رؤيا الثورة الأبدية
«ما دامت الحياة تنتهي بالعجز والموت، فهي مأساة؛ بل إن تعريف المأساة لا ينطبق على شيء كما ينطبق على الحياة. وقد نرى هذه المأساة مبكية، وقد نراها مضحكة، وقد نراها مبكية مضحكة، ولكنها على أي حال مأساة. وحتى الذين يرون الحياة مَعْبرًا للآخرة، فتعريف المأساة ينطبق على جزئها الأول، وإن انقلبت إلى غير ذلك عند شمولها ككُلٍّ. ولكن مأساة الحياة مركبة وليست بسيطة. أجل، إن تفكيرنا في الحياة كوجود يجردها من كل شيء إلا من الوجود والعدم، ولكن تفكيرنا فيها كمجتمع يرينا مآسيَ كثيرة مفتعلة من صنع الإنسان، كالجهل والفقر والاستعباد والعنف والوحشية … إلخ. وهذا يبرر تأكيدنا على مآسي المجتمع؛ إذ إنها مآسٍ يمكن معالجتها؛ ولأننا في معالجتها نخلق الحضارة والتقدم. بل إن التقدم قد يخفف من بلوى المأساة الأصلية وقد يتغلب عليها. وقد قلت ذلك في «أولاد حارتنا»، قلت بأن معالجة الشرور الاجتماعية بالاشتراكية يفرغ الإنسان لمعالجة مأساته الأولى وهي الموت. فإذا انقلب أهل الحارة — حارة الجبلاوي — بفضل توزيع الوقف بالمساواة والعدل والإنسانية، أتيحت لهم الفرصة ليكونوا جميعًا سحرة (علماء) وليعكفوا على حل مشكلة الموت! وإذن فحل مأساة المجتمع قد يحل في النهاية مأساة الوجود، أو يخففها، وهي على أي حال تعطي للحياة معنًى يستحق أن نعيش من أجله. أما التركيز على مأساة الوجود مع تجاهل مآسي المجتمع فلن يحل مأساة الوجود من جهة، ويحول العالم إلى عبث وبكاء أو ضحك كالبكاء. غير أني لم أغفل أبدًا مأساة الوجود، ولعلي أزداد لها انتباها، بعد أن استقرت الاشتراكية في العالم، إذ عندما نفرغ من مآسي الحياة لا يبقى لتفكيرنا من موضوع إلا الوجود، أي المصير الإنساني.»
بهذه الكلمات الصريحة الواضحة أجابني نجيب محفوظ حين واجهتُه بملاحظاتي على فنه الروائي وقلت له إن المأساة الاجتماعية للإنسان تلح على أدبه إلحاحًا متصلًا. بينما ينزوي انشغاله بمأساة المصير الإنساني إلى ما قبل «الثلاثية». وفي هذه الرواية الكبيرة كشف لنا عن الأزمة الفكرية لجيله متمثلةً في شخصية كمال عبد الجواد. وكان الشك في كل شيء، في كافة ظواهر الطبيعة والمجتمع هو الصياغة العقلية لتلك الأزمة التي أسهمت في صياغتها كذلك معاني العبث والرفض والهزيمة.
ثم جاءت «أولاد حارتنا» لتطيح نهائيًّا بموقف الارتياب الشديد الذي وقفه ذلك الجيل، أو تلك الشخصية التي راحت تردد في نهاية «السكرية» أنشودة الثورة الأبدية. وكانت هذه الثورة هي القضية الأساسية في «أولاد حارتنا»، الثورة على جمود الذين يشوهون معنى الجدل في الفكر والواقع، إذ يعملون على تجميد المعرفة في دائرة مغلقة، وتجميد الحياة في إطار مرحلة بعينها. وتخلص نجيب محفوظ بذلك من النظرة الأُحادية الجانب، فلم يرَ من المأساة الإنسانية وجهها الاجتماعي فحسب، ولم يرَ وجهها المصيري الأشمل فحسب، وإنما هو ينظر إلى وجهَيها معًا، وجهيها اللذَين لا يتوقفان عن التفاعل والتغير والجدل إلى ما لا نهاية. وهذا ما أدعوه بمنهج الانطلاق اللانهائي؛ حيث لا يحول الإيمان بمادية الكون دون التطلع الميتافيزيقي للبشر، ولا تحول مأساة المجتمع الطبقي دون رؤية المأساة الوجودية الكبرى.
غير أن التعبير عن هذه القضية في أدب هذا الفنان لم يتخذ مسارًا واحدًا، فقد عرف طريقه إلى الرواية كما عرفه إلى الأقصوصة. وفي مجال الفن الروائي كان يتنقل عبر مستوياتٍ مختلفة من أدوات التعبير في تجسيدها للأحداث الرمزية والواقعية جميعًا. وفي مجال الأقصوصة لم ينهج نهجًا واحدًا، وإنما استطاع أن يلجأ إلى التنويع المستمر في اختيار الجو والفكرة والشخصيات. ونحن لا نلحظ هذا التنويع مطلقًا في تلك المرحلة الباكرة التي كتب فيها القصة القصيرة منذ أكثر من ربع قرن (١٩٣٠–١٩٣٦م) حتى إننا لا نستطيع القول بأن نجيب محفوظ ككاتب أقصوصة عام ١٩٦٣م هو امتداد طبيعي متطور عن نجيب محفوظ كاتب الأقصوصة عام ١٩٣٦م … بينما يمكن ترجيح هذا القول بالنسبة لأعماله الروائية، فقارئ «الثلاثية» لن يفاجأ بأن مؤلفها هو مؤلف القاهرة الجديدة؛ بل سوف يتأكد لدى الباحث المدقق أن ثمة خيوطًا تربط الإنتاج الروائي لهذا الكاتب برباط وثيق.
ومع ذلك فليس هناك كاتبان باسم نجيب محفوظ حتى نبرر قولنا إن أحدهما تطور في فن الرواية تطورًا طبيعيًّا، أما الآخر — كاتب القصة القصيرة — فليس كذلك. غاية ما يمكن أن نسهم به من حلول في هذه المشكلة أن نسجل للكاتب نقطة هامة، هي أن تَطوره الفكري الأخير كان يصب — عبر مجراه الطبيعي — في قالب الرواية وقالب الأقصوصة معًا في وقت واحد، وأن المرحلة الزمنية التي انقطع فيها عن كتابة القصة القصيرة، هي المسئول الوحيد عن هذه الهوة — في مجال التعبير — بين بداية محاولاته وأحدثها.
•••
أي إننا لا نفاجأ في مجموعته «دنيا الله» عام ١٩٦٣م بمفكر جديد، وإنما نفاجأ به كفنان يكتب القصة القصيرة. ومن يتصفح مجموعته الأولى «همس الجنون» — عام ١٩٣٨م — يسهل عليه إدراك هذه المسافة البعيدة بين المجموعتين. بل لعل هذه المسافة هي التي دعت بعض النقاد يرون في قصصه القصيرة الأولى مجرد استكشاف لأعماله الروائية ثم سارعوا بتعميم هذا الحكم على قصصه الجديدة أثناء نشرها بجريدة الأهرام.
ولست أجد عذرًا لهؤلاء النقاد، إلا في بعض الأقاصيص المزدحمة بالأحداث غير المبررة فنيًّا بمجموعة همس الجنون … كما نلاحظ في قصة «صوت من العالم الآخر» وهي أقصوصة تستلهم الجو الفرعوني بصورة بانورامية من خلال شخصية الكاتب «توني» الذي يموت، فتصعد روحه لترى بعينين لا يراهما أحد، ترى هذا العالم كله بأبعاده المختلفة في لحظة واحدة. وتمتلئ القصة بالتأملات الفكرية والملاحظات الشخصية والذكريات، حتى إننا نتوه بين هذه الجزئيات الصغيرة، وننسى توني تمامًا بغير أن تُسهم هذه الدقائق الكثيرة في صياغة تكوينه الإنساني أو تحديد محورها الفكري، أو التقاط الحدث النموذجي والموقف الدال.
ومن اليسير المقارنة بين هذه القصة — بالإضافة إلى قصة «دعوة سنوحي» و«يقظة المومياء» و«الشر المعبود» — وبين الروايات التي تلت هذه المجموعة، وفيها استلهم المؤلف تاريخ مصر القديمة. ولهذا يمكن أن نرجح الفكرة القائلة بأن أمثال هذه الأقاصيص كانت الإرهاص الفني للأعمال الروائية. ولكن هذه الفكرة، من جهة أخرى، غير قابلة للتعميم. ذلك أن أقاصيص نجيب الأولى كانت خاضعة للتقاليد الفنية السائدة آنذاك، والتي كان من عيوبها الأصيلة ازدحام الأحداث واختلاط محاورها، وكأنها روايات في طورها الجنيني. كذلك لا ينبغي أن ننسى حقيقة تاريخية حاسمة، وهي أن نجيب محفوظ بدأ يكتب القصة القصيرة والرواية في وقت واحد، وكانت ظروف النشر وحدها هي التي تتيح للأقصوصة إمكانية السبق في الظهور.
كانت الاتجاهات السائدة حينئذٍ — أي حوالي ثلاثينيات هذا القرن — تكاد تتبلور في الاتجاه الذي تأثر بالقصة الفرنسية بوجه عام، وجي دي موبسان بوجه خاص. ومدرسة هذا الكاتب تعتمد على المفارقات اليومية في الحياة، ومن هنا تصبح المفاجأة أو المصادفة هي المدار الذي تدور من حوله الأحداث، أو تتجمع أو تتبلور … ولذلك تكون الحبكة هي المقياس الفني لهذا الاتجاه. كما أن هذه المفارقات تكشف في أحيان كثيرة عما تمتلئ به الحياة من متناقضات لا ينبغي حيالها أن تتصور المجتمع أو الإنسان أو الكون في حالة سكون أو في شكل بسيط، وإنما يجب أن نتخيله في حالة صراع معقد مستمر. على أن الكُتاب المصريين الذين تذوَّقوا إنتاج هذه المدرسة الفرنسية، لم يعتمدوا في معظم أعمالهم على ذلك المعنى العميق للمفارقة التي جعل منها موبسان دعامة جوهرية لبناء الأقصوصة في عصره؛ بل رأيناهم يتوقفون عند المظهر السطحي للمفارقة حتى جعلوا منها مرادفًا حرفيًّا لمعنى القدَر، وما يتفرع منه من تعريفات للحظ والفرصة وغيرها. والتقى هذا التفسير الساذج لتناقضات الحياة بالبناء الفني الأكثر سذاجة، بمعنى أن رواد هذا الاتجاه في أدبنا كانوا ينشدون السهولة في التفكير والتعبير معًا. فجاءت أقاصيصهم أبنيةً مفككة، على الرغم من الحبكة التي رأوا فيها خداعًا أو تخديرًا ذهنيًّا لمُخيِّلة القارئ حتى يفاجأ بالنهاية غير المتوقعة وإن كانت ممكنة الحدوث.
تأثر نجيب محفوظ في مجموعته الأولى بهذا الاتجاه، فكتب لنا على سبيل المثال قصة «مرض طبيب»، موجزها أن طبيبًا عاد أحد مرضاه ثم أحس بعد ذلك بدرجة حرارته هو في ارتفاع، فتوهَّم أنه أصيب بالحُمَّى التي كانت منتشرة في ذلك الوقت. ثم استدعى زميلًا له ليعالجه، وكانت دهشته كبيرة حين اكتشف أن درجة حرارته طبيعية، وأن عقب سيجارة هو الذي تسبب دون يدري في أن حرق معطفه والوصول إلى جلد صدره. والقصة من الناحية الفكرية فارغة من أي معنًى يمكن أن يكون الكاتب قد هدف إليه، إلا «المفاجأة غير المتوقعة» التي نالت دهشة الطبيب والقراء أيضًا. أما البناء التعبيري فلا يميل إلى تصوير الشخصية من الداخل وإنما «يسرد» لنا أخبار هذا الطبيب الشاب الذي يتُوق إلى منافسة الأطباء الكبار، ولهذا السبب يُلبي سعيدًا دعوة ذلك الشيخ الريفي الثرى الذي حضر إلى عيادته ليذهب به إلى ابنه المريض في القرية. وفي طريق عودته يُحس بدرجة حرارته ترتفع. وفي المنزل تكون المفاجأة. وهو بناء — كما نرى — تتهالك أعمدته على أساس فهم سطحي للمفاجأة أو المفارقة أو المصادفة … تمامًا كما حدث في قصة «روض الفرج» حيث يقع شاب قادم من العريش ليدرس في العاصمة، يقع في هوى إحدى الراقصات التي أغرمت به فور رؤيتها له مع قريبه الذي يسكن معه، وعن طريقه تعرفت به، ويحس هذا القريب بالخطر الداهم على علاقته بالراقصة فيكتب رسالة عاجلة إلى والدَي الفتى. ويحضر الشيخ من العريش ليأخذ قريبه من يده إلى الكازينو الذي ترقص به المرأة. وهناك يرى ابنه في انتظارها بأحد الأركان. وما إن تأتي المرأة حتى يصعق الرجل — ويُغمِيَ على القراء معه — فلم تكن الراقصة إلا أم الفتى المطلقة! وبغض النظر عن الفكرة الممضوغة فإن أدباء أوروبا استطاعوا أن يرثوا مأساة أوديب بوعي وعمق نافذين، واستطعنا معهم أن ننفذ إلى عوالم رحبة داخل النفس البشرية والحضارة الإنسانية، ارتفعت فيها عقدة أوديب إلى مستوى الرمز … بينما نراها في قصة «روض الفرج» وأشباهها قد هوت إلى قاع المظهر السطحي والمفارقة السريعة الزوال. وبنفس هذا المنهج، كتب نجيب محفوظ قصة «حلم ساعة» حيث يستغرق شاب في الأحلام لأن إحدى الفتيات الجميلات فاجأته بنظرة ودودة حانية. وتصادف أن رآها مرة أخرى برفقة سيدة كبيرة وشاب يرتدي زي الضباط، ودهش لتحية هذه الأسرة له وأخذ يحلم بالفتاة أكثر فأكثر، إلى أن يعرف من الضابط — وكان صديقًا له في الصبا — أنه يشبه ابنًا مات لهذه الأسرة شبهًا عجيبًا، ثم نُصدم لفجيعة الشاب حين يعرف أيضًا، أن الفتاة خطيبة الضابط الصديق! كذلك قصة «حياة للغير» وفيها يصاب الأخ الأكبر بخيبة أمل لأن شقيقه الأصغر سبقه إلى فتاة أحلامه (تكاد تكون نفس الفكرة السابقة)، وقصة الأم التي يخطف عشيقها ابنتها منها ويتزوجا بعيدًا عنها (أليست نفس الفكرة؟) وقصة «المرض المتبادل»، عندما يكتشف الزوجان عند الطبيب أن كليهما مصاب بمرض سِري يحاول إخفاءه عن الآخر لأنه أصيب به عن طريق الخيانة!
وهكذا في كثير من أقاصيص تلك المرحلة البعيدة، نلاحظ أن الفنان قد تأثر بذاك الاتجاه الذي كان يتزعمه محمود تيمور في ميدان القصة القصيرة، وإن كانت المفارقة عند تيمور تتضمن الفكاهة، بينما تقترب من التراجيديا عند نجيب محفوظ. إلا أن هذه المدرسة لم تكن وحدها التي أثرت في إنتاجه حينذاك، وإنما نراه في حوالي خمسمائة أقصوصة كتبها في تلك الفترة قد تأثر باتجاهات أخرى.
كان هناك مثلًا الاتجاه الذي تأثر بمدرسة الأدب الروسي، وهي مدرسة ذات اتجاهين فيما أعتقد، أحدهما يتزعمه تشيكوف والآخر جوركي. وكلاهما يتفقان في النزعة الإنسانية العاطفة على الشخصيات المتواضعة في المركز الاجتماعي والخلق والذهن، ثم يختلفان فيما بعد من زاويتي وجهة النظر الفكرية والموقف الفني على السواء. تشيكوف يعتمد في رؤياه على بصيرة الشاعر المرهَف، وينتقل بنا من الشخصية العادية أو الحدث البسيط إلى دلالة عميقة غير عادية. وقد أولى هذا الفنان العظيم الشخصية الفنية عنايةً فائقة، فكان يعنيه تحديد معالمها الداخلية بنفس القدر — أو يزيد — الذي يعنيه إبراز مدلولها الفكري أو الاجتماعي … أما جوركي فكان يعنيه هذا المدلول في المقام الأول، والشخصية أو الحدث أو الزاوية أو كلها مجتمعة في خدمة الدلالة العامة للقصة. وإذا كنا نحن اليوم لا نقسم الفن ذلك التقسيم القديم الذي يضع كلًّا من عناصره في خانة محدودة تحديدًا حاسمًا، وإنما نقول بأن هناك تشابكًا مُعقَّدًا بين هذه العناصر يجعل من عزلها عن بعضها البعض شيئًا مستحيلًا … فإن أولئك الرواد الأول ما كان يعنيهم أيضًا ذلك التقسيم في المستوى النظري. وإنما كانت هناك الأيديولوجية الاجتماعية الثورية تنفث ضِرامها في قلوب أبنائها — ومنهم جوركي — ومن ثم كان عليهم أن يخلقوا «النموذج» و«النمط» و«حامل الرأي» دون الشخصية الفذَّة المفردة. بينما استطاع تشيكوف أن يصنع ما هو أعظم وأجل خطرًا، فقد خلق الشخصية المتفردة غاية التفرُّد، والرامزة في نفس الوقت. والفرق بين الشخصيتين أن النمط والنموذج شخصية مباشرة خالية من الصراع فتعمل على تجميد الحدث واغتيال الدلالة الإنسانية الرحبة، أما الشخصية المفردة الرامزة، فإنها تؤدي مهمة النمط والنموذج بإمكانيات أكبر نفوذًا، مع احتفاظها بمؤهلات الشخصية الإنسانية الحية المليئة بأطراف التناقض وحلبات الصراع.
ولست هنا في معرض المفاضلة بين الاتجاهين، ولكني آثرت هذا الإيضاح لأبين أن تأثر قطاعٍ لا بأس به من كتاب القصة المصرية بفن تشيكوف، كان عاملًا طيبًا في تطوير هذا الفن في اللغة العربية. كما أن هناك قلة حاولت أن تقترب بفنها من جوركي وتشيكوف معًا. بل كانت هناك قلة قليلة أيضًا آثرت أن تعطي صوتها لجوركي وتشيكوف وموبسان … مجتمعين. بمعنى أنها كانت تلتقط الزاوية المعبرة بروح شاعرية في إطارٍ من الحبكة الصارمة.
