المنتمي في أرض الهزيمة
كبندول الساعة يتحرك أدب نجيب محفوظ في مرحلته الجديدة، لا يتجاوز أبدًا تلك الحركة السريعة القصيرة التي تميل به هذه الناحية أو تلك في لمحة خاطفة، ولكنها لا تسأم هذا «الانتظام» الذي يبدو وكأنه حركة «محلك سر» فما إن نلقي نظرة على آلة الزمن العتيدة حتى نجد الثواني وقد هرولت إلى عقرب الدقائق وأن هذه قد تجمعت حول عقرب الساعات تزحزحه من مكانه بين الحين والآخر فتتوالى الأيام والسنين، وبندول الساعة لا يني عن حركته المنتظمة وكأنه يؤكد الديمومة من خلال الثبات أو ما يشبه الثبات … هكذا أرى أدب نجيب محفوظ في تلك المرحلة التي كانت «أولاد حارتنا» و«اللص والكلاب» و«السمان والخريف» من ثمارها المبكرة.
ولئن كانت «أولاد حارتنا» قد أهدتنا المنتمي المثال، أو المنتمي المفترض، فإن «اللص والكلاب» و«السمان والخريف» قد تخصصتا في المنتمي المحدَّد أو المنتمي الخاص. وإذا كان المنتمي العام والمجرد في «أولاد حارتنا» قد اكتسب سماته الأساسية من الفكر الإنساني في شموله وعالميته، فإن المنتمي المشخص في «اللص والكلاب» و«السمان والخريف» قد اكتسب سماته الأساسية من الفكر المحلي في جزئياته وخصوصيته … ولا ينفي هذا التصور بطبيعة الحال أن ثمة وجهًا خاصًّا بنا في «أولاد حارتنا» كما أن ثمة وجهًا إنسانيًّا عامًّا في الروايتين الأُخرَيين … ولكني قصدت إلى القول بأنه إذا كانت «أولاد حارتنا» تمثل الدليل النظري لنجيب محفوظ في طريق الانتماء الثوري، فإن «اللص والكلاب» و«السمان والخريف» تمثلان أزمة الانتماء المصري التي اكتشفها على ضوء ذلك الدليل. وبالرغم من أن نظرية نجيب محفوظ في الانتماء إلى الثورة هي في النهاية حصيلة تجاربه في الفكر والحياة كما تتضح في «أولاد حارتنا» إلا أن أزمة الانتماء الثوري في مصر إبان الستينيات هي الواقع التفصيلي المحدد الذي عالجه — بكل ما ينضح به من كثافة وثقل — في «اللص والكلاب» و«السمان والخريف» … ومعنى ذلك أنه إذا كان المنهج الواقعي هو الأرض المشتركة بين الروايات الثلاث، فإن الانتقال من العام إلى الخاص يغير من بناء هذا المنهج بالحذف والتعديل والإضافة، بما يجعل من الروايات التالية ﻟ «أولاد حارتنا» مرحلة جديدة في أدب نجيب محفوظ … بل إن تخصص «اللص والكلاب» و«السمان والخريف» في أزمة الانتماء المصري يجعل منهما مرحلة متكاملة كذلك. فالأعمال الأربعة الواقعة بعدها تُشكِّل فيما بينها مرحلة جديدة تمامًا … ولا أحد يدري ما يُضمِره الغيب في ضمير هذا الفنان ووجدانه.
ومع هذا أقول إن أدب نجيب محفوظ في مرحلته — أو مراحله — الجديدة، يتحرك يمنة ويسرة كبندول الساعة حركة واحدة منتظمة، ولكننا نكتشف أن هذه الحركة القصيرة السريعة أبعد ما تكون عن «محلك سر»؛ بل نكتشف أنها مصدر الثواني والدقائق والساعات والأيام والسنين، أي أنها مصدر الزمن في امتداده المتدفق بالحياة وإن تشابهت دقات البندول بين الحين والحين، فإنما لتعلن الشوط الذي قطعته «الديمومة» في مسارها «الثابت» … وبعبارة أخرى نقول إن ثمة أفكارًا رئيسية في المرحلة الجديدة من تطور أدب نجيب محفوظ لم يتغير جوهرها وإن تغيرت تفاصيلها تغيُّرًا يؤدي أحيانًا كثيرة إلى تأكيده. وكأني بالفنان يبدأ من البسيط إلى المركب إلى الأكثر تركيبًا حتى لتكاد تنمحي الوشائج بين البداية والنهاية، وإن لم تخل الخاتمة عند النظر الدقيق من بذرة المقدمة.
هكذا تستطيع أن نتلقَّف معظم الأفكار الواردة في «أولاد حارتنا» حول الوقف والبيت الكبير والجبلاوي والنُّظَّار والفتوَّات، وأخيرًا عرفة وحنش في بقية الأعمال التالية ابتداء من «اللص والكلاب» حتى «ميرامار». ولكننا حين نتلقف هذه الأفكار الرئيسية سوف نشهد ما طرأ عليها من تغير كبير يحُول كثيرًا دون التعرف على الأصل البعيد. سوف نشهد المنتمي وقد عرف أزمة عميقة هزت كيانه حتى الأعماق، وهي أزمة لم يعرفها بصورة واقعية ملموسة أحدُ المنتمين إلى الثورة في «أولاد حارتنا» … وسوف نشهد أن هذه الأزمة قد تطورت في «الطريق» و«الشحاذ» تطورًا خطيرًا وَشَى بالهزيمة التي طالعنا وجهًا لها في «ثرثرة فوق النيل» ووجها آخر في «ميرامار».
•••
إن «اللص والكلاب» تبدأ حقًّا من حيث انتهت «أولاد حارتنا» ولكن بغير أن ترى الحارة «مصرع الطُّغيان ومشرق النور والعجائب» تلك النبوءة التي اختتم بها الفنان روايته الكبيرة. ولذلك فإن «اللص والكلاب» في نفس الوقت تُكرر كثيرًا من المشاهد التي صادفناها في «أولاد حارتنا»، ولكنها تكررها بصورة مركبة استوعبت بُعدًا جديدًا من الواقع الحي. ويمكن اختصار هذه المشاهد إلى مشهدين رئيسيين: أولهما ضراوة الصراع الاجتماعي، والآخر هو إخفاق الحل الميتافيزيقي. لقد أضاف «الواقع الحي» إلى انتصارات العلم والفكر الاشتراكي أن «طبقة جديدة» قد وُلِدت في ظل الفراغ التنظيمي والسياسي والأيديولوجي، وأن هذه الطبقة التي يمثلها في الرواية «الصحفي» رءوف علوان قد خانت مبادئ الثورة وأمسَت العدوَّ الأول لسعيد مهران وما يمثله من قيم … وكذلك أضاف «الواقع الحي» أن الشيخ على الجنيدي لم يكن في جعبته من التصوف ما يشفي غليل سعيد مهران إلى الحرية والعدل:
من ثم يسقط سعيد مهران فريسة الضياع المطبق بجناحين ثقيلين، فلا المسدس بقادر على إصابة الهدف ولا بصيرة الشيخ الجنيدي بقادرة على الرؤية. ومن ثم يسقط بطل «اللص والكلاب» سقوطًا تراجيديًّا تنزف دماؤه سؤال كبير ظن نجيب محفوظ أنه أجاب عليه في «أولاد حارتنا»، ولكن الواقع الحي المتغير استأنف الحكم قائلًا إن المشكلة تتفاقم ولا تزال بلا حل. وإذا كانت «نور» تمثل الأمل اليتيم الذي تراءى لسعيد مهران قبيل انهياره بلحظات قليلة؛ إذ كانت — وهي المومس — قد اختارت هذا الرجل المطارد لأن يكون رجلها بالرغم من الأخطار المهولة التي تحدق بهما، فإن «سناء» تمثل خيبة الأمل التي مزقت سعيد مهران فور خروجه من السجن، فإنها — وهي ابنته — لم تتعرف عليه واختارت الأم الآثمة وعشيقها الملوَّث. وعندئذٍ لا بد وأن يسقط سعيد مهران علامة الاحتجاج الدامي على الواقع المشوه. ثم يلتقط نجيب محفوظ «سؤاله» الجديد، أو من جديد، فالحق أنه سؤال قديم وإن ازداد كثافة وتعقيدًا، ويرمي به في أتون تجربة جديدة هي تجربة المنتمي إلى الماضي. تجربة عيسى الدبَّاغ في «السمان والخريف»، وقد أحاطه الفنان بمجموعة من الشخصيات الرامزة إلى اختلاف وجهات النظر في الثورة والانتماء إليها أو ركوب الموجة أو الرفض. ومرة أخرى يكرر الفنان المشاهد الرئيسية في «أولاد حارتنا»، حيث نلتقي بالمتصوف والانتهازي والمنتمي والمنتمي المأزوم. ولعل أهم المشاهد التي تحفل بها «السمان والخريف» هو مشهد الختام؛ حيث نلتقي بالمنتمي المفترَض أو المنتمي المثال، ذلك الشاب الطويل الأسمر المبتسم أبدًا الممسك بيسراه وردةً حمراء وهو يشير إلى عيسى الدبَّاغ على الطريق الوحيد لتجاوز الأزمة بشرط ألا يُضَيِّع ثانية واحدة من عمره تحت ظل التمثال الضخم للماضي الجميل.
ولا ريب أن «السمان والخريف» كانت جوابًا يسير المنال على سؤال «اللص والكلاب»، لم تكن جوابًا في عمق السؤال المطروح … ذلك أنها تكاد أن تكون نقلًا حرفيًّا لإجابة «أولاد حارتنا» بغير زيادة أو نقصان … بل إنها تكرر قصة نور وسناء في «اللص والكلاب» في شخص ريري المومس وابنتها نعمات التي حملت بها من عيسى في إحدى لحظات السأم والوحشة المريرة. وقد لا يكون التكرار — عن هذه الرواية أو تلك — موازاة رياضية، ولكنها بالقطع ليست تعميقًا لأزمة المنتمي. وهي وإن بدت جوابًا على سؤال فإنها لم تتعدَّ كونها صدى الصوت ورد الفعل. وهكذا كانت حركة بندول الساعة من «اللص والكلاب» إلى «السمان والخريف» حركة منتظمة حقًّا، ولكن بدايتها العنيفة ونهايتها الرخوة جسدت خللًا واضحًا يحتاج إلى إعادة النظر.
ولا بد لنا هنا من القول بأن أدب نجيب محفوظ لم يشهد وحدة دينامية بين الشكل والمضمون كما شهدها في هذه المرحلة الجديدة، بحيث إننا نغفل الشيء الكثير ونحن نعرض لأزمة المنتمي وهزيمته إذا لم نعرض للصياغة التعبيرية التي جسمت هذه الأزمة وتلك الهزيمة … فالتعبير أمسى جزءًا لا ينفصل من المعبَّر عنه بحيث يستحيل القيام بعملية فصل متعسف بين الاثنين. بل في الحقيقة أن جانبًا هامًّا من جوانب الأزمة لا سبيل إلى تبيُّنه إلا بوضع اليد على أدوات التعبير التي استخدمها الفنان في «اللص والكلاب» بصورة رئيسية و«السمان والخريف» بصورة أقل شمولًا من الأولى. وهي الأدوات التي تواجهنا في مرحلة الهزيمة الكاملة من «الطريق» إلى «ميرامار». وليس هذا الحديث عن «اللص والكلاب» و«السمان والخريف» إلا مدخلًا تمهيديًّا لتناول مرحلتين جديدتين في أدب نجيب محفوظ، هما: مرحلة الأزمة المركبة الطاغية في «الطريق» و«الشحاذ»، ومرحلة الهزيمة الضارية في «ثرثرة فوق النيل» و«ميرامار»، فلست أكرر هنا حديثًا سبق عن «اللص والكلاب» و«السمان والخريف» في موضع آخر، وإنما أركز على أحد وجوهها التي تتصل أوثق اتصال بمجرى الروايات الأربع التالية. وهو الوجه الذي يتطلب بناؤه الجمالي وقفة أطول.
ونجانب الصواب إذا قلنا أن لا وشائج على الإطلاق بين مرحلتَي تطور نجيب محفوظ الكبيرتين، وأعني بهما المرحلة التي يمكن للثلاثية أن تكون عَلَمًا عليها، والمرحلة التي يمكن للص والكلاب أن تكون عَلَمًا عليها. نجانب الصواب حقًّا إذا قلنا أن لا وشائج على الإطلاق تربط بين المرحلتين الكبيرتين، فلا ريب أن الكثير من المرحلة الأولى قد تسلَّل إلى المرحلة الجديدة بحكم وحدة المجتمع ووحدة الفنان ووحدة التقاليد الأدبية … هذه الوحدات التي يتنفسها العمل الفني وينمو بها ويزدهر. فالمجتمع المصري الذي تركه نجيب محفوظ في نهاية الثلاثية عند ١٩٤٤م قد تغير قليلًا أو كثيرًا بعد ١٩٥٢م، إلا أن الملامح الحضارية العامة لهذا المجتمع لا تزال كما هي وإن تبدلت معدلات التطور الإنساني خارج بلادنا بما يستوجب من الفنان الحديث أن يردم هذه الهوَّة بين ركب الحضارة المتقدم ومستوى بلده المتخلف. وكذلك نرى الفنان الذي تركناه عند نهاية الثلاثية مهمومًا بقضية القضايا في حياة هذا المجتمع، معنيًّا أشد العناية بالاستماع إلى دقات قلب هذا المجتمع، هو نفسه الذي نراه في مسيرته الجديدة لا تخدعه المظاهر العابرة عن الداء الكامن؛ بل إن أعماله الأولى تبدو جذورًا لأعماله الجديدة مضافًا إليها استماعه الدءوب لنبض العصر. وأخيرًا فإن التقاليد الأدبية خلال الخمسة عشر عامًا الماضية، وفي مجال الخلق الروائي على وجه التحديد، لم ينل منها التغيير منالًا جذريًّا أو حاسمًا فلا يزال الجيل السائد في كتابة الرواية العربية هو الجيل الذي كتب الرواية الرومانسية أو الواقعية بشكلهما التقليدي، ولا يزال نجيب محفوظ في مقدمة هذا الجيل وطليعته أقرب إلى الجيل التالي له من الشباب في تجاربهم النابضة بحياتنا وعصرنا معًا.
أردت القول إن ثمة أرضًا مشتركة بين القديم والجديد في أدب نجيب محفوظ تكونت عناصرها من المجتمع والفنان والتقاليد الأدبية. ولذلك ليس من الغريب أن نعثر في أدغال المرحلة الجديدة على فروع وأغصان من شجرة قديمة. فالمنتمي وأزمته، ليس قضية جديدة على أدب نجيب محفوظ. هذا من ناحية الفكر. وكذلك اللغة الروائية بكل ما فيها من كثافة وشفافية وأدوات حديثة، كالمونولوج والأحلام، ليست ظاهرة جديدة في أدب نجيب محفوظ. وهذا من ناحية الفن. فما الجديد إذن؟
وتستتبع خاصية «الحديث النفسي» و«وصف مجرى الشعور» في المرحلة الجديدة من أدب نجيب محفوظ، مشكلة الزمن الروائي. فالحديث النفسي يلتقط الأفكار والمشاعر القريبة من السطح حقًّا، ولكن وصف مجرى الشعور يلتقط الأفكار والمشاعر الغائرة في الأعماق. ويصل الفنان بين المستويين بتوظيفه للضمائر الثلاثة توظيفًا قادرًا على تحقيق هذا التوازن بين الحقيقة الداخلية الراسبة في أدغال النفس البشرية، والحقيقة الخارجية القادمة مع المجتمع والتاريخ. فليس الزمن الموضوعي الذي عرفناه في الثلاثية بقادر على تشكيل «المحتمل» و«الممكن» في المرحلة الجديدة، إن الزمن الموضوعي هو العمود الفقري للحتمية. وليس الزمن الداخلي الذي عرفناه عند جويس ولا الزمن الوجودي الذي عرفناه عند سارتر وكامي، ولا الزمن النفسي الذي عرفناه عند داريل وفوكنر، هو الزمن القادر على تجسيد الأزمة الدامية التي يعانيها الثوري في مصر، وهو خامة نجيب محفوظ الفنية، وهي خامة تختلف أصلًا عن خامة هؤلاء الكتاب من ناحية، كما تختلف إلى حد كبير عن خامة الثلاثية وما قبلها من ناحية أخرى. لذلك كان المزيج المركب من الماضي والحاضر والمستقبل، ومن ضمير المتكلم والغائب والمخاطب، هو تلك الأداة التعبيرية التي حملت عبء الزمن الجديد في أدب نجيب محفوظ. ولم يعد ثمة تناقض بين ضمير المتكلم مثلًا — وهو الضمير العالم بكل شيء — وضمير الغائب الذي لا يعلم شيئًا، وضمير المخاطب الذي يعلم شيئًا فشيئًا.
والحق أن اللغة في هذه المرحلة الجديدة قد حملت أثقالًا وأعباء جديدة تمامًا على اللغة العربية والرواية العربية جميعًا. والحق أيضًا أن نجيب محفوظ قد عانى معاناة الأنبياء في خلق هذه اللغة الجديدة، فهي لم تكن قط بحثًا عن لفظ جديد أو تركيب جديد أو خيال غير مطروق، وإنما كانت رؤيا جديدة للغة كجزء لا ينفصل عن رؤيته الجديدة للعالم والإنسان. هذه الرؤيا التي قد يتحمس البعض لظلالها على الكلمات فيسمونها شِعرًا، وهم يقصدون ما آلت إليه من تركيز وتكثيف وشفافية … وقد يعترض عليها البعض الآخر لمجافاتها المعاجم المحفوظة والأذواق البصرية والسمعية التي نشأنا عليها وتربينا، وهم يقصدون هذا «اللامنطق» في رصف حروفها وألفاظها وتراكيبها. ولكن لا سبيل أمام المتحمسين إلا التخصيص بدلًا من التعميم، والغوص في الأعماق بدلًا من التقاط الظواهر السطحية، كما لا سبيل أمام المعارضين إلى إعادة النظر في وظيفة اللغة من البداية ووظيفة الفن كذلك والعلاقة بين الفن واللغة. إلا إذا نظرنا إلى هذه اللغة الجديدة بحق في اتصالها الوثيق بالرؤيا الجديدة التي يقدمها نجيب محفوظ في مرحلته الجديدة … فهذه الرؤية وحدها هي التي تحدد المنطق واللامنطق في السياق الروائي من لغة وشخصيات وأحداث ومواقف.
فما هذه الرؤيا الجديدة؟
سؤال يردُّنا من عالم التجريدات الذي حاولنا فيه أن نحصي معالم التجديد الفني فيما بعد الثلاثية وأولاد حارتنا، كمدخل إلى عناصر التجديد الأخرى التي طرأت على أدب نجيب محفوظ إبان مرحلة التحول الدامية التي يجتازها مجتمعنا. ومنذ البداية أقول إنه إذا كانت «اللص والكلاب» و«السمان والخريف» تمثلان «بداية» الأزمة أو مقدماتها فإن «الطريق» و«الشحاذ» معًا يمثلان عنفوانها، أي يجسدان الأزمة نفسها، أما «ثرثرة فوق النيل» و«ميرامار» فيمثلان النهاية الأسيفة التي انتهت إليها، وأعني بها الهزيمة. فلم يكن حديثنا إذن عن «اللص والكلاب» و«السمان والخريف» في مقدمة هذا الفصل تكرارًا لما جاء عنهما في فصلٍ سابق، بل تمهيدًا ضروريًّا لتناول هذه المرحلة الجديدة الخطيرة، مرحلة الانتقال التي تمثلها الروايات الأربع «الطريق، الشحاذ، ثرثرة، ميرامار». كذلك فإن حديثنا المجرد عن الإنجازات الجمالية لهذه الأعمال ليس إلا تعميمًا ضروريًّا في البداية كمدخل لتناولها في التطبيق بصورة أكثر تخصيصًا وتفصيلًا.
