — الوديعة الرقيقة الهادئة — وبين الأب القادر على كل شيء، لا يمكن تفسيرها ببساطة. غير أن التساؤل الجدير بالأولوية في حياة كمال هو: كيف أمكن أن يقع لها هذا الحادث بعد تبركها بزيارة الحسين، إذ انتهزت الأم فرصة رحيل الأب إلى مهمة خارج القاهرة، وخرجت من البيت في زيارة لحبيبها الحسين، ولكن الفنان الذي آثر أن يصور أحمد عبد الجواد في صورة الله، آثر أيضًا أن تصطدم أمينة بإحدى العربات أثناء خروجها من المسجد فما كان من الزوج الأب الإله إلا أن طردها إلى منزل أهلها بعد أن تم شفاؤها. إن تساؤل كمال حول كيفية وقوع هذا الحادث بالرغم من الحسين له مغزاه الفكري … فسوف يجره إلى مجموعة أخرى من التساؤلات المتشابكة ببعضها البعض، تؤدي فيما بينها إلى صياغة علامة استفهام كبيرة لا تفارق عينَي كمال، وهو يحملق في الكون كله.
وتفتحت عينا كمال الطفل أول ما تفتحت على أحداث الثورة الوطنية … فتلقى صداها في البيت والشارع والمدرسة جميعًا؛ رأى أخاه فهمي من الشباب الثوري المتحمس الذي يلقي بنفسه في خضم المظاهرات دون خوف أو وجل، وصاح كمال في وجه أمه ذات يوم: «مدرس العربي قال لنا بالأمس إن الأمم تستقل بعزائم أبنائها» … فهتفت الأم ساخطة: «لعله قصد بخطابه كبار التلاميذ، ألم تحدثني يومًا عن تلاميذ قد طرت شواربهم؟»
فتساءل كمال بسذاجة: «وأخي فهمي أليس تلميذًا كبيرًا؟»
ولم يكن يدري أنه بهذا التعليق الساذج يضرم نيران الثورة بين جوانح فهمي. وكثيرًا ما هفا خياله بين جدران الفصل بالمدرسة إلى أولئك المضربين بدهشة واستطلاع، كثيرًا ما تساءل عن حقيقة أمرهم، أهم «متهورون» كما تزعم أمه، أم هم أبطال فدائيون كما يقول فهمي: «ذاك صراع عجيب قضى عنفه بأن تنقش عناصره الجوهرية في نفس الغلام بلا وعي أو قصد فتغدو أسماء: سعد زغلول، الإنجليز، الطلبة الشهداء، المنشورات … المظاهرات، من القوى المؤثرة الموحية من أعماقه.»
وفى هذه الفترة، قفزت إلى عقل الطفل فكرة الموت، فكانت الدماء في الطرقات ترسم في ذهنه الخام ملامح هذه الفكرة الجنونية. ولما مات فهمي في المظاهرة السلمية أحضر هو عصفورًا ميتًا وكفنه ووضعه بحفرة في فناء المنزل، وبعد أيام كشف التراب عن العصفور فزكمت أنفه رائحة نتانة مقززة، فذهب إلى أمه يسألها: هل ما يحدث للعصفور يحدث للميتين من بني آدم؟ فكان جوابها نحيبًا متصلًا. وكان هذا هو التساؤل الخطير الثاني في طفولته بعد حادث الحسين. على أن فكرة الموت هذه أقبلت على وجدانه خلال أحداث الثورة الدامية؛ بل إن هذه الأحداث بما يتخللها من موت دخلت بيته شخصيًّا بمصرع فهمي. أكثر من ذلك أنه عانى، وهو بعدُ طفل، ويلات الرصاص الإنجليزي الغادر وهو يخترق صدور الأبطال من شباب مصر الوطني، فما كان منه إلا أن يستعين بسورة الصمد هامسًا: «قل هو الله أحد. لعلها تطرد الإنجليز كما تطرد العفاريت في الظلام.» وعندما التقى بشقيقه فهمي قبل مقتله رأى شبحًا واقفًا وسط الطريق يشير إلى الأرض ويخاطب نفرًا من الرجال، فنظر حيث يشير فرأى بقعًا حمراء ملبسة بالتراب وسمعه يقول بلهجة رثائية: «هذا الدم الزكي يستصرخنا إلى مواصلة الجهاد، وقد شاء الله أن يسفك في رحاب سيد الشهداء لنصِل في الاستشهاد حاضرنا بماضينا والله معنا. وأحس فزعًا يركبه، فاسترد بصره من الأرض الدامية وانطلق يعدو كالمجنون»، وتعرف كمال الطفل على الاستعمار أمام باب منزله؛ حيث كان يرابط بعض الجنود الإنجليز، فأحاطوه بأذرعهم وأعطَوه من الشيكولاتة ما جعله يغني لهم بصوته الجميل، ثم جاء اليوم الذي هد فيه الجنود معسكرهم ورحلوا، فماذا تركت صحبته لهم في نفسه الغضة …؟
يقول الفنان: إنها تركت «أثرًا عميقًا بث في خياله وأحلامه، يقظة شاملة، أثرًا نقش على صفحة قلبه إلى جانب الآثار التي نقشتها حكايات أمينة عن عالم الغيب والأساطير، وقصص ياسين الذي جذب روحه إلى دنياها الساحرة والأطياف، والرؤى التي تتمايل له في أحلام اليقظة وراء أغصان الياسمين واللبلاب وأصص الزهور — فوق السطح — عن حياة النمل والعصافير والدجاج. ومن ثم أنشأ عند سور السطح الملاصق لسطح بيت مريم معسكرًا كامل العدة والعدد: أقام خيامه بالمناديل والأقلام، وأسلحته بعيدان الخشب، ولوريات من القباقيب، وجنوده من نوى التمر. وعلى كَثَب من المعسكر مثَّل المتظاهرين بالحصى، يبدأ التمثيل عادة بنشر النوى جماعات بعضها في الخيام وعند مداخلها، وبعضها حول البنادق غير أربع بينها حصاة (تمثله هو) ينتحون جانبًا، ويأخذ في محاكاة الغناء الإنجليزي، ثم يجيء دور الحصاة لتغنى «زوروني كل سنة مرة» أو «يا عزيز عيني»، ينتقل إلى الحصى فينضده صفوفًا ويهتف يحيا الوطن … تسقط الحماية … يحيا سعد … يعود إلى المعسكر مُصَفِّرًا فتنتظم النوى صفوفًا كذلك وعلى رأس كل صف ثمرة. ثم يدفع قبقابًا وهو ينفخ محاكيًا أزيز اللوري، ويضع النوى على سطح القبقاب، ثم يدفعه مرة أخرى صوب الحصى فتنشب المعركة وتسقط الضحايا من الجانبين! … ولم يكن يسمح لعواطفه الشخصية بأن تؤثر في سير المعركة؛ على الأقل في بدئها ووسطها، كانت تتحكم فيه رغبة واحدة هي أن يجعلها معركة — صادقة مشوقة — يتنازعها الدفع والجذب من الجانبين، وتتعادل الإصابات، فتظل النتيجة مجهولة والاحتمال متأرجحًا بين الطرفين على أن المعركة لا تلبث طويلًا حتى تستوجب نهاية تنتهي إليها، هناك يجد نفسه في موقف حائر، أي جانب ينتصر؟ … في جانب أصدقائه الأربعة وعلى رأسهم جوليون، وفي الجانب الآخر مصريون يخفق معهم قلب فهمي! … في اللحظة الأخيرة يقرر النصر للمتظاهرين فينسحب اللوري.»
إن هذه المجموعة من المواقف الصغيرة في طفولة كمال، على ضوء الخريطة الفنية والفكرية التي قدمها لنا الفنان في «بين القَصرين»، تمنحنا إشارة البدء في التعرف على جوهر أزمته، وأبعاد المأساة التي عاشها جيله، وكيف كانت هذه الشخصية الفنية تعبيرًا نموذجيًّا عن أزمة نجيب محفوظ، وكيف كانت أزمة نجيب محفوظ تعبيرًا نموذجيًّا عن أزمة جيل كامل، وكيف كان هذا الجيل، على وجه التحديد هو جيل المأساة.
وتوزع الجيل الجديد في مصر بين أحزاب جديدة واتجاهات جديدة تريد بعث مجد الإسلام أو مجد الإمبراطورية العربية، وأحزاب فاشستية تريد إقامة فاشستية مصرية كما نجح هتلر وموسوليني، وأحزاب شيوعية تريد نقل النظرية والتجربة الشيوعيتَين إلى مصر.
ولم يؤدِّ هذا إلى خروج المسألة الوطنية من أزمتها؛ بل زادها تعقيدًا، فإن واحدًا من هذه الأحزاب الجديدة لم يستطع أن يقنع ويعبئ الأغلبية العظمى لهذا الجيل، ولهذا بقي عدد كبير منه خارجها يبحث عن شيء آخر، وظلت هذه الأحزاب صغيرة لا تستطيع أن تحسم شيئًا في حياة البلاد في حياة الجيل نفسه. كما تميزت هذه الأحزاب بضعفها النظري والأيديولوجي؛ فهي لم تستطع أن تلائم ما نقلته من الخارج إلى واقع هذه البلاد، ولم تستطع أن ترفع وتجدد ما استخلصته من الماضي إلى مستوى العصر وروح العصر.
وتحول الخلاف النظري والسياسي بين هذه الأحزاب الجديدة إلى حرب دائمة لا تهدأ، وسرت إليها عدوى الأحزاب القديمة، وأصبحت الحياة السياسية في مصر حربًا بين الأحزاب القديمة وبعضها، وبين الأحزاب الجديدة وبعضها، وبين الأحزاب القديمة والجديدة أيضًا. وتردَّت المسألة الوطنية في هاوية جديده، ولكن كان هناك الجانب الإيجابي أيضًا لهذه الأحزاب؛ فقد كانت تعبيرًا صادقًا مخلصًا. عن إرادة الجيل الجديد في العثور على الحل والوصول إلى المخرج الثوري، وهي قد بددت الركود البرجوازي والإقطاعي الذي فرضته الأحزاب القديمة، وأضرمت المعركة الأيديولوجية والسياسية، وبهذا استطاعت أن تصل مصر بحياة العصر وأن تطرح المشكلة وأن تُحدد أبعادها، وإن لم تجد لها حلًّا. وهي وإن بددت قسطًا كبيرًا من قوى هذا الجيل ومن طاقته، إلا أنها احتفظت بحيويته وبثوريته ملتهبةً مُضْطَرمة.
إن هذا التحليل لقضية المثقفين والثورة، يعنيني من زاويتين:
أولاهما: أن صاحبه أحد أبناء هذا الجيل. وثانيتهما: أن نجيب محفوظ هو المثال الحي لتلك النتيجة التي ختم بها محمد عودة تحليله، وهي أن الجيل تمكن من طرح المشكلة طرحًا عميقًا، لكنه لم يكتشف حلًّا لها. والحق أن هذه الخريطة السياسية المعاصرة لذلك الجيل كانت انعكاسًا عمليًّا للخريطة الفكرية التي أومأتُ إليها من قبل حين قلت: إن اللقاء المباشر بيننا وبين الثقافة الغربية قد تم من زاوية رئيسية بواسطة الاستعمار. ومن ناحية أخرى كانت هذه الثقافة الواردة من وراء البحار ذات تيارات عديدة لم نشارك في صنع أي منها؛ لأنها كانت تعبيرًا روحيًّا صادقًا عن المجتمعات التي انبثقت عنها، وهي تيارات يمكن تمثلها والوعي بها؛ أما معاناتها فلا تجيء إلا من خلال المشاركة في إبداعها. التمثل العقلي واللامعاناة حالة نفسية واحدة تخلق التناقض بين الاقتناع المجرد والسلوك الواقعي، تخلق الانقسام في شخصيتنا بين منطقنا العقلي وحياتنا العملية.
أي أن التمثل الذهني بلا معاناة سلوكية يُحدث هذا الانفصام النفسي الحاد، الذي ينجم عنه «الشك» كموقف سلبي، لا كموقف محايد. فقد كان من الطبيعي أن نُقاسي ما يشبه مُركَّب النقص في تكويننا الفكري إزاء تلك الأبنية الضخمة في الفكر الأوروبي، كما كان من الطبيعي أن يصيبنا التردد أمام كافة الموائد التي تصل إلينا مع الاستعمار الأجنبي، مهما تزيَّنت هذه الموائد بباقات من ورود الفكر والأدب والفن. وكان طبيعيًّا في النهاية أن يتكاتف الإحساس بالنقص، والتردد وانعدام المشاركة في الخَلق والإبداع والاستناد على جُدُر ذاتية آيلة للسقوط الحضاري، ثم يتولد عن هذا المركب المعقد موقف الشك في كل شيء كنَزعة سلبية لا كموقف محايد.
ونحن لا نلتقط من طفولة نجيب محفوظ ما يفيدنا في هذا الصدد من جانب الإرهاصات التاريخية التي تطورت به إلى موقفه المتردد في مرحلة الشباب. ولعل الأمر الخطير الذي يعنينا هو ما صرح به نجيب من أنه أصيب بالصرع في سن العاشرة، ومن المعروف أن كثيرًا من الأدباء والفنانين أصيبوا في إحدى مراحل حياتهم ببعض الأمراض المستعصية؛ أصيب دستويفسكي بالصرع حتى أواخر عمره، وأشفى موبسان على الجنون، وغيرهما ممن لا يقعون تحت حصر. ويرجح المحللون النفسيون أن هذه الحالات العقلية أو العصبية هي دليل الاختلال العميق في وجدان الفنان أو المفكر، كأن لا تكون ثمة وشائج قوية تربطه بالحياة التي يعيشها رغم أنفه، فتحدث هذه الأزمات، كاحتجاج لاشعوري على ذلك المناخ غير الصحي الذي يتنفسه.
أما نجيب محفوظ فكانت إصابته بالصرع في وقت مبكر نسبيًّا؛ بحيث لا نرجح القول بأن الوسط غير الملائم ضغط على وجدانه المرهَف، فنال منه الصرع. ومع هذا لا نستطيع أن ننكر إمكانية أن يكون لتلك الحالة الباكرة نتائج بعيدة المدى لم تقتصر على المظهر المرَضي الذي صاحب الحالة العصبية، وإنما تجاوزت ذلك المظهر إلى أعماق الفنان التي تأثرت دون شك بأحداث الطفولة أيما تأثر، فكم بصدمة عصبية كهذه يمكن أن تغور في ذلك الوجدان الرهيف. غاية ما يمكن أن نلتقط صداه من تلك الحادثة أن نجيب محفوظ يكاد لا يذكر تفاصيل طفولته … فهو يكتفي في تحقيق عنوانه «عصير حياتي» بأن يذكر لنا تواريخ ميلاده، ودخوله الكتاب، والمدرسة الأولية، والابتدائية، وهي مرحلة لا تعطينا شيئًا ذا بال في تكوين فكرة واضحة عن إرهاصات شبابه القادم؛ فلم يؤثر عليه الصرع في هذه المرحلة — من حيث المظهر — إلا في تأخُّره عامًا كاملًا عن الدراسة. ويبدو أن هذا التأخر اليسير كان دافعًا له في التفوق على أقرانه فيما تلا ذلك من سنوات دراسية كتعويض زمني؛ لهذا يبدو التركيز على شباب كمال عبد الجواد في الجزأين الأخيرين من الثلاثية مبرَّرًا إلى حد كبير، فلم تحمل طفولته عبء أية تعبيرات تنوب في رمزيتها عن جيل محدد، فاكتفى الفنان بأن يشير إلى مواقف كمال الطفل من الزواج والحرية والأب والموت والثورة والدين، كجذور نفسية غير محددة لما ستجيء به الأيام من أحداث تنضج هذه الشخصية وترتفع بها إلى مستوى الرمز؛ إلا أنني أضيف ذلك الحدث الهام في طفولة نجيب محفوظ الواقعية — والتي لم يومئ إليها في سيرة كمال — إلى ذلك المناخ السياسي والفكري الذي لا يمكن تسميته إلا بالفوضى المخيفة، ثم أضيف هذين العاملين إلى عامل آخر هو التكوين الطبقي لنجيب محفوظ بصورة خاصة، والبناء الطبقي للمجتمع المصري بشكل عام؛ لأفسر بعدئذٍ أخطر مراحل حياة كمال عبد الجواد التي عبرت عن الجانب العقلي من أزمة نجيب محفوظ؛ بل ومأساة جيله كلها. كان الإطار العام للأزمة كما سبق أن قلت هو التخلُّف الحضاري الشديد والتقاليد غير الديمقراطية في أسلوب الحكم، فكان الاختناق الذي بلغ مداه في عهود الاستبداد المعاصرة لذلك الجيل؛ حافزًا لأن يكون الشك موقفًا سلبيًّا من الحياة يؤدي تلقائيًّا إلى الإحساس العميق بلا جدواها، وعبثية الوجود ولامعقولية الكون والعالم. وهذا هو الفرق الكيفي الحاسم بين موقف كمال عبد الجواد في ثلاثية نجيب محفوظ، وموقف ماتيو في ثلاثية سارتر؛ فهذا الأخير يقف من الحياة كشيء تتساوى إزاءه الحقيقة واللاحقيقة، وخلفه تراث حضاري ضخم عموده الفقري تقديس حرية الفرد على المستوى الفكري، ومجموعة هائلة من التقاليد الديمقراطية على المستوى السياسي، ومجموعة مماثلة من القيم الحضارية المتقدمة على المستوى الاجتماعي، فما إن تتخلل هذا التراث نغمة نشاز كالنازية والفاشية حتى يكون رد الفعل العنيف لدى ابن هذا التراث هو تذويب الذات والحرية في مزيج واحد يرفض كافة القيم القادمة من الخارج، ومن ثم يتحول الكون إلى عالم بلا قيم، ووجود بلا معنى أو حياة بلا جدوى.