وكان نجيب محفوظ واحدًا من هؤلاء الذين قرءوا للمازني ويحيى حقي ومحمود البدوي، وسجل نجيب على نفسه أكثر من مرة أنه تأثر وأحب هذا الأدب. وأعتقد أنه كان صادقًا في ذلك. لأن قراءة هؤلاء (باستثناء المازني) وغيرهم ممن تأثروا بالأدب الروسي، يؤكد ما يقوله نجيب في هذا الصدد؛ إذ نحن نعثر بين حين وآخر في أقاصيصه الأولى على خواطر شاعرية هائمة على وجهها، يشوبها الحزن والأسى. وأبطال هذه القصص شباب يفتحون عيونهم فجأة ولا يرون سوى الضباب الأسود يخنق الأمل الغض في نفوسهم التواقة إلى الحب والمستقبل اللامع. وبالرغم من أننا كثيرًا ما نلتقي بالمراهقين في هذه القصص، إلا أننا لا نلمح أية ظلال للرومانسية الحالمة في مشاعرهم وأخلاقياتهم. حقًّا، إننا نعثر على الخاطرة الشعرية الحزينة، ولكن بعد صياغتها في ذلك القالب البعيد عن الرومانسية وأحلامها. في قصة «خيانة في رسائل» نعيش مع الفتى العاشق أروع لحظات عمره، حتى تسافر حبيبته إلى الصعيد فتلتقي بشاب أكثر جاهًا ويسرًا. ثم يغتال الفارق الطبق ذلك الحب. ليست هنا أية مفاجآت، والمصادفة الوحيدة التي جعلت الفتاة تلتقي بالشاب الثري يهيئ لها الكاتب بصورة لا تفتعل المأساة ولا تزيفها. وفي قصة «إصلاح القبور» تظل الأرملة الشابة على وفاءٍ بالغ لزوجها المتوفى، فتذهب إلى مقبرته للزيارة بصفة دورية دائمة. يلاحظها في ذهابها وإيابها رجل لا يلبث أن يتقدم إلى أسرتها طالبًا يدها. ويقودنا الفنان بلباقة شديدة من خلال المتعرجات الداخلية في نفس الفتاة التي تفاجأ بالأمر حين يزف إليها شقيقها الخبر، ولا تلبث أن تستكين بشرط أن يكتمل العام الأول على وفاة زوجها السابق. وتحس بعد الخطبة أن زيارتها للقبر خيانة لخطيبها الراهن، كما تشعر بأن انتظارها بقية العام لا مبرر له ثم لا تمانع في قضاء شهر العسل في رأس البر قبل انتهاء العام بأربعة أشهر! وقصة «الثمن» التي تدخل فيها المومس أحد المحال حين شاهدت به سيدة أرستقراطية تدفع عشرين جنيهًا عن طيب خاطر ثمنًا لزجاجة عطر صغيرة، فتتعمد الاصطدام بها وتسقط الزجاجة من يدها. ولَشَد ما أدهش المرأة أن السيدة الأرستقراطية دخلت المحل مرة أخرى! وفي هذه القصص وأمثالها يتوقف الكاتب كثيرًا عند الشخصية، والزاوية التي التقط منها الحدث، والدلالة الإنسانية الرحبة.
على أن هذا لا يعني أبدًا، أن تقييم الأدب في بلادنا، يخضع تلقائيًّا لتصنيف الأوروبيين لاتجاهاتهم الفكرية والفنية، فالحق أن ظروفنا الحضارية لها دخل كبير في الشكل الجمالي لصياغة وجداننا وعقولنا … بل إن تأثُّرنا بألوان دون غيرها من ألوان الأدب الغربي يخضع أولًا لتلك الظروف التي كان يتقدمها خلو تراثنا من هذه الأشكال الفنية الجديدة. ومعنى ذلك أن الاتجاهات الأوروبية التي شقت لنفسها طريقًا إلى آدابنا، ليست هي العامل الحاسم في تقييم مستوى الأعمال العربية أو نوعيتها، إنها مجرد عنصر له قيمته التي لا يمكن تجاهلها ولا ينبغي تضخيمها، حتى نضع أيدينا على حقيقة تاريخنا الأدبي. فلا شك في أن قصص نجيب محفوظ هذه، وقصص أبناء جيله من معاصريه، وقصص أساتذته من قبلهم جميعًا؛ هي قصص مصرية قبل كل شيء. ولا يقتصر الطابع المصري على الهدف الاجتماعي، وإنما نراه متضمَّنًا في التكوين الجمالي للعمل الأدبي أيضًا. من ناحية الهدف، نعثر في تلك الأقاصيص، التي استلهم فيها نجيب محفوظ الجو الفرعوني، حيلةً فنية عالج بها الواقع المعاصر بكل بشاعته. فقد بدأ هذا الفنان يكتب في تلك المرحلة السوداء من تاريخ مصر حيث أجهزت الرجعية والعرش والاستعمار على آثار ثورة ١٩١٩م وسلمت البلاد لطبقة من الطغاة المستبدين، فترعرعت في جميع الأنحاء حركاتٌ رجعيةٌ تشعل نيران التعصب والحقد في نفوس المصريين، وتنحدر إمكانيات المجتمع إلى جيوب القلة المتخَمة، وتزداد البطون الخاوية عواءً. وتنتشر أدوية الهروب انتشارًا مذهلًا. ويقف مثقفو الطبقة الوسطى على حافة الهاوية النفسية والدمار الروحي الرهيب. ومن أتون هذه المعركة الضارية يكتسب الأدب المصري وهج الدخان الأسود وظلاله الأفعوانية التي ترقص رقصة الحرب. بهذه الروح المتقدة كتب تيمور عن خراب المخدِّرات، وبنفس هذه الروح كتب يحيى حقي قصة البوسطجي، والبدويُّ قصة الرحيل. لا تكتسب مصريتها — كما قلت — من شخصياتها وأحداثها ودلالاتها فحسب، وإنما تولد هذه كلها من أعماق الحدوتة المصرية، المنسوجة على نحو خاص متفرد، ما يزال له آثار بعيدة المدى على كُتَّابنا المعاصرين. فالحدوتة شديدة الاهتمام بالجزئيات الصغيرة دون اللجوء إلى التجريد، وبالتالي فهي شديدة الاهتمام بعناصر الحياة اليومية بعيدة عن القضايا الفكرية. وهي تنسج كيانها بنفسها لا تعثر على وجه المؤلف الشعبي القديم في أي من دقائقها. ولم تُفِد الأقصوصة المصرية أو الرواية أو المسرح من الحواديت كما أفادت أوروبا من أساطيرها، فلم تتعمق جوانب النضج التي يمكن الاهتداء بها في تطوير هذا الشكل إلى إطار جديد. ولهذا السبب تأثرت الأقصوصة عندنا تلقائيًّا بجوانب ضعف كثيرة في الحدوتة حتى شابهت الكثيرُ من أقاصيصنا «الحكاية» ولم تقترب من المعنى الأصيل للقصة القصيرة إلا نماذج نادرة.
قصدت من ذلك إلى القول بأن تأثر القصة العربية بالتيارات الأوروبية لا يعني مطلقًا بُعدها عن أصالة الميلاد المحلي. وأقاصيص نجيب محفوظ في تلك المرحلة الأولى تؤكد هذا المعنى تأكيدًا كبيرًا. فالجوع والانحلال في شتَّى صورهما هما الخامات المالئة لكيان قصته القصيرة في ذلك الوقت. إن قصتَيه «كيدهن»، و«ثمن السعادة» تُصوران كيف يضطر الزوج بفاعلية الظروف غير الطبيعية التي ساقته إلى زوجته الراهنة، إلى أن يرجو عشيقها العمل على إسعادها وإسعاده معها بأن تظل علاقتهما غير الشرعية قائمة! أو هو — على أحسن الفروض — يتغاضى عن تلك العلاقة. معنى الخيانة الزوجية هنا يختلف عن معناه في أقصوصة «عبث أرستقراطي» التي يقود فيها العاشق الزوجة إلى ركن مظلم من غرفة قائمة في الدور العلوي بعيدًا عن صالون الحفل، وبعد لحظات تصل الزوجة مع عشيقها إلى نفس المكان لنفس الأهداف! وبالرغم من اختلاف دلالات هذه القصص ومستوياتها التعبيرية والفكرية، إلا أن «الخيانة» هي الموضوع السائد عليها … والانحلال هو النتيجة الخلقية التي يومئ بها الكاتب. وكذلك في قصتَيه «الجوع» و«يقظة المومياء». يحاول في الأولى أن يجسد مأساة الفقر في بلادنا، فإذا بُتر ذراع أحد العمال أثناء عمله بالمصنع، فإن صاحب المصنع يخصص له ثلاثين قرشًا في الشهر ليعيش حياته — كما يتوهَّم — بلا حاجة أو سؤال. وفي القصة الثانية يُفاجأ صاحب أحد القصور بأن في أسفل منزله ترقد مومياء لأحد المسئولين من الفراعنة، وتزداد المفاجأة عنفًا حين تستيقظ هذه المومياء وتلقي على صاحب القصر درسًا لا ينساه في معاملة رعيته. غير أن طابع الحدوتة والحكاية يغلب على بناء هذه القصص، فنجيب محفوظ — في حدود رؤيته الفكرية آنذاك — يعالج مأساة العامل المسكين بأن يجعل من ابن صاحب المصنع شخصية أسطورية كالأمير بالنسبة لسندريلَّا؛ إذ هو يخرج من إحدى سهراته يتنزه على شاطئ النيل فيرى العامل يهم بإلقاء نفسه في اليم، فينقذه ويستفسره الأمر ويلحقه في اليوم التالي بأحد الأعمال الخفيفة التي لا تحتاج إلى ذراعه المقطوعة. وكانت هذه بالطبع حدود العصر في التفكير الاجتماعي الذي يجعل من البرجوازية مجرمًا ورسولًا في آن واحد، إنها البلبلة الفكرية الرهيبة التي رافقت تكويننا الطبقي أمدًا طويلًا.
•••
ومع ذلك فإننا نعثر في إنتاج ذلك الزمن البعيد، على بعض النماذج التي توافرت لها عناصر النجاح بصورة أكثر وضوحًا، فقصته «همس الجنون» اجتاز الكاتب في صياغتها القشرة الخارجية، فجعل من النفس البشرية في تعقيدها المبهم مادة القصة. إنه يلتقط في أناة بالغة تلك اللحظة الفذَّة التي ينهار فيها العالم الداخلي للفرد، فلا يعيش واقعنا المنظم المنسجم، فنقرر أنه جن. والأقصوصة تروي لنا كيف طرأت حالة اللامبالاة التامة على عقلية الشاب بأن أزاح الحجاب نهائيًّا بين رغباته والتقاليد الاجتماعية السائدة. فإذا مر بمطعم يجلس إلى إحدى موائده رجل وامرأة يأكلان دجاجة محمرة «وعلى بعد يسير جلس جماعة من غلمان السُّبل، عرايا إلا من أسمال بالية، تغشى وجوههم وبشرتهم طبقة غليظة من غبار وقذارة، فلم يرتح لما بين المنظرين من تنافر وشاركته حريته عدم ارتياحه فأبت عليه أن يمر بالمطعم مر الكرام. ولكن ما عسى أن يصنع؟» إنه يتناول الدجاجة بسرعة ويلقي بها على الأرض قريبًا من الغلمان الجوعى الذين يسارعون إلى التهامها! فإذا مرت هذه النادرة بسلام توجه إلى المقهى فصادفه رجل ضخم نفر من قفاه الغريب الذي يسيل عليه العرق بقذارة تثير الاشمئزاز. فلم يتمالك نفسه من صفعة قوية لم تمر بسلام هذه المرة؛ إذ انقض عليه الرجل ركلًا وصفعًا حتى خلص بينهما بعض الجلوس. ولما آذنت الشمس بالمغيب عثرت عيناه المتجولتان بحسناء مقبلة متأبطة ذراع رجل أنيق المنظر ترفل في ثوب رقيق شفاف تكاد حلمة ثديها تثقب أعلى فستانها الحريري، وجذب صدرها الناهد عينيه فزادتا اتساعًا ودهشة. وهاله المنظر، وكانت تقترب خطوة فخطوة حتى باتت على قيد ذراع، وكان عقله — أو جنونه — يفكر بسرعة خيالية، فخطر له أن يغمز هذه الحالمة الشاردة! إن رجلًا ما يفعل ذلك على أية حال، فليكن هذا الرجل. واعترض سبيلهما، ومد يده بسرعة البرق، وقرص! انهالت عليه الكلمات، وعلت ضحكاته اللامبالية. ثم تركه الناس في يأس وفزع من عينيه المحملقتين في الفراغ. أما هو فقد رأى ملابسه قد اهترأت، فأحس فجأة أنه يختنق تحت وطأة ثقلها ومن ثم «أخذت يداه تنزعانها قطعة قطعة، بلا تمهل ولا إبطاء، حتى تخلص منها جميعًا، فبدا عاريًا كما خلقه الله وعابثته ضحكته الغريبة، فقهقه ضاحكًا، واندفع في سبيله.»
في هذه القصة يتمهل نجيب محفوظ كثيرًا في اختيار اللحظة النموذجية في حياة الشخصية، ويستخرج من أعماقها الملامح الخاصة المتفردة، والسمات الرامزة إلى انعدام النظام والانسجام في العالم الحاضر الذي يجعل من إحساسنا بالحرية مرادفًا للامبالاة. إنه يصور لنا المجنون عاقلًا في مرآة نفسه، كما يصور لنا العالم من حوله مجنونًا وعاقلًا في مرآة نفسه. والنسبية في معنى العقل والجنون هي الإطار الفني الذي آثره الكاتب في تجسيد رد الفعل العنيف عند شباب ذلك الجيل إزاء السجن الكبير؛ لذا لا يتردد في رصد الحركة الداخلية والحدث الخارجي في الموقف الواحد، فتكتسب القصة بذلك نبضًا حيًّا، على غير ما قال به أحد النقاد من أن هذه القصة أشبه بالمعادلات الرياضية التي تؤدي فيها المقدمات إلى النتائج بصورة جبرية. إن الكاتب في هذه القصة وأمثالها لا يصوغ لنا بناءً ذهنيًّا بقدر ما يصوغ لنا الشخصية بمعناها الفني الدقيق.
في قصة «بدلة الأسير» يوافق جحشة على أن يبيع من رصيف المحطة علب السجائر للجنود الإيطاليين — الذين يقلهم أحد القطارات — مقابل ثيابهم، يساوم البداية حتى يرضخ أحدهم لأن يعطيه معطفه مقابل علبتين، ويرتدي المعطف فخورًا بنفسه مزهوًّا بخياله أمام حبيبته التي يبدو أنها تُفضِّل عليه من يرتدي الثياب الإفرنجية. ثم باعه جندي آخر بنطلونه مقابل علبة، وسرعان ما دب فيه النشاط «وهرع إلى القطار وهو يصرخ: … العلبة بحذاء … العلبة بحذاء …» ولكن القطار المحمل بالجنود كان قد بدأ المسير ومغادرة المحطة، وعندئذ لمحه أحد الحراس فناداه بالإنجليزية والإيطالية لكي يصعد ظنًّا منه أنه أحد الجنود، فلما لم يفعل أطلق عليه رصاصة … «وتصلب جسم جحشه في مكانه، فسقط الصندوق من يده، وتناثرت علب السجاير والكبريت ثم انقلب على وجهه جثة هامدة.» الفنان هنا همه الأول هذه «الشخصية» لا كنموذج أو نمط؛ وإنما كفرد متميز يحمل في أعماقه سمات رامزة.
ونحن نتذوق طعم المأساة في جميع هذه القصص، فهي اللحن الغالب على إنتاج نجيب محفوظ في تلك المرحلة، ونستشعر من خلال النغمات الباكية شفافية، ولكنا لا نستشف منها رؤيا فنية للعالم. غاية ما يمكن أن نصل إليه أن المأساة الاجتماعية للإنسان في بلادنا تدُقُّ وجدانه بعنف، وأنه يعبر عنها بزوايا وجزئيات بعيدة عن التجريد أو التعميم في نطاق قضايا فكرية محددة. وقد تأرجحت أعمال تلك المرحلة بين التأثر بالمدرستين الروسية والفرنسية، مع الحفاظ على نكهة المرارة المصرية التي ملأت حياتنا آنذاك.
•••
خلال الربع قرن الأخير عرفت القصة المصرية القصيرة عديدًا من التطورات، فقد ازدادت على الأيام أصالة ومعرفة بالقواعد الفنية لكتابتها. ذلك أن التيارات الأدبية في الخارج ازدادت تفاعلًا مع واقعنا الأدبي من ناحية، كما استطاع أدباؤنا أن يتعرفوا على هذا الواقع تعرُّفًا حميمًا من ناحية أخرى. ولاحظنا في أقاصيص يوسف إدريس وصلاح حافظ وشكري عياد ويوسف الشاروني وغيرهم؛ جهادًا متصلًا لبلوغ البناء الفني المتكامل، والتجربة الإنسانية المتعددة الأبعاد. كذلك تقدمت الأقصوصة في أوروبا وأمريكا تقدمًا كبيرًا فلم يتبقَّ لها من موبسان شيءٌ ملحوظ. بل إن التأثير العظيم الذي تركه تشيكوف في القصة العالمية، أصبحت هذه القصة تُجاوزه في كثير من الأحيان. ولم تعد السيادة في هذه القصة للخاطرة الشعرية أو الشخصية، وإنما راحت تجد سيرها نحو «الموقف» بمعناه الفني العميق. الموقف ليس هو زاوية التصوير، ولا الدلالة الاجتماعية، وليس هو مكان الشخصية من الأحداث … وإنما هو نقطة التقاء الشخصية والحدث بالزاوية والدلالة. نقطة الالتقاء هذه ربما كانت شيئًا بعيدًا عن الشخصية والحدث والزاوية والدلالة، أي أنها قد تكون الإطار الفكري أو النسيج الفني الذي يتخذ لنفسه مسارًا بعيدًا عن الاستغراق في جزئيات الحياة اليومية. معنى ذلك أن «الموقف» في القصة القصيرة يعوزه التركيز الشديد واللجوء الدائم إلى الأبنية والأُطُر التي تومئ بأكثر مما تتضمنه بالفعل من جزئيات محسوسة. هذا لا ينفي أن القصة العالمية القصيرة قد أفادت من عناصر الحبكة والشعر عند موبسان وتشيكوف. ولكن الإفادة هنا اتخذت أسرع الوسائل لالتقاط الجوانب الإيجابية عند هذا أو ذاك، الإيجابية بالنسبة للعصر. فأصبحنا نقرأ قصصًا تشبه القصائد الرمزية في استخدامها اللغة استخدامًا بعيدًا عن المنطق المألوف أو القيم السائدة، ونقرأ قصصًا لا تلعب فيها المفارقة دور التضاد، وإنما التكامل وهكذا … إلخ. بالإضافة إلى أن صحافة القرن العشرين والإذاعة وغيرها من أجهزة الإعلام الحديثة، كان لها تأثير ما على تطور القصة القصيرة بإكسابها شيئًا من المرونة والتخلص من الزينات اللغوية والحواشي الفكرية على السواء. كما أضرت بها في بعض الأحيان عندما كادت بعض القصص تقترب من التحقيقات الصحفية.
نجيب محفوظ توقف عن كتابة القصة القصيرة منذ عام ١٩٣٦م إلى حوالي عام ١٩٦٠م . أي طيلة الربع قرن الأخير الذي حدثت فيه كل هذه التطورات. وقد أشفق عليه الكثيرون من تجربة العودة إلى تأليف الأقصوصة. وقيل إن أقاصيصه القديمة لم تبشر قط بمولد فنان له شأن في هذا المضمار. وعندما بدأ نجيب ينشر قصصه فعلًا، تورط أحد النقاد وكتب يقول إنها مجرد «اسكتشات» لعمل كبير ما زلنا في انتظاره بعد «أولاد حارتنا» و«اللص والكلاب» و«السمان والخريف». وظلت هذه النظرة إلى إنتاج نجيب في القصة القصيرة سائدة إلى تاريخ صدور مجموعة «دنيا الله» التي ضمت هذا الإنتاج نفسه.
وقد أحسست فور قراءتي الأولى للمجموعة أن «المأساة» هي الطابع الشامل لما ضمته من قصص، وأن هذه القراءة الأولى تعطي قارئها «وجهة نظر» شاملة للإنسان والكون والمجتمع، وأن السمة البارزة في أبنية هذه المجموعة هي «الموقف» الكثيف المُرَكَّز.