•••
إن دورة السؤال والجواب في روايتي «اللص والكلاب» و«السمان والخريف» تضع الفنان حقًّا في مأزق حرج، وذلك حين تضعنا معه من جديد أمام النقطة التي انتهت إليها اليوتوبيا الملحمية «أولاد حارتنا» … ولا بد إذن من البحث عن طريق جديد لعله يعطي جوابًا جديدًا. ومن هنا كانت «الطريق» و«الشحاذ» مرحلة البحث عن هذا الطريق الجديد والجواب الجديد. هما روايتان من أدب الرحلات، ولكنها رحلات خارج الزمان والمكان من أحد الوجوه، وإن تمت في إطارها التاريخي والجغرافي على وجه آخر من هذه الوجوه. وهي بالقطع ليست مجرد رحلات نفسية في أعماق الذات البشرية، كما أنها ليست مجرد رحلات فكرية في متاهات العقل الإنساني. إن أهم صفاتها، فيما أعتقد، أنها ليست رحلات «معلومة» المقدمات والنتائج من قبل أن يخطوَ الإنسان خطوته الأولى كما هو ا الحال في «أولاد حارتنا»، كما أنها ليست اختبارًا عمليًّا لتخطيطٍ نظري كما هو الحال في الروايتين التاليتين لها. إن «الطريق» و«الشحاذ» رحلتان — أو محاولتان — مترادفتان جوهرهما البحث. والبحث يحتمل الممكن ولا يعرف اليقين أو المستحيل. ولكنه يتضمن دائمًا عنصرَي المعرفة والجهل جنبًا إلى جنب، ومن لحظة إلى أخرى يعرف المرتحل ويجهل، ويعرف ويجهل إلى ما لا نهاية … ويظل الشوق العارم إلى المعرفة هو وقود الرحلة إلى المجهول، فإذا نفد الوقود وقعت الكارثة. ومأساة الرُّحَّل العظام أنهم يكابدون الشوق بلا توانٍ ولا غاية لهم سوى البحث في ذاته، فهم يدرون أن لا نهاية محققة للطريق الذي قطعوا فيه شوطًا أو أشواطًا. والبحث وحده هو الذي يمنح حياتهم معنًى بالرغم من إطلالتهم الدائمة على حافة اللامعنى. ذلك أن البحث في ذاته ليس إلا تلك الرغبة المتجددة في الحياة مهما كان الموت هو النهاية المؤكدة لها. والموت أثناء البحث، أي أثناء الحياة الحقيقية، يفضله المرتحلون العظام على الموت أثناء الموت، أي أثناء الحياة الميتة. لأن البحث اختيار والموت اضطرار، والتعاسة لا حد لها إذا استبدلنا الاختيار الوحيد باضطرار جديد … فكأنما ارتضينا الجبر مرتين. نحن الذين نَفضُل بقية الكائنات بهذه اللؤلؤة الثمينة المسماة بالحرية.
والبحث عن الحرية والكرامة والسلام هي رسالة صابر بطل «الطريق». والبحث عن التوافق بين ذرَّات الكون والانسجام هي رسالة عمر الحمزاوي بطل «الشحاذ». ومن قبل أن نجوس معهما الرحلة الطويلة الدامية، علينا أن نتذكر ذلك التمهيد الخطير الذي قدم به الفنان لهذه الرحلة بقصة «زعبلاوي» المنشورة في مجموعته «دنيا الله». بضمير المتكلم يحدثنا بطل الأقصوصة أنه قد أصيب بالداء «الذي لا دواء له عند أحد»، فلم يرَ بُدًّا من البحث عن الشيخ زعبلاوي؛ فقد سمع عنه الكثير منذ عهد الطفولة. ويبدأ المريض رحلته ابتداء من قاضٍ شرعي إلى بائع كتب قديمة إلى شيخ حارة إلى أحد الخطاطين إلى أحد الموسيقيين. وعند أولئك جميعًا تألَّق الأمل لحظة وضاع. ولكنه استطاع أن يجمع بعض الصفات التي يمكنه بها التعرف على زعبلاوي فهو، «على أي حال حي لم يمت، ولكن لا مسكن له»، و«قد يندس بين الشحاذين فلا يُميَّز بينهم»، و«الرجل اللغز! يقبل عليك حتى يظنوه قريبك ويختفي فكأنه ما كان»، و«في وجهه جمال لا يمكن أن يُنسى»، «هذا الرجل العجيب يُتعب كل من يريده، كان أمره سهلًا في الزمان القديم عندما كان يقيم في مكان معروف، اليوم الدنيا تغيرت، وبعد أن كان يتمتع بمكانة لا يحظى بها الحكام بات البوليس يطارده بتُهمة الدجل، فلم يعد الوصول إليه بالشيء اليسير، ولكن اصبر وثق بأنك ستصل». وبفضله صنع الخطاط أجمل لوحاته والموسيقيُّ أجمل ألحانه، «هو الطرب نفسه، وصوته عند الكلام جميل جدًّا، ما إن تسمعه حتى ترغب في الغناء، وتَهِيج أريحية الخلق في نفسك». وبالرغم من اجتماع هذه القرائن الكثيرة على «وجود» زعبلاوي، والأدلة العديدة على مظهر هذا الوجود، إلا أن مريضنا لم يهتدِ إليه. حتى قيل له إن سكيرًا من الريف ينزل القاهرة كل فترة ويقضي وقته بإحدى الحانات يعرف زعبلاوي معرفةً وثيقة، فاذهب إليه عسى أن تنال المراد. وتوجه المريض إلى الحانة المبتغاة فالتقى بالرجل ولكنه لم يصادف زعبلاوي؛ بل تأكد لديه حينذاك أنه لن يراه أبدًا ما دام على هذه الدرجة من الإلغاز والإعجاز. وعندما تبادل الكئوس مع رجل الحانة انتشى بالخمر إلى حد السكر وتراءت له فيما يشبه الحلم هضبة من الياسمين في حديقة لا حدود لها، وثمة رشاش نافورة يصب ماء صافيًّا فوق رأسه، وأغاريد الطير من كل نوع تحيط السمع بأهازيج الجنة، «وثمة توافق عجيب بيني وبين نفسي، وبيننا وبين الدنيا، فكل شيء حيث ينبغي أن يكون بلا تنافُر أو إساءة أو شذوذ … ونشوة طرب يضج بها الكون.» وحين استيقظ من الحلم أو ما يشبه الحلم أنبأه صاحبه أنه نام نومًا عميقًا بالرغم من أن رجلًا طيبًا حاول إيقاظه وتنبيهه بقليل من الماء رشه فوق رأسه، فلما تساءل عن كنه الرجل الطيب فاجأه رفيق الحانة بأنه لم يكن سوى الشيخ زعبلاوي. وقبل أن يفتح فمه بالدهشة عرف أنه قد يأتي غدًا، وقد لا يأتي طول العمر، وأنه لا تُغريه المُغْرَيات، ولكنه يهب الشفاء لمن يحبه بلا مقابل. «وعند كل منعطف ناديت يا زعبلاوي، لعل وعسى، ولكن لم يفِدني النداء»، «وحسبي أني تأكدت من وجود زعبلاوي، بل ومن عطفه عليَّ؛ مما يُبشر باستعداده لمداواتي إذا تم اللقاء»، «نعم، عليَّ أن أجد زعبلاوي». وتلك آخر كلمة في هذه القصة القصيرة العظيمة، أو ذلك التمهيد الخطير — كدقات المسرح الثلاث — قبل بداية الرحلة الموحشة الدامية التي بدأها هذا المريض باسم «صابر» في الطريق و«عمر الحمزاوي» في الشحاذ.
ولعل أهم حوار دار بين صابر وأمه قبل وفاتها هو ذلك السؤال الذي ابتدرها به حين باحت له بسِرِّ أبيه: «وهل أضيع عمري في البحث عن شيء قبل التأكد من وجوده؟» فقد أجابته جوابًا عميق الدلالة: «ولكنك لن تتأكد من وجوده إلا بالبحث، وهو خير على أي حال من بقائك بلا مال ولا عمل ولا أمل» … هي إذن نفس البداية المهمة في قصة «زعبلاوي»، فالفنان لم يبدأ من حيث انتهت، وإنما هو يكرر بدايتها في مستوًى جديد هو المستوى الواقعي الصِّرف. والحق أن قدرة نجيب محفوظ الباهرة أنه استطاع في مرحلته — أو مراحله — الجديدة أن يجعل من «المباشرة» فنًّا، فما يظنه بعض النقاد رموزًا أسطورية أو حتى تاريخية هو الواقع بنفسه وقد تجرد من كل ما هو عرَضي وطارئ وعابر ليبقي على كل ما هو جوهري وأصيل. وتلبُّس الواقع بالرمز ومشابهة الرمز للواقع هي التي ورطت كثيرًا من النقاد المخلصين في أحبولة المعادلات غير العادلة بين الرواية ودلالاتها. فالحق أن رحلة صابر رحلة حقيقية لذلك الباحث عن الحرية والكرامة والسلام بافتقاده لهذه النجوم الثلاثة منذ توسَّدت أمه التراب ولم يبقَ في جيبه مال كثير يقيه شر العوز، ولم يعُد لديه من الأحباب والأصدقاء ما يتقي به شر الغدر. وهكذا أصبح الأمر لذلك المرتبط بأُم غابت في ظلمة القبر، وبأبٍ غائب في الدنيا الواسعة، أن يصبح قدره في هذا الوجود هو البحث عن الأب الذي لم يرَه وإن جاء صورة منه كما تدل على ذلك صورة الزفاف التي تجمعه بأمه، وشهادة الزواج التي احتفظت بها طول العمر، منذ ارتبطت به وهو بعدُ طالب صاحب عز وجاه إلى أن هجرته إلى واحد من طينتها فعادت إلى الحمأة الدانية القطوف من حيث أتت. هكذا قالت له «ستجد في كنفه الاحترام والكرامة، وسيحررك من ذل الحاجة إلى أي مخلوق بما سيُهيئ لك من عمل غير البلطجة والجريمة، فتظفر آخر الأمر بالسلام.» وكأنها أرادت لابنها — قبل أن تلفظ آخر أنفاسها — مستقبلًا آخر غير الماضي الملوَّث بالدعارة الذي أودى بها إلى السجن فالقبر. وهكذا أيضًا ألفى نفسه وحيدًا في هذه الرحلة العسيرة الفهم، فأين هي الحقيقة وأين هو الحلم؟ تساءل صابر وقد عزم على أن يخطو الخطوة الأولى: «أمك التي ما تزال نبرتها تتردد في أذنك قد ماتت، وأبوك الميت يبعث في الحياة.» وأنت المفلس المطارد بماض ملوَّث بالدعارة والجريمة تتطلع بمعجزة إلى الكرامة والحرية والسلام. لقد أصبح مريض الشيخ زعبلاوي محدَّد المرض معروف الدواء، ولكن معرفته بالدواء تزيد المرض التهابًا كلما اتسعت المسافة بينه وبين زعبلاوي، بين صابر وسيد سيد الرحيمي. فمن شيخ الحارة إلى قائمة المسجونين إلى قارئ الكف، والنقود تقارب النفاد وهو بعدُ في الإسكندرية. وعتب على أمه في قبرها لحظات تذكر فيها أنها هي السبب، خدعته طيلة العمر بقولها: مات أبوك وهو في ريعان الشباب. فهل خدعته قبل أن تموت بقولها: إنه حي؟ وما العمل «وأنت اليوم وحيد بلا أهل ولا أصدقاء كأنك جنس غريب» … الوحدة الشقية والانتماء المحزن، كلاهما وجه للتعاسة التي لا تنتهي. ويحزم أمره على السفر إلى القاهرة، وفي فندق متواضع يلتقي بكريمة الزوجة النضرة لعم خليل أبو النجا صاحب الفندق الذي لن يتغير بعد الموت. وبمجرد أن يراها تراوده أخيِلَة جنسية تتخللها أحلام بالعثور على أبيه، بل هو يربط مباشرة بين فتاة الأنفوشي وعطفة القرشي وبين كريمة؛ فإذا كانت هي المغامرة القديمة فالمحتمل أنه سيعثر على الأب الغائب «وفي لمحة واحدة تجلت لمخيلته صورة أبيه والوجه الدافئ المفعم بالإثارة.» وقيمة ذلك — تتضاعف بالشهوة المغرية في فترات الراحة من البحث — للوحيد الذي لا أهل ولا صاحب له. وعند ما تجيء المعجزة ستقول له: «أنا صابر، صابر سيد سيد الرحيمي.» ولا يحتاج القارئ لأدب نجيب محفوظ الجديد إلى ذكاء حاد ليكتشف دلالة الأسماء التي يخلعها على شخصياته. فالصبر من نصيب المريض بالبحث عن أبيه، والسيادة والرحمة من نصيب هذا الأب الغريب. والفنان يؤكد على معانيه بالإلحاح والتكرار القريبين من الإفصاح والمباشرة. حتى وهو يقدم لنا شخصية «كريمة» التي تقوم بدور بالغ التعقيد في الرواية قارَب في وصفها بينها وبين الأم، وكأنه يوغل في مطاردة التصور التقليدي لموت الأم الذي لاحقه عند القبر وهم — أولئك المتربصون به — يُوَسِّدونها الفجوة المظلمة. فالحق أن أم صابر في رواية الطريق لم تمت بموت بسيمة عمران، وإنما حياتها قد امتدت في شخصية كريمة. والرواية مليئة بالشواهد التي تجعل منهما وجهين لعملة واحدة. ويستخدم نجيب محفوظ نفس اللعبة الفنية مع «إلهام» الشخصية الثانية في حياة صابر بعد سفره إلى القاهرة. لقد تعرف عليها وهو يعلن عن أبيه في جريدة «أبو الهول» فزاد انتعاشًا بإشعاعاتها التي ترفعه إلى مستوًى غير مألوف في علاقاته مع الناس، وسحرها لا يستقر بموضع بالذات، شائع كضوء القمر «وبه جانب مجهول تتعلق به الآمال كمستقر أبيه.» ولا تلبث شخصية إلهام أن تنتصب أمامنا كامتداد «حاضر» للأب الغائب، صفاتها أقرب ما تكون إلى صفاته وهي في الحلم ابنته، وهي أخيرًا تسلك مع صابر ذلك الطريق الذي يجهد نفسه في العثور عليه نحو الحرية والكرامة والسلام. ولو صح هذا التصور الذي أراه لهاتين الشخصيتين الهامتين في الرواية: كريمة وإلهام، فإن الفنان يكون قد أنجز بعض ما تبقى في قصة زعبلاوي حين حضر الشيخ وكان المريض نائمًا … فإلهام، في تصوري، كانت هي «سيد سيد الرحيمي» في لحظة حضور وتجسد خفيت عن عين صابر الغائبة عن الوعي بين أحضان كريمة، أو بين أحضان أمه … فالحق أنه لم ينفصل عن أمه بموتها؛ بل امتد اتصاله بها عن طريق ارتباطه بكريمة. على هذا النحو يبدو لي البناء الروائي في الطريق، أن هناك طريقًا ممتدًّا من بسيمة عمران إلى كريمة، وطريقًا آخر يمتد من إلهام إلى سيد سيد الرحيمي … وأن مأساة صابر الحقيقية هي أن أباه كان أقرب إليه من حبل الوريد ولكنه لم يستطع أن يراه؛ لأنه كان محاصرًا بين دياجير الظلام؛ سواء في أحضان أمه أو في أحضان كريمة. إن بصيرته لم تستطع أن تخترق الحُجب الكثيفة من «المتعة والجريمة» التي هيأتها له المرأتان، ليرى الحرية والكرامة والسلام ماثلةً له شاخصة إليه في عيني إلهام وعبيرها الفواح بالراحة وهدوء النفس. أي إن مأساة صابر تبدأ منذ تجمدت قدماه في تلك الدائرة الجهنمية، فأصبح لا يرى شيئًا آخر إلا من موقع هاتين القدمين الجامدتين، وهكذا أمست كافة التصورات التقليدية عن معنى الطريق في حياته عجزًا فادحًا عن الخطو خطوة واحدة إلى الأمام. لقد ظن أنه يتقدم وهو يتلقى هذه المكالمة التليفونية أو تلك من أشخاص كثيرين يُدعَون سيد سيد الرحيمي. ولكنه في الواقع كان يمسك سماعة التليفون بيد وكريمة باليد الأخرى، فاستحال عليه الاتصال الحقيقي بأبيه الذي سخر منه في الحلم ومزق كل ما يربطه به، وسخر منه في التليفون قائلًا له: «يا حمار.» وسخر منه وهو يمرق بعربته الفارهة. وسخر منه أولًا وأخيرًا لما كان في الإسكندرية ستة أيام، كان صابر غارقًا إلى أذنيه في البحث عنه. ولكن ماذا يجدي البحث والعين لا ترى؟ وماذا يجدي البحث عن صورة ثابتة في المخيلة باتت لقِدَمها أبعد ما تكون عن الصورة الأصلية، وأحوج ما تكون إلى إعادة الخلق والاكتشاف؟ وأزمة صابر بين التصور التقليدي للطريق وبين الطريق الحقيقي الذي يمكن أن يراه كل إنسان لو خلع عن بصره غشاوة الجمود؛ هي محور الصراع الدرامي في الرواية. والرؤية الجامدة على الماضي هي التي ربطت أحيانًا بين كريمة وأبيه، فطالما قال لنفسه: «إذا كانت هي فتاة الإسكندرية فقد يعني هذا أنني سأُوفَّق في البحث.» أي أن الظن قد خالجه بأنه ربما كانت كريمة هي الطريق إلى الحرية والكرامة والسلام، فيما لو كانت شبحًا لتلك الظلمة الشهية في عطفة القرشي. وعلى طول الرواية لا يتبين صابر — ولا نتبين معه — ما إذا كانت كريمة هي فتاة الإسكندرية أم لا، ولكنا نراها وقد تحولت إلى جدار عالٍ يحول بينه وبين البحث عن أبيه، هذا الأب «الذي لا يحتاج إليه حبًّا في الحرية والكرامة والسلام فحسب؛ وإنما خوفًا من التردي في الجريمة.» لقد ترك الإسكندرية بكل ماضيه الملوث بالدعارة والجريمة، تركها مُمنيًا النفس ألا تكون القِوادة أو البلطجة من نصيبه. وطوال عملية البحث كان يتعذب عذابًا مُضنيًا، ولكنه لم يوشك على الهلاك إلا حين أضمر الكف عن البحث والتفرغ لكريمة «وإذا قرر يومًا الكف عن البحث فسوف يندفع في طريق آخر كثَور أعمى.» وبين البحث والكف عنه عانى صابر أهوالًا دونها الجحيم، ففي النصف الثاني من الليل ينسى كل شيء، ولكن ما أن ينبلج الصبح حتى تنزع نفسه شوقًا وحنانًا إلى إلهام. وفي محضرها ترتفع به مشاعره إلى آفاق عليا من الصفاء «ولكن رغبته في كريمة لا تموت، تغفو إلى حين، ولكن لا تموت. جاذبية إلهام لا تخمد، ولكن سيطرة الأخرى لا مهرب منها كالقضاء. ولشدة وطأة هذه السيطرة يمقتها أحيانًا بقدر ما يعشقها، وكم نادى باطنه إلهام لكي تنقذه، ولكنه نداء اليأس. وشد ما يهرب من هذا السؤال المزعج: من تختار إذا خُيرت؟ ولكنه يدأب على جسمه كدُمَّل كامن. وأحيانًا يمقت الليل وهو ينتظر كالأسير. وإلهام سماء صافية يجري تحتها الأمان، وكريمة سماء ملبدة بالغيوم تنذر بالرعد والبرق والمطر، ولكنها أيضًا سماء الإسكندرية المحبوبة.» بل لأنها سماء الإسكندرية المحبوبة، فهو يكتوي بنيران جحيمها الذي لا نهاية له. فالحق أن كريمة هي الواقع الجاثم، هي الظلام والدمار والسجن وبسيمة عمران والموت. أما إلهام فهي كاسمِها ورسمها؛ ذلك الحلم العظيم الذي يلازم التوقيت الزمني للواقع البغيض، ولكنه يحتاج إلى بصيرة قادرة على اختراق الحُجُب الكثيفة، هي الطريق المؤدي إلى الحرية والكرامة والسلام، وهي أقرب إليه من حبل الوريد، ولكن دونها أهوال الماضي المطل بوجهه البشع على الحاضر، ودونها الرؤية الجامدة على هذا الماضي المظلم. ولقد أثبتت إلهام أنها بعيدة عن المنال بالرغم من كل شيء، عصية عن الإلمام بها في جرعة واحدة كما هو الحال في كريمة التي يهصرها بين ذراعيه ويمتص شهوتها دفعة واحدة. إلهام كالضوء يصعب الإمساك بأشعته، وكريمة كشريحة اللحم المشتهاة مهما كبرت تُغري الفم بالقضم والمعدة بالهضم. وفي لحظات نادرة يُخيل إلى صابر أنه لم يجئ إلى القاهرة للبحث عن سيد سيد الرحيمي، وإنما لكي يجد إلهام «أحيانًا نجري وراء غاية معينة ثم نعثر في الطريق على شيء ما نلبث أن نؤمن بأنه الغاية الحقيقية.» تلك ومضة برقت في الذهن للحظة واحدة كاد فيها أن يضع يده على الوجه الحقيقي لإلهام، فهي بالفعل ليست إلا الوجه الغائب لأبيه المجهول. ولكنه سرعان ما يتراجع بمجرد أن يتذكر كريمة، إنه يتعذب بها وبدونها، يتعذب معها لأن جانبًا فيه يتُوق إلى إلهام، ويتعذب مع إلهام لأن جانبًا فيه يتوق إلى كريمة «والتوحيد بينهما أمنية لا يجرؤ على تمنيها». ولم تكن المشكلة قط هي القدرة على الجمع بينهما كالجمع بين الواقع والحلم، وإنما كانت على وجه التحديد هي استبدال إحداهما بالأخرى. وهو في إحدى اللحظات النادرة التي كاد أن يضع فيها يده على وجه إلهام الحقيقي قال لها: «أعترف لك بأنني لا أجد لحياتي معنى إلا عند اللقاء.» ولكنه عجز تمامًا عن الارتفاع إلى «مسئولية حبها» بالرغم من كل ما قدمته إليه من إمكانيات العمل والزواج؛ لأنها إمكانيات تقبع في دائرة الحلم، عسيرة التحقيق وسط الظلام المُدْلَهِم الذي يعيش فيه بين أحضان كريمة وخطَطِها: قَتْل الرجل العجوز والزواج منها. وهكذا تصبح كريمة هي «الأمل الوحيد» الباقي له، ولو كان منصفًا لقال إنها الواقع الوحيد الذي يملكه. أما إلهام فإنها «خرافة كالرحيمي». وفي اللحظة التي يرفض صابر فيها أن يمسك بسماعة التليفون لما تأكد أن صوت إلهام لا يزال قادرًا على النداء، في هذه اللحظة التي رفض فيها الطريق الحقيقي الوحيد إلى سيد سيد الرحيمي، فإنه قد أعلن في نفس الوقت قبوله للطريق الذي أتى منه وانتهى إليه، الحلقة المفرغة والدائرة الجهنمية التي بدأَتْها بسيمة عمران واختتمتها كريمة … ومن ثم كان لا بد من أن يقتل عم خليل أبو النجا «وأمك هي القاتل الحقيقي.» وكم حاول التخلص من الجريمة بالاعتراف بها لإلهام. ولكن السلسلة الدامية كانت قد التفت حول عنقه بإحكام بالغ. تظن إلهام أن «العمل» هو الذي يحل مشكلته، ولا ترى أن ما تظنه «مشكلة عابرة» قد أصبح جريمة مستعصية الحل. ولا بديل للجريمة — بعيدًا عن إلهام — ألا أن يصبح كهذا الشحاذ الذي يسمع مديحه النبوي طول الوقت «كان في شبابه فتوة داعرًا … ثم فقد كل شيء من قوة ومال وبصر فتسوَّل.» هذا الشحاذ الذي يقوم في الرواية بدور المرآة المتنقلة غير القابلة للكسر. وعندما يصبح اليأس هو مآلنا الوحيد نفتح العيون على آخرها، فعلى حافة الهوة تتهرَّأ أقدامنا ونستيقظ لحظة قبل الانهيار العظيم. حينئذ يتبدَّى لنا كل شيء على حقيقته ولكن كالرؤيا بعد فوات الأوان. هكذا يصرخ صابر بعد أن عرَف حقيقة إلهام «إذن رد الحياة إلى عم خليل واستيقظ من الكابوس»، «ها هو الحب والحرية والكرامة والسلام فأين أنت! ولماذا لم تقع المعجزة قبل الجريمة». وهل في الأمر معجزة يا صابر، أم أن العين الضريرة — بكل بساطة — لا ترى شيئًا وإن كان قرب بنانها؟ لا يتساءل الفنان هكذا، ولكنه يورد آهات صابر: إلهام، لستِ إلا عذابًا، لستِ إلا سوطًا «للتغيير والتعذيب». ولكن هذه الآهات لا تبدل من واقع الأمر شيئًا، حتى بعد اكتشافه لحقيقة إلهام، فهي حين تتصل به تطلب إليه اللقاء من أجل الأب «الذي جئت للبحث عنه.» لا يعيرها التفاتًا، فإذا ألحت واقترحت بأن تجيء هي إليه قال بضيق لا يخلو من حدة: «كلا.» وتنجلي الرؤيا كلها في عيني صابر وهو وحيد في الزنزانة، تمامًا كموقف ميرسول في نهاية «الغريب»، هذا مع القسيس وذاك مع محاميه. ويوجز صابر طريقه إيجازًا عميق الدلالة فيقول للمحامي الذي أرسلت به إليه إلهام فذرف عليها «الدمعة الثانية» في عمره كله: «الحكاية كلها كالحلم، جئت من الإسكندرية للبحث عن أبي فوقعت أحداث غريبة نسيت فيها مهمتي الأصلية، حتى وجدت نفسي أخيرًا في السجن.» وهل خرجت من السجن أبدًا أيها البطل التراجيدي العظيم؟ يستكمل صابر خيبته الدامية قائلًا: «والآن أكاد أن أنسى كل شيء إلا المهمة الأصلية التي جئت من أجلها.» بعد فوات الأوان، للأسف! والمحامي كالملايين الزاهدة في التفلسف، ولكنها تتفلسف رغم أنفها، فيومئ أنه لا جدوى من التفكير في هذا الآن، ولكنه يعِد بالإشارة إليها في المرافعة «باعتبارها أول جناية كتبت عليك قبل أن تولد»، و«لن تجني من الاهتمام بأبيك الآن إلا التعب الضائع؛ فإن مجيئَه أو عدمه سواء في موقفك الأخير.» وكالغريب في قصة كامي يهتف المحكوم عليه بالإعدام بأن اليأس لن يصيبه «إلا إذا وقع اليأس.» وكما أن المشهد الأخير في قصة «الغريب»، يكشف أعماق البطل كشفًا نهائيًّا، ويبلور رؤيا الفنان بلورة نهائية، فكذلك المشهد الأخير في قصة «الطريق» بالرغم من اختلاف جريمة القتل في قصة الكاتب الفرنسي عنها في قصة كاتبنا المصري اختلافًا في المقدمات لا يُفضي إلى اختلاف مشابه في النتائج. يقول ميرسول في خاتمة «الغريب»: «لم أكن أجهل أن الموت في سن الثلاثين أو في سن السبعين لا يهم كثيرًا، إنه في كلتا الحالتين سيعيش بطبيعة الحال رجالٌ آخرون ونساء أخريات، وسيستمر الحال على هذا المنوال آلاف السنين، ولم يكن هناك شيء أكثر من ذلك وضوحًا بأي حال، والشيء المؤكد هو أنني أنا الذي سأموت، سواء الآن أو بعد عشرين سنة.» وينفعل أخيرًا في وجه الكاهن قائلًا: «لم يعُد أمامي سوى وقت قليل لا أريد أن أضيعه مع الله.» وعن صابر تحدث ضمير الغائب «أين الله حقًّا؟ هو عرف اسم الله، ولكنه لم يشغل باله قط. ولم تشده إلى الدين علاقة تذكر. ولا شهد النبي دانيال ممارسة عادة دينية واحدة، فهو يعيش في عصر ما قبل الدين.» ويختتم بطل الطريق مأساته بالتمني ألا يكون هذا الأب حيًّا، كما يقول على برهان، فقد ضاعت الحرية والكرامة والسلام «ولم يبقَ إلا حبل المشنقة.» ولكنه في أعماقه تأكد له وجوده، ذلك الذي لا عمل له إلا الحب — تمامًا كزعبلاوي — وقد أهدى صاحبه كتابًا عن الشباب الدائم، فيا له من كتاب يحتاج إليه ابنه المحكوم عليه بالإعدام. وإن كان «الاتصال به إن لم يكن مستحيلًا فهو يستلزم وقتًا لن يتسع لك.» وتستسلم الكلمات على شفتَي صابر بلامبالاة وللمرة الأخيرة «فليكن ما يكون».
وتنهى رواية «الطريق» لتبدأ من جديد في داخلنا، فالحق أن مثل هذه الأعمال لا يكتب نهاياتها الكُتَّاب، لأنها بمجرد أن تتسرب إلى أعماقنا الخفية تشق لنفسها أخاديد غائرة في الوجدان يصعب على أي كاتب مهما أوتي من المقدرة أن يتنبأ إلى أين تنتهي.
ولست أزعم هنا أني أقدم تفسيرًا جديدًا أو مغايرًا لما سبق؛ لأن المنهج «التفسيري» في النقد ينهار من أساسه أمام هذه الأبنية الجديدة في أدب نجيب محفوظ، وهي أبنية مركبة في أمَسِّ الحاجة إلى التحليل والمقارنة أكثر من حاجتها إلى التعليل والتأويل. لذلك قلت إن الشكل في «الطريق» هو المدخل السليم إلى مضمونها، واضعًا في الاعتبار أن العلاقة الجدلية بين الشكل والمضمون لا تتيح الأولوية لأيهما على الآخر. وإنما يقترب نجيب محفوظ من فرانز كافكا في استلهامه قالبًا تعبيريًّا موازيًا — لا مفارقًا — لمحتواه الفكري. ومن ثم يصبح «تحليل» هذا القالب التعبيري إلى عناصره الأولية بمثابة التعرف المباشر على الخامات الفكرية المالئة له. فحين يبدأ مؤلف «المسخ» قصته بهذه الصورة التي وجد جريجور سامسا نفسه عليها ذات صباح «وقد تحول إلى حشرة ضخمة» فإنه في واقع الأمر لا يرمز بهذه الصورة إلى شيء خارجها، وإنما هو يقصدها قصدًا مباشرًا بدلًا من اللجوء إلى الاستعارة والتشبيه والمجاز. لقد كان من قبيل «التعقيد المبتذل» أن يشبِّه الفنان شخصية ما من شخصياته بأنها «حشرة»، فما كان من كافكا إلا أن ألغى حواجز النفاق الاجتماعي ومزَّق الاتفاق غير المكتوب بين الكاتب وقارئه، وجعل من إنسانه حشرة بالفعل ما دام يراه هكذا بدلًا من الاعتذار عن هذه الحقيقة الصارخة بإقامة جدار من التشبيهات المجازية المستعارة. وفور أن يصبح جريجوري سامسا «حشرة ضخمة» في ذلك اليوم الغريب تبدأ الأحداث مسيرتها «المنطقية» بدءًا من هذه النقطة «غير المنطقية» في ظن الكثرة الغالبة. ومن هنا يكشف الفنان زيف الحياة التي نحياها ولامعقوليتها في آن واحد. ولا يصل نجيب محفوظ بعمله الفني إلى هذا الحد من البساطة الملغِزة في أدب كافكا، وإنما هو يحاكيه في «تركيب» بنائه الروائي من أكثر المواد بساطة ومباشرة … بحيث تكتسب هذه المواد في تركيبها النهائي منطقها الخاص الذي قد يختلف مع المنطق العام الشائع، بأنه أكثر صراحة، بل وصراخًا. وبتعبير أدق، يتحول المنطق إلى أداة من أدوات الكشف والنفاذ إلى الحقائق، بدلًا من إكسابها قدرًا يتفق عليه الجميع اتفاقًا غير مكتوب من الاتساق الكاذب والتكامل المفتعل، وكما أن كافة التأويلات الدينية والنفسية لأعمال كافكا لم تُثمر فهمًا عميقًا له، فإن كافة المحاولات الميتافيزيقية والسياسية في فهم «الطريق» وغيرها من أدب المرحلة الجديدة لنجيب محفوظ لم تثمر ثمارها المرجُوَّة. ذلك أن هذه الأعمال — لكافكا ونجيب محفوظ — على الرغم من الاختلاف العميق والجوهري بين الكاتِبَين تتناول إحدى اللحظات «الحضارية» في التاريخ، وليست الميتافيزيقا أو السياسة إلا غطاءً خارجيًّا لا بد من كشفه حتى يمكن اكتشاف ما هو أعمق، أو ما استتر تحت الغطاء الذهبي.
وصابر هنا في تمزُّقه الأليم بين الحاضر والماضي والمستقبل، هو بطل تراجيدي متكامل السمات التراجيدية، هو امتداد حي لكمال عبد الجواد في مرحلة أكثر تعقيدًا. وإذا اعتبرنا كمال تجسيدًا لأزمة جيل لا لأزمة فرد، فمن حقنا أن نعتبر أزمة صابر تجسيدًا لأزمة أمة بأسرها وحضارة بكاملها، لا أزمة فرد. وحقًّا نجيب محفوظ يدين الطرق الفردية إلى الخلاص كما هو الحال مع سعيد مهران، ولكن صابر في «الطريق» لا يمثل طريقًا فرديًّا وإن تجسدت في شخصه الفرد كافةُ العناصر الحضارية الشائخة — رغم شبابه — والمؤدية إلى الانهيار … والحضارة — من أحد وجوهها — ليست إلا التقاليد المادية والمعنوية الممتدة من الماضي لإنارة الحاضر أو إظلامه. ويبدو أن ألف عام من الانحطاط والتخلف قد مزقت الأوصال بين ذُرَى نهضتنا الحضارية القديمة وبين ما وصل إليه الركب الحضاري المعاصر من تقدم. كما يبدو أن الصحوة المفاجئة التي صحوناها منذ أواخر القرن الماضي لم تستطع — في ظل الحضارة القاهرة لإنساننا — أن تكون صحوة عميقة وشاملة. فليس ماضينا مجرد تمثال لسعد زغلول يتعين على عيسى الدبَّاغ أن يترك مكانه تحته ليتابع الخُطى الحثيثة للشاب العجيب، وإنما هو ماضٍ يطاردك أينما كنت تحت التمثال أو بعيدًا منه، لأن ارتباطك به أعمق من ارتباط عيسى بحزب الأغلبية، وإنما هو في مستوى ارتباط صابر بأمه وكريمة في وقت واحد. وإذا كانت بسيمة عمران قد قتلت عم خليل أبو النجا — في رأي صابر — فإن صابر قتل أمه ولم يقتل كريمة في رأينا. وهكذا يختلف الأمر اختلافًا عميقًا بين موقف نجيب محفوظ من «الأب» وبين موقف كافكا الذي كان يراه بديلًا للسلطة أيًّا كان نوعها. وإن كان «البحث» هو العنوان المشترك بين الكاتِبين، سواء كان بحث «ك» أو جريجوري أو المسَّاح في قصص كافكا، أو كان بحث صابر والحمزاوي ومريض زعبلاوي وعرفة في قصص محفوظ. كما أن الأمر في جريمة صابر يختلف عنه اختلافًا كبيرًا في جرائم «الغريب» لكامي أو «قاتل بلا أجر» ليونسكو أو «اللص والكلاب» لنجيب محفوظ نفسه. ويكاد الأمر في تصوُّري أن يصبح أكثر جلاء ووضوحًا لو أننا عقدنا المقارنة بين صابر من ناحية وبعض شخصيات دوستويفسكي من ناحية أخرى. وفي زعمي أنه إذا كان نجيب محفوظ قد تأثر في ماضيه الفني بتولستوي وديكنز وبلزاك وزولا، فإن حاضره يتأثر بدوستويفسكي وكافكا وكامي وبيكيت. وقد ألمحنا في سياق هذا البحث عن بعض الجوانب في هذه التأثُّرات، وآن الأوان لنتعرض لبعضها الآخر. كانت روسيا القيصرية تعاني آلام «المخاض» الحضاري الوافد عليها من غرب أوروبا بعد ظلام كثيف كاد أن يدمر البقية الباقية من كيانها المادي والمعنوي. وكانت «حُبلى» بالثورة كما يقولون. ولكن دوستويفسكي بالرغم من الآراء السياسية التي ينثرها هنا وهناك قد ركز الجهد، معظم الجهد، على مستقبل «روسياه» الحضاري، أو مستقبلها «الإنساني» كما كان يحب هو أن يسمي هدفه من الكتابة الفنية.
•••
إذا كان صابر نموذجًا مزدوجَ الدلالة للإنسان المعاصر في مصر من ناحية، وأزمة المنتمي التي بلغت طريقًا مسدودًا في بلادنا من ناحية أخرى، فإن الفنان قد آثر أن تزدوج بقية الوجوه الأخرى في الرواية حتى أصبح «الطريق» الواحد طريقين: أحدهما يرتدي ثياب الواقع والآخر رداء الحلم، بل وازدوج الواقع والحلم؛ بحيث إن نسيجهما الكثيف والشفيف قد تداخلا على نحو غاية في التعقيد. وهكذا اختلف البناء الفني في «الطريق» اختلافا كبيرًا عنه في «اللص والكلاب» أو «السمان والخريف»، بالرغم من تقمصه لكثير من السمات البارزة في الروايتين. فسعيد مهران وعيسى الدبَّاغ يومئان برمزهما السياسي في مباشَرة ووضوح، وإن تلبَّس الرمز بعد ذلك بأثقال من الجوانب الشخصية، التي تندغم بالقضية العامة اندغامًا عميقًا. أما صابر الرحيمي فلا يبدو جوهره السياسي بالعين المجردة، وإنما لا بد من بصيرة ثاقبة تنزع عنه الأغطية الثقيلة من الجوانب «الشخصية». ولكن صابر يلتقي بعد ذلك بزميليه في الروايتين السابقتين من زاوية «التوحد» التي حمل فيها كافة العناصر الصانعة للمأساة من داخله ومن خارجه على السواء. وقد ترتب على تجسيد الفنان لبطله «الواحد» أن اشتركت لغة الطريق مع لغة الروايتين السابقتين: إذا تحدث البطل حديثًا نفسيًّا متواصلًا، أو تحاور مع الاخرين حوارًا داخليًّا، أو اشتبك مع أحلامه في شجار ظاهره الانسجام وباطنه التمزق.