وهنا — في حالة ماتيو — تصبح الغربة موقفا فلسفيًّا من الحضارة يمكن اكتشافه في مختلف جزئيات حياته اليومية مع جاك ودانيال وبوريس وإيفيش ومارسيل، فلا تعارض بين الموقف العقلي والموقف السلوكي. على النقيض من كمال عبد الجواد الذي يرفض القيم القديمة ليستبدلها بقيم جديدة. ثم تصطدم القيم الجديدة بواقع مرير «تخلف مرعب ولا حرية»، فتهتز المرئيات أمام عينيه ويلفه الضباب من كل جانب فلا يجد مناصًا من التوقف عن المسير في حالة «عجز» عن التغيير المطلوب. ولما كان هذا التغيير هو الوسيلة الوحيدة أمام كمال للحصول على حريته في تحقيق ذاته ووجوده كان الانتماء قدرًا لا مفر منه أمام الجيل بأكمله. غير أن معوقات التغيير تغلب إرادة التغيير، فيتأزم الوجدان حائرًا، وينصاع للموقف السلبي الفاتر، ويحدث الانقسام في الشخصية — بين المنطق العقلي والسلوك العملي — ويصبح الشك في جميع الحلول هو السمة الأساسية لجيل الأزمة، ويظل الشك مقصورًا على دائرة المجردات الفكرية الكبرى دون الجزئيات الصغيرة في واقع الحياة؛ حيث ينتمي السلوك العملي إلى نتائج التكوين الاجتماعي القائم. بينما ينعزل العقل أو الوعي في منطقة باردة من الرؤى والأماني، ومن ثم يتسبب الانشطار المأساوي في شخصية المنتمي المأزوم، فيمتلئ برغبة جارفة في اللاانتماء، ويبدأ ميله العاطفي إلى فلسفات التشاؤم ومشاعر العبث، واللاجدوى واللامعقول. ومعنى ذلك أن منشأ هذه الأحاسيس عند ماتيو — اللامنتمي الغربي — هو المصدر الأصيل لتلك الحالة النفسية التي انتابت أجيال أوروبا من المثقفين كرد فعل لانسحاق الفرد تحت وطأة النازي والفاشست؛ أما مصدر هذه الأحاسيس عند كمال عبد الجواد فهو مجرد صدى للمناخ الحضاري المتخلف وانعدام الديمقراطية. وقد كان هذان العاملان بالذات هما الدافع الأساسي لانتماء المثقف العربي في جيل نجيب محفوظ، وإن لم يكن انتماء خالصًا من الأزمات والمآسي.
فالبناء الطبقي للمجتمع المصري منذ بداية الحرب العالمية الأولى كان يمارس تحولًا برزت فيه البرجوازية التجارية الناشئة كحقيقة اجتماعية جديدة لها قيمتها الخاصة وتقاليدها التي تختلف في الكثير عن تقاليد الفئات الأخرى، ولم يكن الإقطاع المصري كمثيله في أوروبا من حيث علاقة السلطة المركزية بممثليها في الأقاليم؛ وإنما كانت الظروف الجغرافية لوادي النيل عاملًا خطيرًا في مركزة السلطة ووحدتها وقوتها، ومن ثم كانت مجموعة القيم والتقاليد الإقطاعية في مصر مختلفة عنها في أوروبا، كما أن نشأة البرجوازية عندنا كانت تختلف بنفس المقدار عن مثيلتها في أوروبا. بالإضافة إلى ما يستوجبه وجود رأس المال الأجنبي من حياة فئات اجتماعية أخرى تعيش على فتاة الموائد الاستعمارية كعُملائه المباشرين وكلاء الشركات الأجنبية، أو كحلفائه الطبيعيين من أرباب الإقطاع الزراعي في مصر الذين شاركوا الشركات الأجنبية في استغلال الموارد القومية للحصول على امتيازات خيالية. وقد كان صغار التجار في مثل هذا المجتمع على قدر يسير من الحرية الاقتصادية، وعلى قدر ضعيف من حماية أنفسهم، ولكنهم في الأغلب كانوا يقفون إلى جانب حركات التحرر الاقتصادي والسياسي إن لزم الأمر. وعلى ذلك سيطرت على حياتهم القيم الإقطاعية التي خلقت بالفعل تناقضات بشعة بين علاقاتهم الاجتماعية الجديدة، وما يحرصون عليه من تقاليد.
وفي هذا الجو نشأ كمال عبد الجواد في أسرة أحد هؤلاء التجار، وقد صوره نجيب محفوظ تصويرًا بعيدًا عن النمطية البشرية، ولكنه بلا ريب كان نموذجًا، بمعنى آخر نرى له شبيهًا عند بلزاك حين يضفي من سمات العصر على شخصياته ما يجعلها تبدو كما لو كانت بعيدة عن الواقع؛ بينما هي أكثر تجسيدًا له من غيرها، ونجيب محفوظ هو ابن البرجوازية الصغيرة المصرية الناشئة حينئذٍ. وهي أكثر الشرائح الاجتماعية ذبذبة وتمزقًا لوضعها الاجتماعي القلق، ووضعها الاقتصادي الأكثر قلقًا. والشك هو الربيب الشرعي للقلق.
إن الجزء الثاني من الثلاثية «قصر الشوق» هو اللوحة البانورامية الهائلة التي تستعرض منابت الشك في حياة كمال عبد الجواد. نحن نستقبل هذه المرحلة الشديدة الأهمية بعد مضي خمس سنوات على نهاية «بين القصرين»؛ حيث نتجاوز طفولة كمال إلى مراهقته وشبابه. ويلاحظ أن هناك خمس سنوات تفصل بين ميلاد كمال وميلاد نجيب محفوظ، وسوف يرافقنا هذا البُعد الزمني على طول الرواية كمسافة موضوعية تتيح للفنان إمكانات أوسع للرؤية؛ فبينما تبدأ «قصر الشوق» بحصول كمال على البكالوريا عام ١٩٢٤م، نجد أن نجيب حصل على هذه الشهادة عام ١٩٣٠م، ولقد كانت الفترة السابقة على البكالوريا والتالية لها هي نقطة التحول الأولى في تاريخ كل من الشخصية الفنية — كمال — والشخصية الواقعية للكاتب.
الصفحات الأولى من «قصر الشوق» تواجهنا بالملامح الجديدة لشخصية كمال: فتى رومانسي حالم، يتهدج بحب الوطن والفتاة الجميلة والثقافة الأوروبية في وقت واحد. الحب يقع من أول نظرة، وهو شيء سماوي لا علاقة له بالزواج الأرضي؛ أما الإنجليز فيقول عنهم: «والله لأبغضهم ولو وحدي.» وأما الثقافة فقد أصبح يعيش بكل قلبه في عالم «المثال» كما ينعكس على صفحات الكتب … ولكنه لم يستطع أن يحدد هدفه بسهولة، فما الذي يريد؟ إن في نفسه أشواقًا تحتاج إلى عناية وتأمل حتى تتضح أهدافها، ولعله غير متأكد من أنه سيظفر بها في مدرسة المعلمين، وإن رجح عنده أن تكون هذه المدرسة أقصر سبيل إليها. أشواق تهزها مطالعات شتى لا تكاد تجمعها صفة واحدة: مقالات أدبية، واجتماعية، ودين، وملحمة عنتر، وألف ليلة، والحماسة، والمنفلوطي، ومبادئ الفلسفة. إلى أنها ربما لم تكن مقطوعة الصلة بالأحلام التي كاشفه بها ياسين قديمًا؛ بل والأساطير التي سكبتها في روحه أمه من قبل ذلك … كان يحلو له أن يطلق على هذا العالم الغامض اسم «الفكر»، فيؤمن بأن حياة الفكر أسمى غاية للإنسان تتعالى بطبعها النوراني على المادة والجاه والألقاب وسائر ألوان العظمة الزائفة … هي كذلك، وضحت معالمها أم لم تتضح، فاز بها في مدرسة المعلمين أم لم تكن هذه المدرسة إلا وسيلة إليها. لا يملك عقله أن يتحول عن هذه الغاية أبدًا، ولكن من الحق كذلك أن يقر بأن ثمة صلة قوية تربطها بقلبه، أو بالحرَى، بحبه! كيف كان ذلك؟ ليس بين «معبودته» وبين القانون أو الاقتصاد من سبب، ولكن ثمة أسباب، وإن دقت وخفيت، بينها وبين الدين والروح والخلق والفلسفة وما شاكل ذلك من المعارف التي يستهويه النهل من منابعها، على نحو يشبه ما بينها وبين الغناء والموسيقى من أسرار يتشوف إليها في هزة الطرب وأريحية الغناء، فإذا سأله أبوه: ما هي ثقافة الفكر؟ أجابه: إنها أكبر من أن يحاط بها، إنها تبحث فيما تبحث عن أصل الحياة ومآلها. ثم يزيده إيضاحًا صريحًا: أريد أن أواصل دراستي الأدبية التي بدأتها بعد الكفاءة، أن أدرس التاريخ واللغات والأخلاق والشعر. وهو يمقت الوظيفة مهما كان نوعها، ويحلم بعالم الحقيقة كما يحلم بأنه سيؤلف في ذلك كتابًا ضخمًا مليئًا بهوامش الشرح والتفسير.
تتبلور في كمال سمات البرجوازي الصغير الذي يتخذ من «التسامي» سُلَّمًا يعلو به على طبقته؛ فالفكر والحب الرومانسي هما الجناحان اللذان يحلق بهما عاليًا فوق المجتمع بطبقاته ومشكلاته، هما الجناحان اللذان يصلان به إلى مستوى «الحب» المطلق، وهو «الفكر» المطلق … على أن هذا التكوين الرومانسي يصطدم بتناقضات عميقة داخله، تبدو عند كمال في حساسيته المريضة التي تضطره إلى إحصاء النقائص به وتقصِّيها بلا رحمة، كما تبدو في علاقته بأبيه الذي لاح لعينيه شيئًا هائلًا يتربع على عرشه فوق النقد. هاتان الندبتان واضحتان على جبين كمال في بداية شبابه الرومانسي كتعبير صادق عن أزمة البرجوازي الصغير بين القيم القديمة والعلاقات الاجتماعية الجديدة. ولقد كان كمال يعجب كثيرًا بالمواهب العقلية عند صديقه فؤاد الحمزاوي، ولكنه كثيرًا أيضًا ما أحس بالاستعلاء الطبقي عليه. وهو يرافق أسرة شداد وإسماعيل عبد اللطيف في النزهات والمناقشات، ولكنه يظل متمسكًا بالتقاليد التي تحرم عليه أكل لحم الخنزير أو شرب البيرة، وكانت هذه كلها بدايات التمزق الأكبر في حياته. كانت بدايات فحسب؛ لأن رومانسية التكوين الإنساني، بما تشتمل عليه من مطلقات ضبابية، لا بد لها أن تصطدم مع الظروف الأخرى المرافقة للشخصية؛ فبالرغم من أنها كانت تحمل جنين المأساة الكامنة في أحشاء الجيل الجديد من أبناء البرجوازية الصغيرة المثقفين، إلا أنها — لرومانسيتها — بدت وكأنها تتضمن تلقائيًّا حلولًا نهائية للأزمة. فالثقافة الشاملة هي الحل النموذجي لمشكلة التخصص بواسطة مدرسة المعلمين، وتأليف الكتب هو الحل النموذجي لمشكلة الوظائف الحكومية، والحب الدائم دون الزواج هو الحل النموذجي لمشكلة الطبقات والحب القاصر على طرف واحد … وهكذا، فإن التصور الرومانسي لهذه المشكلات جميعها كان يجسد في واقع الأمر، جوهر الأزمات القادمة المكونة لجيل المأساة. ومن أعماق الطفولة يستمد كمال تساؤله الثاني، الذي هو امتداد طبيعي لتساؤله الأول: كيف يحدث هذا لماما وقد كانت في زيارة الحسين؟ عاد التساؤل مرة أخرى حين قيل له في المدرسة: إن ضريح الحسين رمز ولا شيء غير ذلك، فراح من هول الطعنة التي نفذت إلى صميم قلبه يغالب البكاء على خيال نضب وحلم تبدد «لم يعد الحسين بجارهم؛ بل لم يكن بجارهم يومًا من الأيام، أين ذهبت القبلات التي طبعت على باب الضريح في صدق وحرارة؟ أين يذهب الاعتزاز بالقرب والإدلال بالجوار؟» لا شيء من هذا كله، لم يبق إلا رمز في الجامع ووحشة وخيبة في القلب «وبكى ليلتذاك حتى بلل وسادته، تلك كانت الصدمة»، غير أن التكون الرومانسي لا يسلم قلاعه بسهولة، فاستبدل التاريخ بالتاريخ؛ ترك ضريح الحسين، ليبحث عن أضرحة التاريخ القديم كله، وظل يهفو إلى الماضي متطلعًا إلى المستقبل دون أن يجعل للحاضر إلا لحظات النشوة الروحية العميقة التي يستشعرها فؤاده وهو مع الحبيبة «المعبودة»، أو وهو يلتقط فكرة «عبقرية» سابحة في غياهب المجهول. أما في المسائل السياسية والقومية، فكان له شأن آخر؛ إذ كان الوفد عقيدة تلقاها عن فهمي، واقترنت في قلبه باستشهاده وتضحيته، وبالمنظار الرومانسي تضخم سعد والوفد في عينيه وحجبا عنه ما عداهما … إلا أنه كان يناضل معارضيه السياسيين بعناد عظيم حتى وصف ما زعمه حسين شداد من حياد وعدم اهتمام بالسياسة بأنه «ما هو إلا اعتذار عن ضعف وطنيته». واعتبر السياسة هي الحياة كلها. وتلك هي أزمة المنتمي من أبناء البرجوازية الصغيرة، الذي لا ينحاز إلى جانبها الرجعي كلية بالانضمام إلى الاتجاهات اليمينية، ولا ينحاز إلى جانبها الثوري كلية بالانضمام إلى الاتجاه اليساري … وإنما هو يظل تجسيدًا أمينًا لمجموع هذه الشريحة الاجتماعية في ذبذباتها وتناقضاتها، كما يظل في مستوى القلق السياسي العنيف الذي لا يحله مطلقًا الانتماء إلى حزب الوفد؛ لأن هذا الحل يشتمل في جوهره على التصور الرومانسي للأزمة، فهو «حزب الشعب» كما يقولون، وانتهى الأمر. ومن البديهيات التاريخية أن الوفد كان تعبيرًا تقدميًّا عن إحدى مراحل الثورة القومية، ولكنه لم يكن قط تعبيرًا عن آمال البرجوازية الصغيرة وحدها، ومن ثم لم تكن في حوزته الحلول الاجتماعية الجذرية لآلام هذه الشريحة الطبقية. إلا أن تمثيله السياسي لأغلب فئات الشعب أثناء الثورة، جعله يبدو كما لو كان فارس الأحلام لأبناء البرجوازية الصغيرة المتأزمين بين الانتماء إلى اليمين أو إلى اليسار بشكل حاسم، ولم يرتفعوا عن المستوى الفكري للطبقة ككل. والحق أن هذه الفئة المتأزمة هي أكثر الأجنحة أصالة في التعبير عن مأساة البرجوازية الصغيرة، فالمنتمي إلى اليسار يعتنق قضية الطبقة العاملة أساسًا، لأن رؤيته لموكب التاريخ جعلته يحدس أنها الطبقة الثورية إلى النهاية، أي أنها طبقة المستقبل. ومن هنا «يتبنى» هذه القضية، وينتمي إليها عن طريق الفكر. والمنتمي إلى اليمين تمتص وعيه الفكري والسياسي مجموعة الأساطير الرجعية التي تروج لها الطبقات العليا حتى يقع فريسةَ مطامعها البعيدة في السيطرة على الحكم؛ فهي تستغل جهله وعاطفته الدينية وتكوينه النفسي والاجتماعي والاقتصادي القلِق لتُوقِع به في أغلال منظماتها الفاشية. أما ذلك المنتمي المأزوم بين المنطق التاريخي للتطور — الذي تسرب إليه عبر الثقافة العلمية الوافدة من أوروبا في أوائل هذا القرن — والسلوك الرومانسي الأمثل في مجال العمل السياسي، فإن له قصة أخرى توضح العلاقة الوثيقة بين شخصيتنا الفنية — كمال — وخالقها الفنان نجيب محفوظ.