وأحسست دافعًا لا يقاوَم لأن أعود إلى الإنتاج القديم لهذا الفنان. عدت إلى قصة «الشر المعبود» التي تحكي عن مقاطعة «أخنوم» في مصر القديمة، أن شيخًا مر بها فهاله الفساد والطغيان والجريمة، ومن ثم راح يدعو سكان المقاطعة إلى مبادئ الحب والخير والحق. وكان لكلماته مفعول سحري عجيب دانت له قلوب الناس واستقرت السكينة في نفوسهم. غير أن قاضي المقاطعة والحاكم العسكري والطبيب أحسوا بامتهان لكرامتهم لانعدام حاجة الناس إليهم؛ لذلك سارعوا بتقديم هذا الشيخ الغريب إلى القضاء، فلم يرَ القاضي أية حيثيات لإدانته فأفرج عنه. ولكن الشمس أشرقت ذات صباح فإذا الرجل الغريب قد اختفى. وشمل الحزن المقاطعة كلها؛ بينما تنفس السادة الصعداء. وتفتق ذهن حارس الأمن عن فكرة «عبقرية» يعيد بها المقاطعة إلى ما كانت عليه من فوضى، فأرسل في طلب راقصة فاتنة من إحدى المقاطعات الأخرى، لها قدرة خارقة على التفرقة بين الصديق والصديق والأخ والشقيق «وحقق ذلك العبقري فكرته الخطيرة. وشاهدوا جميعًا بأعين مشرقة بنور الفرح ذلك النظام يتقوَّض بنيانه وينهار حجرًا على حجر، ورُدَّت المعدة إلى عرشها تتحكم في الرقاب والعقول، وعادت الحياة الشيطانية تملأ أخنوم الهادئ وتعصف بالسلام المخيم على ربوعه. واستأنفت عصبة الحكم جهادها، ووجدت نفسها مرة أخرى تكافح وتناضل عن الخير والعدالة والسلام» … والقصة شبيهة بالفكرة المسيحية القائلة بأن يسوع «المخلص» جاء لفداء العالم، بدعوته إلى الحب والخير والسلام، ولكن الصليب كان خاتمة المأساة بالرغم من تبرئة المحكمة الرومانية له. وتبلورت حيثيات الإدانة في أنه كان مثيرًا للشغب!
هذه القصة تصوير دقيق لمأساة التناقض بين الدولة والإنسان من جهة، والتناقض بين احتياجات الإنسان وإشباعها من جهة أخرى، والتناقض بين القيم القديمة والدعوات الجديدة من جهة ثالثة، والتناقض بين الفرد والمجتمع من جهة رابعة. ثم هي بعد ذلك كله، أو قبله، تصوير دقيق لأزمة المجتمع المصري حينذاك، الأزمة التي اضطرت الفنان لأن ترتدي شُخُوصه وأحداثه مسوح الفراعنة. ولكنها في النهاية قصة تقريرية مباشرة لا تعتمد على الإيحاء والتجسيم الفني للفكرة، ولذلك تقترب من الأساطير الشعبية والحكايات الدينية، أكثر من اقترابها من القصة الفنية المكتملة.
تقودنا هذه القصة، برغمنا، إلى أقصوصته الجديدة «مندوب فوق العادة». وفيها يتقدم رجل إلى موظف بإحدى المصالح الحكومية، ويناوله بطاقة تحمل اسمه وماهيته «إسماعيل بك الباجوري، مستشار برئاسة مجلس الوزراء» فيضطرب الموظف الشاب لأن السيد الوزير لم يحضر بعد ولا مدير مكتبه. وراح الزائر الكبير يتفقد أرجاء المصلحة أو الوزارة، فينقد هذا ويسأل ذاك، وبين الحين والآخر يهمس بقول مأثور أو حكمة كأنما يحدث نفسه «على المرء أن ينشد الطمأنينة والصفاء.» ثم يستدرك «ولكن كيف يتأتى هذا؟» أو «إن الحياة تجري على غير ما يجب» و«الصحة ما هي الصحة؟ هي كمال التوازن والتوافق والتعاون في الكائن، ولكن هيهات أن تتحقق إذا كانت الصحة العامة معتلة»، «وما الرأي في هذا الغلاء الفاحش»، «كلما وجدت حلًّا لمشكلة عرَضَت مشكلة أخرى، وكلما أزلت دُمَّلًا ظهر دُمَّلٌ جديد، كأن الرحلة يجب أن تشمل العالم كله»، «عيبنا أننا نفكر في أنفسنا ولا شيء غير أنفسنا»، «إن لي من القدرة ما أستطيع به أن أبلغ الصفاء، عليَّ فقط أن أعتزل العالم وهمومه، هو صفاء حقيقي أسمع في سكونه الأبيض موسيقى النجوم، عليَّ فقط أن أعتزل العالم وهمومه، لكني لا أستطيع، لا أريد، للهموم أيضًا أنغامها التي يلتقطها القلب، فإما صحة عامة أو لا صحة على الإطلاق؛ هذه هي عقيدتي النهائية، ولذلك كُلفت بالمهمة.»
وفي غمرة الحيرة والقلق الذي ينتاب الموظف الماثل أمام الزائر الكبير يصل مدير مكتب الوزير ليقوده إلى السيد الوزير فيقابله بحفاوة واضطراب. ولكن ما إن تمر دقائق حتى يخرج مدير المكتب إلى تليفون خارجي يستفسر من رياسة مجلس الوزراء عما إذا كان هناك مستشارٌ بهذا الاسم، ويأتيه الجواب بالنفي فيظن الجميع أن الرجل «مُحتال» أو مجرم سياسي فيقودونه إلى قسم الشرطة «ووضَح الأمر في القسم، لم يكن الرجل إرهابيًّا، ولكن كان به لطفٌ. واستُدعيت أسرته، واتخذت الإجراءات المتبعة. وقد سمعته وهو يقول للمأمور في كبرياء غاضب: الحق عليَّ، ما كان أسهل أن أنعم براحة البال، الحق عليَّ.»
قلت إن قصة «الشر المعبود» المنشورة بمجموعة «همس الجنون» عام ١٩٣٨م تقودنا برغمنا إلى هذه القصة الجديدة المنشورة بمجموعة «دنيا الله» عام ١٩٦٣م. ذلك أن محورًا فكريًّا واحدًا يجمعهما هو فساد المجتمع وحاجته إلى قِيَم جديدة تغير بنيانه تغييرًا جذريًّا. ولكن «الشر المعبود» قصة تقريرية مباشرة كما قلت، فزائر المقاطعة الغريب يعلن صراحة أنه جاء ليهتدي به الناس، والسلطة الحاكمة تعلن صراحة أنها لا ترضى عن هداية الناس حتى لا تفقد هيبتها ومصالحها … إلخ. والمؤلف يستبدل النسيج الواقعي بالأسماء الفرعونية حتى لا يلفت النظر إلى مضمون قصته، ومع هذا تظل أسيرة العظة والتقرير والهتاف. أما القصة الجديدة فتتضمن أبعادًا عديدة حول نفس المحور الواحد. لأن الفنان أضاف إلى تصوره الفني للمأساة زوايا جديدة. لقد زاوج بين الواقع والحلم، بين العقل والجنون، فأدخلنا مصلحة حكومية أو وزارة من أبوابها الحقيقية، وأدخل معنا شخصًا يشكُّون في قواه العقلية، وهكذا التقى الواقع الحقيقي — لا الأسطوري — تمامًا بالحلم الباطني الذي يتحرر تمامًا من أغلال الوعي في شخصية المجنون. إن الفنان يستخدم هذا اللقاء أو الصراع بين الحلم والواقع، بين العقل والجنون في هز القيم الثابتة والمطلقة وإخراجها من دائرة الاستقرار إلى حافة التغير. في «همس الجنون» كانت الحرية هي مدار الاحتكاك بين القوى العاقلة الثابتة المستقرة، والقوى الحالمة بواقع أفضل. وفي «حنظل والعسكري» يلجأ الإنسان التعِس إلى المخدِّر ليحلم ويحلم وتوقظه من الحلم حذاء الشرطي الثقيلة. هذا التفاعل، بل الصراع، بين الحلم والواقع هو الذي يجعل من «مندوب فوق العادة» موقفًا تراجيديًّا عظيمًا. فبعد أن كانت الصورة شديدة التسطح في «الشر المعبود» تحسسنا في الأقصوصة الجديدة هذه الأبعاد: الإصلاح الفردي يرادف الجنون، محاولة التحدث في التغيير تجعل صاحبها من ذوي «اللطف»، وعلى الصعيد الفني تتحول القصة إلى موقف تلتقى فيه شخصية إسماعيل بك الباجوري بالوزارة الفارغة من العمل بالموظف الصغير ومدير المكتب والسيد الوزير. إن الصياغة لم تدَع من «الشخصية» مدارًا للأحداث، ولم تجعل من الحدث محورًا للدلالة، وإنما جعلت من هذه العناصر جميعها موقفًا لا يزدحم بالتفاصيل، ولا يستغرق في الجزئيات، ولا نتوه بين شخصياته أو مفارقاته الساذجة، وهذا هو البون الشاسع بين القصة القديمة والقصة الجديدة، هذا هو الربع قرن الذي جعل من الأقصوصة عند الكاتب موقفًا، ومن موضوعها قضية.
•••
وبنفس هذا المنهج يمكن لنا أن نعقد المقارنة بين قصة «مفترق الطرق» التي نُشرت أيضًا بمجموعة «همس الجنون» وقصة «صورة قديمة» التي نُشرت بمجموعة «دنيا الله». في «مفترق الطرق» يسمع الموظف الصغير البائس أن أحد زملاء الدراسة عُيِّن وزيرًا، فيذهب إليه راجيًا أن يساعده في تخفيف مصروفات اثنين من أبنائه بالمدرسة. ويُطَمئنه الوزير في كبرياء وترفُّع أنه سيعمل «ما فيه الخير» ويعود الموظف إلى بيته، فتقع في يده صورة من الماضي، صورته مع زملائه الطلبة في إحدى المجلات. وراح يتذكر ملامحهم وما آلت إليه أيامهم. فهذا قاضٍ، وذاك بلطجي، والآخر كاتب بالصحة، والرابع … وهكذا … إلى أن وصل إلى السيد الوزير وتذكر الصراع الذي كان بينهما في كرة القدم، وكيف كان الوزير تلميذًا ضعيفًا بالرغم مما تقوله الصحافة من أنه كان طالبًا نابهًا … بالضبط كما تكيل التهم لمن خانتهم ظروفهم في الصغر أو الكبر «ونظر جلال أفندي عند ذاك في الساعة فوجدها تدور في الرابعة، فعلم أن موعد الصغار آن واقترب، وأنهم عما قليل يملئون البيت حياة وقلبَه نورًا، فرمى بالمجلة بعيدًا وطرد من عقله الوسواس ليستقبلهم أجمل استقبال، وقال لنفسه مُتعزيًا: «من الخطأ أن يفكر الإنسان في شئون الناس ما دام هذا لا يورث إلا الضيق، وحسبي أن معاليه قال لي: اطمئن.»
الفنان هنا يتعمد الاحتكاك المباشر بين المجتمع والفرد، المجتمع بقيمه وأخلاقياته وتقاليده، والفرد بأحلامه وآماله ومثالياته. ثم يتخذ من الوزير نمطًا ونموذجًا للشخصية التي تصل إلى القمة الاجتماعية بقوة القيم والأخلاقيات والتقاليد التي تربط المجتمع الثابت المستقر. ثم يتخذ من جلال أفندي نمطًا ونموذجًا للشخصية العاثرة الحظ. وفي هذه الدائرة النمطية تدور الأحداث في هدوء بالغ؛ إذ المقدمات تسوق إلى النتائج بطريقة عفوية. ولذلك فهي دائرة مغلقة خالية من التفاعل والصراع المعقد الذي يُكسِب الشخصية تفردها. والحدثَ تميزَه، والعملَ الفني أبعادًا مختلفة تعمق العلاقة بينه وبين المتلقي بأكثر من زاوية. الكاتب، هنا، يكتفي بتصوير المسافة التي يخلقها الزمن بين الأفراد، والهوة بين طبيعة العلاقات الإنسانية في مرحلة. وطبيعتها في مرحلة أخرى. ولكنه لم يخلق — على المستوى الفني — همزة الوصل بين المرحلتين. أي ذلك التشابك المعقد الذي يلاحظ على طول النمو الوجداني للشخصية والتطور الموضوعي لأحداث الزمن.
أما قصة «صورة قديمة» فتنتهي بهذا التساؤل على لسان شخصية صحفية: ترى أي معنًى ستتمخض عنه هذه الصورة القديمة؟ فقد ومضت في ذهن هذا الصحفي فكرة «موضوع» لا بأس به. هو أن يسجل تحقيقًا مع أصدقاء الصِّبا من زملاء الدراسة. تناول من أجل ذلك إحدى الصور القديمة وراح يتفحصها بعناية: هذا هو عباس المواردي، الثري والنجم السياسي السابق (أي قبل عشر سنوات).
وليس شيئًا صعبًا معرفة مكانه. وهذا هو الأورفلي «الأول» الدائم على الفصل والمدرسة، وربما القُطر بأكمله. ولقد دخل كلية الحقوق، وعمل بالنيابة ويمكن السؤال عنه في وزارة العدل. آه وهذا هو حامد زهران، ٥٠٠ج.م مرتبه الشهري كمدير لشركة «الهرم المدرج» وهو ساقط بكالوريا ليس إلا، ولم يكن قط من الطبقات العليا أو المتوسطة؛ بل كان قاطنًا بعطفة أبو خوذة ومتزوجًا من فايقة الجارة القديمة بنت عم سلامة سائق الترام منذ أيام التلمذة. وهذا هو محمد عبد السلام كاتب النيابة بالمنيا.
كان اختيار الفنان لشخصية الصحفي اختيارًا هامًّا؛ فالإطار الفني لن يصاغ من وجهة نظر جلال أفندي هذه المرة، وإنما من وجهة نظر تبدأ كما لو كانت شديدة الحياد، فالصحفي عادة مجرد «مسجل» لما يرى. ومع هذا، فالكاتب يتساءل في النهاية بعد هذا الاستعراض التسجيلي: ترى أي معنًى ستتمخض عنه هذه الصورة القديمة؟ يتساءل هكذا، بينما هو ينثر الإجابة عن الشخصيات حين يلتقط من داخلها السمة الجوهرية التي تحركها داخل هذا المجتمع. ومعنى ذلك أن التساؤل كان بمثابة اللمسة الأخيرة في البناء الموضوعي للأقصوصة، فهذا الشكل التعبيري للبناء هو الفرق الأول والكبير بين «مفترق الطرق» و«صورة قديمة». إنه البناء الذي عبر عنه نجيب محفوظ بقوله إنه يصطنع حيلة أو أسلوبًا من التعبير؛ ليجعل رأيه ضمن الحقيقة الموضوعية وليس صوتًا مباشرًا.
والصوت المباشر غالبًا ما يأتي من الخارج، أما الحقيقة الموضوعية فتأتي من صميم العالم الداخلي للعمل الفني. لذلك جاءت عُزلة عباس المواردي في عِزبته، وصوفية إبراهيم الأورفلي بين أوراق القضايا، وارتفاع ساقط البكالوريا إلى مستوى ٥٠٠ج في الشهر وزواجه من فتاة صغيرة يتحدث نصف لسانها بالفرنسية والآخر بالإنجليزية … جاءت هذه العناصر الفكرية والفنية في آنٍ واحد، تمهيدًا موضوعيًّا صارمًا للحوار الذي دار بين الصحفي وكاتب النيابة صاحب الدرجة الخامسة والعشرة أطفال، حين أخبره بقيمة الدخل الشهري لزميلهم السابق حامد زهران. هز محمد عبد السلام رأسه في حزن وقال بيقين: «لا يوجد عمل في بلادنا يستحق هذا القدر من المال، وإلا فلماذا لم يصِل إلى القمر؟
وضحك حسين — الصحفي — قائلًا: على أي حال أنتم أحسن من الملايين …
فقال محتجًّا: الملايين! أنا عارف هذا، ولكن حامد زهران هو المشكلة.»
كذلك لم تكن الصورة لتتم حتى يتأكد من هذه النقطة. ومضى من تَوِّه إلى عطفة الكرماني بباب الشعرية، إلى مسكن عم سلامة القديم. وفي أول عطفه علِم من كوَّاء بلدي بأن عم سلامة تُوفي من سنوات وأن ابنته فايقة فاتحة دكان سجاير وحلوى أسفل البيت. واقترب من البيت منفعل الصدر وهو يحاذر أن تراه حتى وقع عليها بصره وهي جالسة وراء الطاولة لا يبدو منها سوى وجهها وعنقها. وكانت تدخن سيجارة وقد بدا وجهها أكبر من سنه بعشر سنوات على الأقل كوجه محمد عبد السلام كاتب نيابة المنيا «بدت شاردة الطرف متجهة ومستسلمة للمقادير. وتذكَّر كم كانت مثالًا للصبر والحيوية والأمل، فشعر بأن أنبل ما في صدره ينحني لها رثاء واحترامًا.»
فإذا أضفنا إلى هذه الكلمات ما وصف به الصحفي حامد زهران من أنه «فتى العصر» فإننا نكون قد وضعنا أيدينا على أسرار هذا البناء الموضوعي للأقصوصة. فالمأساة هي طابع العصر وهي تترك ظلالها على كافة الوجوه، فتعزل هذا ويتصوف ذاك ويرتفع آخر ويسقط كثيرون. والأزمة في أعماق هذا العالم المنهار لا تبحث عن حل من خارجها، ولا تستكين في أحضان السكون. العزلة والتصوف والعلو والهبوط، كلها عناصر فاعلة ومتفاعلة، تصرع وتتصارع. كلها تصوغ الأزمة في قالب تراجيدي حاد، وتجعل من المأساة الاجتماعية وجهًا أصيلًا في حضارتنا.
والمقارنة بين إنتاج الكاتب في الماضي، وإنتاجه الآن هامة ودقيقة. إن غالبية القصص القصيرة التي كتبها نجيب محفوظ في «الرسالة» و«الرواية» وضم بعضها في كتاب «همس الجنون» لا ترتفع عن مستوى بقية أدباء العصر؛ بل ينخفض الكثير منها عن مستوى أعمال البدوي وحقي ولاشين وغيرهم من الرواد. الموضوعات الضيقة والحلول الساذجة في مشكلات الخيانة الزوجية والفقر، والاهتمام بتصوير الزوايا والجزئيات التي لا تتيح — من فرط استغراقها في الواقع السطحي — أن تلم في ثناياها بالدلالات الكبرى. الدلالات التي لا تخضع أحجامها الفكرية لنفس المساحات الفنية التي بنيت فوقها؛ بل تزيد وتتسع كلما تعددت الأبعاد واتسعت الأعماق في العمل الأدبي.
المرحلة الجديدة لهذا الفنان في ميدان القصة القصيرة، تقول إن المجتمع لم يتغير كثيرًا عما كان عليه منذ ربع قرن، وأن ثمة هوة عميقة بين الواجهة النظرية لهذا المجتمع والمستوى التطبيقي، فما تزال هناك قطاعات إنسانية عريضة ترزح تحت أعباء الماضي، بكافة مواضعاته السيئة. ولهذا السبب تشابهت موضوعات بعض القصص في المرحلتين. ما تزال المأساة الاجتماعية رابضة في هذا الطور المعاصر من حضارتنا الذي يتسم بالتخلف. ولكن هذه المرحلة الجديدة تقول أشياء أخرى. فلم تعد الخيانة الزوجية والفقر وما إليهما هي المظاهر الوحيدة لمحنة المجتمع، وقد ألغت البصيرة الجديدة الأنماط والنماذج البشرية التي تُلخص الملايين ولا تُوجز نفسها.
وإنما كان نجيب محفوظ وهو يكتب «أولاد حارتنا» و«اللص والكلاب» و«السمان والخريف» يعي أن التطور الحضاري المذهل الذي طرأ على العالم المعاصر، لا ينبغي على الأديب العربي أن يتجاهله ويظل في قوقعته الورائية والتخلف. ولذلك كان تركيزه الشديد في مجال الرواية، وعودته إلى كتابة القصة القصيرة، ولأن الرواية والقصة القصيرتين في إمكانهما تجسيد فترات الانتقال والفترات الثورية التي تحتاج إلى اللقطات السريعة أكثر من الأعمال الطويلة كما يقول الكاتب نفسه.