وفي «الشحاذ» يعود نجيب محفوظ خطوة إلى ما قبل «الطريق» فيبرز الجوهر السياسي لبطله بروزًا شديدًا، يعود الشاب الطويل الأسمر الممسك بيسراه وردةً حمراء فيتخذ لنفسه اسمًا محددًا هو «عثمان خليل»، ويعود رءوف علوان الصحفي الثوري السابق، الذي خان وقد أصبح اسمه مصطفى المنياوي بائع اللب والفشار وكافة أدوات التسلية في الصحافة والإذاعة والتليفزيون. بل إن «كمال عبد الجواد» يعود من جديد وقد تطورت أزمته التي توقفت عند خاتمة الثلاثية بين أحمد وعبد المنعم شوكت باختياره الثورة الأبدية «مَخرجًا» من الحيرة المدمرة والشك القاتل، والتي ظهرت من جديد في «الطريق» بين كريمة وإلهام، بين بسيمة عمران والرحيمي. وكان نجيب محفوظ قد استخلص نتيجة خطرة في نهاية «الطريق» وكان لا بد له من اختبارها من جديد، كبندول الساعة يتحرك، ولكن هذه الحركة القصيرة السريعة المنتظمة لا تقف أبدًا «محلك سر» وإنما الثواني تجمع الدقائق والساعات والأيام والسنين، وإذ بالزمن «يتحرك» بمعدل أسرع من الحلم. فماذا تقول حركة «الزمان» في «الشحاذ»؟ إذا كان الفنان يعود حقًّا خطوة إلى ما قبل «الطريق» من حيث هو ينزع القشرة الخارجية السميكة التي تغطي حقيقة بطله بأستار كثيفة فيظهر الجوهر السياسي من تحت الغطاء الحضاري، فإنه في نفس الوقت يقدم هذا الجوهر في لحظة أكثر تركيبًا من أزمة سعيد مهران وعيسى الدبَّاغ بالرغم من اشتراكه معهما في هذا «الوضوح» النسبي. أي أنه يتقدم خطوة إلى الأمام في موازاة خطوته إلى الوراء. وتلك هي المعادلة الفنية التي تحكم مسار «الشحاذ» من البداية إلى النهاية. فهي بالرغم من تجاوزها للعنصر السياسي واحتوائها لمعظم العناصر التي اشتملت عليها «الطريق» إلا أنها تحاول فنيًّا أن تسلك طريقا تعبيريًّا مشابهًا «اللص والكلاب». وكما أن النتيجة التي انتهت إليها «الطريق» أكثر تركيبًا من خاتمة «زعبلاوي» فإن الاختبار الواقعي العنيف الذي تعرضت له في «الشحاذ» جاء أكثر تفصيلًا.
وقد بدأ الصراع بين النصفين الداميين منذ تساءل عمر على منضدة الشراب ومارجريت تخطر في ثوب سهرة مختلط الألوان لدرجة الغموض «ما عسى أن يفعل المسجونون لو تفشَّى بينهم مرضك الغريب؟!» وكان مرض البحث عن «نشوة الخلق المفقودة» هو التعبير الفني الذي اختاره الفنان كمعادلٍ موضوعي لأزمة عمر … وما دامت هذه هي نقطة الانطلاق في المعادلة، فإن الأحداث التالية تتداعى منها تداعيًا منطقيًّا محسوبًا. فمارجريت في حياته «كل شيء ولا شيء.» وقد اكتوى بين أحضانها، سواء وهي شبح في جوف الليل البهيم، أو وهي جسد نيراني مُتَّقِد بالرغبة «توَّاقًا لنشوة الخلق الأولى اللائذة بسر أسرار الحياة.» من هنا ظل يركض لاهثًا وراء نداء غامض مخلفًا وراءه «حفنة من تراب»، مسرات الأمس وحتى المدينة الفاضلة «حفنة من تراب»، ومن التراب يا عمر وإلى التراب تعود. وعند ما تحكي له وردة في عشهما — أو قفصهما — الذهبي أنها أحست يومًا بشيء ما غير محدَّد يحتاج إلى ما يحدده، لديها مضمون يبحث عن شكل، بين ضلوعها تُعربِد الموهبة، فكيف تتحول إلى فن؟ وجربت أن تكون ممثلة فتمردت على الأسرة وخرجت من البيت، ولكن الملهى الليلي كان المآل الوحيد عندما تقُص عليه وردة وكأنها تستكمل الوجه الآخر لمارجريت، يدوي «الفشل» في أعماقه دويًّا هائلًا «الفشل! اللعنة التي تدفن ولا تموت، ما أفظع ألا يستمع لغنائك أحد، ويموت حبك لسر الوجود ويمسي الوجود بلا سر. وتبعث الحسرات يومًا لتخرب كل شيء.» هكذا يتذكر أيام الشعر التي انقضت وأيام الحب التي ولَّت وأيام الثورة التي انتهت، ولم يعد ثمة «يقين» يمكن التشبث به. والبحث عنه في متاهات الجنس ضربٌ من الخبل، كالبحث عنه في متاهات التصوف ضرب من الخيال. وبين الجنس المجنون والتصوُّف الموهوم، يبرز «عثمان» كالشبح الشكسبيري في مسرحية هاملت. «وقال مصطفى بلهجة أكثر جدية: أقترح على رئيس التحرير أن ألقي محاضرات عن التوعية الاشتراكية على موظفي وعمال الدار.
– بأي صفة؟
– بصفتي اشتراكيًّا عتيقًا!
– وقبلت طبعًا.
– طبعًا، ولكني أتساءل: ما دامت الدولة تحتضن المبادئ التقدمية وتطبقها أليس من الحكمة أن نهتم بأعمالنا الخاصة؟
– كأن تبيع اللب والفشار وتتساءل عن معنى الوجود!
– أو أعشق لأبلُغ نشوة اليقين!
– أو تسقط مريضًا بلا علة.»
هذا الحوار بين مصطفى الذي بعث الفنان في شخصه رءوف علوان من جديد، وبين عمر الحمزاوي الذي بَعَث الفنان في شخصه كمال عبد الجواد وصابر الرحيمي وكافة المرضى بالمطلق والنظرة «الشمولية» للحياة … هذا الحوار يبرز أكثر فأكثر صورة الشبح الماثل لعينَي عمر، شبح «عثمان» الذي لم تتحول الأسوار العالية لسجنه الطويل إلى جسر بينه وبين الخيانة. وبين تنهدات وردة ورعشات مارجريت لم يهتز القلب ولا نال النشوة المستعصية. حتى عندما أحس حتى النخاع أن القتل هو الوجه الخلفي للخلق لم يغامر بشق صدر العشيقة المشتهاة، فهو لن يعثر في داخله عما يبحث عنه، عن تكملة الدورة الملغِزة التي لا تتكلم.» ونجيب محفوظ يستعير تعبيره الفني عن «الأزمة» في هذه النقطة من نقاط «البحث عن مخرج» من مصدرين: أولهما ألبير كامي في «السقطة»، والآخر هو توفيق الحكيم في «شهر زاد» حيث يمنح شهريار هذا التفسير العميق الذي يعطيه نجيب محفوظ لعمر الحمزاوي. ولكن الفرق بين نجيب محفوظ وألبير كامي هو أن «السقطة» الميتافيزيقية هي عماد الرحلة الوجودية، كما أن الفرق بين الحكيم ومحفوظ هو أن شهريار الحكيم ليس إلا تفسيرًا جديدًا لشهر زاد ألف ليلة وليلة، يتصل حقًّا بروح العصر، ولكنه في ارتباطه بمشكلة «العقل والقلب» في أدب الحكيم لا يتصل بأية وشيجة من هنا أو من هناك بقضية الانتماء في أدب نجيب محفوظ عمومًا، وأزمة «الشحاذ» خصوصًا.
وكما أن عمر الحمزاوي بدأ رحلة البحث عن نشوة اليقين في مباهج الجنس ولذائذه التي ارتوى منها بكافة الأساليب والمتع ثم آلت دورتها إلى انتهاء، وكما أن الصحراء في أحد أطراف الهرم كانت ملجأه اليتيم … فإنه قد استأنف هذه الرحلة العنيفة الهوجاء في مباهج التصوف عندما انطلق ذات فجر، وحده، إلى الطريق الصحراوي. ثم أوقف السيارة في جانب من الطريق المقفر وغادرها إلى ظلمة شاملة «ظلمة غريبة كثيفة بلا ضوء إنساني واحد.» واختفت من حوله الأرض والفراغ وظل «مفقودًا» تمامًا في السواد. ورفع عينيه إلى آلاف النجوم والهواء الجاف يهب منعشًا موحدًا بين أجزاء الكون «وبعدد رمال الصحراء التي أخفاها الظلام انكتمت همسات أجيال وأجيال من الآلام والآمال والأسئلة الضائعة» وابتهل إلى الصمت أن ينطق، وتضرَّع إلى حبة الرمل أن تطلق قواها الكامنة وأن تحرره من قضبان عجزه المرهق. وفجأة وهو يطيل النظر في الأفق «رق الظلام وانبثت فيه شفافية، وتكوَّن خطٌّ في بطء شديد ومضى ينضح بلون وضيء عجيب.» ورقص القلب الجريح واجتاحت حناياه الفرحة «وشملته سعادة غامرة جنونية، واندفنت الشكوك والمخاوف والمتاعب، وأظله يقين عجيب ذو ثقل يقطر منه السلام والطمأنينة … وملأته ثقة لا عهد له بها وعدته بتحقيق أي شيء يريد.» إذن فهي لحظة «الوجد» الصوفي العميق، لحظة «التوحد» الكينونة العظمى التي تتجاوز شمولها كل الكائنات، عندئذٍ يصبح هو «الله» الذي يستطيع أن يحصل على كل ما يريد، ولكنه في نفس اللحظة لا يريد شيئًا «ارتفع فوق أي رغبة وترامت الدنيا تحت قدميه حفنةً من تراب. لا شيء. لا أسأل صحة ولا سلامًا ولا أمانًا ولا جاهًا ولا عمرًا. ولتأتِ النهاية في هذه اللحظة فهي أمنية الأماني.» وكما أن وردة ومارجريت وغيرهما من عشرات الأفخاذ والنهود التي دفن في تشنجاتها الألم الممرض قد تطلبت منه أن يهجر «البيت» بكل ما مثله من قيم، وأن يهجر «المجتمع الرسمي» بكل ما يرمز إليه من مُثُل، فإنه لا يتوانى، وقد فشل طريق الجنس في هديه إلى مبتغاه، في أن يهجر البيت والأصدقاء والعالم كله إلى هذا الركن القَصِي من الصحراء، هذا الركن الذي تراءى له طريقًا جديدًا إلى النشوة المستعصية لعله يقوده إلى النجاة. وكأنبياء العهد القديم حين كان يظهر لهم ملاك الرب في مكان يجعلون منه أرضًا مقدسة يقيمون عليها المذبح، كذلك فعل الحمزاوي، حين عاد إلى هذه البقعة النائية من الصحراء، بغير سيارة ولا جاه، وأقام عليها كوخه الأسطوري … لقد أحس يقينًا — بلا جدل ولا منطق، هكذا قال — أن أنفاس المجهول وهمسات السر تدعوه، أفلا يستحق أن ينبذ كل شيء — هكذا استطرد — من أجل هذا النداء الخفي المقدس؟
وبين الجنس الخالص والتصوف الخالص، كانت هناك أنياب الواقع المُدَبَّبة تنهش لحم عمر وروحه. كانت هناك زينب، التلميذة المثالية للراهبات التي أصبحت رمزًا ثقيل الوطأة للبنك والمطبخ. وكانت هناك بثينة الابنة التي أخذت عن أمها لون العينين دون أن تأخذ أكداسها الدهنية، وأخذت من أبيها سر الوجود فصاغته شِعرًا دون أن تأخذ مرضه؛ فقد انتشلتها دراسة العلوم من «السقطة» التي آل إليها. وكان هناك ابنه سمير الذي وُلد من ليالي الضجر القاتل لكل خصب، كنعمات ابنة عيسى الدبَّاغ التي وُلدت هي الأخرى ثمرة من ثمار السأم والضياع. وكان هناك مصطفى المنياوي، الاشتراكي القديم الذي استراح نهائيًّا في أحضان اللب والفشار بعد أن رفعت عنه الدولة عبء الكفاح من أجل العدل. بين الجنس الخالص والتصوف الخالص، كان عمر الحمزاوي يتلظَّى في هذا الواقع المر، وهو الواقع الأكثر تفصيلًا من واقع صابر الرحيمي. ولكن الرؤية التقليدية لمعنى الطريق التي حاصرت صابر بين ضلفتي باب جهنم — إذ كان الطريق أمامه ولم يرَه — هي نفسها الرؤية التقليدية التي حاصرت عمر الحمزاوي في شخص عثمان خليل، وإن جاءت أكثر تفصيلًا هي الأخرى فتقليدِيَّتها وجمودها نابعان من عزلتها الطويلة عن الشعب، والثورة. وبانعزال عثمان عن «البناء» القائم على قدم وساق خارج الأسوار، كان «البناء» يتهدم داخل عمر الحمزاوي على قدم وساق. تلك هي الأنياب المدببة التي راحت تنهش في لحم عمر وروحه بالرغم من أفخاذ وردة ومارجريت، وبالرغم من التوحد مع الكينونة العظمى في طرف الصحراء … فقد قال عن زينب فور ولادتها لسمير «ها هي تخلق على حين يعجز هو عن الخلق.» ولم يملأ الوليد الثغرة التي تفصل بينه وبين زينب … وقال مصطفى إن الفن تخلى عن عرشه للعلم، وإن العلم لم يترك للفن نقطة واحدة يتحرك فوقها. وجاءت بثينة لتزاوج بين الشعر والعلم باحثة عن سر الوجود، ولكن بجناحين أكثر شبابًا وأملًا. غير أن عثمان خليل كان أعمق الجراح في صدر عمر من هذه الأنياب مجتمعة، لأنه الناب الداخلي أوغر الصدر وئيدًا ودون أن يلاحظ ذلك أحد، حتى إذا تهاوى العملاق مِن نابه هو لا مِن أنياب غيره انتابت «المفاجأة» الآخرين ولم تصبه بخدش. هكذا يسقط البطل التراجيدي سقوطًا عظيمًا. فلئن كانت الدولة اشتراكية مخلصة، «وفي هذا الكفاية» من وجهة نظر عمر، فإن الحقيقة الموضوعية لا تتغير بتغير ذوات الأفراد من وجهة نظر عثمان. و«ربما» يكون الوطن قد تطور إلى الأمام، أما عمر ومصطفى فقد تطورا إلى «الخلف». والإنسان إما أن يكون «الإنسانية» جمعاء وإما أن يكون لا شيء. وسوف يجيب عمر بعد قليل بأنه آن الأوان ليفعل ما لم يفعله في حياته «وهو ألا أفعل شيئًا»؛ لذلك فهو يفكر في تفجير الذرة، فإن تعذر ذلك ففي القتل، فإن تعذر ذلك ففي «الانتحار». والحق أنه منذ بدأت تخنقه الإجابات العاقلة وهو يحلم بأن يطير الكازينو الكبير فوق السُّحب، وأن تُراقص الزواحف العصافير. و«العقل الخالص» الذي يمثله عثمان هو أبغض البُغَضاء إلى «قلب» عمر. وإذا أومأ مصطفى — كما لو أنه يتعذر عن صديقه أما هو فلا حاجة به إلى الاعتذار — بأن عمر «يبحث عن نفسه» أجاب عثمان بسؤال المسيح: «أليس هو الذي أضاعها؟» فعثمان — ذلك العقل المطلق من قيود كل ما هو نسبي — لا يجد معنًى للبحث عن معنى «ذواتنا» إذا وعينا مسئوليتنا حيال الملايين. ويدق عمر مسمارة الأخير في نعشٍ يتوق إلى توسيد البطل التراجيدي قائلًا: «ترى هل تموت الأسئلة إذا قامت دولة الملايين؟» فيُحكِم عثمان دق المسمار في التابوت الأبدي مجيبًا: «ولكنها لم تقُم بعد.» والعلماء يبحثون عن سر الحياة والموت بالعلم لا بالمرض، فإذا لم تكن من العلماء، فلا أقل من «ألا تثير في وجوه العاملين غبار النواح والولولة»، والقلب مضخة تعمل بواسطة الشرايين والأوردة، ومن الخرافة أن نتصوره وسيلة إلى الحقيقة و«عمري الذي ضاع وراء الأسوار لم يضِع هدرًا، ولكن عمرك أنت سيضيع هدرًا.» هكذا يختار عمر نابه الداخلي، كاختيار كمال عبد الجواد لأحمد شوكت، وكاختيار صابر لإلهام، يمزق الأحشاء غير المرئية على أضواء الرؤيا العجيبة «للثورة الأبدية». وإذا كان كمال عبد الجواد يعترف بأن مشكلة الإيمان لم تُحل بعدُ فإن أزمة صابر أنه «آمن ولم يرَ» ولكنه لم ينَل التطويب الذي يجدر به؛ لأن إيمانه لم يتزحزح عن موقعه التقليدي. وكذلك آلت الأزمة نفسها ضارية كحمم الجحيم على عمر الحمزاوي؛ لأن إيمانه هو الآخر — المسمى عثمان خليل — لم يتزحزح عن موقعه التقليدي، لطول العزلة وارتفاع الأسوار. ولم يبقَ أمام عمر الحمزاوي الذي باغتته الأزمة في تعبير بدائي أن يطير الكازينو فوق السحب، وأن تراقص الزواحف الطيور إلا أن يرقص مع لهيب الأزمة فوق الهرم، أو يلقي بنفسه من أعلى جسر إلى قاع النيل أو يقتحم الهلتون عاريًا، «ويقينًا إن روما لم يحرقها نيرون، ولكن ضرمتها الأشواق اليائسة، كذلك تزلزل الأرض وتتفجر البراكين.»