هذه هي صورة «الفكر» في الثقافة الأوروبية مع بداية الحرب العالمية الأولى. ولقد كان رسل النهضة في الفكر العربي الحديث ورواد التجديد أولئك الذين نقلوا واستوعبوا ولخصوا وطبقوا الكثير من ألوان الفكر الغربي. كان سلامة موسى والعقاد وطه حسين والمازني وشكري وهيكل، وغيرهم من آباء نهضتنا الفكرية والأدبية والفنية يمثلون جيل الطليعة الذي تتلمذ عليه جيل نجيب محفوظ كله، ولقد توفرت لأبناء ذلك الجيل الرائد العقلية الموسوعية التي تستقبل في ارتياح معظم ألوان المعرفة؛ بل إن هذه الموسوعية هي إحدى سماتها الثورية؛ لأنها أعطت القدرة لأولئك الرواد العظام في اكتشاف الصور الجديدة للمناهج الشاملة في التفكير؛ ذلك أنه لم يكن في المستطاع إيجاد منهج ما في الأدب مثلًا، إلا إذا تمثل صاحب هذا المنهج بقية أدوات المعرفة من علوم وفنون وفلسفات؛ ولهذا لم يكن جيل الرواد متخصصًا بالمعنى الأكاديمي الدقيق، كان جيلًا استيعابيًّا ذا مستوى شمولي قادر على التكوين المنهجي. ويقل الإبداع الفني والخلق الفكري في أمثال أولئك الرواد سواء من حيث الكم أو من حيث النوع؛ لأن متطلبات المرحلة التاريخية التي عاشوها ما كانت تتيح لملكاتهم الإبداعية الخالقة الفرصة الواسعة لتحقيق إمكانيات وجودها. وإنما هم كانوا في الأغلب صدًى عميقًا لاحتياجات مراحلهم الحضارية، فأكبوا في أمانة وصدق على ثمرات الفكر الأوروبي، ومال بعضهم إلى الأدب أكثر من العلم، والبعض الآخر إلى العلم أكثر من الفلسفة، كما مال فريق منهم إلى نتاج الأدب الرومانسي أكثر من غيره، ومال فريق آخر إلى نتائج المدرسة العقلية أكثر من غيرها … ولكنهم جميعًا ارتبطوا فيما بينهم برباط عميق هو الرغبة الجادة في تغيير المناخ الفكري العربي السائد في مصر، تغيير القيم الإقطاعية المسيطرة على العلاقات الاجتماعية والدراسات الأدبية والفكرية على السواء. ومن هنا كانت الفكرة الأدبية الرومانسية في جيلهم تعبيرًا تقدميًّا عن الثورة، كما كانت الفكرة الفابية عن الاشتراكية تعبيرًا تقدميًّا مماثلًا … وهكذا اشتركوا جميعًا في صياغة «روح جديدة» و«عقلية جديدة» للشعب المصري، تقوم أساسًا على التطلع وإرادة الكشف، وعدم القناعة بما هو قائم وسائد؛ لذا لم يكن غريبًا أن تشيع على أقلامهم لأول مرة كلمات جديدة تمامًا على اللغة العربية وغريبة عليها مثل: الديمقراطية، الاشتراكية، البرلمان، الشخصية، التطور … إلى بقية هذه القائمة التي تؤكد أن حركة التجديد هذه في خطوطها العامة كانت تساير التغيير السياسي والاجتماعي في خطوطه العامة أيضًا. ولا شك في أن هناك روادًا كثيرين لا يقلون أهمية في تاريخنا؛ كمحمد عبده في المجال الديني، ولطفي السيد في المجال السياسي، وشبلي شميل وفرح أنطون في المجالين الفكري والأدبي، ولكن هؤلاء كانوا أقرب إلى المحاولات الفردية منهم إلى «الحركة الفكرية»؛ لقد كانوا بذور النهضة، ولم يكونوا النهضة نفسها … فنحن نرى لهم امتدادات أكثر ازدهارًا في جيل الطليعة؛ نقرأ أفكارهم وأعمالهم في كتابات العقاد وسلامة موسى وغيرهما، ولكنها أفكار متناثرة لا تشكل منهجًا في الفكر أو في الحياة. وهذه — في الواقع — هي القيمة الأساسية لجيل الطليعة الفكري في حياة الجيل الثاني الذي ينتمي إليه نجيب محفوظ.
فنحن نعرف أن اليقظة السياسية دبت في أوصال جيل نجيب محفوظ، وهو بعد في طفولته حوالي عام ١٩٢٦م؛ حيث لم يكن تجاوز الرابعة عشرة من عمره ومع ذلك كان مشتركًا في حزب الوفد منذ عام ١٩٢٥م، وشاهد سقوط النحاس من الحكم واعتلاء محمد محمود مرشح الإنجليز له، وتأجيله العمل بدستور ١٩٢٣م ثلاث سنوات. وحوالي عام ١٩٢٩م تعرف نجيب على المجددين المصريين، وهو يسمي هذه المرحلة من حياته ﺑ «مرحلة التحرر من طريقة التفكير السلفية».
وفي الجزء الأخير من الثلاثية يسجل نجيب محفوظ ذلك اللقاء الفريد بينه وبين سلامة موسى من خلال شخصيتَي أحمد شوكت وعدلي كريم (وسوف نعرف فيما بعد أن شخصية أحمد شوكت ليست إلا امتدادًا رمزيًّا لشخصية كمال عبد الجواد كما كان يرجو ويأمل):
«أخيرًا اهتدى أحمد إبراهيم شوكت إلى مبنى مجلة «الإنسان الجديد» بغمرة، كان المبنى يقع في مكان وسط بين محطتَي الترام، وكان مكونًا من دورين وبدروم، فأدرك لأول وهلة أن الدور الأعلى مسكن كما استدل من الغسيل المعلق في شرفته، أما الدور الأول فقد ثُبتت لافتة باسم المجلة على بابه، وأما البدروم فقد خصص للمطبعة التي رأى آلاتها خلال قضبان النوافذ. وصعد درجات أربع إلى الدور الأول، ثم سأل أول من التقى به — وكان عاملًا يحمل بروفات — عن الأستاذ عدلي كريم صاحب المجلة، فأشار إلى باب مغلق في نهاية صالة خالية من الأثاث حيث تراءت لافتة رئيس التحرير، فمضى إليه وهو يلتفت في حواليه علَّه يجد حاجبًا ولكنه ألفى نفسه منفردًا بالباب فتردد لحظة، ثم طرق برقة حتى جاءه صوت من الداخل يقول: «ادخل» ففتح الباب ودخل، فالتقت عيناه في نهاية الحجرة بعينين واسعتين تحدقان به متسائلتين من تحت حاجبين كثيفين أشيبين، فرد الباب وراءه وقال بصوت المعتذر: لا مؤاخذة، دقيقة واحدة.
فقال الرجل بصوت رقيق: تفضل.
وتقدم أحمد من مكتب كُدِّست فوقه الكتب والأدوات والأوراق، ثم سلم على الأستاذ الذي قام لاستقباله، ثم جلس بعد أن جلس الرجل وأذِن له في الجلوس. شعر بالارتياح والزهو وهو يرنو إلى الأستاذ الكبير الذي تلقى عنه النور والعرفان في الأعوام الثلاثة الماضية، سواء عن مؤلفاته أو مجلته، فراح يملأ عينيه من الوجه الشاحب الذي وخط الشيب شعره، وعلاه الكِبَر فلم يبقَ له من أمارات الفتوَّة إلا عينان عميقتان تشعان بريقًا نافذًا. هذا أستاذه أو أبوه الروحي كما يدعوه، وإنه الآن في حجرة الوحي التي لا جدران لها، ولكن رفوف من الكتب تمتد عاليًا حتى السقف.
وقال الأستاذ بلهجة المتسائل: أهلًا وسهلًا؟
فقال أحمد بلباقة: جئت لأسدِّد الاشتراك.
ولما اطمأن إلى الأثر الطيب الذي أحدثه قوله استدرك قائلًا: وأسأل عن مصير مقالة أرسلتها إلى المجلة منذ أسبوعين.
فارتسمت على جبين الأستاذ تقطيبه التذكُّر ثم قال: إني أذكرك، أنت أول مشترك في مجلتي، نعم وجئتني بثلاثة مشتركين … هه؟ هه؟
إني أذكر اسم شوكت، وأظنني أرسلت لك خطاب شكر باسم المجلة؟
فقال أحمد في ارتياح ممتنًّا لهذا التذكر الجميل: جاءني كتاب من حضرتك اعتبرتني فيه «صديق المجلة الأول».»
– هذا حق، إن مجلة الإنسان الجديد مجلة مبدأ، ولا بد لها من أصدقاء مؤمنين؛ كي تشق طريقها في زحمة مجلات الصور والاحتكار، فأنت صديق المجلة، أهلا وسهلا، ولكنك لم تشرفنا بالزيارة من قبل؟
– كلا، إني لم آخذ البكالوريا إلا في هذا الشهر.
فضحك الأستاذ عدلي كريم قائلًا: أنت فاهم أن المجلة لا يزورها إلا الحاصل على البكالوريا؟
فابتسم أحمد في ارتباك وقال: كلا طبعًا، أعني أنني كنت صغيرًا.
فقال الأستاذ جادًّا: لا يليق بقارئ «الإنسان الجديد» أن يحسب العمر بالسنين. في بلادنا شيوخ قد تجاوزوا الستين ولكنهم ما زالوا شُبَّانًا بعقولهم، وفيها شبان في ربيع العمر، ولكنهم معمرون — منذ أكثر من ألف عام أو أكثر — بعقولهم، وهذا هو داء الشرق … (ثم بلهجة أرق): وهل أرسلت إلينا مقالات من قبل؟
– ثلاث مقالات كان مصيرها الإهمال، ثم مقالة أخيرة كنت أطمع في نشرها.
– عن ماذا؟ لا تؤاخذني فإني أتلقى عشرات المقالات يوميًّا؟
– عن رأي لوبون في التعليم وتعليقي عليه.
– على أي حال ستبحث عنها في السكرتارية … الحجرة المجاورة لحجرتي، وتعلم مصيرها.
وهمَّ أحمد بالقيام ولكن الأستاذ عدلي أشار إليه بالاستمرار في الجلوس وهو يقول: المجلة اليوم في شبه إجازة، أرجو أن تمكث معي قليلًا لنتحدث، فتمتم أحمد بارتياح عميق: بكل سرور يا فندم.
– قلت إنك أخذت البكالوريا هذا العام، كم سنك؟
– ستة عشر عامًا.
– سن مبكرة، حسن، هل المجلة منتشرة في المدارس الثانوية؟
– كلا للأسف!
– أعلم هذا، أكثرية قرائنا في الجامعة، القراءة في مصر ملهاة رخيصة ولن تتطور حتى نؤمن بأن القراءة ضرورة حيوية.
ثم بعد قليل من الصمت: وما حال التلاميذ؟
فنظر إليه أحمد متسائلًا كأنما يستزيده تفسيرًا لقوله؛ فقال الرجل: إني أسأل عن الناحية السياسية باعتبارها أوضح من غيرها.
– الأغلبية الساحقة من التلاميذ وَفْدِيُّون.
– ولكن ثمة كلام عن حركات جديدة؟
– مصر الفتاة؟ … لا وزن لها، فرقة تُعد على الأصابع، والأحزاب الأخرى لا أنصار لها إلا أقارب زعمائها، وهنالك قلة لا تهتم بشئون الأحزاب كافة، وآخرون — وأنا منهم — نفضل الوفد على غيره، ولكننا نطمع فيما هو أكمل.
فقال الرجل بارتياح: هذا ما أسأل عنه؛ الوفد حزب الشعب، وهو خطوة تطورية خطيرة وطبيعية في آن، كان الحزب الوطني حزبًّا تركيًّا دينيًّا رجعيًّا، أما الوفد فهو مبلور القومية المصرية ومطهرها من الشوائب والخبائث إلى أنه مدرسة الوطنية والديمقراطية، ولكن المسألة أن الوطن لا يقنَع وما ينبغي له أن يقنع بهذه المدرسة، نريد مرحلة جديدة من التطور، نريد مدرسة اجتماعية؛ لأن الاستقلال ليس بالغاية الأخيرة، ولكنه الوسيلة لنيل حقوق الشعب الدستورية والاقتصادية والإنسانية.
فهتف أحمد بحماس: ما أجمل هذا الكلام!
– ولكن ينبغي أن يكون الوفد نقطة البدء؛ أما مصر الفتاة، فحركة فاشستية رجعية مجرمة، ليست دون الرجعية الدينية خطرًا، وهي ليست إلا صدى العسكرية الألمانية والإيطالية التي تعبد القوة وتقوم على الاستبداد، وتزري القيم الإنسانية والكرامة البشرية. إن الرجعية داءٌ مستوطنة في الشرق كالكوليرا والتيفويد فينبغي استئصاله.
فعاد أحمد يقول متحمسًا: إن جماعة الإنسان الجديد تؤمن بهذا كل الإيمان.
فهز الرجل رأسه الكبير في أسف وهو يقول: ولذلك فالمجلة هدف الرجعيين من كافة النحل، إنهم يرمونني بإفساد الشباب.
– كما اتهموا سُقراط من قبل.
فابتسم الأستاذ عدلي كريم في ارتياح وقال: وما وجهتك؟ أعني أي كلية تقصد؟
– الآداب.
فاعتدل الأستاذ في جلسته وقال: الأدب وسيلة من وسائل التحرير الكبرى، ولكنه قد يكون وسيلة للرجعية فاعرف سبيلك، فمن الأزهر ودار العلوم خرجت آداب مرضية عملت أجيالًا على تجميد العقل وقتل الروح، ومهما يكن من أمر — ولا تدهش من أن يصارحك بهذا الرأي رجل معدود في الأدباء — فالعلم أساس الحياة الحديثة، ينبغي أن ندرس العلوم وأن نتشبع بالعقلية العلمية. الجاهل بالعلم ليس من سكان القرن العشرين ولو كان عبقريًّا، وعلى الأدباء أن ينالوا حظهم منه. لم يعُد العلم وقفًا على العلماء، أجل لهؤلاء التضلُّع والتعمق والبحث والكشف، ولكن على كل مثقف أن يضيء نفسه بنوره وأن يعتنق مبادئه ومناهجه ويتحلَّى بأسلوبه، ينبغي أن يحل العلم محل الكهانة والدين في العالم القديم.
فقال أحمد مؤمِّنًا على قول أستاذه: ولذلك كانت رسالة «الإنسان الجديد» هي تطوير المجتمع على أساس. فقال عدلي كريم باهتمام: أجل، على كل منا أن يقوم بواجبه، ولو وجد نفسه وحيدًا في الميدان.
فهز أحمد رأسه موافقًا، فعاد الآخر يقول: «ادرس الآداب كما تشاء، واعن بعقلك أكثر مما تُعنى بالمحفوظات، ولا تنسَ العلم الحديث، ولا يجب أن تخلو مكتبتك — إلى جانب شكسبير وشوبنهور — من كونت وداروين وفرويد وماركس وإنجلز، لتكن لك حماسة أهل الدين، ولكن ينبغي أن نذكر أن لكل عصر أنبياءه، وأن أنبياء هذا العصر هم العلماء.»
من اليسير بالطبع أن نطابق بين عدلي كريم وسلامة موسى كشخصية واحدة عبرت في الرواية عن ذلك اللقاء التاريخي بين جيل نجيب محفوظ، وأكثر التيارات الفكرية تقدمًا في جيل الطليعة؛ ذلك أننا نستطيع أن نعثر على آراء عدلي كريم مبعثرة في كتابات سلامة موسى، وكان الفنان بارعًا في تركيزها خلال هذا الحوار الهام، فالإنسان الجديد هي المحلة الجديدة التي أصدرها سلامة منذ عام ١٩٢٩م من منزله بحارة جاد بالفجالة.