في مجموعة «دنيا الله» سوف نلتقي بمأساة المجتمع في صُوَر جديدة وأبعاد جديدة، ولكنا سوف نلتقي أيضًا بمأساة المصير الإنساني الأشمل … بل نراهما وجهَين مختلفين لمأساة واحدة. كذلك لن نجد مشكلات اجتماعية لقطاع بشري معين، أو للمجتمع كله، لقد كانت هذه المشكلات تجعل من القصة «موضوعًا». أما في «دنيا الله» فتتحول المشكلات الصغيرة إلى قضايا فكرية كبرى. لن نجد في هذه المجموعة الجديدة ما كنا ندعوه فيما سبق بالدلالات الجزئية؛ لأن هذه الدلالات تتحول إلى «وجهة نظر» شاملة للحياة في جميع مستوياتها.
عندما نقرأ هذه القصص الجديدة: «دنيا الله، الجامع في الدرب، زينة، كلمة في الليل، حنظل والعسكري، مندوب فوق العادة، صورة قديمة» … سنحس فور قراءتها أن وراء صورها وكلماتها وجدانًا مطحونًا أرهقته أزمة المجتمع الذي يعيش فيه. لذلك فهو يتصفح الأزمة من كافة جوانبها، حتى لا يلتقط لها صورة مسطحة وحيدة الجانب كمن ينظر بعين واحدة. وإنما هو يتأمل شخصيات في حالات مختلفة وقطاعات عديدة ليكتشف سماتهم المشتركة، الخالقة لطابع المأساة من جهة، وليكتشف ملامحهم الإنسانية المتفردة من جهة أخرى. عندما يصف شخصية لطفي في «دنيا الله» بأنه دخل من باب الإدارة (ذهبي الخاتم والساعة ودبوس الكرافتة) فإنه لا ينسى أن يصف اهتماماته وهو يقرأ الجريدة اليومية حين يقول: «ستكون السنة نهاية العالم. صدقوني، نهاية العالم أقرب مما تتصورون.» أما الأستاذ كامل مدير الإدارة فيدخل وفي يده مسبحة، ثم يشرع في حديث تليفوني علا فيه صوته مهللًا: «وهل يخفى القمر؟» وهكذا بقية الشخصيات: أحمد والسيد مصطفى وهمام، جميعهم يفِدون في الصباح إلى الإدارة يحملون في الكيان الإنسان الواحد أكثر من محور تدور حوله شخصياتهم المعقدة بفاعلية ظروفهم المريرة، حتى عم إبراهيم الفراش ما إن يغيب عن وجوههم ساعة بعد أن تسلم مرتباتهم من الخزينة ولم يصل بعد، يتهكم أحدهم بقوله «لعله ذهب يتسوق!» فيجيب آخر «لا تستبعد ذلك، إنه يأتي كل يوم بجديد» … وعم إبراهيم بالذات شخصية متداولة في أغلب قصص هذه المجموعة، فهو «زعبلاوي» الذي يظهر ويختفي بلا موعد أو مناسبة، ويشفي المرضى الميئوس منهم، وهو إسماعيل بك الباجوري في قصة «مندوب فوق العادة»، ولكن عم إبراهيم في «دنيا الله» يلعب دورًا مختلفًا من حيث المظهر، فبالرغم من أنه «كان طيبًا وإن يكن به شذوذ محتمل؛ كأن يشرد أحيانًا حتى وهو يحدثك، أو يتدخل فيما لا يعنيه، أو يتطوع بذكر ملاحظات عادةً في السياسة دون مناسبة» بالرغم من ذلك، فقد حمل مرتبات الموظفين على كتف وحقيبته الصغيرة على الكتف الآخر، وهرب إلى «أبي قير» ليقضي أيامًا سعيدة. هذه الأزمة أتاحت للفنان أن يستأنف إضافة أبعاد جديدة إلى شخصياته، فالمدير الذي يمسك المسبحة ويتحدث إلى عشيقته بالتليفون، لا أمل له — بعد ضياع مرتب هذا الشهر — إلا في البوكر أو الكونكان. أما مصطفى الذي تخفي ضحكاتُه المتوترة همومَه اليومية فإنه يعرف طريقه جيدًا إلى محل رهونات بباب الشعرية. ولطفي عليه أن يبتدع حيلة ليأخذ منها مصروفه الشهري بالإضافة إلى أنها تتكفل بنفقات البيت. الجندي سيقول لوالده «تقبلني هذا الشهر وكأني ما زلت طالبًا». همام سيطالب زوجته بأن تأخذ نصيبها في الجمعية التي تخصصها دائمًا للكساء. سمير «لولا الرشوة» لكان في مأزق.
وهكذا تكتمل في وجداننا هذه الشخصيات الفريدة والرامزة في آن. بقيت شخصية عم إبراهيم، فتزداد تعرفًا عليه حين يعود أحمد إلى منزله مُوَلْوِلًا بأنه «لا مرتب لنا هذا الشهر» فتقول له زوجته بدهشة: «لم؟ كفى الله الشر؟! عم إبراهيم جاء بمرتبك في أول النهار!» لقد كان الرجل رحيمًا بأتعس الموظفين، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى عثر البوليس على قطعة حشيش صغيرة في أحد جيوب جلبابه التي تركها في بيته مع زوجته العجوز العوراء، وذكريات فتاه الذي مات في العاشرة تحت الترام، وفتاه الآخر الذي يعمل بالسويس وقد انقطعت عنهم أخباره، وابنته التي تزوجت بأقصى الصعيد ولم يعد يراها. والكاتب يتيح الفرصة لوجهات نظر مختلفة في بناء هذه الشخصية، وإن كانت هذه النظرات المتعددة تلتقي بعنف في نقطة التقاء واحدة، هي أن إبراهيم تعلق في الأشهر الأخيرة بفتاة من بائعات اليانصيب، في السابعة عشرة ذات خصلات ذهبية وعينين زرقاوين، كانت في الأصل جامعة أعقاب، ثم عرفت طريقها إلى العلاقات الخاصة مع بعض رواد قهوة فؤاد من ذوي النفوس الحلوة المتواضعة.
والمؤلف في هذه المرحلة من مراحل تطوره يستهويه الانتقال السريع من شخصية إلى أخرى ومن موقف إلى آخر، وفي الشخصية الواحدة أو الموقف الواحد ينتقل بنا من زاوية إلى أخرى ومن حدث إلى آخر. لقد حل عنده هذا الأسلوب الفاشي في التكنيك بديلًا عن أسلوب المفاجأة والحبكة. هذا الأسلوب يتحول بسرعة من الحلم إلى الواقع، ومن الواقع إلى الحلم، أو يجعل منهما وجهين مختلفين لظاهرة الحياة، ولهذا تكثر الأحلام في هذه المجموعة: حنظل يحلم بالخلاص من أحلام المخدر، زينة تحلم بواقع أجمل من الواقع الراهن، والجميع يحلمون بها في جنة عدن، وعم إبراهيم هو الشخصية الوحيدة التي تحقق أحلامها وفق هواها، وها هو يجلس على الشاطئ في «أبو قير» بجانب ياسمين «وبدا حليق الذقن مستور الصلعة تحت طاقية بيضاء كالحليب. وعكست بشرته رواءً»، «والحب يرفرف راقصًا حول الجلسة الجميلة. وتجلت في عيني عم إبراهيم نظرة تشوُّق ودهشة كأنه يستقبل العالم لأول مرة في طفولة بريئة»، «بدا أنه انطلق من أغلال الهموم وأنه يحلق في حلم». بهذه اللمسات السريعة يكون الفنان قد فرغ من تحديد السمات المميزة لشخصية هذا الفرد. وبقيت أمامه السمات الرامزة إلى ما هو أكبر. والعقبة التي تحول دائمًا دون حيوية الشخصيات الرمزية هي أنها تتجمد في إطار النمطية أو النموذج. غير أن نجيب محفوظ يزيل هذه العقبة بأنه يبتعد بالشخصية من هذه الدائرة الضيقة إلى ما هو أكثر رحابة وعمقًا، مهما بدت الشخصية «شاذة» في تكوينها. والشخصية الشاذة ليست نقيضًا للنمط أو للنموذج، كما أنها ليست امتدادًا مفرطًا للشخصية الموغلة في التفرد. وإنما هي الشخصية التي تتبلور في تكوينها الدلالاتُ الجزئية حتى تتحول المشكلة الاجتماعية من كونها «موضوعًا قصصيًّا» إلى «قضية فكرية». إن تعبير الشخصية عن أحد جوانب القضية التي يعالجها الفنان لا تقرب بها من التعميم ولا التجريد، لأنها تكتسب رمزيتها من جزئيات الواقع الحي في وجداننا، لا من أبنيةٍ نظرية تعشش في ذهن الكاتب فحسب. وهكذا تتحول القضية الفكرية إلى بناءٍ فني لا إلى هيكل عظمي مُركَّب من مجموعة معادلات.
على ضوء هذا الفهم لن ندهش كثيرًا عندما نعرف أن عم إبراهيم «كان مُصمِّمًا على السعادة، السعادة التي يدرك أكثر من غيره كم هي زائلة، لم يكن يطمع في أكثر من الاحتفاظ بما نال من سعادة إلى حين، وألا يقع القبض عليه قبل أن تنهار دعائم سعادته انهيارها الطبيعي بإنفاق آخر مليم مما يملك»، «أراد لها أن تسعد كما يسعد وكان من قبل يسير مُطرِق الرأس لا يرى من الدنيا إلا التراب والطين، أو لا يرى إلا شواغله وهمومه. أما هنا فرأى ما لم يكن رآه. رأى الفجر في طلعته السحرية والغروب في عجائب ألوانه التي تنساب عن الشفق. ورأى النجوم الساهرة والقمر الساطع والآفاق اللامتناهية. رأى ذلك كله بقوة الحب الخالقة حتى عجِب كيف يوجد بعد ذلك النكد.»
ليست هذه الكلمات سوى «رؤيا» لواحد من الأنبياء، فإذا تذكرنا أن عم إبراهيم لم يكن طبيعيًّا في تصرفاته وآرائه، وأخيرًا في سرقته مرتبات الموظفين وتركه مرتب الموظف البائس أحمد في منزله قبل الهرب، لن نستقبل هذا التذكر كما كان لاصقًا في أذهاننا لأول وهلة، لأننا لن نستطيع أن نتقبل هذه المجموعة من التصرفات والسلوك والآراء على أنها شيء عادي بالنسبة لرجل مجنون، أو به «لطف».
لن نستطيع ذلك؛ لأن الفنان في تعريفه لهذا الإنسان من الداخل يكشف عن ذلك الجانب الرائع في الشخصية، جانب «النُّبُوَّة» الذي صادفنا في شخصية إسماعيل الباجوري «المندوب فوق العادة»، كما يصادفنا على نحو آخر مختلف في شخصية «زعبلاوي».
هذه النبوة تجعل عم إبراهيم يحب ياسمينة مع أنها حاولت سرقته في ليلةٍ مهدت لها بإنهاك قواه، إنه يريد لها أن تسعد، ويحبها «ويشكر لها ما وهبته من سعادة ونفخت فيه من روح الشباب. فليسامحها الله وليسعدها الله.» ليس هذا فحسب؛ بل إنه سمع «صوتًا حنونًا في أعماقه يقول له أوهبها النقود وسرحها، فقال له لم تزل لي أيام، فقال له أوهبها النقود وسرحها.» وبالرغم من أنه يخاطب ذلك الصوت الرابض في أعماقه: لم تزل لي أيام، إلا أنه يعود قائلًا: لا مطمع لي في أكثر مما نلت. وكأني بالمسيح يخاطب الأب: إن شئت ترفع عني هذه الكأس، ثم يستدرك قائلًا: ولكن، فلتكن إرادتك أنت لا إرادتي أنا.
هذه النبوة هي الرؤية الفنية للعالَم كما يراها الكاتب. فقد انتقل عم إبراهيم إلى الإسكندرية ليهيم على وجهه دون مبالاة «كان يعاني حزنًا جليلًا ويأسًا رائعًا.»
هكذا يمهد المؤلف للصلاة الخاشعة التي يناجي بها عم إبراهيم ربه: «لا يمكن أن يرضيك ما حصل لي. وأبنائي أين هم؟ أيرضيك هذا؟ والعالم يطاردني لا لشيء إلا أنني أحبك، فهل يرضيك هذا؟ وأشعر وأنا بين الملايين بوحدة قاتلة. أيرضيك هذا؟»
هذه الصلاة تجسد في كلمات «وجهة نظر» في مأساة الإنسان والمجتمع. وقد بدأت الصلاة منذ أدرك عم إبراهيم أن السعادة زائلة، وأنه يحلم فقط بنصيبه منها. وأن التخطيط المفتعل لأنصبة الإنسان من السعادة هي التي حرمت موظفي الإدارة من أن يكونوا سعداء. ومن هنا تكون كلمات عم إبراهيم همزة الوصل بين النبي والله، وليست كلمات لص يبرر جريمته بقوله «يا ساتر» إنهم يقبضون عليه ويسألونه «ماذا دفعك إلى تلك الفعلة وأنت في هذا العمر؟» فيبتسم. رافعًا إصبعه إلى فوق وهو يغمغم: «الله»، ويعلق المؤلف «ندت عنه كالتنهيدة.» الله هنا ليس مشجبًا يعلق عليه أحد اللصوص خطاياه؛ بل هو مرآة الرؤية الاجتماعية للفنان. هو نقطة الالتقاء التي تتجمع عندها مأساة ذلك القطاع البشرى التعس، ومأساة رسول السعادة والحب والأمل حين تنتهي دعوته على الصليب الخالد، الصليب الذي أسهمت في صنعه أيدٍ كثيرة تفوح منها رائحة الجريمة. وهكذا يتعاطف القارئ مع عم إبراهيم «اللص» في شريعتنا، وينقم على قوى مجهولة لا تغيب عن إرادتنا ووعينا. وينتصب هذا الصليب «موقفًا» للكاتب بناه في صبر عجيب من جزئيات حياتنا اليومية المتصارعة مع بعضها البعض، ورمزية الشخصيات البعيدة عن النمطية أو الإيغال في التفرد والشذوذ.
لقد أدخلَنا عم إبراهيم دنيا الله المليئة بالأعاجيب، فكان بصيرتَنا التي كشفت لنا هول المأساة الضارية التي تحيل بعض البشر إلى دُمًى خاوية من الإنسانية، والبعض الآخر يحمل في كيانه شخصية مزدوجة، والجميع يبحثون عن قسط — ولو ضئيل — من سعادة زائلة، والفرد يعيش في وحدة قاتلة وسط الملايين. وهكذا تتسع بصيرتنا باتساع «رؤيا» الفنان وتعدُّد أبعادها. قصة «الجامع في الدرب» عنصر جديد من عناصر الرؤية المأساوية التي أهدانا الفنان بدايتها في «دنيا الله». إنه ما يزال يجول بنا في أنحاء هذه الدنيا الغريبة، غرابتها ليست جديدة على حياتنا أو وجداننا، ولكنها كانت نائمة تحت أثقال مريرة في أعماق اللاوعي … وجاء الكاتب فأيقظ وجداننا بما يشبه «الصدمة»! وتتوالى صدمات نجيب محفوظ لنا في «دنيا الله» حتى نَجوب أرجاءها بأعين مفتوحة على آخرها، وحتى لا نتوه بين جنباتها إذا عرفنا أنها دنيانا الأبدية، وحتى لا تظل مأساتنا الأبدية.
و«الجامع في الدرب» زاوية جديدة من المأساة الاجتماعية في دنيا الله. في القصة الأولى كان اللص نبيًّا يرى بعينَي الكاتب، ويتكلم بلسان البشر. في هذه القصة يصبح إمام الجامع ذيلًا للطغاة، والمومس وبيَّاع العصير يحملان قلبًا تلتهب دماؤه بالوطنية والحب.
ويسلك الفنان في صياغة قصته هذه، نفس المنهج التعبيري الذي سلكه في بناء القصة السابقة. فيُعنى بتجسيد شخصية رئيسية، هي الشيخ عبد ربه إمام الجامع القائم بحي البغاء. صياغة الشخصية هنا، كما كانت هناك، ليست هادفة لأن تكون دراسة تشريحية للنفس البشرية. وإنما هي رمز مفتوح لكافة الدلالات التي تستجيب لها وتستقبلها من بقية الشخصيات والأحداث. يستقبل الشيخ عبد ربه أولًا: موقف السيد مراقب عام الشئون الدينية من خطبة الجمعة التي ينبغي أن تخصَّص لحماية سليل الأسرة العَلية من مثيري الشغب. ثانيًا: موقف الصدور الكثيرة التي انقبضت في أعماق زملائه دون أن يزايل البشر وجوه أصحابها، أو الوجوه التي أشرقت لتداري توعك القلوب. ثالثًا: موقفه من ضميره الذي يأبى ما يمقته الناس. رابعًا: موقفه من المبدأ الإسلامي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمبدأ الآخر الذي يدعو إلى طاعة الله ورسوله وأولي الأمر.
هذه هي الأزمة التي اندلعت فجأة في صدر الشيخ عبد ربه، الرجل الذي يأمل خيرًا على يدي السلطة، نحو مرتبه الضعيف وظروفه المريرة. وهي أزمة تختلف في مظهرها عن أزمة البرمجي شلضم والراقصة نبوية والعاشق حسان، كما تختلف عن أزمة المومس التي جلست في بيت مجاور على حافة الفراش نصف عارية مع رجل لا تعرفه. إن الشيخ عبد ربه يحل أزمته بإلقاء الخطبة ويحلها شلضم بالقتل، كل ما حدث أن بعض المصلين ثاروا على الشيخ، والبعض الآخر كان أكثر شجاعة وترك الصلاة، والقلة هي التي نافحت عن وطنيتها حتى قادها المخبرون من الجامع إلى السجن. ولخص الفنان موقفه بأن نقَل العدسة إلى البيت المجاور حيث كان الرجل الغريب مع المومس «وجالت عيناه في الحجرة حتى استقرتا على صورة لسعد زغلول قد بهتت من القدم، فتساءل وهو يشير إليها: هل تعرفين هذا؟
– ومن لا يعرفه؟
فأفرغ بقية الزجاجة في جوفه وقال بلسان ثقيل: سمارة وطنية وشيخ منافق!
فقالت متنهدة: يا بخته! بكلمتين يربح الذهب، ونحن لا نستحق قرشًا إلا بعرق جسمنا كله.
فقال ممعنًا في السخرية: ثمة رجال محترمون لا يختلفون عنك في شيء، ولكن من يجد الشجاعة ليقول ذلك؟
– وقاتل نبوية معروف للجميع، ولكن من يجد الشجاعة ليشهد بذلك؟»
لن نجد هنا حاملًا للرأي، وإنما موقفنا يكتمل قليلًا قليلًا بجزئيات أخرى. فقد بات الشيخ عبد ربه عظيم الأمل في أن تنظر الوزارة إلى تحسين حالته بعين الاهتمام «غير أنه عندما حان وقت درس العصر لم يجد مستمعًا على الإطلاق.» إذ هو نادى عم حسنين مستمعه الوحيد، ولكن الرجل «أبعد رأسه في تصميم وبحركة نبذ حاسمة.»
وأخيرًا تتجمع الأزمات كلها في بوتقة أزمة واحدة، أزمة كبيرة بالغة العنف، فقد توالت الغارات الجوية على القاهرة، وتساقطت القنابل، وهرع أهل الحي إلى الجامع يحتمون به، ورُوِّع الشيخ عبد ربه بهذا الجمع من «الأشرار» يضمهم بيت الله فمرق من الباب وهو يقول مرتعدًا: «لم يجمعهم الله في مكان واحد إلا لأمر.» وكان قولًا صادقًا غاية الصدق، أنطق به الفنان هذه الشخصيةَ بالذات حتى تسطع الدلالة الكبرى حين تتوقف الغارات وتكف القنابل عن الانهمار، ويتضح مع خيوط الفجر أن الأشرار كانت النجاة نهايتهم، أما الشيخ عبد ربه فلم يُعثر على جثته إلا عند الشروق!