وفي كوخه الأسطوري عند طرف الصحراء، حيث تكمن «حقيقة كل شيء في اللاشيء.» وحيث تاقت نفسه إلى لحظة الانتصار المأمولة «لحظة التحرر الكامل» لا تفارقه أنياب الواقع المدببة لحظة واحدة، فإذا بابنه سمير — وهو بعدُ قطعه لحم حمراء — يحمل رأس عثمان خليل ويطارد أباه مطاردة عنيفة حتى ينطرح على الأرض إعياء فيسمع الصفصافة تترنم ببيت من الشعر. واقتربت منه بقرة قائلة إنها سوف تتوقف عن درِّ اللبن لتتعلم الكيمياء. وزحفت حية رقطاء ثم بصقت أنيابها وراحت ترقص في مرح. وانتصب الثعلب حارسًا للدجاج، واجتمعت جوقة من الخنافس وغنت أغنية ملائكية … أما العقرب فتصدت له في لباس مُمرِّضة. وما أشبه ذلك الحلم العجيب بتلك اللحظة الفاتنة التي وقفها يومًا في بحر الظلمة العجيب حين أشرق عليه خط من ضياء بثه — فيما خيل إليه — أنفاس المجهول وهمسات السر … ما أشبه اللحظتين حقًّا وما أذكى الفنان حين يحقق الحلم القديم للزواحف أن ترقص الطيور، فالمعجزة تمت، ولكن بغير أن تكون الكينونة العُظمى في جوف الصحراء هي السبب ودون أن تكون الأشواق اليائسة هي الهدف. وإنما حدثت المعجزة تمامًا كما سبق لها أن حدثت لمريض زعبلاوي، أثناء نومه امتلأت خياشيمه برائحة الياسمين وتساقط على رأسه رذاذ ماء منعش. وإذا بزعبلاوي الذي يبحث عنه المريض المسكين قد كان «حاضرًا» أثناء «غيبته» العميقة بتأثير الخمر (لاحظ الدلالة المزدوجة للخمر، الجسدية والروحية، وهما الطريقان اللذان خاضهما عمر) وكأن الفنان يريد أن يؤكد على أن «غيبوبة» البطل لا تنفي «حضور» ما ظل يبحث عنه طيلة الرواية، أو البطولة. هكذا الأمر في مأساة عمر، إنه ظل غائبًا عن معنى الطريق — كصابر — يجوس في مختلف الطرق بعين تقليدية لا تلمح الطريق الوحيد الصحيح الأقرب إليها من كافة التعاريج والمنعطفات والدهاليز المظلمة … سواء كانت ظلمة الجنس في أعماق الصحراء والعش الذهبي، أم ظلمة الوجد في طرف الصحراء والكوخ الأسطوري. إن عمر يكتشف — فجأة — كما غابت الرؤية عن عينيه فجأة كذلك، أن وحدة الوجود وإرادة الحياة هي «المعنى» الذي يبحث عنه، ومعه البشرية بأسرها في موكب تاريخها الحافل. حينئذٍ يصبح «كل شيء له معنًى» و«لا شيء في الوجود عبث». كما همس عمر، والمطاردون لأزمته إلى ذروتها يتعقبون عثمان خليل المختبئ في هذا الركن القَصِي ويصيبونه — هو لا عثمان — بعيار ناري، ولكن «ليس لشيء نهاية.» كما يغمغم متذكرًا بيتًا من الشعر يتردد في وعيه بوضوح عجيب: «إن تكن تريدني حقًّا فلم هجرتي؟» وهو ليس سؤالًا بقدر ما هو جواب على السؤال الذي طرحه نجيب محفوظ — أو أعاد طرحه — في روايته السابقة «الطريق». فقد طرحه من قبل في «اللص والكلاب» وأجاب عليه الشاب الطويل الأسمر الممسك بيسراه وردةً حمراء، وطرحه من جديد في «الطريق»، وها هو يجيب عليه في «الشحاذ» بالطفل الموعود في أحشاء بثينة من عثمان خليل، ثمرة اللقاء بين الشعر والعلم والثورة. فذلك هو الأمل العجيب الذي يبرق بين الحين والآخر في عالم نجيب محفوظ، يبرق بريقًا عقليًّا خالصًا، وليس امتدادًا عفويًّا لأحداث الرواية. وذلك أيضًا هو تفسير ظهور البريق العقلي كالمعجزة، بلا مقدمات حقيقية في صلب القضية المطروحة للبحث. وهذا هو الفرق الهائل بين بناء «الشحاذ» وبناء «الطريق»؛ بل هو نفس الفرق الهائل بين بناء «السمان والخريف» وبناء «اللص والكلاب». ففي «الشحاذ» و«السمان والخريف» هو بناء عقلي خالص، ومحسوب كالمعادلات الرياضية، بالرغم من توظيفه لكافة الأدوات التكنيكية التي تَشي بالعفوية والبراءة، كالحلم والأحاديث النفسية وانسياب الزمن وتداخله وتدفقه باختلاف الضمائر الثلاثة. ونحن نستطيع أن نوجز «الشحاذ» فنجد أمامنا «زعبلاوي»، ولكنا لا نستطيع بحال أن نوجز «الطريق» أو «اللص والكلاب» لأنهما سؤال روائي، والسؤال يحتمل الظلمة أكثر من النور، والكواليس أكثر من خشبة المسرح. أما الجواب فهو يحمل في تضاعيفه «الضوء» الذي يُبدِّد كل ظلمة والأمل الذي يبدد كل شك. ونحن «نفهم» من بيت الشعر الأخير في خاتمة الشحاذ ما ظل غامضًا علينا طول الطريق. ولكنه الفهم المصنوع من مادة تختلف طبيعتها عن المادة التي صيغت منها أزمة صابر ومأساة عثمان. وكأن الفنان «يقحم» الحل على مشكلةٍ لا حل لها بدلًا من «الانتحار» … فماذا نصنع بعين مجردة لا ترى؟ أليست عينًا من زجاج … تضِلُّ أقرب الطرق إلى قدمي صاحبها لتوغل به في متاهات لا تخطر على بال؟ وكيف الحصول على البصيرة الداخلية التي ترتفع إلى مستوى النبوءة ما دامت أقدامنا لا تتزحزح عن مكانها كالتمثال؟ لم يصنع الفنان أكثر من وردة حمراء تلهب خطوات عيسى الدبَّاغ في السير إلى الأمام، ولم يصنع أكثر من بيت شعر قديم يحث عمر الحمزاوي على المزيد من السير إلى الأمام. بقي سؤال خطير أمام نجيب محفوظ: هل يتجاوز بطله التراجيدي موقع قدميه فيرى «الأمام» بكلتا عينيه، أم أن هذه الخطوة تظل «وعدًا» قابلًا للحلم به في نهاية بعض الروايات دون البعض الآخر، وبغير أن يحقق الواقع الأليم هذا الوعد فلا يسقط الفنان في وهاد الكذب؟ أي إنه إذا كانت مأساة صابر وعمر كامنة في ذلك العناء الداخلي أو الرؤية التقليدية لمعنى الطريق، فهل يعني ذلك ضِمنًا أن الطريق موجود رغم ذلك، أم أن المأساة الأشمل هي أنه ليس ثمة طريق على الإطلاق؟ بعبارة أخرى: أليس لنا أن نشك من جديد في وجود زعبلاوي ما دامت «الغيبوبة» التي أصابت مريضه بإغماء طويل قد رافقت صابر وعمر في رحلتهما الدامية للبحث عن مخرج. ألا تشكك هذه الغيبة الدائمة للطريق الصحيح في معنى حضوره؟
إن هذه التساؤلات تتزاحم على مخيلتنا برصدنا لكافة التطورات التي تراكمت على جانبي الطريق الذي مضى فيه «إيمان» كمال عبد الجواد: منذ تلك الإجابة الرمزية لأولاد حارتنا التي جددت السؤال تجديدًا مروعًا في «اللص والكلاب» إلى أن جاوبَنا الفنان جوابًا توقف ثانية عند أعتاب «أولاد حارتنا»، فعاود سؤاله من جديد في «طريق» صابر إلى العذاب الوحشي، وحاول الإجابة من جديد في «الشحاذ» … وفي كل مرة «سأل» فيها نجيب محفوظ، كان يصل إلى أبعد الأعماق غورًا، وفي كل مرة «أجاب» فيها كان يطفو على سطوح الأشياء، على القشرة الخارجية، ليلقي علينا بهذا الذي نسميه فنيًّا بالمعجزة، وندعوه أحيانًا بالأمل … هذا على الرغم من أن الشوط الذي كان يقطعه من سؤال إلى آخر كان الطريق يزداد ظلمة ووحشة بحيث تصبح الإجابة تلو الأخرى نوعًا من المقامرة. لذلك كان الفنان أمينًا كل مرة يدرك فيها أنه خسر الرهان في هذا الجواب أو ذاك، فيعيد السؤال من جديد. على أنه بالرغم من أن إجابته في «الشحاذ» أكثر عمقًا وتفصيلًا من إجابته في «السمان والخريف» … كان عليه أن يدرك بصورة أعمق أن «المعجزات» التي تتضمنها إجاباته السابقة، قد أثبتت «خطأ ما» في صميمها يتجاوز بمأساويته الدامية كل أخطاء الموقع التقليدي للقدمين الثابتتين والعين الزجاجية. وهذا ما يشكل في روايتيه القادمتين «ثرثرة فوق النيل» و«ميرامار» مرحلة جديدة تختلف كثيرًا عن مرحلة السؤال والجواب في «الطريق» و«الشحاذ»، والمرحلة الأقدم منها في «اللص والكلاب» و«السمان والخريف».
ومن بين أسماء الثالوث الغربي الحديث «روكانتان» في «الغثيان» لسارتر، و«ميرسول» في «الغريب» لكامي، و«دينو» في «السأم» لألبرتو مورافيا، يبرز بطل السأم من بين أفراد أسرة الاغتراب والعبث أقرب ما يكون إلى بطل الشحاذ في تكوينه الفكري وبنائه الفني، وإن اختلفت المقدمات والنتائج في رواية الكاتب الإيطالي عنها في رواية الكاتب المصري. فدينو ابن المرأة الغنية يحس فجأة باشمئزاز غريب من أمه ومن أموالها كتعبير عن اشمئزازه الأكبر من العالم وقواعد العيش فيه، ولكنه لا يجد المأوى في الرسم وإن جاءت الصورة التي تركها بيضاء من غير سوء إلا من توقيعه أسفلها أكبر الدلالات على نيل السأم منه بعد أن مزق الصورة الأولى وهي في تمامها. وهو أيضًا لا يجد المأوى في أحضان سيسيل التي تبدو كالكون الصامت لا تحير جوابًا على أسئلته الضائعة في لياليه الشاذة معها. ولا يجد أخيرًا سوى الرسام العجوز باليستيارى يعانق فيه مرآة مستقبله الأليم؛ إذ ينتحر الرجل ذات يوم لغير ما غاية. وكذلك يفعل دينو، ولكن دون أن يصيبه الموت، بل يتم إنقاذه — ذلك الهارب من الحكم المشمول بالنفاذ — ليلقى مصيره بعيدًا عن الحرية. فليس الإنقاذ هنا كجرح عمر الذي أفاق عليه في العربة مرددًا في ذاكرته ذلك البيت العجيب من الشعر، وإنما هو استئناف الحكم من جانب الوجود الصامت ليظل الكون — في نظر مورافيا — أخلد صمتًا من كافة المحاولات لاستنطاقه. ولقد أفاد نجيب محفوظ بغير شك من رواية «السأم» هذا الحوار العقلي البارد العاري من كل زُخرف عاطفي حتى يتيح للبطل الحد الأقصى من العُري أمام الذات. كما أفاد منه فكرة الجنس كطرف في الحوار الوجودي لا كإشباعٍ عابر وأفاد منه كذلك فكرة المرآة المتنقلة مع البطل بعدد خطواته سواء تمثلت شحاذًا لصابر في «الطريق» أو انتصبت شبحًا دائمًا على الصدر باسم الثورة المأزومة في «الشحاذ». ولكن هذه الفوائد جميعها تدخل في نطاق الأدوات التكنيكية. لا تحول ظلالها الفكرية من الاختلاف الجوهري العميق بين إنسان الغرب الحديث كما عالجه سارتر وكامي ومورافيا، والمنتمي العربي المأزوم أزمة مصيرية بالغة الضراوة والعنف في أعمال نجيب محفوظ.
لم يتجدد السؤال ولا الجواب في «ثرثرة» أو «ميرامار»، وإنما اكتفى الفنان بتحديد معالم «مرحلة الانتقال» التي نعيشها على كافة المستويات، بدءًا من الحالة النفسية وانتهاء بالفكر والحضارة مرورًا بالمناخ السياسي والاجتماعي. ولكي يؤكد نجيب محفوظ على أن مهمته لم تعد السؤال والجواب، وإنما أمست — مع تكاثف الظلمة — مجرد تحديد لمعالم الانتقال، اختار لروايته الأولى «عوامه» في النيل، ولروايته الثانية «بنسيون» على البحر. وكلاهما يرمزان إلى الإقامة المحدودة غير المستقرة. ولن نفاجأ بعدئذٍ بأن الفنان يستحضر في مخيلته الروائية بعض الوجوه التي صادفتنا في مرحلته — أو مراحله — الجديدة. فهو هنا لا يقدم أنماطًا جديدة من التعبير عن أزمة المنتمي. هذه الأزمة التي بلغت أعلى مراحل عنفها في «الطريق» و«الشحاذ»، وإنما هو يطمح إلى تحديد معالم مرحلة الانتقال التي أحاطت الأزمة بجدران عالية لا تنفذ منها كوة ضوء. فإذا تعرفنا على هذا المنتمي أو ذاك، هنا أو هناك، فإنه ليس مقصودًا — هذه المرة — لذاته … وإنما هو يقوم بدور المؤشر إلى نهاية الطريق المسدود التي أدت إليه تراجيديا مرحلة الانتقال الدامية.
وهذا المؤشر في «ثرثرة فوق النيل» تقوم بدوره شخصيتان: أنيس زكي، وسمارة بهجت، فهما الشخصيتان الوحيدتان اللتان يمكن أن تصب فيهما العوامة — رمز الانتقال وسط المخاطر — كافة عذاباتها التي لخصتها الجوزة الدائمة الحضور ومن حولها دائم الغياب. ويركز الفنان تركيزًا واضحًا على شخصية أنيس، استمرارًا لمنهجه الجديد في التعبير عن البطولة التراجيدية. ولكنه المنهج الذي يضيف إليه روافد لم يعرفها من قبل في رواياته الأربع التالية لأولاد حارتنا.
والرافد الأول هو السياق التاريخي الذي يمنح شخصية أنيس بُعدًا جديدًا لم يعرفه صابر الرحيمي أو عمر الحمزاوي، فهذا السياق الذي يضم في مجراه المتدفق، البُعد الميتافيزيقي والبعد الواقعي، يشي بذلك الإطار الذي حدده نجيب محفوظ لمعنى «الزمن» في مرحلة الانتقال التي اختار العوامة رمزًا مباشرًا لها. هذا الإطار المحدد في «ثرثرة» هو الإطار الحضاري الذي يجمع في مادته وتكوينه شعث العناصر التي شكلت أزمة سعيد مهران وعيسى الدبَّاغ في بدايتها، وأزمة صابر وعمر في ضراوتها … وهي بعينيها التي شكلت جوهر المأساة في «ثرثرة» و«ميرامار»، في ذروة الهزيمة.
والفنان يبني رموزه طابقًا فطابقًا حتى لَيكاد الدور العلوي — إذا نظرت إليه من السطح — أن يُنسيك الدور الأرضي، ولذلك كان «السياق التاريخي» هو سور مصر العظيم في «ثرثرة فوق النيل» يحمي أعلى الشواهق من أعمق القيعان، كما يحمي أغور الأعماق من ناطحات السحاب. أي إن الواقع السفلي في حياة أنيس الذي تبتدرنا به الصفحات الأولى من الرواية على لسان صديقه القائل: «فلتقم أنت في العوامة، لن تتكلف مليمًا واحدًا من إيجارها، وعليك أن تُعِد لنا كل شيء.» من حشيش وخمر، وكذلك الغمامة العلوية في حياة أنيس، تلك التي تبتدرنا بها الصفحات الأولى حين يقدم «كشف الوارد» إلى رئيسه ورقة بيضاء بغير سوء وداخله يردد: «لا حركة البتة في الحقيقة. حركة دائرية حول محور جامد. حركة دائرية تتسلى بالعبث. حركة دائرية ثمرتها الحتمية الدوار. في غيبوبة الدوار تختفي جميع الأشياء الثمينة.» ولكن الواقع السفلي والغمامة العلوية في حياة أنيس زكي يضمهما في تدفق ناري لا يرحم ذلك السياق التاريخي الغريب، الذي يبدأ في غزو مخيلته التي رأت في الحية الرقطاء أنها أدت خدمة لا تتكرر لملكة مصر القديمة، وأن المماليك ظلوا يضحكون رغم صراخ الثكالى «كلما عثروا على آدمي في مرجوش أو الجمالية أقاموا منه هدفًا لتدريبهم. وتضيع الضحايا وسط هتاف الفرح المجنون.»