وإذا سلمنا بأن عدلي كريم هو سلامة موسى من المقارنة الموضوعية التي تطابق بين آراء الشخصية في الرواية وآرائها في الواقع، ثم أضفنا إلى عامل المطابقة اعتراف كل من الطرفين بصدق هذه المطابقة (اعترف سلامة موسى بذلك اللقاء في إحدى يومياته فور حصول نجيب محفوظ على جائزة الدولة في الأدب، واعترف به نجيب محفوظ مرتين: الأولى في تحقيق أُجري معه تحت عنوان «عصير حياتي» بمجلة الإذاعة، والأخرى في تحقيق كبير أجراه معه فؤاد دوارة بمجلة الكاتب)، إذا سلمنا بهذه المطابقة بعد ذلك، فسوف نضيف مرة أخرى تاريخ ذلك اللقاء الذي تم عند حصول نجيب محفوظ على البكالوريا عام ١٩٣٠م، وبالتالي فإن شخصية أحمد شوكت في اللقاء الفني لم تكن سوى شخصية نجيب محفوظ الذي استبدل أحمد بكمال عبد الجواد في تصوير ذلك اللقاء لأهداف نستكمل بحثها الآن، ولكن إذا تصفحنا السطور التالية للِّقاء وعرفنا أن أحمد كان يرسل المقالات إلى الإنسان الجديد، وأن له مقالًا سينشر في عدد قريب، ثم عدنا إلى كمال عبد الجواد في قصر الشوق لنعرف أن مقالًا ظهر له في إحدى المجلات يتحدث عن نظرية داروين وأشياء أخرى استوقفت أباه وأصدقاءه … لو فعلنا ذلك تمكنا من الظَّفَر بنقطة التحول التاريخية في حياة كل من كمال عبد الجواد ونجيب محفوظ على السواء.
لقد رافق هذا التحول الخطير مجموعة من الظروف الهامة؛ فلقد أحب كمال عبد الجواد شقيقة صديقه حسين شداد بكل إخلاصه الرومانسي. وكانت الفتاة تجسيدًا لكافة القيم التي تحمِلها طبقتها الاجتماعية، كان مظهرها الخارجي متلائمًا مع المِزاج الرومانسي لكمال، فهي فتاة باريسية على درجة عالية من الرقة والأناقة لا تشبه في شيء بنات بين القصرين وقصر الشوق. كان في شك من أنها تأكل الطعام كسائر البشر، ولم يُمَنِّ النفس يومًا بالزواج منها لأن الشهوة عنده غريزة حقيرة، ومعبودته أحد ملائكة السماء هبطت على الأرض تنازلًا «ولعلها لا تخلو كذلك من تعالٍ لا يمكن أن يبرره فارق السن وحده؛ إذ لم تكن تكبره إلا بعامين على أكثر تقدير.» والحق أن هذه العبارة وحدها تربط بين غرام كمال البكر وغرام نجيب البكر ربطًا عميقًا؛ فلقد أحب نجيب في مستهل حياته وهو ما يزال فتى رومانسيًّا فتاة تكبره في السن، وتقطن في الجناح الأرستقراطي من العباسية، أما هو فكان يقيم في الجناح الشعبي، وانتهت قصة غرامه الأولى بالطبع نهاية رومانسية حزينة، لا لأن الفتاة ثرية كما صورها في الرواية، وإنما لكونه لم يكن قد شب عن الطوق بعدُ بحيث يُسمح له بالزواج. وفي هذه النقطة أود أن أقول بأن غرامنا البكر يترك في وجداننا عادة ذكريات لا سبيل إلى نسيانها، ولعل هذا السبب هو الذي يبرر لنا تعدد صور الحب الأول في أقاصيص نجيب محفوظ الأولى، ورؤيته الرومانسية للمآسي العاطفية في بعض رواياته المبكرة.
غير أن الجدير بالملاحظة هنا، هو استبداله عايدة شداد، التي تنوب عن طبقة كاملة، بالفتاة التي لم تكن تمثل له حينذاك إلا استحالة الزواج المبكر بغض النظر عن الظروف الاقتصادية وظروف السن والفارق الطبقي، ولكن نجيب محفوظ الفنان الذي لا يؤرخ للماضي وإنما يجسد «قضية فكرية»، جعل من علاقة الحب بديلًا موضوعيًّا لمجموعة القيم التي يثور عليها فيما بعد؛ فقد كانت عايدة من أسرة تمتُّ بصلة قرابة إلى البكوات والباشوات وأولي الأمر، وكان مركزها الاجتماعي وتربيتها الفرنسية يعطيانها الحق في لقاء أصدقاء أخيها حسين، وينتمي هؤلاء الأصدقاء بطبيعة الحال إلى نفس الطبقة الاجتماعية التي تنتمي هي إليها، وقد أحب فيها كمال مظاهر المرأة الحرة التي يفتقدها في بيئته التي يخيم عليها أحد الآباء الآلهة الذين يرددون «الأنا» بين كل شهيق وزفير. كانت تقرأ الكتب وتناقش الأصدقاء وترتدي الثياب الأوروبية العصرية. ومن أعماق التناقض الحاد في داخله بين القيم السائدة على وجدانه، وعلاقاته الاجتماعية الجديدة مع أولئك الأصدقاء وغيرهم ممن يلتقي بهم هنا وهناك؛ أحس نحوها بعاطفة بعيدة عن برودة العقل، قريبة من قداسة القيم الموروثة. فإذا كان الأب هو «الأنا الوحيدة» في البيت، فإن عايدة هي «المعبودة الوحيدة» خارجه. فالاستبداد الأبوي في الأسرة، والطغيان العاطفي في الحب؛ هما نتاج المطلقات الرومانسية في حياة المراهق الممزقة بين القيم الإقطاعية والعلاقات البرجوازية؛ بحيث تصبح هذه المطلقات هي الحماية الشكلية من هذا التمزق، هي الضماد المؤقت للجرح … فبواسطتها يتجاوز كمال مشكلات المرأة والمجتمع، بالحب السماوي، والفكر المجرد، والانتماء إلى حزب الوفد والزعيم المقدس سعد. التفاني في الحب والوطنية كلاهما، يبلغ به ذروة التواؤم الكلي بين التناقضات الأصيلة في تكوينه الرومانسي.
ومنذ البداية يهدينا نجيب محفوظ مفتاح التعمق في فهم تلك العلاقة بين كمال وعايدة فعندها كان يصارع أبناء الأحزاب المعادية للشعب، وعندها كان يتطلع إلى حياة أسمى من الحياة التي يعيشها، وعندها تضخمت حساسيته الشديدة إزاء مواطن النقص في تكوينه العضوي، فما إن أشارت إلى أنفه العظيم إشارة سريعة حتى بات ليلته يتحسس هذا الأنف بيديه وخياله ومرآته وكل خلجة في أعصابه. وعندها أحس بأن ألوهيتها ترادف ألوهية الأب؛ بل هما اختلطا في «أنا» واحدة تتحكم في مجموع القيم التي يسير على هديها في هذا العالم، وفي نفس الوقت كانت تطالعه خطرات الشك بين الحين والآخر في كتب الفلسفة والاجتماع التي يقرأها، وكانت هناك الصدمات الباكرة التي طعنت خياله الغض عن الحسين، ولكن الصدمة الحائلة التي أعلنت بداية التحول التاريخي في حياته كانت تختزنها قصة الحب المذهل التي قالت له نهايتها إنه ضحية اعتداء منكر تآمر به عليه القدر، وقانون الوراثة، ونظام الطبقات، وعايدة، وحسن سليم، وقوة خفية غامضة لم يشأ أن يسميها. وعلى التو تصور جثته تقذف بها الأمواج إلى الشاطئ وقد امتص البحر الرهيب جمالها ونبلها «ولنعترف بعد هذا كله بأن الملل يطوق الكائنات، وأن السعادة ربما كانت وراء الموت، وبأن قاطرة الحياة تسير، وأن محطة الموت في الطريق على أي حال» … اعترف لها بحبه، ولكن معذرة، فقد سبقه حسن سليم إلى الفوز الطبيعي بها؛ فهو ابن أحد القضاة من طبقتها وهي ما كانت تنظر إليه إلا لتغري حسن بسرعة الزواج منها. هذا شيء طبيعي للغاية، أن تتزوج عايدة من حسن، ولكن كيف يصبح هذا الشيء طبيعيًّا بالنسبة له؟ هنا يحدث الخلل النفسي والتفكك الروحي، وتمسي شخصيته نهبًا لصراع حاد لا يهدأ.
جعل الفنان من الصراع الطبقي عاملًا حاسمًا في النهاية المأساوية لقصة الحب، ولكنها تحمل في الواقع دلالة أكثر أهمية من الناحيتين الفنية والفكرية؛ ذلك أن عايدة كانت تمثل له مجموعة القيم التي أتاحت لعينيه مدًى معينًا من الرؤية، فجاءت نهاية القصة تحطم هذه المجموعة من القيم الرومانسية في جوهرها، وتوسع مجال رؤيته وتزيده عمقًا. ومن الزاوية الفنية كانت قصة عايدة مقدمة ضرورية للوجه الآخر من هذا التحول التاريخي في حياته «ومن عجبٍ أنه وجد في الحياة السياسية صورة مبكرة لحياته، فكان يطالع أنباءها في الصحف وكأنما يطالع مواقف مما مر به في بين القصرين أو العباسية؛ هذا سعد زغلول — مثله هو — شبه سجين وهدف للطعنات الباغية والحملات الظالمة ولخيانة الأصدقاء وغدرهم. وكلاها — هو، وسعد — يكابدان أحزانًا من اتصالهما بأناس علَوا بأرستقراطيتهم وسفلوا بفعالهم، تقمَّص شخص الزعيم في كدرِه كما تقمص حال الوطن في قهرِه، وكان يلاقي الموقف السياسي وموقفه الشخصي بعاطفة واحدة وانفعال واحد. فكأنما كان يعني نفسه وهو يقول عن سعد زغلول: أتليق هذه المعاملة الظالمة بهذا الرجل المخلص؟ وكأنما كان يعني حسن سليم وهو يقول عن زيور: خان الأمانة واستحل القبيح في سبيل الاستيلاء على الحكومة. وكأنما كان يعني عايدة وهو يقول عن مصر: هل تخلت عن رجلها الأمين وهو يذود عن حقوقها؟ كان هذا التزاوج الحميم بين حبه لعايدة وحبه للشعب تأكيدًا مُلِحًّا من جانب الفنان بأن الانتماء في حياة ذلك الجيل هو قدَر المرحلة الحضارية المتخلفة والتقاليد غير الديمقراطية في أسلوب الحكم؛ حيث إن الانتماء هو الكفاح من أجل الحصول على القدر الأدنى من الحرية. ومن ناحية أخرى كان ثمة تزاوج مماثل بين مأساة الحب والرغبة الحادة في اللاانتماء «لم أعد من سكان هذا الكوكب، غريب أنا وينبغي أن أحيا حياة الغرباء.» تردُّنا هذه النقطة إلى بداية حديثنا عن ذلك المقال الذي قرأه أبوه وأصدقاؤه فجُنَّ أبوه وتفكَّه أصدقاؤه. كان المقال شرحًا وافيًا لنظرية داروين في تطور الأحياء. وكانت تعلن في جرأة عجيبة أن صاحبها لا يقيم وزنا كبيرًا لما يقال عن أسطورة آدم وحواء. وبالرغم من أنه سبق أن نَشر في إحدى المجلات بعض التأملات الفلسفية والأنات العاطفية، إلا أن خطورة هذا المقال تنبع من المعركة الجهنمية التي شبت في صدره وكاد عقله يحترق في أتونها «بالأمس ناضل نفسه وعقيدته وربَّه نضالًا عنيفًا أعيا روحَه وجسده، واليوم عليه أن يناضل أباه، غير أنه كان في الجولة الأولى معذبًا محمومًا، أما في هذه الجولة فهو خائف مرتعب، إن الله قد يؤجل عقابه، أما أبوه فشِيمتُه التعجيل بالعقاب» و«لم يكن دون أبيه انزعاجًا ولم يغمض له جفن ليلتها حتى الصباح، وتقلب في الفراش متسائلًا عن آدم والخالق والقرآن، وقال لنفسه مرة وعشرًا، القرآن إما أن يكون حقًّا كله أو لا يكون قرآنًا. إنك تحمل عليَّ لأنك لم تدرِ بعذابي، لو لم أكن قد اعتدت العذاب وألِفته لأدركني الموت تلك الليلة.» كان قلبه مفعمًا بالآلام «ألم الحب الخائب، وألم الشك، وألم العقيدة المتحضرة»، «إن الموقف الرهيب بين الدين والعلم أحرقك، ولكن كيف يسع عاقل أن يتنكر للعلم؟» … مأساة الحب إذن هي المقدمة التمهيدية لمأساة القيم المنهارة، وكلاهما يرافق المرحلة السياسية البشعة في تاريخنا الحديث منذ بدأت إرهاصات أزمة الرأسمالية الكبرى على النطاق العالمي، وبدأت أظافر الاستعمار والرجعية المحلية تغتال حريات الشعب الديمقراطية. تلك الأحداث التي يصفها كمال بأنها «كللت زماننا بالسواد» … واستجاب كمال تلقائيًّا للخمر والمغامرة «لا دين ولا عايدة ولا أمل، فليكن الموت.» كلا، هناك شيء آخر قبل الموت، هناك ذلك الوجه الآخر للتحول، كان الوجه الأول هو عايدة، المعادل الوجداني لفكرة الصراع الطبقي، وكان الوجه الآخر هو أحمد عبد الجواد — الأب الإله — المعادل الوجداني لفكرة القيم. فقد ظلت ألوهية الأب على عرشها متربعة في ارتياح إلى أن اكتشف ياسين — أحد أخوة كمال — جانبًا خافيًا من حياة أبيه، اكتشفه صدفة في بيت زبيدة العالمة وهو يضرب بالدف ويهرج مع نخبة من الأصدقاء كأي رجل خُلِق للمجون والملذات لا لشيء آخر، وبينما يخاطب ياسين أباه من الداخل «اليوم عيد ميلادك في قلبي» نلمح القسمات النهائية في تحول كمال التاريخي وهو يستقبل الخبر الغريب قائلًا: «هل ثمة حقيقي وغير حقيقي؟ ما علاقة الواقع بما في رءوسنا؟ ما قيمة التاريخ؟ ما العلاقة بين عايدة المعبودة وعايدة الحبلى؟ أنا نفسي ما أنا؟» … إلى أن يقول: «ومع ذلك فالمصادفة وحدها هي التي عرفتك بحقيقة الرجل، والمصادفة هي التي لعبت في حياتك أخطر الأدوار؛ لو لم أصادف ياسين في الدرب لما انقشعت عن عيني غشاوة الجهل، لو لم يجذبني ياسين على جهله إلى القراءة لكنت اليوم في مدرسة الطب كما تمنى أبي، لو التحقت بالسعيدية ما عرفت عايدة، ولو لم أعرف عايدة لكنت إنسانًا غير الإنسان ولكان الكون غير الكون. ثم يحلو للبعض أن يعيب على داروين اعتماده على المصادفة في تفسير مذهبه.»
ويضيء لنا نقطة التحول في حياة كمال عبد الجواد المرادفة فكريًّا لحياة نجيب محفوظ ذلك المقال المنشور بالمجلة الجديدة في أكتوبر عام ١٩٣٠م بقلم نجيب محفوظ تحت عنوان «احتضار معتقدات وتولد معتقدات»؛ حيث يقول إن «الإنسان بطبعه وبحكم العاطفة الدينية التي تملأ جوانب نفسه يتشوق دائمًا لمعتقد يسلم إليه نفسه وإيمانه؛ ولهذا نجده يعتنق المذاهب الاجتماعية والآراء السياسية ويبذل في سبيلها من نفسه ما كان يبذله سلفه القديم في سبيل الله أو قيصر.» إلى أن قال بوضوح: «ولو أردنا أن نتنبأ بالمذهب الذي سوف يكون له الفوز من بين المذاهب لقلنا — أو لأحببنا أن نقول — بأنه مذهب الاشتراكية.» ومعنى ذلك أن نجيب محفوظ في ذلك الوقت على وجه التحديد كان قد اتخذ موقفًا محددًا من مسائل عدة، على رأسها جميعًا تقف مسألة القِيم. فهو يرفض أولًا مجموعة من القيم ويستضيف ثانيًا — وفي نفس اللحظة — مجموعة أخرى جديدة من القيم … أي أن الرفض هنا جزء لا ينفصل عن الانتماء. ولا ريب أن اشتراكية نجيب حينذاك ليست هي الاشتراكية العالمية الحقة؛ لأن هذه يجنح إليها المنتمي إلى اليسار بصورة إيجابية كاملة غير متأزمة، أما اشتراكية كمال فهي مستقاة من فابية سلامة موسى أكثر من اعتمادها على كارل ماركس؛ غير أنها تفصح عن اتجاه نحو العلم ومفاهيم العدل الاجتماعي التي كانت تغمر عقول المثقفين المصريين في ثلاثينيات هذا القرن على ضوء اتجاهات أوجست كومت ودوركايم. بالإضافة إلى ذلك التيار الفكري القادم مع أبحاث فرويد في علم النفس وبرجسون في الفلسفة وكاري في العلم … هذه الأبحاث التي فتحت نوافذ عقولنا على معان جديدة عن الحتمية والاحتمال واللاوعي وغيرها، مما جعل أضواء المعرفة تركز أشعتها على دور «العقل» من ناحية، و«تقييم الأشياء» من ناحية أخرى. هذا الموقف من القيم نكتشف آثاره عند كمال عبد الجواد في محاولته صياغة نظرية علمية «يمكن الاعتماد عليها» في إنشاء فلسفة عامة للوجود. ذلك أنه أصبح «يفكر في ميلاده بعقل جديد، عقل قد عبَّ من منهل الفلسفة المادية حتى ألم في شهرين بما تمخض عنه تفكير الإنسانية في قرن من الزمان»، وأيضًا «فالجهاد في سبيل ربط مصر المتأخرة بركب الإنسانية عمل نبيل وإنساني كذلك.» هذا الموقف الجديد من القيم يستلزم تغييرًا جذريًّا في نظرة كمال إلى النقاط الأساسية في حياته: الزواج، الأدب، المسألة الوطنية، الدين، الفكر … وما إليها من الأمور التي تعتبر محركًا مباشرًا لتحوله الجديد.