هكذا يقول الفنان كلمته من خلال النسيج المتشابك لدرجة متناهية التعقيد. فالشخصية الرئيسية تتسلم الخيط منذ البداية إلى النهاية. والخيط يتضمن هذه العقد: إدارة السلطة، مستقبل الأئمة، ضمائرهم، موقف الشعب، ضمير الإمام شخصيًّا، عم حسنين بيَّاع العصير، مبادئ الدين والشرع. (هذا هو البناء التعبيري للجامع) ثم يستأنف الخيط عُقَدَه التالية: شلضم الحاقد على غرام نبوية بحسَّان، موقف الرجل الغريب من المومس، وموقف المومس من قاتل نبوية، وموقفهما معًا من المجتمع. (وهذا هو البناء التعبيري لحي الفساد). وأن يكون الجامع في الدرب فإن هذا يعني مجموع التفاعلات والصراعات بين هذه العناصر جميعها، التي تلتقي أخيرًا في بيت الله، نفس المكان الذي سبق أن اختاره عم إبراهيم لتقديم صلاته قبيل القبض عليه. لقد استجيبت الصلاة، وتم الخلاص، فوق الصليب مرة أخرى. فموت الشيخ عبد ربه ليس تَشَفِّيًا من الكاتب إزاء نفاق هذا الرجل، وإنما هو يموت على نفس الصليب الذي أسهمت في صنعه أيدٍ كثيرة. ومعنى ذلك أنه ليس مجرمًا وليس مسيحًا، وإنما هو التجسيد الفني لموقف الكاتب الذي تكتمل به صورة المأساة في مجتمعنا.
-
«أعلن في القهوة أنه سيهاجر من الحسينية سعيًا وراء الرزق، فقال له كل من سمعه مع ألف سلامة في أصوات عالية وَشَت بارتياحهم للتخلُّص منه، فذهب وهو يقول لنفسه: لذلك فأنتم تستحقون القتل.»
-
«وقصد حمام السوق، دخله هبابًا وخرج منه إنسانًا. وابتاع جلبابًا ولاسة وثيابًا داخلية، ومركوبًا لأنه لم يجد حذاء جاهزًا يتسع لقدميه الغليظتين. وجلس في محل سيدهم الحاتي يأكل بنَهَم حتى أذهل النادل. وطاب كل شيء فقال لنفسه: ليت ذلك يدوم بلا قتل.»
-
«وتساءل: أليس من حقه أن يعرف لماذا استحق هذا الرجل أن يقتله؟»
-
«وفي المساء سَكِرَ، وفي سيرك الحلاوي سهر، وعند عَيُّوشة الفنجرية بات ليلته، وقال لنفسه مرة أخرى ليت الحياة تمضي هكذا بلا قتل، وأن يتزوج من جديد ويخلف البنات والبنين، ويواصل الاتِّجار والربح، ويأخذ حذره فلا يرى لمخبرٍ وجهًا.»
-
«والمسألة في حقيقتها العارية أنه سيقتل رجلًا لا يعرفه، ولم تتصل بينه وبينه الأسباب على أي وجه كان، لحساب أناس يمقتهم لحد المرض.»
لن تفارقنا هذه الكلمات، والقاتل ينشب سكينه في أحشاء الرجل، كما لن تفارقنا صورته وهو يندفع هاربًا، ينتفض، ناسيًا السكين في صدر الرجل، ملوث العنق والجلباب — وهو لا يدري — بالدم … بل ستشدنا شدًّا إلى صور سعيد مهران في «اللص والكلاب»، وعم إبراهيم في «دنيا الله»، وغيرهما من أنبياء نجيب محفوظ، الذين يرتدون ثياب اللصوص والقتلة والمومسات، ليبتعد البناء القصصي تمامًا عن إطار العظة والحدوتة والحكاية من جهة، وليبرز موقف الكاتب واضحًا من المأساة الاجتماعية في بلادنا، ودلالتها على موقفنا الحضاري الراهن من قيم التغيير الجذري للمجتمع.
المجتمع القائم على أحلام محمد بدران في قصة «زينة»، أحلامه التي تتوقف بمجرد أن تقبض يده على المظروف النقدي من يدَي مدير شركة العقار الجديد الذي يطيل العمر تحت شعار «الإنسان يعيش على الأوهام ويسعد بها»، وأحلام زينب التي يشعل حرارتها المدير العجوز «الآن لن يفصل بينها وبين من تحب شيء. حتى لو علم بحقيقة ما تمضي إليه؛ إذ من حسن الحظ أن الطيور على أشكالها تقع.» وأحلام الأستاذ وديع مؤلف القصة التي يطالب دائمًا بتغييرها «ولكن قصة القصص، قصة جميع القصص واحدة … هي جميلة ولكن يجب أن يؤلفها من جديد.» حتى تساءل عما إذا كان يمكن أن يجد عملًا غير التأليف.
الحلم هو عماد أقصوصة «زينة»؛ بل هو المحور «الفني» الذي تدور من حوله معظم أقاصيص «دنيا الله»؛ فالواقع — كما يقول المأمور في قصة «حنظل والعسكري» — نوع من الحلم، والحلم نوع من الواقع. لذلك تدور عدسة نجيب محفوظ داخل الشخصيات أكثر من خارجها، وفي باطن المجتمع، أكثر من جدرانه. لأنه يعي أن المأساة الحقيقية كامنة في الأحلام المضغوطة داخلنا. إن هذه الأحلام — عند نجيب محفوظ — لا ترسم مدينةً فاضلة في الخيال، وإنما هي تحكي في صبر وأناة إمكانية هذه الحياة في الواقع. الواقع الذي أضحى لبشاعته كابوسًا يصفه الإنسان بأنه مجرد حلم مزعج.
وكما أن أحلام هذه الشخصيات تُسَيِّج عالمنا بأسوار مدينة فاضلة، فإن خالقها أيضًا لا «يحلم»، وبيت الله عنده، أو دنيا الله، ليست جنة عدن أو الفردوس المفقود. إنها أبنية تعبيرية تحمل «وجهة نظر» تختلف كثيرًا عن الدلالات الجزئية التي كنا نستقرئها من أقاصيصه في المرحلة الأولى، حيث كان «يعالج» المشكلات الاجتماعية على ضوء الثقافة البرجوازية في عصره، وفي حدود المستوى الفني لذلك العصر. أما الآن فهو يستقطب أزمة عم إبراهيم والشيخ عبد ربه وبيومي من خلال الملامح الخاصة المتفردة بكلٍّ منهم، ومن خلال السمات الرامزة في كيان طاقتهم التعبيرية. ومن ثم تُسهِم كل قصة بأحد عناصر المأساة، وبإحدى جزئيات القضية التي يومئ بها الفنان إلى وجهة نظر شاملة، تتخذ شكل «الرؤيا» التي نسجت من الفن والفكر معًا.
•••
المأساة الاجتماعية ليست بمعزل عن مأساة المصير الإنساني الكبرى، فالمجتمع أحد عناصر الوجود. والمأساة الوجودية إذن تنعكس بصورة أو بأخرى على البناء الاجتماعي للأفراد والجماعات.
نجيب محفوظ لا يتحسس معالم المأساة في البناء الاجتماعي على الخريطة الطبقية، وإنما هو يتلمس هذه المعالم من خلال المأساة المصيرية الشاملة. وهذا يفسر لنا المنهج التعبيري عند هذا الكاتب، فهو يصوغ المأساة الاجتماعية عبر صياغته لمأساة الوجود. ولذلك يخضع معنى المأساة في أقاصيص نجيب محفوظ الأخيرة للمستوى الإنساني المطلق دون المستوى الطبقي الذي عرفناه في أعماله الروائية الأولى لا لأنه يجهل التصنيف الطبقي للمجتمع، وإنما لكونه يعمم طابع المأساة على كافة الطبقات والفئات الاجتماعية، المطحونة منها والمرفهة. لأنه يرى في الرفاهية نفسها في ظل المجتمع الطبقي أحد أشكال المأساة.
معنى المأساة الاجتماعية في دنيا الله هو ظلٌّ لمعنى المأساة الأكثر شمولًا، فهي نابعة من منهج الانطلاق اللانهائي، الذي لا يتوقف عند أسوار مادية الكون، والتطور التاريخي للمجتمعات، وجدلية الصراع البشري (وهي الأسوار التي حاصر فيها المؤلف المأساة الإنسانية بروايته «أولاد حارتنا»). إنه يتجاوز هذه الأسوار إلى التطلع الميتافيزيقي لمأساة اللامعقول التي نعيش في أتونها دون أن ندري في غمرة ذهولنا تحت ضغط المأساة الاجتماعية.
هذا الوجود الذي نجيء إليه ونغادره دون أن نعرف لماذا، هذا الوجود الذي نحيا ونستمتع بجماله وأحزانه على السواء، تنتهي حياتنا بين جنباته نهاية جادة صارمة هي الموت. هذا الوجود المأساوي بشِقَّيه: اللامعقولية في تفسيره وتبريره، والموت الذي يهوي على أعناقنا في الخاتمة، عالجه نجيب محفوظ في «أولاد حارتنا» بأن صور محاولات الإنسان الدائبة المستمرة لحل مأساته الاجتماعية، ولغز الوجود والمصير، وانتهى إلى أن العلم والعقل في إطار المنهج المادي للمعرفة سوف يحل مأساة المجتمع أولًا، ويتفرغ بعدئذٍ لحل مأساة الوجود: الكشف عن سر الوجود، والانتصار على الموت.
في «أولاد حارتنا» كان التصور الفني لمأساة مستمدًّا المجتمع من الخريطة الطبقية، فكانت صراعًا تاريخيًّا مستمرًّا بين المستغِلين والمستغَلين. كما كان هذا التصور لمأساة الوجود مستمدًّا من إيمانٍ عميق بالعلم، وبأنه سوف يستطيع أن يحل اللُّغز الأبدي، وتبدأ الإنسانية حياتها الرائعة السعيدة المليئة بالأعاجيب. ولذلك انتهت «أولاد حارتنا» بتفاؤل شديد وأمل عظيم في مستقبل الإنسانية. وكانت ومضة الأمل هذه شمعةً مضيئة وسط الظلام الكبير الذي أحاط بالبشرية في تلك الآونة بالغبار الذري.
أما في «دنيا الله» فالموقف يختلف اختلافًا عميقًا. إن مأساة المجتمع هي هي، ولكن لم يعُد للإحساس الطبقي، السيادة المطلقة. لم تعد الدراما صراعًا بين مستغِلين ومستغَلين فحسب. لقد أصبح المجتمع البشري بكامله يعاني مأساةً واحدة بحرمانه من الاحتياجات الأساسية في الخبز والجنس والمعرفة، وفي إطارٍ من قدس أقداس الإنسان: الحرية.
ولم تتخذ الحرية مدلولًا طبقيًّا في «دنيا الله» لأن المأساة الوجودية الكبرى لم تفارق الفنان لحظة، وهو يتخير شخوصه من البؤساء والأثرياء، المعتلِّين والأصحاء، على حد سواء. بل إن هذه الشخصيات اتخذت لنفسها صفة الأنبياء. وتحولت الأقصوصة إلى «موقف» يشِعُّ «رؤيا» إلى العالم. وكانت رؤيا مأساوية بالغة الكثافة والعنف، وأكاد أقول اليأس. بل إن النغمة اليائسة هي التي ألغت حاجة الفنان إلى الوجدان الطبقي بمأساة المجتمع، وإنما اكتفى بتجسيدها جزءًا لا ينفصل عن مأساة الوجود. وكأنه يترجم قول الشاعر: حياتنا قصيرة ويا ليتها تُعاشُ.
هذا، إذن، المستوى الإنساني المطلَق لمأساة البشر الاجتماعية؛ إن هذه المرحلة القصيرة بين الحياة والموت تستهلكها الدموع غالبًا في المرض والجوع والجهل، في الشقاء من أجل الخبز والجنس والمعرفة. أما إطار هذه المرحلة القصيرة، أي بدايتها ونهايتها، الحياة والموت، أقول أما هذا الإطار فهو مضمون المأساة الأكثر شمولًا، مأساة العجز البشري عن إدراك سر وجودهم حتى أصبح شيئًا عابثًا غير مبرر — وهذه مأساة البداية — ثم العجز البشري عن مقاومة الغول الرهيب الذي يجتاح أعمارنا في أي وقت يشاء: الموت، وهذه مأساة النهاية. وهما وجهان متمايزان لمأساة واحدة؛ لامعقولية الوجود والمصير.
هذه المأساة الكبرى تتفاعل مع مأساة المجتمع في «دنيا الله» تفاعلًا يؤدي إلى اليأس من هذا الكون ككل، ولا يؤدي إلى الاستسلام لضراوة المأساة الاجتماعية كجزء؛ بل ربما إلى القول بأن محور المأساة الجزئية قد يخفف من غلواء المأساة الأصلية. أقول: «ربما»، لأن التفاعل المعقد بين المأساتين في «دنيا الله» لا يفسح مجالًا كبيرًا أمام هذا الأمل. وإنما يجعل منهما أيضًا وجهين مختلفين لمأساة واحدة هي التراجيديا الإنسانية، أو الكونية الخالدة.
ذلك أن مأساة الوجود في شِقَّيها اللامعقول والمصير، على ضوء المنهج الفكري الجديد لنجيب محفوظ، لا تؤدي إلى التفاؤل مطلقًا، بعد إشاراته العديدة إلى أن العلم والعقل البشري عاجزان بطبيعتهما عن إدراك هذا «السر»؛ لأنه يخرج تمامًا عن منطقة نفوذ العلم، ويخرج نهائيًّا عن دائرة المنهج المادي في المعرفة.
وفي «دنيا الله» إشارات أخرى إلى أن الحدس يحاول عبثًا اختراق منطقة الجاذبية إلى هذا «اللغز»، ولكن هذا المطلق البعيد المنال يظل قائمًا في شموخ أسطوري، ساخرًا من محاولات البشر.
وهي نظرة جديدة بلا شك من جانب نجيب محفوظ إلى العالم، انعكست بشكل حادٍّ على جزئيات بنائه التراجيدي لدنيا الله. ففي قصتَي «ضد مجهول» و«حادثة» يعالج مشكلة المصير، أو الوجه الآخر لمأساة اللامعقول، فقد حار ضابط المباحث في القصة الأولى حيرة شديدة أمام الحبل المجهول الذي يلف على أعناق ضحاياه دون أن يترك الفاعل أثرًا. وقال لنفسه وهو يزدرد هزيمته المُرة «مجهول! هذا هو حقًّا المجهول …» لقد تكرر الحادث مرارًا، وفي كل مرة كانوا يجدون الضحية — مهما بلغ مستواها الاجتماعي وعمرها — وقد جحظت عيناها تحت هول الحبل الرهيب الذي فزعت لجرائمه العباسية كلها. وهكذا وجد الضابط نفسه «أمام المجهول بصَمته وغموضه وغرابته وقسوته وسخريته واستحالته»، وأحس بأن مؤامرة غريبة تُحاك حوله تزلزل بحبكتها «كافة القيم في حياته» إلى أن راح ضحية الحبل الجهنمي ضابط كبير بالجيش. وقام نفر كبير من رجال المباحث بالتحقيق. وأدار الفنان بينهم. هذا الحوار: «وما الباعث على القتل؟
– بواعث القتل متعددة تعدُّد البواعث على الحياة!
– هل يمكن أن يَقتل أحدٌ بلا سبب؟
– إذا كان مجنونًا فإنه يقتل بلا سبب، أو بلا سبب مما تقتنع به.
– ما العلاقة بين المدرس واللواء (الضحيتان المعروفتان).
– كلاهما قابل للموت.»
هكذا ينثر الفنان كلماته وأحداثه وشخصياته بغير أن تشذ كلمة أو حدث أو شخصية عن مستوى «الموقف» القصصي، فلسنا نراه يصوغ مشكلة الموت مثلًا في نماذج من المثقفين، وأحداث رمزية وكلمات غريبة. وإنما ترتفع الكلمات والأحداث والشخصيات إلى مستوى الرمز عندما تتحول الأقصوصة نفسها إلى موقف نتسلم بواسطته أول الخيط في نسيج العمل الفني. كان الخيط في قصة «ضد مجهول» أن جميع الجرائم ارتُكبت بطريقة واحدة. دون أن يكون ثمة مجرم أحكم جرائمه أكثر من ذلك. أن الكاتب أخرج ضحايا الحبل الرهيب من منازلهم وجعلهم يسيرون على أقدامهم. ويركبون الترام ويجلسون على المكاتب. ويلف الحبل — بالرغم من ذلك — حول أعناقهم ويسقطون مرة واحدة. كأنهم أصيبوا فجأة بالسكتة القلبية. لولا نقطة الدم اللزجة حول الأنف والفم وجحوظ العينين وآثار الحبل المجهول. ويأتي الجواب طبيعيًّا للغاية إذا تساءل الضابط: من يكون هذا القاتل الغريب؟ فيقول بنفسه «لا هو لص ولا هو منتقم ولا هو مجنون.» وتكون النتيجة أننا نصدق الكاتب إذا همس لنا: «أنه يقف أمام لغز قوي قهار لا نجاة من عبثه.» فتمسك بأول الخيط، لنقرأ الأقصوصة مرة أخرى، ونتوقف قليلًا عندما تعاني زوجة الضابط متاعب الحمل، بداية الحياة، ونتأمل كثيرًا مشهد الضابط صريعًا بجانب مكتبه، صريعًا للمجهول، للمصير، للنهاية. ولن ننسى، بين البداية والنهاية، بين اللامعقول وغير المبرر، وبين العبث المصيري، أن الضابط أو الإنسان حاول أن يبرر اللامعقول، وأن يحيل العبث إلى معنًى وهدف، وأن يمد في المصير إلى ما لا نهاية فيكون الموت مجرد محطة انتقال «ظل ساهرًا يفكر ونازعته رغبة في الهرب إلى عالم شِعره الصوفي، حيث الهدوء والحقيقة الأبدية، حيث تذوب الأضواء في وحدة الوجود العليا، حيث العزاء عن متاعب الحياة وفشلها وعبئها … إننا نموت لأننا نفقد حياتنا في الاهتمامات السخيفة، ولا حياة ولا نجاة لنا إلا بالتوجه إلى الحق وحده.» كما حاول علماء النفس ورجال الدين أن يصنعوا شيئًا، ولكن الذعر كان قد اجتاح العباسية. بات كلٌّ ينتظر دوره.
اليأس من بداية الحياة ونهايتها حقيقة كبيرة تغلف «دنيا الله» عند نجيب محفوظ. غير أنه يعود فيستمد من هذا اليأس قوة خيالية ليعيش الإنسان ما بين البداية والنهاية، ما بين اللامعقول والمصير. أي أن رد الفعل عند الفنان من جانب المأساة الوجودية البشعة، كان الحرص البالغ الشدة على تذويب المأساة الاجتماعية الطاحنة في مستواها الإنساني المطلق «الحياة التي يقضي عليها حبل مجهول فتصبح لا شيء. ولكنها شيء بلا ريب وشيء ثمين. الحب والشعر والوليد (اهتمامات الضابط قبل مصرعه) الآمال التي لا حد لجمالها. الوجود في الحياة … مجرد الوجود في الحياة …» بهذا الإصرار يؤكد الفنان أن مأساتنا أننا قد لا ندرك مأساتنا في أبعادها المختلفة. فإذا أدركنا بُعدَها الاجتماعي، علينا أن نسارع بالتقاطه، وجعله شيئًا يستحق أن يعاش بالرغم من أنه قد لا يُمهلنا المصير على التقاط أنفاسنا كما في قصة «حادثة» حيث يعثر الضابط في سترة القتيل على رسالة كُتب فيها «اليوم تَحقَّق أكبر أمل لي في الحياة» وكان الرجل ممددًا على المشرحة «يثير الدهشة بصمته وانعزاله وارتداده العميق إلى المجهول.»