وأول استعارة يقوم بها الفنان من أعماله السابقة ليصوغ ديكور العوامة العجيبة، هو «عم عبده» البواب العملاق كشيء ضخم عريق في القدم و«رمز حقيقي للمقاومة حيال الموت» والراجح أنه كان يسعى فوق الأرض قبل أن تغرس أول شجرة في شارع النيل — هكذا ردد أنيس — والراجح أيضًا أنه العوامة؛ لأنه الحبال والفناطيس «وإذا سهوت عما يجب لحظةً غرقَتْ وجرفها التيار» وهكذا ردد عم عبده. وسواء كان بوابًا لعوامة الثرثرة أو ربًّا لآل عبد الجواد في الثلاثية أو ساكن البيت الكبير المدعو بالجبلاوي في أولاد حارتنا، فإن ملامحه الفيزيقية تشف عن ذلك البعد الأسطوري في الرواية، تؤكده ولا تنفيه. والسياق التاريخي كما يشاء الفنان أن يُسميَ ما أدعوه بالإطار الحضاري، يحاصر هذه الاستعارة الأولى في ديكور الثرثرة بسؤال مباغت يلح على أنيس ما إذا كان يوجد للمعز لدين الله الفاطمي ورثة يمكن أن يطالبوا ذات يوم بملكية القاهرة، والإجابة المدوخة لرأسي يدور بلا محرك «إن الإفراط وحده كان السبب في أن أكثر الخلفاء لم يُعمَّروا طويلًا». وهو لا يتناول من رفوف مكتبته عبثًا كتاب ك. ك عن الرهبنة في العصر القبطي، ما دامت عيناه تنظران إلى الداخل لا إلى الخارج كبقية عباد الله. فالإنسان — أمامه — يرتد إلى العصر الطُّحلُبي، ولكن ما هي الأسباب التي حولت بعض المصريين إلى رهبان. وليلى زيدان — صديقة الأعوام العشرة الماضية — لا تذكره إلا بنفسها في عصر خوفو حيث كانت ترعى الغنم في شبه جزيرة سيناء، ولكنها لم تترك أثرًا إذ لدغها ثعبان أعمى فقضى عليها … أيُّ شبهٍ بينها وبين الحية الرقطاء التي أدت خدمة لا تنكر بلدغة كليوباترا؟ وليلى — مع ذلك — لا تقاس في لهوها بامرأة مثل فكتوريا ملكة العصر المحافظ المشحون بالتقاليد. وليس عجيبًا هذا التوازي المحكَم بين السياق التاريخي وما يومئ به أنيس من رموز وإشارات، كما أنه لم يكن عجيبًا في تصوره أن يعبد المصريون فرعون «ولكن العجيب أن فرعون آمَن حقًّا بأنه إله.» وهو يغبط نفسه على أن الذي جعل من تاريخ الإنسانية مقبرة فاخرة تزدان بها أرفف المكتبات — ومن بينها مكتبته — لا يضن عليها بلحظات مضمخة بالمسرة. فيا له من مدير أحمق — وأعمى! — هذا الذي لا يرى ما كتبه أنيس في بيان «الوارد» بالرغم من أن الصفحة ظلت بيضاء بغير سوء، تمامًا كصلعة المدير التي تجلت كظهر قارب مقلوب في قبضة الظلام «ووضح تمامًا بأنه من سلالة الهكسوس فوجب أن يرتد إلى الصحراء.» والمدير العام أول الضيوف الجدد في الرواية الجديدة — والطبقة الجديدة على السواء — وليس من قبيل الصدفة ولكن من قبيل الإحكام الروائي أن يطارد الضيف الجديد ذلك السياق التاريخي القائل بأن «الثورات يدبرها الدُّهاة وينفذها الشجعان ثم يكسبها الجبناء.» ولا نجاة من الظلمات إلا في ظلمة أعمق، رابضة في جوف الحوت الذي أنقذ يونس من الهلاك. والحياة تمضي قبل أن نستوعب ما يمر بنا، حتى إذا كان ضربًا من الخيالات المعربدة في رأس أنيس، فما الخيال وما الواقع؟ ومن يكون رجب إله الجنس ومتعهد العوامة بالنساء؟ وإذا كانت ليلى زيدان التي جاء بها لأول مرة هي نفسها فتاة سيناء التي قضى عليها الثعبان الأعمى فهو — رجب — لن يكون شيئًا آخر غير جده القديم الذي كان يسعى في الغابات قبل أن يُقام بناء واحد على ظهر الأرض «كان يدفن في أحضان النساء مخاوفه من الحيوان والظلام والمجهول والموت. كان له رادار في عينيه ورادار في أذنيه وقنبلة مجسمة في قبضة يده. وحقق انتصارات عجيبة قبل أن يتهاوى هالكًا» لنحرص غاية الحرص على هذه «النبوءات» في يدنا كمرآة سحرية للماضي الحاضر أو الحاضر الماضي، فهما معًا «زمن» واحد متعدد الأبعاد حقًّا، ولكن جوهره الحضاري المتدفق عبر التاريخ لا يتأثر بالتفاصيل. من هذه التفاصيل تلك الاستعارة الثانية من الشحاذ؛ حيث يقبض الفنان على عمر الحمزاوي ويوجزه في «مصطفى راشد» أحد أبناء العوامة، المحامي المعروف والفيلسوف. متزوج ولكنه لا يزال يعتقد أنه لم يعثر على أنموذجه المفضل من النساء «وهو يتطلع بصدق إلى المطلق وسوف ينجح في إدراكه ذات ليلة.» ولا خوف ينتاب المؤمن — وبخاصة إذا كان أنيس — ما دام الحوت في الماء، ولكن «سناء» القاصر وأحدث مُنجَزات رجب، يدها صغيرة كيَد نابليون. والانشغال عن الخوف بالخوف في حياة أنيس، سواء حين يهدده المدير بالفصل على طول إدمانه للأفيون، أو وهو يتأهب لقضاء العمر في غابة موحشة، هو ظِل باهت للخوف الذي يجتاح أهل العوامة مهما قال «علي السيد» — نيابة عن الجميع — «لأننا نخاف البوليس والجيش والإنجليز والأمريكان والظاهر والباطن فقد انتهى بنا الأمر إلى ألا نخاف شيئًا.» ويستكمل رجب ملامح الصورة وهو يطرد شبح الخوف عن مهاجمة سناء، كالذباب «فالدولة منهمكة في البناء ولديها ما يشغلها عن ازعاجنا» … وهكذا يصبح هذا البناء شفيعًا مرتين: الأولى عند مصطفى المنياوي بائع اللب والفشار؛ إذ كان اشتراكيًّا قديمًا، والآن لم يعد للنضال معنًى ما دامت «الدولة» تقوم به، والثانية عند بائع آخر يمثل الأدوار المسلية التي يكتبها البائع الأول، هو رجب النجم السينمائي الذي يبرر غواية البنت القاصر بأن «الدولة» منهمكة في البناء. وكأن الدولة في الحالتين كائن ميتافيزيقي معلق في فضاء خرافي، لا يتأثر بناؤه باللب والفشار من ناحية، والمخدر والغواية من الناحية الأخرى. بل وكأن تجارة الدعارة الفكرية الفنية، تختلف في شيء عن المتعة والجريمة التي هيأتها بسيمة عمران لابنها صابر … بل إنها لَتجارة واحدة يظلم أصحابها أنفسهم والدولة معهم والمستهلكين جميعًا إذا لم يحصل أحد الأطراف على نصيبه من الأرباح والخسائر «فيا أيَّ شيء افعَل شيئًا؛ فقد طحننا اللاشيء.» كما صرخت أعماق أنيس، ولا ريب «أن أشنع تهمة في عصرنا هي الرجعية» مهما تلوثت الكلمات بتهكم رجب. ولم يبدع الإنسان — تستأنف أعماق أنيس — ما هو أصدق من المهزلة.
ولم يكن ذلك السياق التاريخي المضطرم بالأحداث العظام إلا «يومًا واحدًا»، في حياة أنيس، ولكن ما أبعده عن ذلك اليوم في حياة آل عبد الجواد التي خصص لها الكاتب ثمانين صفحة أو يزيد من صفحات الثلاثية. وما أقربه في نفس الوقت من يوم التوراة — مضروبًا في سبعة — الذي خلق فيه الرب العالم كله! فالكلمة هنا — في ثرثرة — أثقل وزنًا من صفحة كاملة في الثلاثية العظيمة، وموكب التاريخ يمضي أمامنا في كلمات نحتها أنيس زكي من أشواقه العليا وارتباطاته التُّرابية على السواء. واكتفى الفنان في هذا اليوم من أيام أنيس، أن يقدم بقية الشخصيات في الرواية بصورة تقريرية مباشرة، وأن يصور المناخ النفسي العام لهذه الأسرة الغريبة التي تجتمع من كل حدب وصوب حول الجوزة كل مساء «تثرثر» حقًّا، ولكن ثرثرتها ليست كالنقش على سطح المياه، وإنما كالمسامير الملتهبة في قلب هذه الشخصية الغريبة «أنيس زكي». وأنيس يختلف في بنائه الفني عن صابر في الطريق وعن عمر في الشحاذ؛ لأن منحاه الفكري مختلف أعمق الاختلاف. إنه بغير شك يمضي خطوات في طريق صابر. كما أنه يتسول نشوة اليقين المستعصية على الشحاذ عمر … ولكنه لا يمضي في طريق صابر إلى نهايته ولا يظل شحاذًا إلى الخاتمة. لذلك فبالرغم من أنه «البطل الفرد» الذي يجمع في طواياه أزمة مجتمع ومسئولية حضارة، إلا أن بقية الشخصيات من حوله ليست مجرد شرايين تدفع الدم في عروقه، وإنما هي «شخصيات» حقيقية وليست أشباحًا. وذلك هو الرافد الجديد الآخر في «ثرثرة» بعد الرافد التاريخي، وكان الرافد الثالث هو المكان في معاصرته للزمان، هو العوامة التي تحمل أكداسًا من الكتب وأرفُف التاريخ، ولكنها تحمل في نفس الوقت «أحشاء» الحاضر وأغواره العميقة.
ولعلنا نعثر في «اختيارات» نجيب محفوظ الفنية من «مقبرة التاريخ» الواسعة الفاغرة فاهًا على آخره تبتلع الحاضر عبر غيبوبة أنيس الدائمة، ما يشير إلى طبيعة هذه الشخصية وما تمثله. ولعلنا أيضًا نعثر في اختيارات الكاتب لبقية الشخصيات ما يبلور معنى العوامة في حياتنا، والثرثرة التي لا تفارق جنباتها لحظة واحدة. وبالرغم من أن الغرق ليس من نصيبها كبعض العوامات المجاورة التي لاقت هذا المصير فإن الدمار يلاحقها في ظلمة الصحراء في ذلك اليوم اليتيم الذي خرج فيه الصحاب — أو تجرَّءوا بمعنًى أدق على الخروج — فاقترفت سيارتهم وهرولتهم جريمة القتل التي تهربوا من مواجهتها الواحد بعد الآخر … إلا أنيس زكي وسمارة بهجت. وتكاد معظم الإشارات التاريخية أن تكون منتقاة من لحظات «الهزيمة» في حياة الشعب المصري، الهزيمة الحضارية الساحقة لكل حرية وكرامة وسلام، الهزيمة الحُبلى بكل عبودية وانحطاط وامتهان. منذ لدغت الحية ثدي كليوباترا إلى أن غاص المماليك في دماء المصريين إلى هارون الرشيد الجالس على أريكة تحت شجرة مشمش والجواري يلعبن بين يديه، وأنت — يا أنيس — تصب له الخمر من إبريق ذهبي «ورَقَّ أمير المؤمنين حتى صار أصفى من الهواء وقال لك: هاتِ ما عندك، ولم يكن عندك شيء فقلت قد هلكت. ولكن الجارية ضربت أوتار العود وغنت … فطرب الرشيد حتى ضرب بيديه ورجليه، فقلت ها هي فرصة لتهرب وانسحبت بخفة، ولكن الحارس العملاق لمحك فاتجه نحوك فجرى وراءك شاهرًا سيفه، فصرخت مستغيثًا بآل رسول الله فأقسم ليرمين بك في سجن بينهم …» والسجن الحقيقي هو هذه العوامة التي يجتمع أهلها بين جدرانها على سطح المياه بدافع «الموت» كما همس أنيس وسمارة تخطو أولى خطواتها فوق الصقالة من الشاطئ الآخر، وخُيِّل إليه أنه رآها، ولكن في أي عصر من العصور الغابرة؟ وهل كانت ملكة أو من الرعية؟ على أية حال فأنف علِي السيد وجاذبية رجب القاضي وعملقة عم عبده تشكل فيما بينها صورة الصديق القديم الذي اكتشف النار منذ آلاف السنين ولم يكن هناك وقتها ملوك ولا رعايا. وكما أن معظم الإشارات التاريخية تكاد أن تكون منتقاة من لحظات الهزيمة في حياتنا، فإن معظم الشخصيات المحيطة بأنيس وسمارة تكاد أن تكون هي «الهزيمة» نفسها أو السلبية كما قال مصطفى راشد، أو الفراغ المطلق كما قال رجب. إن المحامي الكبير والصحفي اللامع والنجم السينمائي والمطلقة والقاصر والمزواجة، كلها وجوه سبق لنا التعرف عليها كأشباح مجردة في عالم نجيب محفوظ الجديد، ولكنها هنا في «الثرثرة» ليست أشباحًا على الإطلاق، وليست مرايا تحاصر البطل بكافة أوضاع وجهه التراجيدي … وإنما هي شخصيات حقيقية تقوم بأدوارها مستقلة عن كيان البطل وإن تكاملت معه. وعندما يبوح خالد عزوز بهذا السر المعلن «كل قلم يكتب عن الاشتراكية على حين تحلم أكثرية الكاتبين بالاقتناء والإثراء وليالي الأنس في المعمورة.» فإنه لا يصوغ موقفًا من مأساة المجتمع، وإنما هو يحرك المؤشر في اتجاه المأساة فحسب. وليس هذا بالدور الصغير. والمؤشر يتخذ اتجاهًا واحدًا مهما اختلفت الأيدي التي تحركه. حتى عم عبده البواب العملاق «هو إمام المصلَّى المجاور وهو قواد» تمامًا كالقلم الداعي للاشتراكية بشرط أن يقضي صاحبه ليالي الأنس في المعمورة. لا يزال المؤشر في اتجاه المأساة. مأساة الكيان المنقسم والوجه المزدوج. جانبه مزيف الضوء. والجانب الآخر صادق الظلمة. وليس صحيحًا أن أهل العوامة «مخدَّرون» لا يعنيهم «الواقع» المحيط بهم في شيء … وإذا كان مصطفى راشد يقول مازحًا إنهم يعملون للرزق في نصف اليوم الأول ثم يجتمعون بعد ذلك في زورق ليسبح بهم في الملكوت، فإنه هو نفسه الذي يقول إنه «لا ينتمي لشيء إلا هذه العوامة.» فماذا تكون هذه العوامة إذا كان الانتماء إليها يترجَم بلسان علي السيد أن السفينة تسير «دون حاجة إلى رأينا أو معاونتنا.» ولا فرق حينئذٍ — عند أنيس زكي على الأقل — بين كليوباترا والمرأة التي تبيع المعسل بدرب الجماميز. أو أن تكون سمارة من مواليد برج العقرب أو أن يكون على موعد مع فكرة «مجردة» ذات طابع «جنسي». هذه المجموعة الهائلة من المتناقضات هي العمود الفقري للعوامة وخارجها، للواقع السفلي والغمامة العلوية في حياة أنيس. للسياق التاريخي المتدفق. ولكن اللقاء بين أنيس وسمارة على ظهر العوامة. وإن كان عنصرًا متناقضًا مع بقية العناصر واللقاءات إلا أنه يهمس بالنبوءة التي لا تتحقق بمعزل عن السياق أو عبر مسافة بين البداية والنهاية. وإنما تتجلى النبوءة في «ثرثرة» خلال الأحداث وديناميتها … حتى إن أنيس لا يعكس عين محبة للزائرة «وثمة أسد واحد يلتهم اللحم ويرمي للآخرين بالعظام. وعظام الزائرة الجديدة مترعة بنخاع مزعج.» ومن الممكن أن يكون رجب هو الأسد الأناني. ومن الممكن أن يكون أسد العوامة مجرد ظل لأسد البحر المضطرب من حولها. وأن يصبح «لكل شيء نهاية» — تختلف عن صرخة الشيخ درويش في زقاق المدق — فإنها تكون اللعنة التي لا تبقى في المجمرة — آخر الليلة — إلا الرماد. وبانقضاء الليلة الثانية يتضوَّع من النيل شَذًا مائيٌّ ذو نكهة أُنثوية، فهل تكون سمارة بهجت — رمز التغيير الوحيد الذي حدث في العوامة هذه الليلة، بسلطة الالتزام المطلق وسط الضائعين — هل تكون قد عبرت في خيال أنيس تاركة رائحتها عربون ارتباط في المصير؟ وإذا لم يكن في النجوم من يُعنى برصد كوكبنا ودراسة أحوالنا الغريبة فنحن ضائعون. هكذا يتشنج العويل المكتوم في قلب أنيس وروحه، وكأنه يقرر إذا لم تكن سمارة طوق النجاة فالهلاك هو الخاتمة الجديرة بالجميع. فلعل مسرحيتها تمنح «المعنى» لمن لا معنًى لحياتهم أو في حياتهم، وهي إذن في دراستها لشخصيات المسرحية إنما تؤكد انتسابها لمن يُعنى برصد كوكبنا من كوكب آخر حتى لا تضيع أو لا تزداد ضياعًا؛ فالطائرات الأمريكية ضربت فيتنام الشمالية، وأسراب الكاديلاك تفرش الطريق الطويل نحو الاشتراكية. وقال أنيس لنفسه «كل ذلك» يستقر في جوف الجوزة ثم يتبخر دخانًا، ولكن هذا الدخان يركز دور المؤشر إلى «الهاوية» التي يرقد على حافتها العالم. وقديمًا كان الحمار ينطق بالنبوءة إذا لم يجد الله رجلًا صالحًا، فلا بأس من أن يصف خالد عزوز ليلى زيدان بقوله: «مشكلتها الحقيقية هي مشكلة الوطن كله، وهي أنها فتاة عصرية، أما الزواج فبرجوازي.» وإذا كانت الأسس القديمة التي استقر عليها «المعنى» قديمًا تهاوت، فإن سمارة تقدم أساسًا جديدًا هو «إرادة الحياة» فلو فقدت أنات عمر الخيام حرارتها فقل على الراحة السلام. وكالتعليق الساخر الذي يربط بين ليلى زيدان ومشكلة الوطن، كذلك يسخر مصطفى راشد من أحمد نصر، الزوج المثالي الذي «يقف من نساء العوامة موقف المصريين من الأحداث.» وعندما يخلد أنيس إلى نفسه بعد انقضاء الليلة كل ليلة، لا يجد سوى عم عبده. هذا الذي لا يضعف ولا يشيخ ولا يعرف له أحد عمرًا ولا يظن أنه سيموت، فيتمثل له العملاق في لحظات حضوره — كما تمثل أحمد عبد الجواد لابنه كمال، وكما تمثل الجبلاوي لعرفة — كالوجود الوحيد في خلاء صوتي. حينئذٍ يعي أنيس ما إذا كان همه الأول هو التذكر أو النسيان، وكل ما يدريه أنه سائل نفسه: لماذا وقف التتار عند الحدود؟ وينصف السؤال نبيًّا للهزيمة كنجيب محفوظ، لم يعربد بفكره ولم يتاجر في سوق النخاسة، فقال في «الشحاذ» ضمن حوار بين الطبيب وعمر إن المرض الداهم كالعدو الرابض على الحدود … وها هو ذا يعود في ثرثرة ليؤكد نفس المعنى من قبل أن تعلن الهزيمة عن نفسها بصورة دموية مباشرة. وتذكر أنيس لقاءه المتخيَّل مع نيرون، وأكد إنه كان مجرد إنسان عادي فعشق الفن، ولما وجد نفسه إمبراطورًا قتل أمه، فلما صار إلهًا أحرق روما. وسمارة كالجمرة المشتعلة أبدًا لا تريد أن تنطفئ، تحرق العقول والأفئدة بإيمانها الذي لا يكل بأنه على الإنسان أن يثور «ولو كان سنةً مُرة». وليست المشكلة انفصامًا بين الفكر والسلوك؛ لأن ما يستقر في الرأس لا بد وأن يؤثر بطريقة أو بأخرى في السلوك والمشاعر. لذلك تبهت صورة الوحش القاتل ويبقى الإنسان المنتصر، وشاهده «الدلتا» التي اخضرَّت وأثمرت رغم الشوك والزواحف والوحوش والذباب، فلم يكن ثمة وقت إلا للعمل، ولا هدنة لدفن الموتى. وحقًّا كلويس السادس عشر لا يدري عما يدور في الخارج، لا هو ولا غيره، سواء كان الحادث «انتحار» المرأة في العمارة المقابلة أو «غرق» العوامة المجاورة … ولكن الغيبوبة لا تدوم طويلًا ما دامت سمارة قد أقبلت. هل حدث ذلك، قبل الأوان أو بعده؟ تجيب الرواية في بنائها الديناميكي المتماسك إجابة شحيحة، لا تبوح بسرها دفعة واحدة، ولا تمهد له بقطرة تنبُّؤ. ولكنا نلتقط السر في جريانه المندفع، في سياقه التاريخي الذي أدعوه بالإطار الحضاري. بل ويدعوه الكاتب بالتسمية نفسها حين يصرخ أنيس «يا أوغاد … أنتم المسئولون عن تدهور الحضارة الرومانية.» ثم يحدده تحديدًا صارمًا بقوم ينتظرون إمامهم منذ «ألف سنة» وكأنه المخلِّص أو المسيح المنتظر. وهي السنوات التي قضتها حضارتنا في تخلف وانحطاط اكتفى الفنان فيما مضى بالإشارة إليها بالسنوات الثلاثين من عمر صابر الرحيمي التي قضاها في جو مفعم بالدعارة والجريمة، في القرب من، والبعد عن، أمه بسيمة عمران. والهزيمة العسكرية ليست إلا مظهرًا دمويًّا للهزيمة الحضارية، سواء حدثت في يونيو ١٩٦٧م أو حدثت في عينَي أنيس زكي حين تجلت له المأساة على حقيقتها في «ميدان المعركة»؛ حيث يجلس قمبيز على المنصة ومن خلفه جيشه المنتصر وإلى يمينه قُواده المظفرون، وإلى يساره فرعون يجلس جلسة المنكسر، والأسرى من جنود مصر يمرون أمام الغازي. ويضيق صدر أنيس وهو يرى موكب التاريخ موكبًا من العار والهزيمة، ويضيق بأية حكمة — أية نظرية؟ — إلا حكمة واحدة تنعى جميع الحِكَم، فلن تستطيع إحدى النظريات أن تُلغي هذا الركام الهائل من العار. وقبيل القيلولة سُمع نابليون وهو يتهم الإنجليز بقتله بالسم البطيء، «ولكن ليس الإنجليز وحدهم الذين يقتلون بالسم البطيء.» وإنما التخلف الحضاري الطويل وانعدام التقاليد الديمقراطية في أسلوب الحكم يؤديان هذا الدور «القاتل ببطء» في حياة الشعوب. وتلوح الدنيا — أم مصر؟ — غريبة عند تداول الأفكار، والمخدر ليس وسيلة للهروب من همومٍ شخصية كما يجمع أهل العوامة في مواجهة سمارة؛ لأن الأعباء التي يقومون بها في وعيهم أثقل وزنًا من الأعباء التي يرومون حملها في خدرهم. وهم حقًّا مجموعة من الضائعين، كما تود سمارة أن تصوغ من نفسها مرآة للانتماء يرون فيها حقيقتهم الضائعة في سُحُب الدخان، ولكن كيف — من ناحية — «يحققون الاشتراكية على أسس شعبية وديمقراطية لا زيف فيها ولا قهر.» والأخطار — من ناحية أخرى — «التي قد تحيق بهم كمصادرة الأرزاق والاعتقال والقتل»؟ هل يتمكن الانتماء المثالي — سمارة بهجت — من حل مشكلة الضياع المثالي؟ فلو أن المطلق في حياة مصطفى راشد — أو عمر الحمزاوي من قبل — هو مجرد وسيلة للهرب من المسئولية، ألا تكون المسئولية بالنسبة للكثيرين هروبًا من المطلق؟ أم أن المسئولية والمطلق يلتقيان في «أن الداء الحقيقي هو الخوف من الحياة لا الموت»؟ ويضرب نجيب محفوظ ضربته الفنية البالغة العنف والضراوة — كنبي للهزيمة — لعلنا نفيق من غيبوبة الزمان في عوامةٍ لا زمان لها … وذلك حين يتراءى «تُحُتمس الثالث» لمخيِّلة أنيس زكي ويدور بينهما هذا الحوار: «ماذا تفعل؟
– أتقاسم العرش مع أختي حتشبسوت.