أما الزواج فقد سبق له أن رفضه رفضًا رومانسيًّا لفصله العلاقة بين الزواج والحب، وتساميه بالحب إلى درجة ملائكية لا تهوي به إلى «حضيض» الزواج. وكانت عايدة هي الحب والحب هو عايدة، وكلاهما يرادف السماء والألوهية والعبادة؛ لذلك كانت الشهوة الجنسية لديه غريزة حقيرة، أما الآن فهو يرى أن «عايدة ذهبت فيجب أن أخلق عايدة أخرى بكل ما ترمز إليه من معان» وبعد أن كان يرفض لقاء تحت القبو مع نرجس وقمر وفؤاد الحمزاوي، أمست الخمر وبيوت الدعارة هي ملجأه الوحيد، وأما الأب «فليتك لم تضنَّ علينا بصداقتك، ولكن لست وحدك الذي تغيرت فكرته، الله نفسه لم يعد الله الذي عبدتُه قديمًا»، ثم يهتف من أعماقه ليسقط الأب المستبد. و«الإيمان بالله هو الذي جعل من الموت قضاء وحكمة يبعثان على الحيرة، وهو ليس في الحقيقة إلا نوعًا من العبث.» والأسرة يجب إلغاؤها «وأن تزول الأبوة والأمومة؛ بل هبني وطنًا بلا تاريخ وحياة بلا ماضٍ»، والحرية «مهما يكن من أمر فسأمقت ما حييت الأسر وأعشق الحرية المطلقة»، «أريد عالمًا يعيش فيه الإنسان حرًّا بلا خوف ولا إكراه»؛ وأما الدين فإن «أقدم الآثار المتخلفة على وجه الأرض أو في باطنها معابدُ، وحتى اليوم لا يخلو منها مكان، فمتى يشب الإنسان عن طوقه ويعتمد على نفسه.» وذكر كيف انجلى قبر الحسين «عن أول مأساة في حياته، ثم كيف تتابعت المآسي بعد ذلك غير مُبقية على حب أو عقيدة أو صداقة، وكيف أنه رغم ذلك كله لا يزال واقفًا على قدميه، يرنو إلى الحقيقة رنوَ العابد، غير آبهٍ لطعنات الألم» مؤثرًا القلق الحي على الطمأنينة الخاملة، ويقظة السهاد على راحة النوم، والطريق إلى نسيان كل شيء إذا كان ثمة سبيل إلى النسيان فهو تحليل الحب إلى عناصره الأولية، والانشغال بهموم كبرى، والشراب والجنس والفلسفة جميعًا.
ومع هذا سيبقى ذلك الأنف العظيم في الوجه الضيق «كجندي إنجليزي في حلقة ذكر» يشير بصورة دائمة إلى مُركب النقص الخطير في حياة كمال؛ فهو العلامة الوحيدة التي تذكر بما أسماه استبداد أبيه قبل أن يولد، وكذلك استبداد معبودته بعد أن وُلد. وإذا كانت ثورته على الأب الإله من جهة، وعايدة المعبودة من جهة أخرى، قد تحولت به وجهةً أخرى لا تخضع للقيم السطحية التي تُقاس بها مظاهر الحياة، فإن ذلك الأنف الضخم بعد ذلك يظل رمزًا كبيرًا إلى إحساس كمال بالنقص إزاء الكثير من مظاهر هذه الحياة. وهذا هو منهج نجيب محفوظ في التفكير الفني حين يجسد إحدى المشكلات الفكرية أو الأزمات العقلية في إطار عاطفي يهز المشاعر، ثم يتسرب من القالب الوجداني في هدوء إلى الهدف الفكري مباشرة.
والحق أن هذه الصورة للانقلاب الخطير الذي حدث في حياة كمال عبد الجواد كشخصية فنية، وفي حياة نجيب محفوظ الواقعية (من ناحية الأزمة في جوهرها لا في إطارها الخارجي الذي تضمَّن قصة الحب والأب والحسين) لا يمكن تصنيفها بإحدى خانات الفكر التقليدية؛ فهي لا تشكل خطأً ماركسيًّا حاسمًا ولا تميل إلى أحد خطوط الفكر اليميني على الإطلاق، ذلك أن الثقافة المستوردة التي أسهمت بصورة جدية في الانقلاب يمكن تمثُّلها، أما معاناتها فلا تتم إلا من خلال المشاركة في إبداعها. والتمثل العقلي واللامعاناة، يخلقان التناقض بين الاقتناع المجرد عن السلوك الواقعي، فالانقسام في شخصيتنا بين منطقها العقلي وسلوكها العملي. وأضيف أن الانتماء في الشرق العربي يتم بُغية الحصول على الحد الأدنى من الحرية؛ بينما اللاانتماء في الغرب يتم بهدف حماية ما تحقق للمنتمي من حرية. واللاانتماء في ذاته مبالغة في تصور حرية الفرد تصل بهذا الفرد إلى الشلل التام. أما في الشرق العربي فالمبالغة لا تحدث من جانب المثقفين في الأغلب؛ وإنما يظهر أثرها في تضخم انتصارات أعداء الحرية والديمقراطية الذين يغتالونها بلا هوادة. وإذا كان العامل ينتمي إلى قضيته الواضحة بلا عقد، فإن المثقف البرجوازي يرتبط بهذه القضية عن طريق الفكر، أي أنه ينتمي إلى قضية ما بالتبني لا عن أصالة طبقية. من هنا لا يستشعر العامل أزمة داخلية عميقة إذا غابت الديمقراطية. أما المثقف الذي يرتبط أساسًا بالفكر، فإنه يتأزم أشد التأزم. ومع ذلك فإن المثقف البرجوازي المنتمي إلى اليسار بصورة إيجابية كاملة، تحل له عملية الانتماء الإيجابي نفسها الكثير من جوانب الأزمة.
ويختلف الوضع اختلافًا كبيرًا عند المثقف البرجوازي الذي لا يرتفع انتماؤه إلى المستوى الثوري ولا يهبط إلى مستوى اليمين الرجعي، ولكنه يظل «تعبيرًا جامدًا» عن شريحته الاجتماعية في صورتها المتكاملة، أي في ذبذبتها وتمزقها بلا توقف عن الغليان. لا يقال إذن عما يحسُّه من قلق وشك وبلبلة أنها رواسب برجوازية؛ لأنه في واقع الأمر لم يتخلَّ لحظة واحدة عن تكوينه البرجوازي بكل ما يشتمل عليه من حيرة وتمزق، ولكنه لا يتخلى أيضًا لحظة واحدة عن الوقوف إلى جانب التقدم الاجتماعي، وإن ظل وقوفًا سلبيًّا في كثير من الأحيان يعبر عنه الانتماء إلى حزب الوفد في معظم مراحل تطوره مهما شاب هذا الحزب من انحرافات عن مصالح الشعب في بعض هذه المراحل. كما يعبر عنه اتخاذ الكتابات الفكرية وسيلة وحيدة للتغيير دون الانخراط الفعلي في العمل السياسي. ولعل الانحياز المطلق إلى حزب الوفد هو انحياز تاريخي لا أكثر، بمعنى أنه انحياز إلى تلك المبادئ الأولى العزيزة التي نادى بها الوفد أثناء الثورة كالاستقلال والديمقراطية. ولعل الديمقراطية بالذات هي المطلب الأساسي عند المثقف البرجوازي المتجه مع رياح الفكر إلى أهداف تُعادي التخلف الحضاري المرير. ينبغي أن نضيف إلى معالم الأزمة طبيعة المقومات الخاصة بالمنتمي اليساري في بلادنا إبَّان تلك الفترة، فقد ظلت الحركة اليسارية نهبًا للتفكك النظري والتنظيمي أمدًا طويلًا، في الوقت الذي نشطت فيه كلٌّ من الفتاة والإخوان المسلمين نشاطًا رهيبًا، فكان من المستحيل أن تتضح الرؤية أمام المنتمي المأزوم؛ بل كان من الطبيعي أن يفرز أحماض القلق والشك والتردد من أعماق تكوينه الممزق، المحاط بتلك الظروف البشعة.
والشك في حياة كمال عبد الجواد هو المحور الذي تدور حوله أحداث الجزء الأخير من الثلاثية. وهو الوليد الشرعي الأول لنقطة التحول التاريخية في حياة كمال، وهو ربيب الانشطار الحاد في شخصيته. وجاءت «السكرية» تجسيمًا موضوعيًّا لهذا الانقسام في الشخصية. لم يعُد الانقسام مقصورًا على تلك الهوة العميقة الفاصلة بين العقل والسلوك. أصبح ثمة انقسام في العقل، وانقسام مماثل في السلوك يتوِّجُهما انقسام أكبر بين العقل والسلوك. وتبدأ أحداث السكرية عام ١٩٣٥م أي بعد مرور ثماني سنوات على أحداث قصر الشوق، فنستقبل كمال عبد الجواد المفكر الذي ينشر مقالاته الفلسفية بمجلة «الفكر» بغير أجر، والمقال الذي تشير إليه بداية أحداث الرواية عن البراجماتيزم، ولن نتعب كثيرًا حين نعرف أن مجلة الفكر هذه هي مجلة «المعرفة» التي كان يكتب فيها نجيب محفوظ آنذاك، ويكاد نجيب أن يسمى صاحبها باسمه الحقيقي حين دعاه عبد العزيز الأسيوطي، وهو في واقع الحياة عبد العزيز الإسلامبولي. هذه الحقيقة شديدة الأهمية في تتبع المقارنة بين الشخصية في الفن، والشخصية في الواقع. فنجيب محفوظ كتب فعلًا في عدد سبتمبر عام ١٩٣٤م من المجلة الجديدة مقالًا تحت عنوان «البراجماتيزم أو الفلسفة العملية» والتلاعب بالسنين أو أسماء المجلات ليس إلا من دواعي الفن التي لا تقوم برهانًا على منافاة الفن لحقيقة واقعية؛ بل ربما أكدت بغير أن يقصد الفنان اتجاه هذه الحقيقة وواقعيتها. ثم نقرأ له بحثًا آخر تحت عنوان «الله» في نفس المجلة بعددَي يناير ومارس عام ١٩٣٦م، وبحثًا آخر عن «السيكلوجية واتجاهاتها وطرقها القديمة والحديثة» في عدد مارس ١٩٣٥م. وينطبق على هذه المقالات وغيرها ما قاله كمال عبد الجواد من أنها فلسفات قديمة وحديثة تنقد أحيانًا العقائد والأخلاق، ولكنها في النهاية ليست إلا استعراضًا محايدًا في معظمه لتيارات الفكر الغربي المعاصر له وقتئذٍ.
والاستعراض المحايد لتيارات الفكر هو المظهر الخارجي للشك الذي تسلل إلى حياة كمال كلها. والشك يغرس في أعماقه بذور الإحساس بالعبث واللاجدوى. والواقع يفرض عليه الانتماء إلى الحياة بأن يضفي عليها معنى ما؛ لهذا كان الانقسام الأول في شخصية كمال هو الانقسام العقلي، واستخدم الفنان في تجسيد هذا الانقسام رمزًا شديد الإيحاء بأبعاد المعركة. وكان تقسيمه للرواية الكبيرة إلى ثلاثة أجزاء بمثابة المنهج التعبيري الدال على هذا الرمز، فربما لا نستطيع أن نقارن بين أحمد عبد الجواد وبين أبناء جيله الواقعي، ولكنه بلا ريب كان يحمل في تكوينه معظم ملامح العصر خلال القيم بكل ما تحتويه من تناقضات، فهو يمثل سطوة القيم الإقطاعية المستبدة كما يمثل في نفس الوقت تحلل هذه القيم من الداخل. وهذا ما ترمي «بين القصرين» إلى تجسيده، وما الإطار التاريخي الذي يضمها إلا التبرير الزمني لوجود هذه القيم. أما في قصر الشوق فهناك عايدة تمثل القيم البرجوازية بكل ما تشتمل عليه أيضًا من تناقضات. فهي عنوان الحرية والثقافة والرقي، كما أنها عنوان السطحية وتبادل المنفعة. والوجه الآخر من صورة قصر الشوق هو كمال عبد الجواد الذي يمثل الشك في قيم الأب الإله وقيم عايدة المعبودة على السواء. ويجيء أحمد شوكت في «السكرية» كحَلٍّ «عقلي» لجيل المأساة الحضارية، بالانتماء إلى اليسار بصورة إيجابية كاملة غير متأزمة. أي أن أحمد شوكت في واقع الأمر ليس شخصية روائية بالمعنى الفني الدقيق، وإنما هو مجرد حيلة فنية لحلم اليقظة الذي يجسد الحل لأزمة كمال. نستدل ذلك من التصور الرومانسي للمناضل اليساري في بلادنا فهو — أحمد شوكت أو سوسن — نموذجي في كل تصرفاته، يستوحي سلوكه في أدق جزئيات حياته اليومية من تعاليم ماركس وإنجلز، وليست هذه هي الشخصية الحية بتناقضاتها مع نفسها ومع الواقع ومع الفكر.
أما إذا ألغينا تصورنا الرومانسي لشخصية أحمد، فإننا حينئذ نتعرف على سماته الرامزة إلى الجانب الفني من شخصية كمال، الجانب الذي يفرض عليه صراعًا لا يكل، الجانب الذي يقسم شخصيته العقلية من الداخل إلى قسمين متنازعين بضراوة تجعله يقول: «أنا الحائر إلى الأبد.» فأحمد شوكت في الحقيقة هو الوجه الآخر لكمال عبد الجواد، هو الحلم والأمنية، هو الامتداد المثال الذي يرجوه، ولهذا لا ندهش أن يسجل نجيب محفوظ لقاءه بسلامة موسى من خلال شخصية أحمد شوكت، فليس هذا خلطًا على الإطلاق؛ وإنما هو الإحساس العميق بالمرارة بأن كمال يمثله في الواقع، وأحمد يمثله في الحلم، فإذا اختلط الواقع بالحلم فليس لنا أن نتهم سوى هذا التمزق الملتاع في الشخصية المنقسمة على نفسها التي تجسد أول بطولة تراجيدية في الرواية المصرية؛ فبينما كان المفروض أن يولد البطل التراجيدي في الأدب المصري على خشبة المسرح؛ حيث يتوفر له البناء الدرامي الأكثر تجسيدًا لطبيعته من البناء الروائي، نرى أن الاضطراب العظيم الذي رافق النهضة الأدبية في بلادنا كمجموعة من التفاعلات بين واقعنا المحلي والحضارة الغربية لم يُتِح لكُتاب المسرح عندنا فرصة الاهتداء إلى معنى البطولة التراجيدية أولًا، فالاهتداء إلى بطل العصر في مرحلتهم الحضارية ثانيًا، حتى يمكنهم تقديم البطل التراجيدي المصري الذي طال اختفاؤه منذ أيام الإله المعذب أوزوريس إلى العصر الحديث. ولهذا كان نجيب محفوظ مُوَفَّقًا إلى أبعد حد حين وضع كلتا يديه على سمات البطل المعذب في جيله، ثم استطاع أن يصوغ مأساته في ثُلاثيته الروائية. ولو أننا نظرنا إلى الثلاثية على ضوء المفهوم الكلاسيكي فالرومانسي للبطولة التراجيدية، لاستطعنا أن نلتقط أبعاد القضية الفكرية الكبيرة التي تختزنها هذه البطولة، واستبعدنا نهائيًّا الفكرة القائلة بأن الفنان يؤرخ للمجتمع المصري، أو أنه قام بعملية مسح اجتماعي.