•••
فابتسمت سلمى، وسألت بحنُوٍّ: ماذا تريد مني؟
– نامي معي!
– ألن يعترض والدُك؟
– سينام معنا.»
ويدور مثل هذا الحوار في صور مختلفة من جانب أطفال آخرين والمدرسة إلى أن يقف الأطفال ويتجمعوا حولها متزاحمين توَّاقين للالتصاق بجسدها، ثم تبدأ أيديهم في التجول بين لحمها الطري، وتقاوم سلمى قليلًا، ولا تلبث أن تستسلم للأصابع المتوحشة وهي تمزق ثوبها قطعة قطعة حتى تتبدَّد قواها وتسقط على الأرض، وغرقت سلمى في طوفان الأصابع الصغيرة التي مزقت ثيابها كلها وأحست سلمى بالبلاط باردًا تحت ظهرها العاري، بينما كان الأطفال كحيوانات غامضة لا عدد لها تلهث وتدب فوق لحمها وتعتصره بشراهة. وضحكت سلمى وهي توشك على بلوغ ذروة الفرح، فقد كانت تتمنى فيما مضى بأن تعيش مع أطفال لم يعرفوا بعد أقنعة الأرض السوداء. غير أن هلعًا جنونيًّا امتلكها فجأة حينما بدأت الأسنان الصغيرة تقرض لحمها وتصطدم بالعظم الصلب.» وتنتهي القصة لنتساءل: هل أراد الكاتب أن يصور ضراوة العصر التي تلتهم الإنسان من خلف القفازات الحريرية ومساحيق براءة الطفولة؟ هل أراد أن يقول بأن إنسان هذا العصر لا يمثل سوى طفولة البشرية التي ما تزال تحمل كافة خصائص الحيوان بالرغم من جميع المظاهر السطحية للحضارة (كالوِسكي والرقص و… إلخ)؟ هل أراد أن يصور العلاقات الإنسانية على أنها مجموعة معقدة من عناصر الافتراس والسذاجة والجنون؟ إلى ما لا نهاية من التساؤلات التي تجعل من العمل الأدبي الناضج رمزًا مفتوحًا لكافة الاحتمالات ومختلف الإجابات. وتبقى مع ذلك، الحلقة المفقودة بين هذا العمل والحضارة التي نعيشها. همزة الوصل — الغائبة — بين الصياغة الجمالية لهذه المجموعة من التساؤلات، والصياغة الحضارية لمجتمعنا. ومن هنا يشوب هذه الأقصوصة، فقدان المعيار الحقيقي للعمل الأدبي العظيم، أعني الصدق الفني.
والغريب أن أمثال هذه الأقاصيص ليست متأثرة بفن القصة القصيرة المعاصرة في الغرب، وإنما تأثرت بالدراما والشعر؛ لأن الأقصوصة هناك ما تزال تصور التراجيديا الإنسانية في قوالب بعيدة عن التعقيد، وإن حملت بين ثناياها أعقد مسائل الفن والفكر والحياة. وفي كتابِي «أزمة الجنس في القصة العربية» ذكرت القصة الفرنسية التي تصور إنسانًا مات جميع أبناء جيله، الواحد بعد الآخر، حتى لم يعُد له صديق في هذا العالم. وتأمل الرجل حياته بعمق، فلم يرَ بُدًّا من الانتحار. وعندما نشرت هذه الأقصوصة تناولها بالنقد أحد الأدباء ممن يميلون إلى الاتجاه الماركسي في الفن، وقال إنها قصة رائعة؛ لأنها تصور بشاعة حياة الفرد بلا مجتمع، وأن النتيجة الحتمية لذلك هي الموت. ثم تناولها أديب آخر ممن يميلون إلى الاتجاه الوجودي فقال إنها — أيضًا — قصة رائعة، لأنها تأكيد مُلِح على وجدان الإنسان، بأنه إذا تخلَّص من ضوضاء الحياة وجلبة المجتمع — والقصة ترمز إليهما في رأيه بأصدقاء الرجل — فلا بد من أن الإنسان سوف يدرك عبثية وجوده لا جدوى حياته. أي إن الإحساس بالعبث هو نتيجة الوعي الحاد الذي تخلَّص صاحبه من غمرة ذهول الحياة اليومية التافهة.
واتفاق الناقدين هنا يدل دلالة قاطعة على أن القصة تضمَّنت عنصرًا يعلو فوق المذاهب والأيديولوجيات، هو ما أدعوه بالصدق الفني. وأنا شخصيًّا لست أتفق مع أي من الناقدين؛ لأني أقف مع ألبير كامي حين يقول بأن الانتحار رفضٌ عابر، أما الحياة فرفض دائم. يتبقى بعدئذٍ أن الأقصوصة الفرنسية عميقة الصلة ووثيقة الارتباط بالحضارة الغربية في المرحلة الراهنة؛ حيث تتبوأ مأساة المصير الإنساني قمة الاهتمامات الفكرية، كما تتبوأ لامعقولية الوجود ذروة الانشغال العلمي والفلسفي. ومع هذا لا تنعكس هذه الأزمة على بناء القصة القصيرة بمزيد من التعقيد الفني في الشكل، وإن انعكست — كما قلت — على الدراما والشعر، أما أدباؤنا — بعضهم على وجه الدقة — ممن تؤثر فيهم الثقافة الغربية تأثيرًا عميقًا، فإنهم يتأثرون في مجال القصة القصيرة بمسرح اللامعقول والشعر الميتافيزيقي. ويتجاهلون بذلك خصائص حضارتهم، الأمر الذي لا يُقدِم عليه مطلقًا أديب أوروبي أو فنان أمريكي.
خصائص حضارتنا لا تعني التخلف عن العالم. وهذا ما يجيء لنا به نجيب محفوظ في رؤيته لدنيا الله. إنه يمتص أعمق ما جاءت به ثقافة الغرب وحضارته ويتمثَّل أعمقَ سمات مجتمعه وحضارته، ثم يعاني معاناة الأنبياء، روعة التفاعل الخلاق بين هذه وتلك. ومن هنا تجيء صياغته شاملة لمأساة الوجود ومأساة المجتمع معًا.
كان نجيب بعيدًا عن الغموض أو التعقيد، كما كان بعيدًا عن المباشرة أو التقرير، فراح يبني شخوصه من أعماقنا، وينسج أحداثه من جزئيات حياتنا، ويحرك هذه وتلك وفق اتجاهات الرؤيا الشاملة التي تصوغ من العمل الفني، من الأقصوصة بالذات، موقفًا حضاريًّا. فإذا كتب لنا قصة «موعد» وكانت الشخصية الرئيسية لرجل يمتلك محلًّا لأعمال الكهرباء. تفاجأ زوجته بأنه لم يعد يغادر البيت كما كان قبلًا. وأصبح يشرب الخمر بين أطفاله، ويقرأ في كُتُب الأرواح والتصوف بتركيز يدعو إلى الدهشة، وقد اكتسى بصمت ثقيل لا يخفف منه مداعبات ابنته، ولا تبدده تساؤلات زوجته عما جرى في الدنيا. ماذا حدث؟ «هو يشعر بأن كل شيء يخصه هباء؛ الأبوة هباء. الحب هباء. الزوجية هباء. ويرى كل معنى وهو يتلاشى في النسيان والضياع. وهو في الحقيقة لاشيء يبكي لاشيئًا، البكاء نفسه لا حقيقي كالقراءة، كالخمر، كهذه الأنغام الصادرة عن الراديو تنعَى الحياة كلها.» لهذا تزداد وحدته عمقًا ويأسًا، كلما رأى في طفلته رمزًا للسعادة الواهمة «إنها الوحيدة التي تبدو جديرة بالحياة. تحياها ببساطة وبلا معنًى ولا تفكير. وهي الوحيدة أيضًا التي لا تعرف الموت ولا اليأس ويبدو كل شيء لعينيها العَسلِيَّتَين خالدًا سعيدًا خاضعًا.»
شيء صغير للغاية هو الذي أدار هذه التأملات في وجدان الرجل، فقد عرف أنه سيموت. وبين حياته وموته لم يعرف شيئًا. عاش في غمرة ذهول حياته اليومية بجزئياتها السخيفة واهتماماتها الأكثر سَخَفًا. ولم يُدرك قط في إحدى اللحظات أن وجوده يفتقد المبرر والدلالة؛ بل ولن يدرك في المستقبل شيئًا، مهما اتسع هذا المستقبل إلى ملايين السنين وطوى في غباره ملايين البشر. وحينما أتاهم «الشيء الصغير» وعرف أنه سيموت، تحولت دفة البحث عن اللامعقول إلى بشاعة المصير «في الظلام تطمس معالم كل شيء إلا الموت، الموت وحده يرى بلا ضوء، وهو كالظلام لا شيء يؤخره عن ميعاده. وإذا جال بالخاطر فَقَد كلُّ شيء معناه وقيمته وحقيقته»، «ماذا يطلب من الحياة في الأيام الباقية؟ ويجيء الجواب: كل شيء، ويجيء الجواب: لا شيء، وهنا يستوي كل شيء ولا شيء.» لذا يعود «الحلم» وسادةً طرية لنا نحن الموتى الذين نأكل ونضحك ونتحرك، نحن الذين تلدنا أمهاتنا على حافة القبر كما يقول صمويل بيكيت. الفرق بين مدرسة اللامعقول في أوروبا واتجاه نجيب محفوظ، أنهم يرون العالم ينهار من الخارج، أن سقف الكون يتهاوى فوق رءوسهم، أن الحلم هو التجسيد الفوري لذكريات الماضي، ثمرة السعادة اليتيمة، التي يمكن قضمها بسرعة قبل النهاية، قبل المصير. وهي ثمرة يقضمها «هام» في «نهاية اللعبة» عند بيكيت وهو يبكي، ويقضمها العجوزان في «الكراسي» عند يونسكو وهما يضحكان، ولكنه ضحك من نوع خاص يصفه يونسكو بقوله: «نحن نضحك لكيلا نبكي» فانهيار العالم لا يعطي حلًّا وسطًا بين الهستيريا والجحيم. أما نجيب محفوظ، فالعالم لا يتهاوى في رؤياه من الخارج فحسب، إنه ينهار من الداخل أيضًا. لذلك يكون الحلم بمثابة التجسيد المأساوي لأزمة التناقض بين الواقع بمنطقنا التقليدي، والواقع كما هو في الحقيقة التي لا ندري عنها شيئًا. فتكون كُتب الدين والتصوف هي سبيل ضابط المباحث (في ضد المجهول) للوصول إلى وحدة الوجود العليا، وتكون كتب تحضير الأرواح هي سبيل «جمعة» في قصة «موعد» كامتداد لأحلامهما الهالعة من الانهيار الداخلي العنيف. كذلك يمسي الموت هو الحدث المادي الذي يُسدل الستار على تراجيديا الانهيار. وكما كانت الأحلام من نوع خاص، والكتب من نوع فريد، فالموت أيضًا يأتي بدلالة مميزة. فقد مات الرجل في قصة «حادثة» بعد أن كتب رسالة إلى أخيه قال فيها: «لقد تحقق لي اليوم أكبر أمل في الحياة» … كذلك ﻓ «جمعة» الذي عرف أنه سيموت، ويرسل في طلب أخيه ليوصيه خيرًا بزوجته وطفلته، جمعة هذا لا يموت؛ بل يصل أخوه ويستمع إلى وصاياه، ويموت في الطريق بعد نصف ساعة!
الحلم، وكُتُب الدين أو التصوف أو الأرواح، والموت، مجموعة من العناصر الفكرية والتعبيرية في وقت واحد، في دنيا الله، في عالم نجيب محفوظ.
•••
الحلم يتخذ لنفسه ثلاث صور في هذه المجموعة من الأقاصيص. الصورة الأولى أن تكون الأقصوصة كلها حلمًا، أو شيئًا كالحلم، شيئًا قريبًا من المدينة الفاضلة، كما نرى في قصة «حنظل والعسكري»، التي كادت أن تكون حلمًا جميلًا لإنسان هذا العصر الذي يهرب من واقعه بحقن المخدر، ويهرب من المخدر إلى الحلم الجميل بأن تصبح الحياة رائعة دون حاجة إلى المخدر، إلا أن «الواقع» يوقظه بحذاء الشُّرطي الذي لا يرحم. وفي قصة «مندوب فوق العادة» يظل رسول المدينة الفاضلة، رسول الأحلام، يصرخ بأعلى صوته أن الغلاء فاحش والموظفين تُعَساء والعالم مُنحَل، فيكون مصيره قسم الشرطة لأنه «مجنون»! وفي قصة «دنيا الله» يجلس عم إبراهيم على شاطئ أبو قير وقد بدا أنه انطلق من أغلال الهموم وأنه يُحلِّق في حلم … القصة هنا — في هذه القصص الثلاث — تبدو كلها كما لو كانت حلمًا؛ بل يبدو أن الفنان يصوغ نسيجها الأساسي من مادة الحلم، كمرآة صادقة لبشاعة الواقع. كما أن الفنان يصوغ أزمة التناقض بين الحلم والواقع في الشخصية الإنسانية من نسيج «الانهيار» النفسي الحاد الذي يحطم شخصية حنظل تحت وطأة الكوكايين، ويحول الشخصية العادية إلى مندوب فوق العادة، إلى إسماعيل بك الباجوري، إلى إنسان يصفونه باللطف … وهكذا يُلِح نجيب محفوظ على عنصر «الانهيار الداخلي» في تكوينه للوجه الاجتماعي من التراجيديا الإنسانية الكبرى. فإذا قال حنظل: «كنت قويًّا فضعفت، وبيَّاعًا فأفلست، وأحببت فتلوَّعت، وأدمنت، ثم تسولت.» لا يكون هذا اللحن الجنائزي إلا تمهيدًا للسِّمفونية الحزينة الكبرى «وشعر بضعف وتقزز وغثيان، ووحدة في الأعماق، وخوف.»
وتؤدي أزمة التناقض بين الحلم والواقع إلى موقف الشك العميق في طبيعة الوجود (وهو موقف مختلف تمامًا عن موقف كمال في الثلاثية) فالواقع يُمسي نوعًا من الحلم، والحلم يصبح نوعًا من الواقع، وهكذا يطفو من أعماق نجيب محفوظ وعلى سطح وعيه، ذلك الموقف البرجسوني القديم الذي نشره فيما سبق بكتاباته الفلسفية، وبعض صفحات الثلاثية. إذ هو يصوغ الكثير من أقاصيص «دنيا الله» في حدود هذا المعنى: أليست الأحلام شيئًا واقعيًا يحدث لنا بالتجربة، ويؤثر في سلوكنا العملي؟ والواقع، أليس هو الإطار الخارجي من الأحداث والمواقف، الذي يضم داخله أحلامنا؟ أليس الواقع أسيرًا لهذه القشرة «العاقلة» التي ندعوها وعيًا، ويتبقى بعد ذلك الجزء الكبير من عالمنا، الذي يدعوه فرويد باللاوعي، والذي يجعل من واقعنا حلمًا ومن أحلامنا واقعًا؟ وتغدو «الحقيقة» بين الحلم والواقع شيئًا واحدًا ذا وجهين، شيئًا «يحتمل» كل شيء، ولا يكاد «يجزم» بشيء (ومرة أخرى، هو موقف بعيد الشبه عن موقف كمال، كما سنُدلِّل على ذلك بعد قليل). كمال عبد الجواد كان مرتابًا في جزئيات الواقع، ولكنه لم يناقش قط هذا الواقع ككل، كوجود. لقد ناقشه من زاويتَي الحياة والموت، الوجود والعدم، ولكنه لم يناقش قط طبيعة هذا الكون. أجل، كانت له اهتماماته الميتافيزيقية التي مرَّغته بين المثالية والمادية في مختلف مستويات كلٍّ منهما، لكنه لم يصل قط إلى الريبة في شكل هذا الوجود ومضمونه: ما معنى أن يكون ماديًّا أو غير ذلك، ما معنى أن يكون واقعًا أو حلمًا أو الاثنين معًا؟
إن هذه التساؤلات تؤدي بدورها إلى الصورة الثالثة لمعنى الحلم في «دنيا الله» وهو الرؤيا الحدسية، التي جعلت ضابط المباحث في قصة ضد مجهول «ظل ساهرًا يفكر، ونازعته رغبة في الهرب إلى عالم شِعره الصوفي؛ حيث الهدوء والحقيقة الأبدية. حيث تذوب الأضواء في وحدة الوجود العليا.» كما جعلت الكهربائي في قصة «موعد» يرى نفسه طليقًا يجوب الآفاق «فوق طيارة تحلق في الفضاء في سفينة تمخر عباب المحيطات، على مركبات لا حصر لها ولا عدد. ينطلق من غابة إلى بحيرة، ومن جبل إلى سهل، يخوض الرياض والرمال والمدن. يجوب مناطق حارة ينصهر بها الحديد، وبقاعًا متجمدة تتجمد فيها النيران. ويرى من الناس أشكالًا وألوانًا.»
وليس غريبًا بالطبع أن يكون «الموت» هو القضية الأساسية في القصتين السابقتين، النهاية العبثية والأم الشرعية لليأس. لذلك يعود الحدس، وكافة وسائل التصوف، سيدًا للموقف الميتافيزيقي، بعدما أعلن العلم أن الأمر يخرج عن دائرة نفوذه. فاختلاط الواقع بالحلم هو البناء التعبيري للرؤية الحدسية. والمريض إذا بحث عن ولي الله في قصة «زعبلاوي» فإنه لا يعثر عليه إلا إذا تخدر وغاب عن الوعي. «ضاعت ذاكرتي، اختفى المستقبل، ودار بي كل شيء ونسيت ما جئت من أجله … وفي أثناء نومي حلمت حلمًا جميلًا لم أحلم بمثله من قبل. حلمت بأنني في حديقة لا حدود لها، تنتثر في جنباتها الأشجار بوفرة سخية، فلا ترى السماء إلا كالكواكب خلال أغصانها المتعانقة، ويكتنفها جو كالغروب أو كالغيم. وكنت مستلقيًا فوق هضبة من الياسمين المتساقط كالرذاذ، ورشاشُ نافورةٍ صافٍ ينهل على رأسي وجبيني دون انقطاع. وكنت في غاية من الارتياح والطرب والهناء، وجوقة من التغريد والهديل والزقزقة تعزف في أذني، وثمة توافق عجيب بيني وبين نفسي وبيننا وبين الدنيا، فكل شيء حيث ينبغي أن يكون بلا تنافر أو إساءة أو شذوذ، وليس في الدنيا كلها داعٍ واحد للكلام أو الحركة، ونشوة طرب يضج بها الكون. ولم يدُم ذلك إلا فترة قصيرة فتحت بعدها عيني. أخذ الوعي يلطمني كقبضة شُرطي.»
ويحق لنا الآن أن نتساءل: هل تحوَّل نجيب محفوظ عن منهجه العلمي وفكرته المادية في «أولاد حارتنا» إلى منهج ميتافيزيقي وفكرة مثالية ورؤية حدسية في «دنيا الله»؟ الحق أن السؤال يتضمن تجاهلًا لما كان عليه هذا الفنان من تطلُّع ميتافيزيقي في «أولاد حارتنا» لم يُصبه تعديل في «دنيا الله»، وإنما أصبحت وجهة النظر أكثر رحابة وعمقًا. ولو أنها تحولت إلى رؤية ميتافيزيقية محض، لما كانت دنيا الله عالمًا مأساويًّا كما يراها نجيب الآن.