– يسأل الكثيرون عن سر خمولك في ظلها.
– إنها الملكة.
– ولكنك الملك أيضًا!
– إنها قوية وتحب أن تستأثر بكل شيء.
– ولكنك أكثر قُوَّاد مصر وأعظم حكامها!
– لم أخُض حربًا ولم أمارس الحكم بعد.
– إني أحدثك عما ستصير إليه، ألا تفهم؟
– وكيف عرفت ذلك؟
– من التاريخ، كل الناس يعرفونه … إنه التاريخ، صدقني.
– لكنك تتكلم عن مستقبل مجهول!
– إنه التاريخ، صدقني.»
ومن له أذنان للسمع فليسمع، هكذا أتصور الفنان يقول لنا وهو يكتب هذا الحوار العظيم، ومن له عينان فليرَ. وفي هذا المقطع يختار نجيب محفوظ فترة من أزهى عصور الحضارة المصرية القديمة، ويكاد أن يكون المقطع الوحيد وسط الظلمة الداكنة من الإشارات التاريخية العديدة إلى الهزيمة في حياة مصر. ولكن هذه النقطة البيضاء السابحة في بحر مظلم بلا قرار، إنما تجيء في إطارٍ من التساؤلات التي تضع الانتصارات بين قوسين، أو على الأقل موضع التساؤل. بل إن هذه التساؤلات في جوهرها قد تبادلت الحوار من وجهة نظر الهزيمة. والفنان لا يتوسل بالمخدِّر الذي يتعاطاه أنيس طيلة يومه ليستتر تحت لسانه المسطول فينطق علنًا بما يهمس به سرًّا، وإلا لكان أنيس زكي مجرد بوق رخيص يختفي وراءه الصوت الحقيقي. وإنما يضيف نجيب محفوظ إلى هذه الشخصية الفريدة بُعدًا تاريخيًّا يوجز معالم الحضارة التي عشنا في ظلالها في سياق متدفق لا تنفصل خلاله الغمامة العلوية عن الواقع السفلي في حياة أنيس. لا ينفصل الخاص عن العام، ولا الجزء عن الكل، ولا الفرد عن المجتمع، ولا المجتمع عن العصر الذي نعيش فيه. من هذه الزاوية تقترب هذه الشخصية الرئيسية من صابر الرحيمي. ولكنها تتجاوزها طولًا وعرضًا وعُمقًا. فهي شخصية تاريخية تضم في إهابها الماضي والحاضر والمستقبل، وهي شخصية حضارية تضم بين جوانحها طيَّات لا نهاية لها من أغوار الواقع الذي نعانيه. فلم يكن عبثًا أن يكون أنيس زكي هو الناطق الرسمي الوحيد باسم التاريخ في هذه العوامة العجيبة، ولم يكن عبثًا كذلك أن يصوغه الكاتب من بقايا التلميذ الجوَّال بين الكليات النظرية فلا يستقر لشهادته المتوسطة إلا على مكتب الصادر والوارد بوزارة الصحة. هذه الهوة الواسعة بين مركزه المتواضع في المجتمع، وبين ارتفاعه الحقيقي على كافة القامات الفكرية التي يصادفها في العمل والطريق لم يكن ردمها ممكنًا إلا بالمخدِّر، صباحًا في فنجان القهوة، ومساء في جمرات الجوزة. فمن الحشيش والأفيون أقام أنيس زكي جسرًا بين الحلم والواقع، بين الخيال والحقيقة، بين الذات والعالم. ولم يصنع الفنان شيئًا سوى أن جعله جسرًا تاريخيًّا، يختزل الزمان والمكان في إطارهما الموضوعي الصارم، إلى شفرة حلمية أسرع من الضوء. ولا تقوم بقية الشخصيات — باستثناء سمارة بهجت — بدور «المرآة» في حياة أنيس، كما أنها لا تقوم بدور الديكور الذي يزين له أَبْهاء الحاضر حتى لا يضيع في مقبرة التاريخ. وإنما هذه الشخصيات كما رسمتها سمارة — شخصيات حقيقية لها دورها الذاتي المستقل مهما شاركت — من موقعها الخاص — في صنع المأساة الشاملة. ويبدو أن الكاتب قد أراد أن يقدم لنا شخصياته مرتين: الأولى من وجهة نظرهم، والأخرى من وجهة نظر المرآة الموضوعية المحايدة. فسمارة تصف أحمد نصر — في مسرحيتها التي سرق أنيس مسودتها — بأنه يشعر في زاوية من نفسه بأنه «مسئول» أو يجب أن يكون مسئولًا عما يجري من حوله. ومصطفى راشد يجد في المطلق مبررًا للإدمان، ولكنه يَهَبه — فوق ذلك — إحساسًا «بالعلو» فوق تفاهته الحقيقية. وعلِي السيد يطارده الإحساس بالتفاهة والخيانة والعبث، ولكنه من خلال الدخان تتخايل أمام عينيه «إنسانية جديدة». وعلى هذا النحو تصبح هذه الشخصيات الثانوية حقًّا، ولكنها حقيقية جدًّا، ذات بُعدين: الأول يفصح عنه هذا الأسلوب الهروبي البشع، والآخر هو اليقين بأن هناك مسئولية ما تطاردهم من شأنها أن تعلُو بهم على حقيقتها الراهنة، ومن شأنها أيضًا أن تخلق للعالم إنسانية جديدة. حتى عندما نطق الصمت من بين شفتَي أنيس واتهمهم بالهروب أردف أنه هروب من «الخواء» الذي يظلل حياتهم بهذا الضباب المهلِك. وهم يشاركونه التعبير عن هذا الخواء المدمَّر بموجة عاتية من التعليقات «المازحة» فنيًّا، والبعيدة كل البعد عن معنى الهذر. اختلطت الأصوات اختلاطًا شديدًا حتى لَيبدو أن المتكلم واحد، وأنه الجميع في نفس الوقت:
«– لا هروب ولا خلافه، ولكننا نفهم حقيقتنا كما ينبغي لنا.
– عوامتنا هي الملاذ الأخير للحكمة البشرية.
– هل الاستغراق في الأحلام هروب؟
– أحلام اليوم هي حقائق الغد.
– هل التطلع إلى المطلق هروب؟
– أف … وهل علينا مِن عمل سواه؟
– وهل الجنس هروب؟
– اخص! إنه الخلق نفسه.
– وهل الجوزة هروب؟
– هروب من البوليس إذا شئت!
– أهي هروب من الحياة؟
– إنها الحياة نفسها.»
وهكذا يصل الكريشندو إلى الذروة، فتصبح العوامة بكل ما ترمز إليه هي الحياة نفسها. وتتبادل العوامة والحياة هذا المعنى في قمة ما يصل إليه خيال أنيس من نشاط «عقلي»، فالجنون مرض في أي مكان، ولكنه «فلسفة» في «عوامتنا»، بل «والشيء شيء حيثما كان ولكنه لا شيء في عوامتنا.» إن هذه السلسلة من المقارنات بين العوامة وخارجها ليست إلا مجموعة من التساؤلات الحائرة في قلب أنيس حول ما آلت إليه حياتنا في تطورها بالنسبة إلى الحضارة خارج حدودنا. فعندما يصبح للجنون فلسفة، وعندما يصبح الشيء لا شيء، فإن هذا ينطبق أول ما ينطبق على سكان العوامة، ذلك الكهف الغائر في أعماقنا. وإذا كان أنيس قد أدار حواره الذكي مع تُحُتمس، مع لحظة زاهية من لحظات حضارتنا، فإنه يستكمل الحوار على لسان الحكيم «إيبور» الذي عاصر اضمحلال «كل شيء» فأنشد أمام فرعون:
ولا سبيل أمامنا إلا أن نصدق «التاريخ» كما قال أنيس لتُحُتمس، وأن نصدق «الفن» كما يقول لنا نجيب محفوظ. ومرة ثالثة ورابعة وإلى ما لا نهاية من المرات، لقد كان هذا الرجل أول أنبياء الهزيمة من أدبائنا الذين رأوا الهَول قبل وقوعه.
-
أصل المتاعب مهارة قرد!
-
تعلَّم كيف يسير على قدمين فحرَّر يديه.
-
وهبط من جنة القرود فوق الأشجار إلى أرض الغابة.
-
وقالوا له عُد إلى الأشجار وإلا أطبقت عليك الوحوش.
-
فقبض على غصن شجرة بيدٍ وعلى حجرٍ بيدٍ وتقدم في حذرٍ وهو يمُد بصره إلى طريق لا نهاية له.
وهي كلمات لا تنفي الهزيمة ولا ترسم الطريق إلى النصر. ولكنها تتجاوز السؤال والجواب في رحلة صابر الرحيمي وعمر الحمزاوي، تتجاوز بشكل خاص المشهد الحضاري الذي حلم به عمر كتفسير للمطلق، تتجاوزه إلى السياق اللانهائي للتاريخ المتدفق الذي عرف فيه القرد أن وحوشًا سوف تطبق عليه، ولكنه حمل سلاحه في يده ومضى إلى الأمام. وليس رجب وطبقته الجديدة التي أطبقت على الثورة المصرية بمخالب من حرير إلا إحدى لحظات الهزيمة في حياة إلهام وجيلها وحضارتها، هي لحظة «الانتقال» من عصر إلى آخر من عصور هذه الحضارة، لم تسمح له الوحوش إلا بأن يكون عصر الهزيمة. و«ثرثرة فوق النيل» لذلك هي أعظم إشارات النبوءة في أدبنا الحديث، إلى ما كان، وما سيكون.
•••
هذا المعنى المزدوج للزمن يتطلب من نجيب محفوظ أن يختار أطول شخصياته عمرًا — عامر وجدي — كمرآة سحرية ترسَّبت تحت سطحها الأملس صور الماضي البعيد. تنقَّل في شبابه بين الأحزاب الوطنية المختلفة ثم استقر كاتبًا صحفيًّا بارزًا من كتاب الوفد. كره الإخوان المسلمين ولم يفهم الشيوعيين. لم يكن حزبيًّا بالمعنى الحرفي للكلمة فلما جاءت الثورة رحَّب بها من قلبه؛ لأنها حلت له قضية شخصية، فالوفد لم يستطع أن يحل له مشكلة الولاء لمصر وللزعماء الذين تخلفوا عنها في وقت واحد. ولكن الثورة بدورها لها جيلها، وهو يشعر بأبوته الروحية لهذا الجيل، ويشعر لنفس السبب بالغبن والجحود فلا كلمة وداع يعتكف على أثرها في أحضان الشيخوخة؛ لأنه يبدو ألا كرامة لإنسان «إن لم يكن لاعب كرة.» وأُبوَّة عامر وجدي لهذه الثورة هي المعادل الموضوعي لحرمانه من الأطفال، فضلًا عن الزواج، كاستقلاله التنظيمي عن الأحزاب. فهو يفرق بين عزوبيته الواقعية والفكرية، وبين عقم ماريانا صاحبة البنسيون التي تزوجت مرتين ولم تنجب، مشيرًا بذلك إلى ما تمثله من قِيَم وهي وبنسيونها. فقد تزوجت في المرة الأولى من ضابط إنجليزي قُتل بيد طالب مصري في مظاهرات ثورة ١٩١٩م، ولم تهرب أثناء الحرب إلى بلدها، بل فتحت البنسيون على مصراعيه أمام ضباط الإمبراطورية. هي إذن البقية الباقية من ذكريات الاستغلال الاستعماري لهذا البلد الكريم، الذي ما يزال تخلفه يمنح البعض مكانًا على أرضه. وتكتمل لعامر وجدي بعض صفات كمال عبد الجواد عندما يردد أننا إذا تحسسنا موضعنا في العالم لن يصيبنا إلا الدوار، فمن ذا الذي يستطيع أن يقول بملء الفم إنه عرف الإيمان. وفي مواجهة عامر وجدي يضع الفنان شخصية ثانوية من بقايا المجتمع القديم، طلبة مرزوق من كبار الأعيان ووكيل الوزارة السابق، الذي يرى في سعد زغلول سببًا بعيدًا عن العيون فيما وصلت إليه الأمور من إثارة الإحَن بين الناس والتطاول على الملك وتملُّق الجماهير «رمى في الأرض ببذرة خبيثة، ما زالت تنمو وتتضخم كسرطان لا علاج له حتى قُضي علينا.» وأكبر خطأ ارتكبته أمريكا في حق البشرية — يقول طلبة — أنها ترددت في الاستيلاء على العالم وكانت وحدها تملك القنبلة الذرية. هذا هو الرجل الذي جمع في قلبه بين الرسول والمندوب السامي، لذلك يري أن الثورة لم تصنع شيئًا إلا أنها سلبت البعض أموالهم وسلبت الجميع حريتهم. وهنا يبرز دور عامر وجدي — شاهد الزمن في الرواية كعم عبده بواب العوامة — فيقول ساخرًا: «إنك تتكلم عن حرية بالية، وحتى هذه لم تحظَ باحترامكم أيام سطوتكم.» ويبرز هذا الدور أكثر فأكثر حين يخلع أبوَّته على «زهرة» هذه القروية الناضجة الأنوثة التي تمرَّدت على القرية وجاءت إلى المدينة بحثًا عن حياة أفضل، فاختارت العمل في هذا البنسيون وكانت تأتي إليه من قبل مع أبيها وهو يُحضِر للست ماريانا ما تحتاج إليه من زُبد وجُبن. وتبدو، «زهرة» على طول الرواية وقد بعثت فيها شخصية «سنية» في «عودة الروح». هذه الفتاة التي تودد إليها الجميع بدرجات متفاوتة لأهداف متباينة، وكاد توفيق الحكيم في بعض سطوره أن يصرح بأنها تمثل لديه «إيزيس» أو «مصر» أو ما شابه ذلك. و«زهرة» أيضًا يتودد إليها الجميع لأسباب شديدة الاختلاف، ولكنها ليست رمزًا شاملًا لمصر، وإنما هي أقرب ما تكون إلى إلهام في الطريق وسمارة في الثرثرة، تجسد الوجه الثوري الأصيل لمصر. لذلك يتبناها عامر وجدي تَبنِّيًا روحيًّا حقيقيًّا، وفي المقابل يراها طلبة مرزوق مجرد فرد من أفراد القطيع في عزبته وأملاكه القديمة. أما حسني علام، هذا الذي ينتمي بسنه إلى جيل الثورة، وبجذوره إلى الطبقة المنهارة، فإنه يتمناها إحدى خليلاته. أراد أهلها أن يزوجوها من رجل عجوز فهربت بجلدها من القرية، وهذا أول وجوه الشبه بينها وبين عامر وجدي الذي رمَوه «بتهمة باطلة فقال أقوام إني أستحق القتل.» وإذا كان سعد زغلول عند طلبة مرزوق أساس البلاء، فهو عند عامر وجدي قد استمع حقًّا إلى نصائح الشيوخ ولكنه، غالبًا ما اتبع آراء الشباب. ولذلك يرى شبابه مجسدًا في زهرة دون غيرها. وحسني علام يتمناها لمجرد أنها أجمل من قريبته «الحمقاء التي قررت أن تختار عريسها على ضوء الميثاق.» وبالرغم من أن حسني لم يفقد كل شيء؛ إذ تبقت له مائة فدان وقد جاء إلى الإسكندرية بحثًا عن مشروع تجاري ناجح، إلا أنه يحس في أعماقه بأنه فقد كل شيء، ولم يبقَ له سوى السرعة الجنونية التي يقود بها السيارة، والنساء اللاتي يتعرف عليهن في الصباح بإحدى دور السينما وينام معهن فترة القيلولة. وهو يعيش حياته فريسةَ الضياع المرهق والحيرة المدمرة، فهو يكره طبقته من الأعماق، ويكره الثورة من القلب ولا يرى في كل من يمتدحها إلا منتفعًا أو مرشدًا أو خائفًا. وإذا كان طلبة مرزوق قد عبر عن فشله النهائي بخيبة الليلة التي أمضاها مع ماريانا فجاء منظرهما مبكيًا ومضحكًا معًا، فإن حسني علام يعبر عن ضياعه الأبدي بانطلاقاته الجنسية التي تقوده ذات ليلة إلى قوادة عجوز فلا يجد عندها بضاعة تذكر، ولا يجد مناصًا من مضاجعتها رغم دهشتها وقولها «لست مستعدة» إنه يجيبها جوابًا ذا مغزًى: «لا أهمية لذلك، ولا أهمية لشيء.» وفي بحثه عن المشروع التجاري الناجح يلتقي بأهل البنسيون لعل فيهم من يصلح شريكًا له. وبالرغم من أنه يرى في سرحان البحيري «منتفعًا بالثورة» إلا أنه يكتفي بما قاله طلبة مرزوق نقلًا عن صديق يعمل معه في الشركة من أنهم يصفونه هناك بأنه شاب ثوري «وفي هذا الكفاية» … واستطرد طلبة بأننا نعيش في غابة يتعارك وحوشها على «أسلابنا» وما تحت بدلة سرحان إلا مجنون بالترف. ولكن «لا ولاء» عند حسني لشيء منذ أن قذفت به طبقته إلى الماء والقارب يميل به إلى الغرق «سعادة عظمى ألا يكون لك ولاء لشيء. لا ولاء لطبقة أو وطن أو واجب. لا أعرف عن ديني إلا أن الله غفور رحيم.» لذلك يتحول ولاؤه الوحيد إلى قوادات الشاطبي وسبورتنج وسيدي جابر، ويهطل عليه مهرجان الشهوة مع الرعد والمطر والبرق، وفي جوف السيارة يهمس للمرأة العارية تمامًا مثله: «ألا تودين أن تخرجي اللسان للدنيا ومن عليها وأنت في حماية هذه الغضبة الكونية» … وإذا دب في نفسه الملل سارع إلى القوادة المالطية في كليوباترا لتدعو له أكبر عدد من بناتها ويمضي سهرة عجيبة معربدة مُوشَّاة بأبهج الحماقات التي لم يعرف التاريخ لها مثيلًا منذ عهد المغفور له هارون الرشيد. وعندما يمتنع عليه المرام من زهرة بعد أن تكشف له أنها ليست تاكسيًّا، وإنما عربة ملاكي لسرحان البحيري، يكتفي من الرحلة بالإياب وبرفقته العشيقة السابقة لسرحان، يقيم معها ويشتري الملهى الذي تعمل فيه. ولم تكن معركته مع سرحان وزهرة إلا تجسيدًا للمسافة الهائلة بينه وبين الثورة مهما نافق المتحدثين باسمها. كان طلبة مرزوق هو الشخص الوحيد الذي يضمر له حبًّا واحترامًا، وكان سرحان عدوه من اليوم الأول، وهو لا يحب قلاوون الصحافة كما يحلو له أن يصف عامر وجدي. وقد دخل في نقاش سافر مع سرحان الذي هاجمه يومًا سائلًا:
«خبرني لِمَ تملك وحدك مائة فدان على حين أن كل ما تملكه أسرتي عشرة فقط؟
فسألته وأنا أكظم غيظي: ولم تملك عشرة على حين لا يملك ملايين من الفلاحين قيراطًا واحدًا؟!»