انقسام الشخصية هو محور بطولة كمال التراجيدية. والفنان لا يغير منهجه في التفكير الفني على طول الثلاثية؛ فبينما تمثل «بين القصرين» ألوهية الأب «المتربع على عرش القيم السائدة وتحللها، وتمثل «قصر الشوق» بداية التمزق الضخم بين هذه القيم والعلاقات الاجتماعية الجديدة، فإن «السكرية» هي تجسيم الانقسام الأكبر في كل من العقلية والسلوك في الشخصية الواحدة؛ أحمد شوكت ورياض قلدس يجسدان الجانب العقلي المرتبط باليسار الإيجابي المتكامل فكريًّا (أحمد)، والمرتبط بالأدب والفن تعبيريًّا (قلدس) … ذلك أن الصراع العقلي الذي نَشَب في أعماق كمال، كان صراعًا متعدد الأبعاد، فهو أولًا: صراع بين الانتماء «القدري» الأصيل، والشك الطارئ، وهو ثانيًا: صراع بين اتخاذ الفلسفة أو الأدب غاية موضوعية للحياة، وتحقيقًا ذاتيًّا للوجود؛ أما الانقسام في السلوك العملي، فتجسده «بدور»، أو عايدة الجديدة التي خلقها من نفس الوعاء الذي أنبت الأولى، ولكن في ظروف أخرى تناسب القيم الجديدة.
أي أن السكرية لم تكن مرحلة تاريخية في حياة أسرة بقدر ما كانت تجسيمًا موضوعيًّا للشخصية المنقسمة على نفسها، أو بطولة كمال التراجيدية؛ فليست الشخصيات الرئيسية فيها إلا وجوهًا متعددة لشخصية واحدة هي كمال عبد الجواد، استخدمها الفنان كحيلة روائية يبرز بها أبعاد المأساة الكامنة في أعماق هذه الشخصية، والرامزة بدورها إلى مأساة جيل كامل. ولعل ذلك الإطار التاريخي هو الذي يضفي عليها سمات الشمول التي تجعل منها مأساة مجتمع وحضارة. أي أن الثلاثية ليست إثباتًا روائيًّا للحتمية التاريخية أو قوانين الوراثة حتى يقال إن الأجزاء الثلاثة في تسلسلها المتطور فيما يشبه الجبر يؤكد هذه الحتمية وتلك القوانين؛ لأن هذين العاملين يدخلان ضمن العناصر المكونة للعمل الفني ككل، ولكنهما لا يشكلان أوجه القضية الفكرية الأساسية، كذلك فإن الثلاثية ليست معرضًا لعديد من «الموضوعات» التي ترافق أجيالًا مختلفة؛ كأن يقال إن بين القصرين هي قصة الأب المستبد الماجن، وإن قصر الشوق هي قصة الحب الخائب، وإن السكرية هي قصة الجيل المؤمن … كلا إن هذا التصور الذي تغذيه بضعة عناصر فنية في أدب نجيب محفوظ؛ كالتفاصيل والأحداث التاريخية والموضوعات المختلفة، هذا التصور يجانب التوفيق إلى أبعد حد ما دامت هذه العناصر تخدعه فيأخذ موقفًا مسبقًا من العمل الفني بتصنيفه في خانة الاتجاه الواقعي أو الطبيعي أو ما شابههما. على أنه إذا كان من الممكن التماس العذر زمنًا لأولئك الذين طابقوا بين نماذج الأدب الواقعي أو الطبيعي وبين الثلاثية على ضوء التشابه في كثرة التفاصيل أو اتخاذ القطاع الاجتماعي أو الشريحة التاريخية خامةً إنسانية للعمل الأدبي؛ فإننا لا نستطيع أن نبرر ثباتهم على هذا الرأي إلا بأنه تجاهُل للفروق الجوهرية بين أدب القضايا الفكرية وأدب الاتجاهات أو التيارات أو المذاهب الفنية والفكرية الذي يستهدف البرهان العلمي أحيانًا — كما هو الحال عند زولا — على صحة قانون ما. الثلاثية كما قلت منذ البداية تنتمي إلى النوع الأول، إلى أدب القضايا الفكرية الذي لا يبرهن على شيء وإنما يبلور قضية أو أزمة ما، لا تستهدف تحليلها بقدر ما ترمي إلى تجسيدها، وربما تتضمن عبر السياق أدلة اجتماعية أو براهين تاريخية أو ما يشبه التجارب العلمية، ولكن هذه كلها تأتي كشيء ثانوي إلى جانب القضية أو الأزمة الرئيسية.
لهذا كان كمال عبد الجواد هو القضية الكبيرة في الثلاثية، وإذا كانت بين القصرين قد صورت طفولته، والسكرية صورت كهولته، بينما ركزت قصر الشوق على أزمة «الشباب» … فإني لا أرى الطفولة في بين القصرين، ولا الكهولة في السكرية، بقدر ما أرى هنا وهناك بناء من القيم، كانت بين القصرين هي جناحه الرجعي الموغل في الرجعية، وكانت السكرية هي جناحه المتقدم على الدوام … وعلينا في هذا التصور أن نغمض الطرف عن شخصية متقدمة في بين القصرين؛ مثل «فهمي»، أو شخصية رجعية في السكرية مثل «عبد المنعم»؛ لأن أمثال هاتين الشخصيتين تأتيان لأسباب فنية وفكرية لا تلغي اتجاه السهم الذي يشير إليه البناء في مجموعه. ففي بين القصرين نلتقي بياسين وفهمي معًا، لمجرد أن يستخدم الفنان اللون الأبيض إلى جانب اللون الأسود في إبراز أحدهما؛ ياسين الذي اتخذ من «اللذة» قِبلة له في الحياة، تختفي دونها كافة المغريات والمسئوليات. وفهمي الذي اتخذ السياسة والوفد بالذات محرابًا له في الوجود … ومن صميم الشريحة الاجتماعية الشديدة التبايُن، نبت كمال. أي أن بين القصرين في مخيلتي هي تجسيم للفوضى والبلبلة التي أفرخت أزمة كمال فيما بعد، خاصة إذا كان عاهل بين القصرين يجسد هذا التناقض الحاد في شخصيته الواحدة: رجل بارٌّ نهارًا ورجل الملذات ليلًا، هذه الشخصية المزدوجة التي عبرت عن نفسها وراثيًّا في شخصيتَي ياسين وفهمي، جاءت بكمال ليواجه هذا الازدواج بشجاعة البطل ذي الشخصية المنقسمة. وفرق كبير وهام بين ازدواج الشخصية وانقسامها؛ فالازدواج يعني هوة ما بين الذات الأصلية الخافية عن العيون، والواجهة المرئية أمام الناس، ومن ثَم يكون التضليل والخداع والكذب النجوم التابعة للشخصية المزدوجة التي لا تحقق وجودها، ولا تؤكد ذاتها الأصيلة. أما الشخصية المنقسمة فإنها لا تحقق وجودها أيضًا، لا لأن ثمة مسافة بين الذات والواجهة المعلقة من الخارج؛ بل لأن هذه الذات بعينها هي التي تعاني الانشطار بين الواقع والحلم، فليست هناك واجهات معلقة في الخارج. إن انقسام الشخصية لا يتيح الفرصة لأن تكون ثمة مسافة أخرى بين هذا الجوهر المنقسم وأية لافتات خارجية تحمل الخداع والتضليل والكذب، يكفي ما به من عذاب في الداخل. هو إذن شخصية كاملة العراء أمام النفس، والعراء وحده يعذبها؛ لأن هذه النفس مشطورة، منقسمة، وهذا هو الدور الذي تؤديه بين القصرين في الواقع الروائي، إنها مجموعة من القيم الازدواجية، ومن صلبها خرج كمال يحمل صليب الانقسام.
أما السكرية فلها شأن آخر، بالرغم من أن الفنان يستخدم منهجًا واحدًا في التفكير الفني: أحمد وعبد المنعم، اليساري واليميني، هما أبناء الأسرة الواحدة، أي أن الأرض الاجتماعية والتاريخية التي أنبتتهما واحدة، فلماذا توجد شخصية كعبد المنعم؟ أو لماذا توجد شخصية كأحمد؟ إننا نسلم تقريبًا بأن ثمة علاقة بين شخصيتي أحمد وكمال قبل أن نصل إلى أنهما شخصية واحدة. تبدو هذه العلاقة في أوضح صورها حين نقرأ عن كمال أنه يشعر بأحمد كأقرب الجميع إلى روحه، وأنه كان معجبًا بأحمد «غابطًا له شجاعته وقوة إرادته وغيرهما من المزايا التي حُرم هو منها، وعلى رأسها الإيمان والعمل والزواج، كأنما قد بعث في الأسرة كفارة عن جموده وسلبيته.» كذلك فحين يتم اعتقال أحمد وعبد المنعم لا يذكر سوى كلمات أحمد عن الثورة الأبدية ويذهب في ترديدها إلى حد يتصور رياض قلدس إزاءه أن ثمة انقلابًا خطيرًا يوشك أن يقع في حياة كمال، ونحن لا ننسى ذلك اللقاء التاريخي بين أحمد وعدلي كريم، الذي يرادف في الحياة الواقعية اللقاء الهام بين جيل نجيب محفوظ وجيل سلامة موسى. فإذا كان كمال عبد الجواد هو الشخصية الفنية الرامزة إلى جيل نجيب محفوظ يمكن القول بأن لقاء عدلي كريم مع أحمد هو بعينه لقاء مع كمال.
أحمد شوكت إذن ابن شقيقة كمال في الرواية من ناحية المظهر، ولكنه يقوم بتجسيد أحد طرفي النزاع أو الانقسام في شخصية كمال العقلية، هو الطرف الجوهري الأصيل، وإن كان لا يزال في دور الحلم والأمنية، هو الطرف المنتمي إلى اليسار بصورة إيجابية كاملة. أما عبد المنعم فهو الحيلة الفنية التي تُعرف عادةً بلعبة النقائض التي يزيد بعضها البعض وضوحًا، إن وجوده لا يسجل تيار الانتماء اليميني في مرحلة الفاشية الدينية فحسب؛ بل هو يزيد وجود أحمد وضوحًا، هو يؤكد الانتماء اليساري في مرحلة التنظيم العملي، هو بمثابة اللون الأسود الذي يؤدي إلى وضوح اللون الأبيض المجاور له.
إننا نقرأ قصة أحمد شوكت مع علوية صبري، فكأننا نستعيد قصه كمال عبد الجواد وعايدة شداد. الفتاتان كلتاهما تنتمي إلى إحدى الطبقات العليا من المجتمع، وكلتاهما ترفض دعوة الحب التي يتقدم بها الطرف الآخر، لا لشيء إلا لأن الفارق الاجتماعي بينهما يحتم ذلك؛ غير أن كمال عبد الجواد يطلب من نجيب محفوظ أن يخصص له الجزء الثاني من الثلاثية بأكمله حتى نقف على أبعاد أخرى المأساة. أما أحمد شوكت فيحسم الأمر في صفحات قليلة، ويتجه إلى طبقة اجتماعية أخرى، إلى سوسن حماد ابنة عامل المطبعة. وهكذا يتم التشابه بين هذه النهاية وبين ما كادت تنتهي إليه قصة كمال مع بدور شقيقة عايدة التي عرفها في سنوات الاندحار الاجتماعي لأسرتها، لولا أن كمال — الواقع — سرعان ما يرفض فكرة الزواج منها؛ لأن «الزواج نوع من الإيمان» بينما أحمد — كمال الحلم — يسارع بالزواج من سوسن بالرغم من معارضة أهله. رفْض كمال للزواج هو جزء من خطة رفضه للحياة «لِمَ لَمْ يتزوج رغم استجابة الظروف ورغبة الوالدين؟» أجل مضت فترة في ظل الحب فكان الزواج ضربًا من العبث. وتبعتها فترة حل محل الحب فيها بديلٌ، هو الفكر، فاستغرق الحياة بنَهَم، وكانت فرحة الأفراح أن يعثر على كتاب جميل أو يظفر بنشر مقالة. وقال لنفسه إن المفكر لا يتزوج وما ينبغي له. كان ينظر إلى فوق ويظن أن الزواج سيحمله على النظر إلى تحت. وكان — وما زال — يلذ له موقف المشاهد المتأمل بقدر ما ينفر من الاندماج في ميكانيكية الحياة، وإنه ليضِن بحريته كما يضن البخيل بماله. ثم إنه لم يبقَ عنده من المرأة إلا شهوة تقضى. وإلى هذا كله فالشباب لم يضِع هباءً ما دام لا ينقضي أسبوع دون مسرات فكرية ولذات جسدية. ثم إنه حائر يداخله الشك في كل شيء «والزواج نوع من الإيمان»، «وكان يؤمن في أعماقه بأن الزواج قبة لا حبة، وكان يساوره شعور غريب بأنه يوم يذعن للزواج فسيُقضى عليه قضاء مبرمًا» هذه الكلمات التقريرية المباشرة تكاد تكون بالحرف هي الكلمات التي أملاها عليَّ نجيب محفوظ، وهو يشرح لي لماذا تأخر في الزواج؛ قال لي بالحرف: «كدت أتزوج وأنا بعدُ في مرحلة المراهقة حين تعرفت على فتاة تكبرني بعامين تقريبًا. وما أن مرَّ هذا الحادث بسلام حتى أيقنت أن لا زواج لي في ظل الاشتغال بالفكر والفن، كان تصوري للمشكلة آنذاك تصورًا رومانسيًّا محضًا؛ فالأدب هو كل شيء في الحياة، والزواج أحد المعوقات الكبرى لهذا الشيء الأعظم، ثم كبرت وأخذت أنفر من الزواج لأسباب أخرى بعيدة تمامًا عن الرومانسية، تلك هي مسئولياتي الاجتماعية الرهيبة التي تحول قطعًا بيني وبين الحياة التي أرجوها لنفسي. (وأتوقف بنجيب محفوظ عند هذا الحد، لنستمع إلى كمال في السكرية يصف الزواج بأنه «طبيعي فوق أنه بطولة، ولكنه في الوقت نفسه بشع، تصور أن تغرق حتى قمة رأسك في هموم الحياة اليومية، ألا تفكر إلا في مشكلات الرزق، أن يحسب وقتك بالقروش والملاليم» …)
كمال هذا يرى بدور شقيقة عايدة التي كان يحملها في قصرها وهي بعد صغيرة، يراها بعد أن أصبح الحال غير الحال، فقد خسرت الأسرة كافة أملاكها، وماتت عايدة، وها هو ذا يملؤه «إحساس بجدوى الحياة لم يشعر به من قبل» يحس بأنه يحب الفتاة، وأنه يجب أن يتزوجها … ولكنه يظل جامدًا في خطواته لا يتقدم مليمترًا واحدا، وتفلت الفتاة من بين يديه وهو لا يزال واقفًا يتأمل الحياة. أحمد شوكت يختزل موقف كمال الفارق؛ يحب الفتاة الأرستقراطية فترفض حبه، ولكنه لا يعيش عمره في جنازة الحب الضائع؛ يحب مرة أخرى، ويتزوج من حبيبته المناضلة، وكأن الفنان الذي لجأ إلى التقرير والمباشرة حينًا يلجأ إلى التجسيم حينًا آخر، فأحمد الذي يقوم بدور الوجه الآخر من شخصية كمال، بدور الانتماء الفكري الواضح، يقوم بنفس الدور على مستوى السلوك. كمال عبد الجواد منقسم الشخصية حقًّا، لا على الصعيد العقلي فحسب، ولكن على النطاق العملي أيضًا. وإذا كان كمال حمل وحده صليب الانقسام إلى النهاية، فإن الدماء نزفت من الجانب الأكثر تقدمًا في تكوينه، من أحمد شوكت «الفدية» التي رسمت دماؤها الطريق إلى الحل. الطريق إلى الحرية الحقيقية، مهما كان السجن هو إحدى محطات الطريق. لهذا كان كمال يحمل صليبه ويتبع أكثر جوانبه تقدمًا وإشراقًا وأصالة، كان يتبع ذلك الجوهر العميق في شخصيته المنقسمة، الجوهر الذي همس به أحمد قائلًا: «لَشَد ما يبدو لي المبدأ أحيانًا كأنه لعنة مصبوبة علينا من القضاء والقدر، إنه دمي وروحي، كأنني المسئول الأول عن الإنسانية جمعاء»، نفس هذا الصوت هو الذي وصف كمال بأنه لا يؤمن بشيء ورغم ذلك فهو وَفْدِي، يشك في الحقيقة عامة، ورغم ذلك فهو يتعامل مع الناس والواقع. هكذا أقبل ذات مرة على السرادق الضخم، «وألقى نظرة شاملة على الجموع الحاشدة، مسرورًا بكثرتها الهائلة، وتطلع مليًّا إلى المنصة التي سيعلو عندها عما قليل صوت الشعب، ثم اتخذ مجلسه. إن وجوده في مثل هذا الجمع الحاشد يطلق من أعماق ذاته الغارقة في الوحدة شخصًا جديدًا ينتفض حياة وحماسًا. هنا ينحبس العقل في قمقم إلى حين وتنطلق قوى النفس المكبوتة طامحة إلى حياة مفعمة بالعواطف والأحاسيس دافعة إلى الكفاح والأمل، وعند ذاك تتجدد حياته وتنبعث غرائزه وتتبدد وحشته ويتصل ما بينه وبين الناس، فيشارك في حياتهم ويعتنق آمالهم وآلامهم. إنه بطبعه لا يطيق أن يتخذ من هذه الحياة حياة ثابتة له، ولكن لا بد منها بين حين وآخر حتى لا ينقطع ما بينه وبين الحياة اليومية، حياة الناس. فلتؤجل مشكلات المادة والروح والطبيعة وما وراء الطبيعة، وليمتلئ اهتمامًا بما يحب هؤلاء الناس وبما يكرهون، بالدستور، بالأزمة الاقتصادية، بالموقف السياسي، بالقضية الوطنية، لذلك لم يكن عجيبًا أن يهتف: الوفد عقيدة الأمة، غداة ليل قضاه في تأمل عبث الوجود وقبض الريح، والعقل يحرم صاحبه نعمة الراحة، فهو يعشق الحقيقة ويهوى النزاهة ويتطلع إلى التسامح ويرتطم بالشك ويشقى في نزاعه الدائم مع الغرائز والانفعالات، فلا بد من ساعة يأوي إلى حضن الجماعة ليجدد دماءه ويستمد حرارةً وشبابًا. في المكتبة أصدقاء قليلون ممتازون مثل داروين وبرجسون ورَسِل، في هذا السرادق آلاف من الأصدقاء يبدون بلا عقول، ولكن يتمثل في مجتمعهم شرف الغرائز الواعية، وليسوا في النهاية دون الأول خلقًا للحوادث وصنعًا للتاريخ.»