«أولاد حارتنا» صياغة، علمية وميتافيزيقية في آن واحد، لمأساة البشرية. لذلك تفوح منها رائحة المأساة على الطريق، وتنتهي بالتفاؤل. كان الفنان يرى أن الشر الاجتماعي، الصراع الطبقي، سوف يُحل بالاشتراكية. ويتفرغ الإنسان حينئذٍ لمأساته الأزلية، فيحل مشكلة الموت بالعلم، ويصل إلى الله من نفس الطريق. لم يكن الله عنده قوة مفارقة للوجود، وإنما كان هذا سر الوجود ولغزه، الذي ندعوه يومًا بالمطلق، ويومًا آخر بالحقيقة، وهكذا. هذه المزاوجة بين مأساة المجتمع ومأساة الوجود صاغتها «أولاد حارتنا» في إطار الحل الاشتراكي لمأساة المجتمع الطبقي الذي يستوجب النضال الثوري. كما صاغتها في إطار التطلُّع الميتافيزيقي إلى حقيقة هذا الوجود الذي يستوجب التساؤل المستمر. وكان الأثر العام للعمل الفني ككل هو التفاؤل الشديد بمستقبل الإنسان.
نجيب محفوظ في «دنيا الله» يصر على حل المأساة الاجتماعية من خلال أحلامه الإنسانية في عالم أجمل وأفضل. كما يصر على التطلع الميتافيزيقي إلى مأساة وجوده. ومع ذلك فنحن ننتهي من التجوال في دنيا الله، أو عالم نجيب محفوظ الجديد، والمرارة تملأ حلوقنا بطعم المأساة وضراوة القلق وعنف الشك والارتياب، فلا تصيبنا قطرة من تفاؤل، ولا نسقط في هاوية اليأس.
ذلك أن الفنان ما يزال على وعي عميق بقيمة العلم في حياتنا الاجتماعية، وأنه قادر على حل الكثير من القضايا المعلقة في سماء واقعنا اليومي. غير أن هذا الإيمان الكبير بالعلم والمنهج المادي في المعرفة سرعان ما يهتز في لقاء قضية القضايا، لامعقولية الوجود والمصير العبثي. لذلك يزداد التطلع الميتافيزيقي لدرجة الالتجاء إلى الحدس والارتياب في طبيعة الوجود التي تقع على الحافة الحادة بين الحلم والواقع. وتنزوي محنة المجتمع كمشكلة فرعية أمام بشاعة المأساة (الأصلية) هذه المرة، لذلك تعالَج المشكلة الاجتماعية عبر القضية الكبرى لا كمشكلة قائمة بذاتها. كما أنها تنبع من إحساس إنساني بتعاسة الإنسان فوق هذه الأرض (أي ما دامت المأساة هي التعريف الوحيد الذي ينطبق على حياتنا «فيجب» أن نعيش أيامنا في حالة طيبة). ومن هذا الإحساس تنبع معالجة الكاتب لمأساة المجتمع من المستوى الإنساني العام والمطلق.
وهكذا يزاوج نجيب محفوظ بين العِلم والحدس في رؤياه الفنية، وهو امتداد، كما قلت، لمنهجه السابق؛ إذ هو لا يحيط الكون بسياج مادي خاضع لجبرية مطلقة، ويصمت، أو يظل يثرثر في قضية الصراع الاجتماعي. إنه يثير من جديد قضية العلاقة بين الإنسان والله، الإنسان والوجود، جنبًا إلى جنب العلاقة بين المأساة والمجتمع. ثم يضيف أن قضية العلاقة بين الإنسان والله هي القضية الأساسية في الوقت الراهن «بعد أن استقرت الاشتراكية في هذا العالم». هذا التزاوج بين العلم والحدس في دنيا الله يُكسِب المأساة طابعًا عميقًا، لا يستدر منا الدموع ولا الضحكات التي كالدموع، وإنما يتركنا في حيرة بعيدة تمامًا عن التفاؤل، ولا نقترب كثيرًا من اليأس. وأنا أعد هذه الحالة السيكولوجية ذروة المأساة.
هذه المزاوجة الفكرية التي تتضح في أزمة التناقض بين المجتمع والكون، وبين الإنسان والمجتمع، وبين الإنسان والكون. ثم بين الحلم والواقع، وبين النسبي والمطلق … إلى بقية هذه التناقضات التي نلتقي بها في دنيا الله؛ كانت تلتقي هي نفسها بمزاوجات مماثلة في البناء التعبيري؛ فقد صيغت الشخصيات من الداخل والخارج، بسماتها الفردية الخاصة. ودلالاتها الرامزة، ورسمت الأحداث وفق اتجاهٍ يجعل من الأقصوصة موقفًا بالمعنى الفني، ويجعل من المجموعة كلها وجهة نظر بالمعنى الفكري. والتزاوج بين الموقف ووجهة النظر هو الذي أعطى هذا العمل الكبير صفة «الرؤيا» الفنية. وهي صفة معاصرة تطلق غالبًا على الشِّعر، وإطلاقنا لها على دنيا الله أو عالم نجيب محفوظ الجديد ليس من قبيل المجاز، وإنما لكونها تتسم بالكثير من خصائص الشعر. فمنذ «اللص والكلاب» ونجيب محفوظ يتجاوز بلغته وأخيِلَته وصوره قضيةَ الفُصحى والعامية التي شغلت جميع الدارسين لأدبه، إذ كان ثمة تناقض بين البيئة والشخصيات الشعبية، وهي الخامة المالئة لأعماله الفنية، وبين اللغة الخالقة لهذه البيئة، الصانعة لهذه الشخصيات. غير أن هذه المرحلة الحديثة في تطور نجيب الفني تقول شيئًا جديدًا تقول إن استخدامه الخجول قديمًا لبعض اللفظات العامية، وتقعُّره الكلامي في استعمال اللغة العربية بات غير ذي موضوع. فقد تجاوز في إنتاجه الجديد مشكلة الفُصحى والعامية، بأن جاءت لغته مزيجًا عفويًّا (والعفوية هنا بالغة الأهمية لأن التعمُّد يفسد العلاج الفني ويبرز التناقض أكثر فأكثر) من خصائص التركيب المصري واللفظة العربية والشحنة النفسية والومضة الذهنية والتعبيرات المتأثرة بالأدب الغربي، وأدوات التعبير الأخرى من سَردٍ وحوار ومونولوج داخلي وأحلام، جميعها أسهمت في بناء لغة جديدة في أدب هذا الكاتب جعلت من قضية الفُصحى والعامية على المستوى الفني قضية بائرة، وأحلت مكانها قضية اللغة الفنية التي تشكل عنصرًا خطيرًا في بناء الرؤيا الفنية للكاتب التي يدعوها الشعراء في قصائدهم بالرؤية الشعرية وندعوها في الأدب النثري المشبَّع بالشعر، بالرؤيا الفنية فحسب. ليس معنى ذلك أن هناك لغة شعرية (كمجموعة مختارة من الجمل والألفاظ والحروف) وإنما هناك فهم جديد لوظيفة اللغة. فبعد أن كانت أداة للتعبير أضحت هي نفسها جزءًا من التعبير. لم تعد وسيلة، وإنما هي تشترك في غائية العمل الفني ككل، بإسهامها الخلاق في بناء ما ندعوه بالرؤيا الفنية للكاتب.
والرؤيا الفنية ليست طِلَّسْمًا من طلاسم كُتُب السحر، كما أنها ليست شيئًا بسيطا على الإطلاق. إنها — كما قلنا — جِماع الأقصوصة كموقف فني، ووجهة النظر الشاملة التي تحصل عليها من مجموعة القصص بكاملها. وليس هذا التعريف إلا تبسيطا للأمور.
في دنيا الله يخطط الفنان لرؤياه هكذا: يخصص حوالي نصف المجموعة لمأساة المجتمع في إطار الحرمان من الخبز أو الجنس أو المعرفة أو كلها مجتمعة. ثم يعود فيركز هذا الإطار الرحب في إطارٍ أكثرَ تحديدًا هو «الحرية» بمعناها الشمولي الواسع، الذي يتضمَّن إشباع الاحتياجات الأساسية للبشر. ثم يضيف أن إشباع هذه الاحتياجات هو الوسيلة الوحيدة لإسعاد الإنسان في هذا العمر القصير الذي يبدأ بلا مبرر وينتهي بفاجعة. ويخصص النصف الآخَر من المجموعة لتأكيد لامعقولية البداية وبشاعة المصير، لا لنهوي إلى حضيض اليأس، وإنما لكي نرتفع بتلك المرحلة القصيرة — بذلك الحلم — بين البداية والنهاية، إلى مستوًى إنساني جدير بالحياة. ويهمس لنا في قصة «ضد مجهول» بأن «مجرد الوجود في الحياة» يستحق أن نفرح به، وأن نعيش من أجله. إن الموت يهدد جميع الشخصيات ويحير بِصَمته العِلمَ والدين والفلسفة، يزلزل «كافة القِيَم في الحياة»، «حتى الإيمان الراسخ ينهزم»، أي إن العالم الداخلي ينهار ويتحلل (وهذه هي الأقصوصة كموقف فني)، ثم يبزغ دور الفنان في بناء العالم من جديد «في الحب والشعر والوليد» كما يتخيَّل ضابط المباحث وهو يكافح المجهول الذي يسلب الضحايا حياتهم، كما يهب الحياة لذلك الذي تنتفخ به بطن زوجته في نفس اللحظة. هذا البناء الجديد للعالم هو جوهر الرؤيا الفنية عند الكاتب. ولكن، ما هي تفاصيل هذا البناء؟
في قصة «جوار الله» يصل إلى علم عبد العظيم أن عمته تحتضر تحت وطأة الشلل «فاستغرقه التفكير في الحال التي سقطت بها العمة نظيرة. ما أشبهها بموت أبيه وموت جده من قبل، ولعل حينه إذا حان أن يجيء على نفس الحال، يا لها من ميتة سريعة لا يدري أحد عنها شيئًا»، «أما أبوه فمات في الستين دون زيادة فلا قاعدة هناك يركن عليها، والأمر لا يعدو أن يكون طيشًا وعبثًا.» ومع ذلك يهتم عبد العظيم وشقيقته اهتمامًا كبيرًا بالميراث، حتى إنه يمشي في الجنازة ولا يفكر إلا في الميراث. بل ينتهي كل شيء في هذا الصدد قبل أن تنتهي الجنازة، فالمحامي يقول كل شيء، والسمسار يشتري البيت الموروث. والمرحومة لم يكن قد استقر مقامها الأبدي بعد. حقًّا، كان وجهها الشاحب وهي تحتضر يذكره باحتضار أبيه فيثير أشجانه، وقربها منه آلمه أشد الألم «كأنه حجر مغروس في جنبه»، ولكن الأطفال والبيت والزوجة والمستقبل، كلها كانت تواسيه حين يعود يائسًا من موت عمته؛ بل كانت البهجة تخترق قلبه أحيانًا فلا يذكر سوى الهناءة التي يعيش في ظلها مهما ضؤل المرتب واستدان أجر المعطف … إلخ. وازدادت هذه الهناءة أحيانًا أخرى كلما فكر في الميراث المنتظر، حتى إنه لم يجد في إحدى اللحظات ما يتسلَّى به إلا التفكير في هذا الميراث. ولكنه قبل أن يُوسِّد عمته منامتها الأخيرة مضى «إلى القبر المفتوح ووقف عند رأسه مُذعِنًا لرغبة غامضة أقوى من الخوف الذي لم يَصُدَّه. كان القبر ذا منامتين، واحدة للرجال وواحدة للنساء، وأرسل طرفه الحائر نحو منامة الرجال، رآهم صفًّا متراميًا إلى الداخل على رأسهم أبوه الذي استدل عليه بموضعه وبلون كفنه الكمُّوني المقلم، وتلاه أخوه، ثم جده. وثقل قلبه جدًّا. وضغط الانقباض على ضلعه ضغطًا غير محتمل لكن عينيه تحجرتا فلم تذرفا دمعة واحدة. وامتلأت خياشيمه برائحة تُرابية نافذة كأنما تصدر عن الفناء نفسه ومرت لحظة مات فيها كل شيء، فلم يعد للأمر قيمة ولا معنًى. وشعر بيد تُوضَع على كتفه فالتفت فرأى الحاج وهو يشير إليه أن يتخلَّى عن مكانه للدافنين، وسرعان ما تراجع. وبدأ العمل فحمل الجثمان ليُودَع مقرَّه الأخير وانبعثت آيات من صوت كئيب كأنما ينبعث من خزانة للأحزان. وبدأ التلقين في رتابة مَخُوفة مضجِرة، ألقته حناجر أشباح شائهة، فحلت به جملة ألغاز الأبد. وقال عبد العظيم لنفسه: يا لها من أسئلة، ولكن كيف يتاح الجواب لمنفرد بظلمة القبر.» راح عبد العظيم يساوم السمسار على بيع البيت. وخياله يسرح في ظلمة الفناء، حتى «بدا كأنه يعجب من كثرة القبور» وعندما زين له السمسار نتائج البيع بأنه سوف يكون الوارث الوحيد، ما دامت شقيقته تُسلِم له قيادها، أخفى عينيه عن صاحبه وعن القبور «بالنظر إلى الأرض»! وعندما أجاب على السمسار بالموافقة وهو يغادر ساحة الفناء لوَّح الرجل بذراعه كأنما يقول: اتفقنا «فانطلقت ذراعه في الهواء كشاهد من آلاف الشواهد القائمة حوله فوق القبور.»
هذه الأقصوصة تثير — من جديد — قضية الموت في عالم نجيب محفوظ. فهو إما أن يتم بالشلل المفاجئ أو الحبل المجهول أو حوادث الطريق، أو أي من هذه المفاجآت الفاجعة. ثم يقترن بشيء آخر لا يفارقه. هو الحب والشعر والوليد عند ضابط المباحث، وهو الطفلة لولو عند جمعة الكهربائي، وهو الميراث والأطفال والزوجة والمستقبل لدى عبد العظيم، وهو النجاة أو الخلاص بين جدران المسجد لسكان حي البغاء دون الشيخ عبد ربه. وهكذا نستعيد نهاية الثلاثية: كمال يشتري رباطًا أسود للعنق استعدادًا لليوم الحزين (وفاة أمينة) وياسين يشتري قماطًا لوليد ابنته كريمة، بينما والد الطفل القادم وعمه (عبد المنعم وأحمد) في معتقل الطور. أحدهما استطالت لحيته من الداخل أكثر من الخارج. والآخر يتغنى بأنشودة الثورة الأبدية. بينما يقطع كمال مرحلة الشك المريرة ليبدأ مرحلة جديدة لا تحل الأزمة وإنما تُبَلْورها في الثورة الأبدية، في منهج الانطلاق اللانهائي.
الثورة الأبدية هي التفتح المستمر على كافة جوانب الحياة والموت، هي التفكير في الزوجة والأطفال والميراث، والقلق على المصير الذي ترسمه الذراع عندما تلوح كأحد شواهد القبور. ويخلق الجو الشعري خلقًا في غمرة العواطف الجياشة المتضاربة، وفي حمأة الانفعال العنيف وسط الظلام، وعلى جناح الخيال في زورق الأحلام. ولا تعود اللغة أداةً للحوار أو السرد أو المنولوج، وإنما تغدو عنصرًا ثوريًّا من عناصر الثورة الأبدية فيشارك الموت أخيِلَته ويمنح الحياة مباهجها سواء بسواء، كمشاركته الشخصية في تكوينها الإنساني والرمزي، والحدث في حركته المادية ودلالته المحورية.
الثورة الأبدية، أيضًا، هي الاستسلام والتمرد على الجبار الذي يقود عم إبراهيم من المسجد إلى السجن، ويسوق شلضم من الحلم إلى القِسم، ويرغم «أبو الخير» على مواجهة المصير. الجبار هو الشخصية التي لا تُرى إلا لمامًا، ولكنها كالموت تتصدى لروعة الحياة، لمجرد الوجود في الحياة، لأحلام الحياة. الثورة الأبدية هي الانطلاق الكامل من أغلال الحلم والواقع، والتخلُّص التام من أسر «القولبة» أو التقولب الذي لا يصنع سوى تجميد الحياة في إطارٍ من الحتمية الصارمة. لهذا وقعت مأساة أبو الخير فيما يشبه المصادفة، فقد غلبه النعاس ذات ليلة في مخزن الغِلال بدوار سيده الجبار، وفي الظلام الدامس «أي مكان؟ أي زمان؟» أحس بحركة اعتداء وحشية من جانب الجبار على جانب غاية في الضعف هو شرف زنوبة بنت عليوة. من يكون هذا المعتدي؟ هو «عبد الجليل، الجبار، السلطة، القانون، الحياة والموت» بهذه الكلمات القليلة، أنصح الفنان عمن يكون الجبار الذي يتراءى لنا في صور عديدة بكثير من القصص، هو رمز مفتوح لكافة الاحتمالات، فما إن تلوح بخاطرنا معاني السلطة والقانون، وبعبارة أدق معنى الحرية، حتى يدهمنا أبو الخير بأن «الذنب ذنبه هو لا ذنب الجبار الذي لا يسأل عما يفعل.» ويحس بأن الورطة ورطته هو لا ورطة زنوبة وحدها، بل «نسي زنوبة وانحصر تفكيره في وجوده غير المبرر في هذا المكان.» وعلى الفور تذكر العباسية في قصته «ضد مجهول» وكيف كانت رمزًا بينًا شاملًا للكون. كما كان الحبل المجهول رمزًا واضحًا للمصير. وهنا يمكن القول بأن مخزن الغِلال هو الكون (حيث الزمان نوع من المكان، والمكان نوع من الزمان) كما يقول سلامة موسى في يوتوبياه «خيمي» بكتابه «أحلام الفلاسفة» أو كما يتساءل نجيب محفوظ في الأقصوصة: «أي مكان؟ أي زمان؟» ويمكن القول بأن «أبو الخير» هو الإنسان، وأن الجبار هو المجتمع بقِيَمه وسلطاته وقوانينه المجتمع الذي لا يُسأل عما يفعل. وإن وجوده غير المبرر في هذا العالم هو الذي أدى إلى أزمة التناقض بينه وبين المجتمع الجبار ممثلًا في السلطة. وموقفها من الحق والعدل والحرية. وتنتهي الأزمة لمصلحة الجبار والزيف والشر واللامعقول، فلا يفلت الإنسان من قبضة الجبار ويعود صاغرًا ليلقى مصيره غير العادل وغير المبرر، تمامًا كوجوده منذ البداية. أي أنْ تكون مأساة وجوده ومصيره (اللامعقول والموت) إطارًا تراجيديًّا لمأساة حياته التي قضاها هائمًا على وجهه، هاربًا من سطوة الجبار وجبروته.
ويمكن تفسيرها على وجه آخر؛ كأن يكون الجبار هو الشخصية التي ذكرت أننا نلتقي بها كثيرًا في دنيا الله، كناية عن الموت والمجهول … إلخ. غير أن هذا التفسير يجمد العمل الفني ولا يمنحه رحابة التفسير الأول بالرغم من تعقيده وبساطة الآخر.
التفسير الأول يتخذ لنفسه شكلًا مُركَّبًا لأنه يتكون من مجموعة مختلفة من أبعاد المأساة، فلامعقولية البداية تخلق وجودًا غير مبرر، وعبثية المصير تخلق من الموت نهاية بشعة، ولا يبقى للإنسان إلا أن يهيم على وجهه فيما بين البداية والنهاية. تنهد أبو الخير وسأل صاحبه إذا كان يمكنه أن يعلن الحقيقة، وهي أنه بريء من الجريمة المنسوبة إليه، ويعلن أن الجبار هو المجرم (وهو هنا يتجاوز بطل كافكا في «القضية»؛ إذ لم يعد مُتهمًا في قضية مزيفة أو غير قائمة أصلًا، وإنما هو يعرف أن ثمة جريمة اشترك فيها بوجوده غير المبرر. إنها مزاوجةٌ بين كافكا وكامي، بين «السجين» و«الغريب» مضافًا إليها الرمز الاجتماعي المُلِح على وجدان نجيب محفوظ، كأن يكون الجبار هو السلطة الاجتماعية القاتلة للعدل والحق والحرية)، وأن يكون هيام «أبو الخير» على وجهه تجسيدًا لهول الثورة الأبدية، ثم تكون عودته بنفسه ليلقى المصير، قمة هذه الثورة ورمزيتها مهما تهامس الناس قائلين: ضاع أبو الخير، انتهى أبو الخير.