ويدرك الفنان إدراكًا عميقًا أن «الحرية» هي مأساة ذلك الجيل الحائر المعذب، هي مصدر القلق والشك والإحساس بالعبث من ناحية، وهي مصدر المشاركة في قضايا الشعب بنصيب ما، من ناحية أخرى. كمال يعي أن قومه بحاجة إلى «الثورة» ليقاوموا موجات «الطغيان» التي تترصد سبيل نهضتهم «والحق أن الاستبداد هو مرضهم المتوطن»، هو إذن محروم — مع شعبه — من الحرية، وهو شديد القلق لموقف هذا الشعب من الحرية، اليوم توفيق نسيم وأمس إسماعيل صدقي وأول أمس محمد محمود «تلك السلسلة المشئومة من الطغاة التي تمتد إلى ما قبل التاريخ؛ كل ابن كلب غرته قوته يزعم لنا أنه الوصي المختار وأن الشعب قاصر.» يقوده هذا الحرمان من الحرية والقلق عليها إلى الشك في قيمة أي شيء. أي أن المعنى الرئيسي للحرية عند المنتمي العربي المأزوم في مصر هو المعنى الاجتماعي الذي قد يؤدي إلى أصداء غير اجتماعية، ولكنها تكون حينئذٍ هي الفرع لا الأصل، هي النتيجة لا السبب؛ لهذا يبدأ ارتياب كمال في قيمة ما يكتب، وربما ارتاب في ارتيابه نفسه، وسرعان ما اعترف فيما بينه وبين نفسه بأنه ضاق بكل شيء ذرعًا، وأن الدنيا تبدو أحيانًا كلفظة قديمة اندثر معناها. إن مكانة الفكر في بلده تقوده إلى معرفة العنصر الآخر المكون لمأساة الحرية؛ فبالإضافة إلى عنصر الطغيان التاريخي على مدى الأجيال، هناك التخلف الرهيب الذي يسهم بفاعلية كبيرة في تضخيم مشكلة الحرية. المجلات التي يكتب فيها بلا أجر، تسكن أحقر الأماكن. الوظائف التي يشغلها المثقفون من أمثاله هي أبعد الوظائف تجاوبًا مع ثقافته. الدعارة الجنسية وغير الجنسية هي الوسيلة الرابحة في إلغاء قرار نقله من القاهرة إلى أسيوط؛ لذلك يرى المومس شر صورة للاستعباد «كل شيء هنا غالٍ، إلا المرأة، إلا الإنسان» ثم يستدرك: غير أن حياتنا لا تخلو من مومسات من نوع آخر، ويشعر بمرارة الخدعة الكبرى في الحياة، فنكون كالممثل الذي يعي دوره الكاذب على المسرح، ولكنه رغم ذلك يعبد فنه. ومن هنا تأرجح بين «حقوق الإنسان» و«البقاء للأصلح» إلى أن يتساءل في ارتياب «والشيوعية … أليست تجربة جديرة بالاختبار؟» كان هذا التساؤل صدى للصوت الداخلي المدعو أحمد، وكان تمهيدًا لصوت آخر يُدعى رياض قلدس «لا شك في احتقاري للفاشستية والنازية وكافة النظم الدكتاتورية، وأما الشيوعية فخليقة بأن تخلق عالمًا خاليًا من مآسي الخلافات العنصرية والدينية والمنازعات الطبقية؛ بيد أن اهتمامي الأولي مركز في فني.» كان هذا التساؤل أيضًا تبريرًا لما سبق أن حدده هو بنفسه:
«لقد عاصرت عهد محمد محمود الذي عطل الدستور ثلاث سنوات قابلة للتجديد، واغتصب حرية الشعب في نظير وعده له بتجفيف البرك والمستنقعات. كما عشت سنين الإرهاب والعهر السياسي التي فرضها إسماعيل صدقي على البلاد. كان الشعب يثق في قوم ويريدهم حكامًا له، ولكنه يجد فوق رأسه أولئك الجلادين البُغَضاء تحميهم هراوات الكونستبلات الإنجليز ورصاصهم، وسرعان ما يقولون له بلغة أو بأخرى أنت شعب قاصر ونحن الأوصياء، والشعب يخوض المعارك دون توقف فيخرج من كلٍّ وهو يلهث. إن قلبه لا يستطيع أن يتجاهل حياة الشعب، إنه يخفق معه دائمًا، رغم عقله التائه في ضباب الشك.»
فهو يسأل في الصباح عن معنى كلمة أو هجاء أخرى، ويتساءل بالليل عن معنى وجود ذلك اللغز القائم بين لُغزَين. وفي الصباح يضطرم فؤاده بالثورة على الإنجليز، وفي الليل تدعوه الأخوة العامة المعذبة — أخوته لبني الإنسان — للتعاون أمام لغز القضاء. وكان طبيعيًّا أن يقوده الإحساس بعبث الوجود الإنساني إلى التفكير في الموت والشعور بسحر الموت، حتى أصبح الموت هو «لذة» الحياة، ولكن: لماذا لا ينتحر؟ طالما نازعته النفس إلى النقيضين: وكر الشهوات، والتصوف، ولكنه لم يكن ليطيق حياة خالصة للدعة والشهوات، ومن ناحية أخرى كان ثمة شيء في أعماقه ينفر من فكرة السلبية والهروب، ولعله — هذا الشيء — هو الذي حال بينه وبين الانتحار. وفي ذات الوقت فإن استمساكه بحبل الحياة المضطرب في يديه مناقض لصميم شكه القاتل. والخلاصة في كلمتين: «حيرة وعذاب». إن هذا الشيء الخطير الموغل في أعماقه وينفر من فكرة السلبية والهروب، هو الجوهر الأصيل الذي يحدد موقف كمال من الحرية، ويشد الخيط بينه وبين أحمد شوكت، الوجه الآخر له. أي أن هذا الجوهر هو الذي يعين لنا لماذا كان أحمد هو الوجه الآخر لكمال، ولم يكن عبد المنعم؟ ولماذا كان رياض قلدس، ولم يكن إسماعيل عبد اللطيف أو فؤاد الحمزاوي؟ ثمة شخصيات كثيرة في الثلاثية تتميز بحيوية تبعد بها كثيرًا عن النمطية، هي شخصيات إنسانية تؤدي دورها اليومي في الحياة دون أن تحمل بمفردها عبء التعبير الرمزي عما هو أكبر منها من قضايا وأفكار. إسماعيل عبد اللطيف وفؤاد الحمزاوي مثلًا، كلاهما ينتمي بصورة أو بأخرى إلى طائفة الموظفين الذين يعنيهم المزيد من الاستقرار في العمل والبيت، وهما في ذلك يفيدان الفنان في إيضاح التباين في هذا «النمط» من الحياة التي لا يرغب فيها كمال، بالرغم من أن الشخصيتين كلتيهما ليستا من النمطية في شيء؛ أحمد وعبد المنعم وقلدس من الممكن اتهامهم بأنهم شخصيات جامدة، نموذجية غير متطورة، نمطية، ومن الممكن اتهامهم بأنهم أبواق تحمل مجموعة من الآراء التقريرية المباشرة، ولكن هذا الاتهام لا يثبت طويلًا إذا عدنا فتصورنا أحمد في مكانه الصحيح من البناء الفكري والصياغة الفنية لشخصية كمال عبد الجواد، كذلك الحال في رياض قلدس. أما عبد المنعم فسبق الحديث عن مبررات وجوده، ولكن لماذا لم يكن بديلًا عن أحمد في تجسيم الصراع العقلي في شخصية كمال؛ فيكون انتماؤه إلى اليمين هو الأساس الفكري لبقية الصراعات الدائرة في الرواية؟ من ناحية المظهر يلح الفنان على حادث مصرع فهمي كبؤرة إشعاع وطني جذبت كمال منذ صباه الباكر، يلح على هذا الحادث أكثر من مرة حتى ليذكره كمال في مختلف مراحل عمره. من ناحية الجوهر نلاحظ أن الفنان اختار قضية محددة هي قضية الحرية كتعبير عن مأساة هذا المجتمع بشكل عام، وتعبير عن أزمة جيل كامل بصورة خاصة. واختار ثانيةً وجهة نظر محددة إلى هذه القضية تميل إلى رؤيتها خلال البناء الطبقي للمجتمع، وحتمية التطور التاريخي معًا. لهذا اعتمد التكوين الروائي على عنصر الزمن كشيء موضوعي مستقل تمامًا عن إدراكنا (يمثله التقسيم التاريخي للثلاثية، ويمثله الشيخ الذي بدأت بين القصرين وهو يذكر أسماء أسرة أحمد عبد الجواد فردًا فردًا، وانتهت السكرية وهو لا يذكر اسم أحمد عبد الجواد حين اصطدم بجنازته في أحد الشوارع)، واعتمد هذا التكوين أيضًا على إرادة الإنسان المتفاعلة مع قوى التاريخ لتغيير المجتمع، فإذا جاء كمال ليمثل أزمة الجيل المعذب بين مأساة الحرية ومأساة التخلف الحضاري، كان من الطبيعي أن يتمثل في ذهنه حلًّا معينًا تكبته الظروف، ولكنه يظهر — فنيًّا — كحلم يقظة يستمد حيويته خلال الصراع بينه وبين معوقات القلق والشك. واتخذ القلق والشك مظهرًا آخر في حلبة الصراع — عقل كمال — هو النزاع الحاد بين الأدب والفلسفة كواحد من الطرق المقترح أنها تؤدي إلى النجاة.
والحق أن مطالعة مقالات نجيب محفوظ في الفلسفة منذ ١٩٣٠ إلى ١٩٣٦م تؤكد ما قاله رياض قلدس (الجانب الخفي من عقلية كمال الذي يمجد الأدب والفن) من أن هذه المقالات تدلل على أن كمال ليس إلا مؤرخًا بلا موقف، ويلتقط كمال من كامنته هذه الحقيقة ليستطرد: «إني سائح في متحف لا أملك فيه شيئًا، مؤرخ فحسب، لا أدري أين أقف.» ذلك أن الفلسفات قصور جميلة هائلة، ولكنها لا تصلح للسكنى، وأما العلم فهو دنيا مغلقة لا نعرف إلا بعض نتائجها القريبة. حتى مغامرات تحضير الأرواح غرق فيها لأذنيه. وما زال رأسه يدور في فضاء مخيف: ما الحقيقة؟ ما القيم؟ ما أي شيء؟ إني أحيانًا أشعر بتأنيب ضمير لفعل الخير كالذي أشعر به عند الوقوع في الشر.» رياض قلدس يهمس من بين أضلع كمال بشيء آخر هو أن العلم يجمع البشر في نور أفكاره، والفن يجمعهم في عاطفة سامية إنسانية، وكلاهما يطور البشرية ويدفعها إلى مستقبل أفضل. على أن صوتًا آخر يعود فيطغى على الصوت الأول: كيف أؤمن بالفن، وأنا أراه نشاطًا غير جدي؟ ومع ذلك فليس الفيلسوف من ردد أقوال الفلاسفة كالببغاء، واليوم كل متخرج في كلية الآداب يستطيع أن يكتب كما يكتب هو أو أحسن، لم يعد لمثل هذه المقالات التعليمية من قيمة تذكر! ويقوده هذا التفكير إلى نفس الإحساس الذي سبق أن قاده إليه تفكيره في الزواج: متى يدرك قطاره محطة الموت؟ من اليسير إذن أن نتعرف على رياض قلدس كجانب من صراع كمال العقلي، فمن جهة نحن نستمع إلى هذا الجانب يقول: «إنك توحي إليَّ بشخصية الرجل الشرقي الحائر بين الشرق والغرب»، ولم ينفذ هذا الإيحاء من بين شخصيات الثلاثية سوى كمال عبد الجواد إذا اقتنعنا بأنه المرادف الموضوعي لشخصية نجيب محفوظ، أي أن صاحب هذا الصوت كان كمال نفسه على لسان رياض قلدس، كذلك فإن ما تصف به سوسن حماد قصص رياض قلدس من أنها واقعية وَصْفية تحليلية، ولا تتقدم عن ذلك خطوة، لا توجيه فيها ولا تبشير، هو نفس الاتهام الذي ألقى به اليسار الأدبي في بلادنا في وجه نجيب محفوظ.
هكذا كان يعاني نجيب محفوظ قسوة الصراعات الهائلة التي جعلت كمال عبد الجواد يعترف: «وأنا نفسي — بين عقلي وقلبي — شخص يعاني انقسام الشخصية.» وجعلت رياض قلدس يرى فيه نموذجًا روائيًّا للصراع بين الشرق والغرب، وردد كمال مرة أخرى: «كلانا يجري نحو الثلاثين دون أن يتزوج، جيلنا مكتظ بالعُزَّاب، جيل الأزمة.» لذلك ما أشد حنينَه إلى ردم الهوة بين أطراف الصراع في نفسه: بين الانتماء واللاانتماء، بين العزوبة والزواج، بين الفكر والعمل، بين الأدب والفلسفة، كلما واجه هذه التناقضات في حياته زعزعَهُ القلق، ولهذا «شد ما يحن قلبه إلى تحقيق وحدة منسجمة تتسم بالكمال والسعادة» بدلًا من هذا السعار الذي لا يهدأ في أعماقه الصارخة في صدق: «أنا الحائر إلى الأبد.»