سأل أبو الخير صديقه إذن عما إذا كان في استطاعته أن يعلن الحقيقة فينجو فما كان من صاحبه إلا أن هز رأسه محذرًا وقال: «يقتلونك ولو في المحكمة.
فتساءل في حيرة: والعمل؟
– اختفِ.
– طول العمر؟
فرفع الرجل رأسه إلى السماء دون كلام، فقال أبو الخير: الولية والبنت في القرية تحت رحمة الجبار بلا معين.
– فكر في حياتك.
فتنهد في كرب شديد وتساءل: أين القانون؟
فضحك صاحبه ضحكة جافة وقال: «تجده نائمًا في بطن بطيخة …»
هذا الحوار الدقيق يَشي بأنه إذا كان المجرم هو القاضي «فلا أمل» في النجاة، لا أمل في استخلاص «القانون» من بطن بطيخة. هذه الدقة نفسها تصاحب الحوار التالي بين «أبو الخير» والرجل الآخر: «جريمتي أنني رأيت جريمة الآخر.
– لم نمت في المخزن؟
– أمر ربنا.»
وعلى التَّو نذكر عم إبراهيم في قصة «دنيا الله» حين سُئل: لماذا سرقت؟ فأجاب: الله! أولئك هم أنبياء نجيب محفوظ، هم بُناة رؤياه الفنية. هم بُناة ثورته الأبدية. هم مجموعة من اللصوص والقتلة والمومسات والمشعوذين والأبرياء. ليقوموا في بكائياتهم وحزنهم الجليل وبأسهم الرائع ومخاوفهم وهيامهم على وجه الأرض إلى بقية هذه الانفعالات اللانهائية، ليقوموا بدور «العاطفة» كتجسيم فني لدور «الفكر» الذي يتبلور في المصير واللامعقول والمجتمع إلى بقية الجوانب الفكرية. أي إن الفنان يصوغ أفكاره في الأُطر الوجدانية، لتلتقي الأقصوصة «كموقف» فني مشبَّع بالعاطفة، ﺑ «وجهة النظر» المليئة بالفكر. وقد كان هذا التعادل الغريب بين الفكر والعاطفة، بين التخطيط العقلاني والانطلاق الشعوري العفوي، كان سرًّا جوهريًّا لهذا التوازن البارع في إرساء الكاتب لأعمدة رؤياه الفنية، لانبثاق ثورته الأبدية. كان أبو الخير «من شدة الخوف تجمَّد قلبه فلم يعد يخفق بالخوف. ومن شدة الألم لم يعد يشعر بالألم.» هذا الفيضان الروحي العميق الجذور في الشخصية الإنسانية، كان موازيًّا لحركة الفكر الصارمة الراسخة في شخصية «أبو الخير» الثانية التي جعلته «يشق طريقه بعيدًا عنهم ماضيًا نحو مصيره، وتابعته الأعين وهو يبتعد رويدًا رويدًا حتى لم يبقَ منه إلا ما يبقى في الخاطر من حلم. وهزُّوا الرءوس وقالوا: ضاع الرجل. انتهى أبو الخير …»
غير أن «أبو الخير» لم ينتهِ قط، عم إبراهيم لم يُسجن قط، وإسماعيل الباجوري لن يدخل مستشفى الأمراض العقلية. إن هؤلاء الأنبياء جميعًا ما يزالون يجدُّون في صياغة الثورة الأبدية لنجيب محفوظ، فهي إذا كانت إصرارًا على مواجهة المصير وتحدي اللامعقول، والخروج من دائرة الحتمية المغلقة إلى منطقة الاحتمال المفتوحة، وهي إذا كانت إلحاحًا متصلًا على أن «مجرد الوجود في الحياة» يلزمنا بأن نعيشها في صورة طيبة، وأن نعمل من أجل ذلك، فإنها أيضًا تجعل من «مجرد الوجود في الحياة» سبيلًا إلى التطلع الميتافيزيقي. لذلك كانت قصة «زعبلاوي» في «دنيا الله» امتدادًا لقصة الجبلاوي في «أولاد حارتنا».
كانت «أولاد حارتنا»، كما قلت في فصل سابق، إضافة فكرية ضخمة، قبل أن تكون إضافة فنية، على غير ما يرى بعض النقاد … هذه الإضافة هي التفرغ لمشكلة العلاقة بين الإنسان والله، بين الوعي البشري ولغز الوجود الإنساني. وأن حل الصراع الاجتماعي عبر التاريخ بواسطة الاشتراكية (توزيع الوقف بالتساوي على أهل الحارة) كان إيذانًا ببداية الصراع المرير مع سر الوجود. وقال نجيب محفوظ في ذلك العمل الكبير، إن البشر جميعًا سيتحولون إلى سحرة (علماء) وقد يصلون إلى حل اللغز (إلى معرفة الله أو الجبلاوي). وأولاد حارتنا يظلون حائرين بشأن الجبلاوي: هل هو موجود أصلًا أم لا؟ ويقوم عرفة بمحاولة اغتياله (كشف السر) ومع ذلك فالجبلاوي يشيع أنه راضٍ عن عرفة وأنه يحبه، وأنه هو وأمثاله سوف يعرفونه على حقيقته يومًا ما.
والدلالة هنا غاية في الوضوح، فالعلم قد حل مأساة البشرية على الصعيد الاجتماعي بالاشتراكية، والمعرفة أيضًا في طريقها الطويل سوف تنتصر، سوف تكشف السر العظيم، وتصل إلى الله، إلى الحقيقة، إلى قلب الوجود. وكأني بنجيب محفوظ يعيد صياغة الأسطورة اليونانية القديمة، أسطورة الوحش الرمزي الرابض عند مدخل المدينة يلقي أسئلته على كل من يَهِم بالدخول، ويلتهم كل من لا يحل اللغز، حتى «جاء شاطر وعانقَ الخطر» كما يقول الشاعر، وحل اللغز، ولم تكن سوى بداية المأساة. أما نجيب محفوظ فقال إنها بداية الحياة والعودة إلى الفردوس المفقود.
قصة زعبلاوي هي امتداد لقصة الجبلاوي لأنها صياغة جديدة لذلك التعطش الميتافيزيقي الخالد في النفس الإنسانية، ذلك التطلع الأبدي إلى المجهول والمطلق، إلى سر الوجود ولغز الكون، ذلك التشوق الدائم إلى شيء لا ندري عنه شيئًا ولا ندري له كُنهًا، شيء — بالجملة — لا ندريه! «الداء الذي لا دواء له عند أحد.» كما يهتف بطل أقصوصة «زعبلاوي». إنه رجل أصيب بمرض لم يعرفه العلم ولا العقل، وقد سمع منذ الطفولة بأحد أولياء الله يُدعى زعبلاوي تخصَّص في علاج هذا المرض الوحيد المستعصي. وهذا هو أول الخيط الذي يستدرج به الفنانُ المتلقيَ، إلى أعماق شخصيته الرمزية. فالرجل يسأل الدين عن مكان زعبلاوي، فيجاب فقط بأنه كان «معجزة»، ويسأل بعض الناس في غمرة ذهول حياتهم اليومية فيكتفون بوصفه بأنه كان «دجالًا» ويجيبه بعض العقلاء: لماذا لا يستعين بالعقل؟ ويعطف عليه آخرون بقولهم إنه يندَسُّ بين الشحاذين أحيانًا فلا يميَّز من بينهم. وصاح أحدهم: «الرجل اللغز! يقبل عليك حتى يظنوه قريبك ويختفي فكأنه ما كان.» وثالث يترنم في وصفه: «هو الطرب نفسه، وصوته عند الكلام جميل جدًّا، ما إن تسمعه حتى ترغب في الغناء، وتهِيج أريحية الخلق في صدرك.» فإذا تساءل من جديد: «وكيف يشفي من المتاعب التي يعجز عنها البشر؟
– هذا سره، ولعلك تظفر به عند اللقاء.»
وهناك شبه إجماع على أنه «حي» وإجماع مماثل على أنه قد يحضر الآن، وقد لا يُرى حتى الموت.
وقبل أن نمضي في الصياغة التحليلية لهذه الأقصوصة الكبيرة، ينبغي أن نشير إلى الدور الهام الذي يسنده المؤلف إلى «بيت الله» في هذه المجموعة من القصص. فهو المكان الذي يهرع إليه عم إبراهيم يسكب فيه من ذات نفسه الشيء الكثير الذي ينوء به كاهل البشر جميعًا. وهو المكان الذي يلوذ به سكان درب الفساد فيخلصون من الفناء، وهو المكان الذي كان يعتقد أن يوجد به زعبلاوي. ولكنه لا يوجد به! لماذا؟ أليس هو الله، كما تومئ الإشارات العديدة السابقة؟ أليس هو المطلق والمجهول الذي بحثت عنه شخصيات دنيا الله في كتب التصوف وتحضير الأرواح؟ لماذا لا يوجد إذن في بيت الله؟
لو كان الأمر هكذا، لكان عم إبراهيم وسكان درب الفساد آلهة، أو صورًا من زعبلاوي. أو لكان زعبلاوي نبيًّا وصورة من عم إبراهيم وسكان حي البغاء. عم إبراهيم وأولئك التعساء وإسماعيل الباجوري وأبو الخير، أنبياء فحسب. هم رُسُل الفنان، ومهمتهم بناء رؤياه الفنية على ساحة صلبة من الإيمان بالقِيم الإنسانية تتخذ رمزًا لها «بيت الله». ثم يجيء زعبلاوي أو الله، تكملة لذلك البناء الشامخ. قد لا تخضع جزئيات الأقاصيص جميعها لهذا التفسير، ومع ذلك تبقى الخطوط العريضة تبحث لها عن خريطة محددة، فلا تجد سوى هذه الثورة الأبدية. التي ينطلق منها نجيب محفوظ في بناء رؤياه.
البناء ليس جدرانًا صلبة من مادة الفكر فحسب، وإنما كما قلت هو التجسيم الفني لمجموعة هائلة من العواطف والمشاعر والانفعالات. بل يكاد يكون الفكر هو الشكل والانفعال هو المضمون، إذا لم يكن العنصران شيئًا واحدًا متفاعلًا مليئًا بالصراع والنبض الحي. فإذا كان زعبلاوي هو الله، هو الفكرة أو الحقيقة المطلقة، هو وجهة النظر التي يصوب إليها الكاتب عدسته ويبني منطقه في التفكير ويعيد صنع العالم أو خلقه، فإن البحث عن هذه المعاني جميعها طريق مليء بالأشواك والأهوال «هذا العذاب من ضمن العلاج.» كما يقول أحدهم للباحث عن زعبلاوي. «الأقصوصة كموقف فني» هو العنصر الانفعالي، الشعوري، العاطفي الذي يتفاعل مع العنصر الفكري في وحدة جدلية عميقة تتيح لرؤيا الثورة الأبدية أن تنجلي وتتضح. إن العذاب هو السبيل الوحيد إلى زعبلاوي فلم يعد كائنًا في ذلك البيت الأسطوري (كما كان في أولاد حارتنا)، ولم يعد قاطنًا بين أسوار المعمل (كما كان يعتقد عرفة وحنش) … «هذا الرجل العجيب يُتعِب كل من يريده، كان أمره سهلًا في الزمان القديم عندما كان يقيم في مكان معروف، اليوم الدنيا تغيرت، وبعد أن كان يتمتع بمكانة لا يحظى بها الحكام بات البوليس يطارده بتهمة الدجل، فلم يعُد الوصول إليه بالشيء اليسير، ولكن اصبر وثق بأنك ستصل.» فإن كانت هناك بعض الجزئيات الصغيرة تفلت من تصورنا الشامل للعمل الفني، فما ذلك إلا الرداء الواقعي الذي يكسبه لونًا قريبًا من الأذهان والوجدان.
إن هذه الجزئيات «الواقعية» هي التي تعمق المعنى «الرمزي» لجوهر العمل الفني، فإن تكوُّن العاطفة أو الانفعال أو الشعور مضمونًا للبناء الفكري، يكون الشعر بظلاله وصوره وأنغامه هو إطار هذه العاطفة، فلا نستغرب أن يكون اللص نبيًّا في الشخصية الواحدة، أو ألَّا يوجد زعبلاوي في أحد بيوت الله، وإنما في حانة! إنها الحدث الذي اتخذ شكل المكان المادي حيث حضر زعبلاوي والرجل في غيبوبة الخمر، كما اتخذ دلالة رمزية هي الرؤية الحدسية، الغيبوبة والخدر اللذان أرسلا بالرجل إلى حديقة الأحلام حتى أحس برشاش نافورة صافٍ ينهل على رأسه وجبينه دون انقطاع (وهي اللحظة التي كان فيها زعبلاوي حاضرًا وكأنه المسيح يقوم بعملية العماد المقدس حيث تحل الروح القدس في الإنسان) فإذا لطمه الوعي وأفاق، كان زعبلاوي قد ذهب. وبالمنطق التقليدي يجدُّ الرجل في البحث عن زعبلاوي ويعلن استعداده لأن يعطيه نقودًا، فيقول له: «العجيب أنه لا تغريه المغريات سيشفيك إذا قابلته … بلا مقابل … بمجرد أن يشعر بأنك تحبه.» ما أعظم الشبه بين زعبلاوي والجبلاوي مرة أخرى؟ الفرق الوحيد بينهما أن الطريق لم يعد مقصورًا على سحر عرفة وحنش، لم يعد منطقنا — وريث الحضارات الفكرية السابقة — سيد الموقف الحضاري الراهن، لم يعد العلم وحده قادرًا على تفسير عالمنا، ولم تعد الحتمية هي الكلمة الأخيرة في هذا العلم … هناك — إلى جانب ذلك كله — الحدس والاحتمال … إلى بقية هذه العناصر التي تدفع بالفن لأن يبني العالم من جديد. «وحسبي أني تأكدت من وجود زعبلاوي، بل ومن عطفه عليَّ مما، يبشر باستعداده لمداواتي إذا تم اللقاء. ولكنني كنت أضيق أحيانًا بطول الانتظار فيساورني اليأس، وأحاول إقناع نفسي بصرف النظر نهائيًّا عن التفكير فيه. كم من مُتعَبين في هذه الحياة لا يعرفونه أو يعتبرونه خرافة من الخرافات فلم أعذب النفس به على هذا النحو؟ ولكن ما إن تلح عليَّ الآلام حتى أعود إلى التفكير فيه وأنا أتساءل متى أفوز باللقاء. ولم يُثنِني عن موقفي انقطاع أخباره، فالحق أنني اقتنعت بأن عليَّ أن أجد زعبلاوي … نعم، على أن أجد زعبلاوي.»
وهذه هي الكلمة الأخيرة في رؤيا نجيب محفوظ، رؤيا الثورة الأبدية. ومنهج الانطلاق اللانهائي. إنه عالم واسع رحيب، يقف فيه الإنسان وحيدًا غريبًا «على هذه الأرض» كما تقول المسيحية ويردد ألبير كامي. إلا أن غربة المسيحي مؤقتة، أو مرحلة، أو قنطرة إلى الفردوس الموعود. كما أن غربة إنسان كامي تنحدر به إلى هاوية لا قرار لها من اليأس، فهي لا تعد بشيء. أما غربة إنسان نجيب محفوظ فلا تَعِد بفردوس العالم الآخر، ولا تتوقف نهائيًّا عن الوعد، وإنما هي تعد بأشياء وأشياء في هذا العالم بشرط أن يتسلح غريب هذه الأرض — في مواجهة محنة المجتمع ومأساة الوجود — بالنضال الثوري والتساؤل المستمر. وهما عنصرا الثورة الأبدية، ومحور رؤيا نجيب محفوظ.
وهو موقف بعيد تمامًا عن أن يكون حلًّا وسيطًا بين الغربة المسيحية وغربة كامي. إنها «رؤيا» متكاملة لها بُنيانها الداخلي المتماسك يستمد عناصره من وحي المرحلة الحضارية التي نعيشها ومن صميم قضايا العصر. لذلك لم تتَّسم بالتفاؤل المسيحي الساذج. ولا بالتمرد العبثي اليائس، وإنما اتسمت بطابع المأساة البالغة العنف، الدافعة إلى الحيرة الشديدة والبطولة الثورية في وقت واحد. فلا ريب أن التأكيد الملح على مأساة الوجود الإنساني يملؤنا بالحزن. ولكنه يدعنا في نفس اللحظة أن نتمسك بالحياة. وهذا ما يفسر لنا ما قاله نجيب محفوظ بشأن مسرحية «نهاية اللعبة» لصموئيل بيكيت من أنها لا تعدم الأمل «فالفن خلق والتشاؤم فناء.»
•••
وإني لأحترم الفنان الذي يصور مأساة الوجود احترامًا عميقًا، كما أنني أحترم مأساة المجتمع احترامًا مماثلًا. والفنان الذي يصور المأساتين معًا أحترمه بنفس القدر والعمق. كل ما أرجوه أن يكون العمل فنًّا حقيقيًّا. والفن الحقيقي هو الجوهر العظيم الخالق الذي لا يزيف الإنسان أو المجتمع أو الوجود. لذلك كان الصدق الفني هو المعيار الوحيد للفن الكبير، ولذلك أيضًا كان عمل الناقد — فيما أعتقد — مقصورًا على تحليل العمل الفني إلى عناصره الأولية، ثم صياغتها على نحو جديد، تنجلي به أوجه الاختلال أو التوازن أو الاهتزاز في الرؤية. كالفنان الذي يحلل العالم إلى عناصره الأولية كذلك، ويعيد صياغته على نحو جديد تنجلي به أوجه الانهيار والتحلل أو الانسجام والتماسك. ومن خلال الصياغة التعبيرية لهذا العالم يتبين لنا موقف الفنان ووجهة نظره؛ بل رؤياه، ومن خلال الصياغة النقدية للعمل الفني يتبين لنا موقف الناقد ووجهة نظره ورؤياه.
•••
ورؤيا نجيب محفوظ ليست وليدة طفرة في أدبنا. لقد سبقها صف طويل من الأدباء العرب الذين حولوا الأقصوصة من الحدوتة والحكاية ووجهة النظر إلى الرؤيا.
ورؤيا نجيب محفوظ ليست وليدة طفرة في أدبه، لقد أرسى دعائم ووجهها الاجتماعي منذ «همس الجنون» إلى «الثلاثية»، وبدأ في إرساء دعائم ووجهها الوجودي منذ الثلاثية إلى «دنيا الله» … ومن ثم استطاع طيلة ربع قرن أن يتحول من الأقاصيص ذات الدلالات الجزئية التي تتعاطف مع البشر وتسخط على الظلم، إلى الأعمال ذات المواقف ووجهات النظر التي تصوغ رؤياه الفنية الكبرى ذات الثورة الأبدية.
ورؤيا نجيب محفوظ لم يكتمل بناؤها بعد؛ لأن تطوره — ومنهج هذا التطور — يؤكدان أنه لم يقل كلمته الأخيرة بعد، ومن هذه الزاوية يكون هذا الرجل فنانًا عظيم الانتماء لأنه عظيم الرفض، فهو لم يُغفل مأساة المجتمع ولا مأساة الوجود، أي أنه لم يُغفل الإنسان قط … وهذا هو المنتمي العظيم.