إن مشكلة اللامنتمي هي في أساسها مشكلة الحرية بمعناها الروحي العميق، ولكن الدين لا يمكن أن يكون جوابًا على مشكلته. إن اللامنتمي إنسان استيقظ على الفوضى، ولم يجد سببًا يدعوه إلى الاعتقاد بأن الفوضى إيجابية بالنسبة إلى الحياة. إلا أن الحقيقة برغم ذلك يجب أن تُقال، والفوضى يجب أن تواجه. ويستطرد وِلسُن قائلًا إن اللامنتمي هو الإنسان الذي يواجه أبشع الحقائق وأقساها، تلك هي مرض الإنسانية المعاصرة، وهو الوحيد الذي يعرف بأنه مريض في حضارة لا تعلم أنها مريضة. والشعور بلا حقيقة أي شيء هو الشعور الأساسي في حياة اللامنتمي، والحرية عنده هي الفكاك من اللاحقيقة، والحرية لذلك هي الرعب، هي الأزمة. الحرية — كما يقول ولسن — تعني حرية الإرادة، وهذا أمر واضح في الكلمة ذاتها؛ إلا أن هذه الإرادة لا تستطيع أن تعمل إلا حين يكون هنالك دافع، فإذا لم يكن هنالك دافع، لم تكن هنالك إرادة. ثم إن الدافع ينشأ عن الاعتقاد، فإنك لن تفعل شيئًا ما لم تعتقد بأنه ممكن وذو معنى. ويجب أن يكون هذا اعتقادًا في وجود شيء، أي أن هذا الاعتقاد يُعنى بما هو حقيقي. وعليه فإن الحرية تعتمد على الحقيقي. أما معنى اللاحقيقية لدى المنتمي فإنه يبتر حريته من جذورها، فيجد أن ممارسته لهذه الحرية مستحيلة في عالم لا حقيقي. ذلك هو معنى اللاحقيقية، الذي يمكن أن يبرق في سماء شديدة الصفاء، إلا أن الأعصاب القوية والصحة الجيدة يجعلان ذلك أمرًا غير ممكن، على أن ذلك قد يكون لأن هذا الرجل الذي يتمتع بصحة جيدة يفكر بالأشياء الأخرى دون أن ينظر في الاتجاه الذي يكمن فيه الشك، لأن من ينظر في هذا الاتجاه لا يستطيع أن يرى العالم كما كان يراه من قبل من استقامة. وتلك هي أزمة اللامنتمي مع نفسه، ومع العالم. ولقد طبق كولن ولسُن آراءه هذه على عشرات الأعمال الأدبية التي تسند تفسيراته هذه لأزمة اللامنتمي الغربي. ونحن قد نرفض التفسير، ولكنا لا نستطيع أن نرفض تشخيصه لمظاهر الأزمة. على أننا نستطيع أن نستبدل ثلاثية سارتر بالعديد من الأعمال الأدبية الكبرى التي عرض لها ولسن.
… لقد رفض ماتيو أيضًا الزواج من عشيقته الحامل مارسيل «كان ينظر مرهقًا إلى بقايا كرامته الإنسانية. وفجأة خُيل إليه أنه كان يرى حريته … كانت خارج المتناول، قاسية جامحة، وكانت تأمره بصراحة أن يتخلى عن مارسيل.» في اللحظة السابقة على هذه الكلمات كان يقول: «هكذا، إن إرادتي بأن أكون ما أنا هي الحرية الوحيدة الباقية لي. حريتي الوحيدة: إرادة الزواج بمارسيل.» وفي اللحظة التالية أيضًا لهذه الكلمات كان يقول: «كلا، ليس المرء حرًّا لمجرد أن يترك امرأة.» ومع ذلك فهو يبذل جهدًا مضنيًا لإجهاض مارسيل للتخلص من أية رابطة تعني الزواج، تعني المستقبل ولو لدقيقة واحدة؛ بل يذهب إلى ما هو أبعد؛ يفكر: «أنا أحبها.» وينطق: «أنا لا أحبك.» الحرية بالفعل هي الرعب؛ لأنها تعني العراء الكامل أمام النفس في مختلف لحظاتها، مهما كانت إحدى هذه اللحظات هي جنين مارسيل، واللحظة الأخرى هي إيفيش الفتاة التي تستهويه ولا يستهويها. وبين ابتعاد إيفيش وزواج مارسيل من صديقه اللوطي دانيال وهزيمة برونيه في جذبه إلى عضوية الحزب، يعيش ماتيو وحيدًا «إنني أبقى وحيدًا … وحيدًا … ولكن ليس أكثر حرية من السابق … لم يعترض أحد طريق حريتي، وإنما حياتي هي التي شربتها»، «إن حياتي ليست بعدُ لي، إنها ليست إلا قدرًا» … كان وحيدًا — يقول سارتر — «حرًّا ووحيدًا، من غير عون ولا عذر، محكومًا عليه أن يقرر من غير مساعدة ممكنة، محكومًا عليه إلى الأبد أن يكون حرًّا.»
وليست هذه هي نهاية أزمة المنتمي العربي في مصر. مأساة كمال عبد الجواد ليست امتدادًا لتراث هائل من الشك، فلقد عاشت حضارتنا في عصور ازدهارها وانحطاطها على السواء داخل دائرة «نعم». وليست خطرات أبي العلاء أو نظرات ابن رشد وغيرهما بكافية لأن تعد تراثها حضاريًّا في الشك. بالإضافة إلى أن طبيعة الشك في شخصية كمال أقرب إلى الحيرة في اختيار الحل الناجز المنقذ لحضارتنا من وهاد التخلف واللاديمقراطية منها إلى الشك كفلسفة كاملة قائمة بذاتها. وليس الإحساس بالعبث واللاجدوى إلا حالة نفسية، وليست موقفًا فلسفيًّا قائمًا بذاته؛ لهذا كان الأساس في موقف اللامنتمي الغربي هو اللاانتماء والرغبة الشديدة في الانتماء (فهو شخصية منقسمة على ذاتها كما نرى في ماتيو الذي يمثل بطولة العصر التراجيدية في الغرب)؛ بينما الأساس في موقف كمال عبد الجواد هو الانتماء، والرغبة الطارئة عليه في اللاانتماء هي تجسيد لأزمة الحرية؛ فالنهضة الفكرية التي اشتعلت في بلادنا منذ حوالي نصف قرن باستقبال الكشوف العالمية والفلسفية من أوروبا استقبالًا جادًّا؛ لم تصل بعدُ في تفاعلها مع واقعنا الحضاري إلى الدرجة التي تتيح لنا خلق تيار فلسفي أصيل يتخذ من الشك أساسًا عضويًّا له.
- أولهما: العامل الزمني، فنحن شعب عاشت حضارته آلاف السنين تحت وطأة السكون الغيبي، ثم اخترقت هذه الحضارة مرحلة رائعة كانت فيها أُمًّا للعطاء العظيم، وسرعان ما انقطع ما بينها وبين الأخذ والعطاء على السواء حتى عاد اتصالنا الحديث بالحضارة الإنسانية؛ حيث تبلغ ذروة نضجها في الغرب.
- وثانيهما: المشاركة الإبداعية الخالقة للمرحلة الحضارية الراهنة، فنحن — أبناء الأجيال المعاصرة — لم نعانِ عملية الخلق المريرة التي تصاحب نشأة هذه المرحلة من نمو الحضارة؛ لهذا نتجاوز كثيرًا عن مقتضيات الواقع إذا قلنا بأن النصف قرن الأخير من سنوات النهضة كاف لأن يخلق ضميرًا عربيًّا أساسه الشك الفلسفي بمعناه المنهجي العميق.
وإنما الذي حدث فيما أرى هو الرفض التام لأحدث منجزات الحضارة الغربية من جانب الفئات اليمينية التي تعتمد على التخلف الحضاري في بقائها، أما الفئات اليسارية فقد تبنت أكثر جوانب هذه الحضارة تقدُّمًا في المستويين الفكري والاجتماعي، ثم كان هناك ذلك الفريق الثالث الذي يمثله جيل نجيب محفوظ، فتقبل عقليًّا جميع هذه المنجزات الحضارية الجديدة، ووقف عند عتبات الانبهار العقلي لا يحرك خطواته إلى السلوك العملي. يربط بين هذه الفئات الثلاث خيطٌ هام هو أن التيارات الفكرية الجديدة لم تعلقهم في فضاء الشك الفلسفي؛ فقد رفضها بعضهم منتميًا إلى أكثر القوالب رجعية وتخلفًا، وتقبلها البعض الآخر منتميًا إلى أكثر جوانبها تقدمًا كحلٍّ ناجز لمشكلة التخلف وأزمة الديمقراطية، ولم يرفضها الفريق الثالث ولم ينتمِ إلى أي منها بصورة إيجابية كاملة، ولكن أعماقه المعادية للسلبية والهروب كانت تشده إلى الجانب المتقدم. ومعنى ذلك أن أزمة هذا الفريق الأخير لم تكن أزمة بين الشرق والغرب كما قال رياض قلدس … بل كانت في الحقيقة أزمة بين الشرق والشرق، لم يكن الغرب ممثلًا في حضارته العظيمة سوى أحد العوامل المهمة التي أسهمت في صنع الأزمة. لم يشأ كمال عبد الجواد أن يتجاوز المأساة، كان يستطيع أن يتجاوزها بالانتماء المطلق، أو بازدواج الشخصية التي تخلق نماذج الضائعين والمضطهدين وهواة الطريق القصير والطريق المسدود والسراب، هذه النماذج التي سيعرض لها نجيب محفوظ فيما بعد بمنطق المنتمي إلى المأساة، ولكنه المنتمي المأزوم.
هو المنتمي المأزوم حقًّا، فهكذا أكد كمال لرياض بأن مسألة الإيمان ما تزال قائمة بلا حل، ولكن المعركة لن تنتهي ولو لم يبقَ من عمره ثلاثة أيام. هو المنتمي المأزوم حقًّا، فهكذا ظل الانتماء الإيجابي المتكامل حلًّا عقليًّا فحسب أو مجرد حلم يقظة، يتجسد لحظة ما في شخصية أحمد شوكت، ولحظة أخرى في شخصية رياض قلدس، حينًا في بدور، وحينًا آخر في شخصية سوسن. هو المنتمي المأزوم حقًّا، فهكذا يظل كمال تعبيرًا عن البرجوازية الصغيرة، آنًا يكون التعبير الرومانسي، وآنًا آخر يكون التعبير التجريبي، وآنًا ثالثًا التعبير الرمزي. هو المنتمي المأزوم حقًّا الذي يغضب إلى جانب الشعب من استعلاء صديقه حسن، والذي يشعر هو نفسه بالاستعلاء على صديقه فؤاد.
والمنتمي المأزوم لا يتجاوز مأساته ولا مأساة مجتمعه وحضارته، فهو لا ينتمي ولا يضيع ولا يستشهد ولا يتسلق، ولكنه يخترق قلب المأساة، ينفذ إلى صميمها حتى النخاع، يعشش في جوهرها ويستقر في أتونها.
لهذا يتساءل ذلك الذي يعيش لامعقولية الوجود بعقله «وإذا لم يكن للحياة معنى فلم لا نخلق لها معنى؟ ربما كان من الخطأ أن نبحث في هذه الدنيا عن معنى بينا أن مهمتنا الأولى أن تخلق هذا المعنى.» إذن فثمة انقلاب خطير في حياة كمال يوشك أن يقع كما يهمس لنا الجزء الآخر من روحه وعقله: رياض قلدس. سبق له أن اعترف لنا بأنه يعاني من انقسام الشخصية، وبأنه من جيل الأزمة، وبأنه ينشد وحدة منسجمة لتناقضاته. وها هي ذي بداية الانقلاب تعلن عن نفسها «يحسن به قبل أن يحرك يده للكتابة عن الله والروح والمادة أن يعرف نفسه؛ بل شخصه المفرد، كمال أفندي أحمد؛ بل كمال أحمد؛ بل كمال فقط، حتى يتسنى له أن يخلقه من جديد.» وها هي ذي الخليقة الجديدة تعلن عن نفسها في هذه الصورة الدقيقة التي أكد عليها نجيب محفوظ بخطوط واضحة؛ فقد تم اعتقال أحمد وعبد المنعم. وفي قسم البوليس قال أحمد لنفسه: «إن موقفًا إنسانيًّا واحدًا هو الذي جمعنا على اختلاف مشاربنا في هذا المكان المظلم الرطب؛ الأخ والشيوعي والسكير والسارق على السواء، كلنا واحد على تفاوت في قوة المناعة ولون الحظ.» هذه الصورة الدقيقة التلوين لمأساة مصر في الحرية تقول إن كمال عبد الجواد، المنتمي المأزوم، لم يعد له مكان في الصورة … بينما الصورة هي جماع أزمته كلها، هكذا حدَّث أحمد نفسه مرة أخرى فقال: والحق أن الإنسان قد يسعد بما هو زوج أو موظف أو أب أو ابن، ولكنه مقضي عليه بالمتاعب أو بالموت نفسه بما هو إنسان، وسواء أقُضي عليه بالسجن هذه المرة أم أطلق سراحه فباب السجن الغليظ المتجهم هو ما يتراءى لعينيه في أفق حياته. وعاد يتساءل: ماذا يدفعني في هذا السبيل الخطير الباهر؟ إلا أنه الإنسان الكامن في أعماقي، الإنسان الواعي لذاته المدرك لموقفه الإنساني التاريخي العام، وأن ميزة الإنسان على سائر المخلوقات هي أنه يستطيع أن يقضي على نفسه بالموت بمحض اختياره ورضاه … وشعر بالرطوبة في ساقيه والإعياء يتخلل مفاصلة، وكان الشخير يتردد في الأركان بإيقاع موصول، ثم لاحت خلال قضبان النافذة الصغيرة طلائع النور وانية رقيقة». أي أن تحقيق الذات هو تأكيد الجانب الإنساني منها.
هذا ما يقوله أحمد، الوجه الآخر لكمال الذي يجسد ذروة الأزمة، فهو الإجابة الشافية على تساؤل كمال «لعلك تقول غدًا بحق إن الموت استأثر بأحب الناس إليك، ولعل عينيك أن تدمعا حتى يزجرك المشيب، والنظر إلى الحياة كمأساة لا يخلو من رومانتيكية طفلية، والأجدر بك أن تنظر إليها في شجاعة كدراما ذات نهاية سعيدة هي الموت. ثم سائل نفسك: إلامَ تضيع حياتك هباء؟ إن الأم تموت وقد صنعت بناء كاملًا، فماذا صنعت أنت؟» لهذا يتراجع أحد طرفي المعركة في «عقل» كمال و«روحه» حين يجيب: «كثير يرون أن من الحكمة أن تتخذ من الموت ذريعة للتفكير في الموت، والحق أنه يجب أن تتخذ من الموت ذريعة للتفكير في الحياة.» وتراجع خطوة أخرى حين أخذ يردد بينه وبين نفسه أن التصوف هروب كما أن الإيمان السلبي بالعلم هروب «وإذن فلا بد من العمل، ولا بد للعمل من إيمان، والمسألة هي كيف نخلق لأنفسنا إيمانًا جديرًا بالحياة» … ويظل التراجع في خطوات منتظمة، كلما تجسدت في مخيلته صورة السجن وابن شقيقته أحمد شوكت، فيقول برثاء: «يجب أن تعبُد الحكومة أولًا كي تعيش مطمئنًّا»، ويتساءل بمرارة: «متى يُعامَل المصريون كالآدميين؟» ويقرأ من ذاكرته كلمات أحمد: «نعم، قال لي إن الحياة عمل وزواج وواجب إنساني عام، وليست هذه المناسبة للحديث عن واجب الفرد نحو مهنته أو زوجه، أما الواجب الإنساني العام فهو الثورة الأبدية، وما ذلك إلا العمل الدائب على تحقيق إرادة الحياة ممثلة في تطورها نحو المثل الأعلى.»
الثورة الأبدية … أخيرًا؟ أجل، ذلك هو منهج الانطلاق اللانهائي الذي يخترق به المنتمي المأزوم قلب المأساة «قال: إني أؤمن بالحياة وبالناس وأرى نفسي ملزمًا باتباع مُثُلهم العليا ما دمت أعتقد أنها الحق؛ إذ النكوص عن ذلك جبن وهروب، كما أرى نفسي ملزمًا بالثورة على مُثُلهم ما اعتقدت أنها باطل؛ إذ النكوص عن ذلك خيانة، وهذا هو معنى الثورة الأبدية.» المنتمي المأزوم يقوم بتصفية تاريخية هائلة لما شاب جوهره الأصيل من شك طارئ وحيرة وعذاب … ومن ثم تنتهي السكرية، آخر سطور الثلاثية الكبيرة، ونحن نستمع إلى دقات البطل التراجيدي العظيم — كمال عبد الجواد — وهو يعيش بكل عقله وقلبه، بكل ذرة في كيانه المنقسم، يعيش مع الصوت الغالب على أعماقه، مع جوهره النقي الأمين، مع أحمد شوكت في معتقل الطور «إني أؤمن بالحياة والناس، هكذا قال: وأرى نفسي ملزمًا باتباع مثلهم العليا ما دمت أعتقد أنها الحق؛ إذ النكوص عن ذلك جبن وهروب، كما أرى نفسي ملزمًا بالثورة على مثلهم ما اعتقدت أنها باطل؛ إذ النكوص عن ذلك خيانة. وقد تسأل ما الحق وما الباطل؟ ولكن لعل الشك نوع من الهروب كالتصوف والإيمان السلبي بالعلم فهل تستطيع أن تكون ثائرًا أبديًّا؟» … وأجاب نجيب محفوظ في حياته الفنية والفكرية والعملية إجابات واضحة.