لكن الكاتب في هذا الحوار كان يضرب عصفورين بحجر واحد، فالحق أنه إذا كانت ثمة مسافة هائلة بين حسني والثورة فإن هذا لا يعني تلقائيًّا أن ثمة مسافة مماثلة بينه وبين سرحان الذي استبدل الهجوم ذات يوم بهذا الجسر الجديد بينه وبين حسني:
«– اصرف النظر عن مشروع المقهى وما شاكل ذلك، إنك ابن ناس، وعليك أن تختار مشروعًا مناسبًا …
– مثل ماذا؟
– أنا أقول لك، مشروع تربية دواجن وعجول مثلًا، إنه يدرُّ ذهبًا.
ثم بعد تفكير قليل: ممكن أن تؤجر قطعة أرض في منطقة سموحة، وممكن أن أساعدك بما لي من خبرة وأصدقاء، وربما شاركتك إذا أسعفتا الظروف.» (ذلك هو أول الخيط بين سرحان — الذي تدرج للثورة من عضوية هيئة التحرير إلى الاتحاد القومي إلى عضوية لجنة العشرين بالاتحاد الاشتراكي وعضوية مجلس الإدارة — وبين الطبقة الجديدة التي يكتمل قوامها من بقايا الطبقات المنهارة وبعض الفئات من جيل الثورة). لذلك كان من الطبيعي أن يترك سرحان فكرة الارتباط بزهرة مفضِّلًا الارتباط بمُدَرستها «علية» التي تسكن مع أسرتها في الدور «العلوي» من نفس العمارة، وتملك أسرتها بعض العمارات في الإسكندرية. كانت زهرة — تأكيدًا لما تُمثله من قيم ثورية — قد قررت أن «تتعلم» فطلبت من علية أن تعطيها درسًا بالأجر، بين دهشة الجميع وعطف عامر وجدي. وعندما يتحول سرحان من زهرة إلى علية يهتف حسني ساخرًا شامتًا: «لتحيَ الثورة ولتحيَ قوانين يوليو.» وهو بذلك يفض أغشية الرمز حول شخصيتَي زهرة وسرحان.
ونبلغ بذلك حدود المنتصف من البناء الروائي في ميرامار، الحدود التي قدم لنا فيها الفنان جيلًا كتب عليه الانفصام — الاضطراري أو الاختياري — عن مسار الثورة؛ فعامر وجدي وطلبة مرزوق، وحسني علام، يلتقي ثلاثتهم في الفعل الماضي سواء كان فعلًا ثوريًّا كما هو الحال مع الأول، أو فعلًا رجعيًّا كما هو شأن الثاني والثالث. ولكنهم جميعًا لا «ينتمون» إلى الحاضر بعد أن فصلت الشيخوخة بين عامر وجدي والأحداث المحيطة به، وبعد أن توجه انتماء طلبة مرزوق إلى المنفى في بلاد تضخ البترول سبقته إليها كريمته، وبعد أن عثر حسني علام في صفية وملهى الجنفواز على قارب النجاة وهو الذي قذفته طبقته إلى الماء والقارب يميل إلى الغرق. بقيت شخصيتان على جانب كبير من الأهمية هما منصور باهي وسرحان البحيري. وقد تعرفنا على جانب من قصتيهما في مجموعة العلاقات التي تربطهم بالبنسيون وساكنيه وصاحبته. أما بقية الجوانب في حياة منصور فيجرنا إليها السياق برحيله من القاهرة إلى الإسكندرية ليعمل مذيعًا بها. وكان رحيله تدبيرًا محكمًا من أخيه ضابط الأمن الكبير الذي أرغمه على ترك التنظيم السياسي السري. وهكذا بدأت مأساة منصور منذ خرَّت إرادته أمام الأمر الواقع مرموزًا إليه في شخصية أخيه، بالبطش والإرهاب. ولكن هذه الإرادة الكسيرة لها مع صاحبها تاريخ قديم لا ينفصل عن التاريخ الحديث. فقد هزمت الإرادة منصور باهي حين ربط مصيره بحب دُرية زميلته في الجامعة، ثم تبدَّد هذا المصير هباء عندما تزوجت من أستاذهما فوزي الذي هداه إلى طريق الثورة الشاملة وتنظيمها السري. واقترنت هزيمة القلب بهزيمة العقل، فأصبح «العفن يجري مع الهواء ولعله يصدر أصلًا من ذاتي أنا.» ومن الطبيعي أن يلتقي منصور مع سرحان في أكثر من نقطة، وهكذا فهُما معًا يمثلان جبهة «الثورة» ضد طلبة مرزوق وحسني علام. ولكن هذا التحالف لا ينفي صراعًا جوهريًّا بين الاثنين، هو الصراع بين «محدث الاشتراكية» سرحان البحيري، الذي عرف الاشتراكية بمعناها «المحلي» وهي ترتقي أعلى مراتب السلطة وبين المناضل منصور الذي عرفها كأحد الطرق المؤدية إلى السجن عبر الدهاليز السرية والمخابئ التي يتحتم على المناضلين الحقيقيين أن يعيشوا فيها أيامًا وسنين. ولذلك كان منصور هو «الشاب» الوحيد الذي لم يتهجم على زهرة حبًّا حقيقيًّا أو اغتصابًا، وعندما فشل في استعادة نفسه مع درية وعرض على زهرة الزواج رفضته. لأن زهرة بباطنها الثوري البريء ترفض الارتباط بخائن أو متردد أو جبان. وتجربتها مع سرحان من أبرز التجارب الدالة على هذا المعنى، فحين تكشفت أعماقه عن «حسنين» بداية ونهاية — الذي عثر في الالتحاق بالجيش على السلم الطبقي الناجع — بعثوره على «الاشتراكية» ويا للمفارقة سلمًا طبقيًّا ناجعًا هي الأخرى، حين تكشفت فيه على أنياب الطبقة الجديدة الوارثة لأمجاد الطبقات القديمة تحت لافتات براقة ومغرية، لفظته في الحال. وكذلك الأمر مع منصور باهي فقد علم أن زملاءه القدامى «قُبض عليهم أمس» فما كان منه إلا أن صوب سهام اليأس إلى قلب درية زوجة صديقه وأستاذه في الجامعة. وأقبل انهيارها انهيارًا جديدًا له؛ إذ ارتفع فوزي إلى مستوى الأنبياء ووفر عليهما عناء المداورة ومنح زوجته من خلف الأسوار حريتها. وكانت هذه الحرية هي السجن الجديد لمنصور، هي نقطة النوشادر العنيفة التي أفاق عليها فرفض الاستمرار، رفض الهبوط إلى أعماق الجحيم «أن تؤمن وأن تعمل فهذا هو المثل الأعلى، ألَّا تؤمن فذاك طريق آخر اسمه الضياع، أن تؤمن وتعجز عن العمل فهذا هو الجحيم.» وبحاسة داخلية لا ترى اكتشفت زهرة عمق الهوة التي تردى فيها منصور، فرفضته بحزم. قال لها من قبيل جس النبض:
«– هناك شخص ينغص عليَّ صفوي …
– من هو؟
– شخص خان دينه!
فحركت يدها مستنكرة: وخان صديقه وأستاذه!
واصلت حركتها الاستنكارية، فسألتها: هل يغفر له الذنب أنه يحب؟
فقالت مستفظعة: حب الخائن نجس مثله.»
والفنان يعطينا صورة مزدوجة لأزمة المنتمي إلى الثورة الأبدية وهزيمته معًا: صورة فوزي الذي يقترب في الكثير من صورة أحمد شوكت وعثمان خليل والشاب الطويل الأسمر الممسك بيسراه وردة حمراء، ثم صورة منصور باهي، المنتمي الذي تخونه تحت إرادته وطأة الإرهاب فيخون رسالته في ظل أبشع الظروف. ولا تختلف صورة فوزي عن صورة بقية زملائه في أعمال الكاتب السابقة، أقرب ما تكون إلى الصورة العامة المجردة والرؤية التقليدية العاجزة عن فهم جدلية الواقع وحيويته بالرغم من الفلسفة الجدلية التي يعتنقها صاحبها. أما صورة منصور باهي فقد نالت من نجيب محفوظ قدرًا كبيرًا من العناية والفهم، وأكاد أقول التعاطف. وكانت المرة الأولى التي يُنزل فيها المنتمي الثوري من ملكوت السموات إلى أرض البشر. ومن خلال ضعف منصور وهزيمته أوضح الفنان جوانب السلب في «الطريق» الثوري، و«البناء» الاشتراكي. فبعد أن كان يكتفي في الماضي بإدانة الرؤية التقليدية لمعنى الطريق، فإنه هنا يدين هذا «المعنى» للطريق الذي اختَطَّتْه الثورة لنفسها. وهو المعنى الذي آلت نهايته إلى السقوط والاندحار بالخاتمة الرمزية التي ينتحر فيها سرحان البحيري بموسى حلاقة قديم. ولكن صورة منصور وصورة فوزي متكاملان؛ لأن الكاتب يظل على إدانته للرؤية التقليدية الجامدة، ثم يضيف إدانته العميقة الدلالة لموضوع الرؤية. وكأنه يقول إن الفعل الثوري المتجسد في «البناء» لم يسمح بأفعال ثورية موازية له أو متلاقية معه، وإنما سمح فقط بردود الأفعال العنيفة، التي تؤدي بفريق من أصحابها إلى السجن، وبالبعض الآخر إلى الارتداد. والارتداد في حياة منصور قد بدأ بالتخلي عن تنظيمه الثوري، ولكنه في استقامته المنطقية قد انتهى بالتخلي عن كل شيء نظيف. وهو لا يعزم على قتل سرحان البحيري إلا عزمًا حلميًّا جبانًا. فهو ينسى المقص الذي قرر أن يقتله به ويكتفي بأن يضربه وهو ميت. لقد أراد أن يقتل نفسه في سرحان، أي أن ينتحر، ولكن الفنان يصل بإرادته المسلوبة إلى أقصى نهاياتها الفاجعة فيحرمه من القدرة على الانتحار أو قتل سرحان. لقد فرغ منصور من الداخل تفريغًا كاملًا، فلم يعُد يرى في زهرة إلا مرآة للشرف المسلوب والنفي بلا كبرياء. وقد تصور للحظات أن خَلاصَه مرهون بلحظة شجاعة يقتل فيها سرحان وكل ما يمثله من فواجع، ولكن الفنان — إمعانًا في تجسيم الهزيمة — لم يهَبْه لحظة الارتياح هذه فلم يقتنع القضاء بأنه القاتل بعد أن ثبت انتحار سرحان ثبوتًا لا شك فيه.
أما سرحان فيبدو في اللوحة البانورامية التي رسمها نجيب محفوظ لمصر الثورة، أنه الطرف النقيض لحسني علام الذي يبدأ حديثه عن نفسه بشعار اللامبالاة «فريكيكو لا تلُمني» … فسرحان يبدأ بشعار التسلق الطبقي الذي عرفناه في حسنين «بداية ونهاية» وعرفناه بسرعة خاطفة في حسن «بالسمان والخريف» وهو الشاب الذي ورث عيسى الدبَّاغ في كل شيء؛ في السياسة والحب، والتحق بركب الثورة. وعرفناه في رءوف علوان باللص والكلاب، الصحفي الذي باع المبادئ بالفيلا والعربة. وعرفناه في بقية السلالة من أبناء الطبقة الجديدة «بالشحاذ» و«الثرثرة». هو إذن أحد أبناء هذه الطبقة، شعاره «هاي لايف»، ومن ناحية أخرى هو نموذج «الطريق الجديد» للثورة الذي اختطَّتْه لنفسها بعيدًا عن الرؤية التقليدية. ومن هذه الزاوية فهو يستكمل أزمة الانتماء الثوري التي ألم الفنان — حتى الآن — بجناحيها، التقليدي والمستحدث، السري والمعلَن، المطارد في السراديب والمتربع على عرش السلطة. فماذا يقول لنا سرحان البحيري؟
يقول إنه لا معنى للحياة بغير فيلا وسيارة، ويقيم أمدًا طويلًا مع صفية الراقصة بالجنفواز تنفق عليه عن سعة ولا يستطيع رد جميلها لارتباطاته العائلية والتزاماته التي لا تنتهي بالنسبة لرجل نشأ في أحضان الفقر. وكانت مقاومته الحقيقية قد انهارت من قبل أن يخطط — هو المشرف على الحسابات — على عمليات التهريب الضخمة بالاتفاق مع المهندس المختص وسائق اللوري. وهذا هو الوجه الآخر لسرحان الذي يُمضي نهاره في الخطابة والهتاف للاشتراكية. ولقد كان يلقي محاضرة عن السوق السوداء بصورة آلية لأن ذهنه كان شاردًا في ترتيب «العملية» التي سيجني من ورائها ثمن الفيلا والسيارة وكافة وسائل «الهاي لايف». ونحن نعلم من السياق أنه كان وفديًّا فيما مضى، إنه كان من أعداء الدولة، ولكنه اليوم هو «الدولة» على حد تعبيره. ويضع الفنان شخصية رأفت أمين صديق الصِّبا أمامه وأمامنا ليذكِّره — كضمير الغائب — بأنه لم يكن وفديًّا مخلصًا، فكيف أصبح ثوريًّا اشتراكيًّا؟ فإذا أجاب أن للثورة أعمالًا لا يسع الأعمى إلا الإقرار بها، باركه رأفت داخلًا في الجد: «خبرني الآن أين نقضي ليلتنا؟» ويشير تطوره بطبيعة الحال إلى أن ثمة طبقة «علينا أن نرثها بطريقة ما» وهي ليست إرثًا نظريًّا مجردًا، ولا إرثًا أيديولوجيًّا على نحو من الأنحاء، وإنما هي إرث في كافة مظاهر الامتياز الطبقي التقليدي. ولذلك فإن إحساسًا قويًّا استقر في داخله «وهو ذعري الغريب من فكرة مصادرة الثروات.» وهو يكره «فكرة» الطبقة التي ينتمي إليها حسني علام، ولكنه مفتون بأي شخص منها إذا ساقته الظروف الممتازة إلى صحبته. وعندما يتعرف على زهرة ويناوش حبها فؤاده فإن حزنًا عميقًا بداخله يدفعه إلى القول متحسرًا «لو كانت من أسرة!» ولكنه يفصح في نفس الوقت عما ترمز إليه زهرة بقوله إنها «ممثله الثورة الأولى.» وهكذا طريقه غير طريقها … فطريقُه هو الثروة المنتظرة من مغامرة، حينئذٍ لا يتوانى في طرد صفية من حياته وفي لفظ زهرة أيضًا باحثًا بعينَي لص عن عَلِيَّة المدرسة التي تسكن بالدور العلوي. وهو يرتاب لذلك في أن يكون منصور باهي قد صدق الدعاوى التي يقول بها: «يا صاحبي إني بطبعي عدو أعداء الثورة، ألا تفهم؟ وإني من الموعودين ببركاتها ألا تفهم؟» ولكن لا منصور ولا غيره كان يتصور أن داعية الاشتراكية هو في نفس الوقت داعية الهاي لايف، فليثب وثبة موفقة تجعل من زيارته للدنيا رحلة لها معناها وقيمتها. ولم يكن سرحان — والحق يقال — مهتمًّا اهتمامًا حقيقيًّا بالسياسة رغم نشاطه الموفور فيها. ولكنه كان مهتمًّا اهتمامًا جنونيًّا بأن تتم «العملية» وتنجح الصفقة ويصبح في غمضة عين — وبحسبه بسيطة — من أثرياء البنوك. لا زهرة العاطفة الوحيدة الصادقة التي خفق بها قلبه، ولا الاشتراكية التي قفز بها إلي مجلس الإدارة صباحًا وملهى الجنفواز ليلًا بمستطيعَين أن يحُولا دون «اختياره» لهذا الطريق إلى الثروة. وهو الطريق المسدود في «بداية ونهاية» أمام حسنين نموذج البرجوازي الصغير المتسلق قبل الثورة. وهو أيضًا الطريق المسدود في «ميرامار» بعد الثورة. الطريق المؤدي بالمنتمي إليها هذا النوع من الانتماء إلى الهزيمة الكاملة. وليست العين الأخلاقية اليقظة هي التي سدت الطريق في وجه سرحان، وإنما الثغرات التي لا نهاية لها قد أوصدت الباب نهائيًّا، ووقعت «العملية» برمتها في شباك الأمن، وقبض على سائق السيارة المحملة بالبضاعة — تمامًا كاقتياد نفيسة إلى القسم من بيت الدعارة في بداية ونهاية — ولم يعُد أمام سرحان البحيري إلا أن يؤكد من جديد مأساة حسنين، ذاك ألقى بنفسه في النيل وهو يحمل على كتفيه نجوم الانضواء للنظام. وهذا مزق شريانه وهو يحمل على كتفيه كافة علامات الانضواء من عضوية هيئة التحرير إلى عضوية لجنة العشرين بالاتحاد الاشتراكي. وبانتحار سرحان البحيري تئول الأزمة الضارية إلى هزيمة مضاعفة؛ فالانتماء التقليدي لم يعُد له مكان إلا خلف الأسوار، أو في وهاد الخيبة والضياع والارتداد. والانتماء إلى الطريق الجديد كان في جوهره انتماء إلى طبقة جديدة تنبأ لها نجيب محفوظ — بانتحار سرحان — بهزيمة بعيدة عن النبل والشرف. وهي الهزيمة المنكرة التي آلت إليها الأمور في عوامة الثرثرة فوق النيل.
وكما اختتم الفنان ثرثرته السابقة بالانتماء التجريدي الأرحب إلى تقدم «الإنسانية» كلها بعد الإخفاق المرير للانتماء المحدد إلى الثورة المصرية … فإنه كذلك يختتم ميرامار على لسان عامر وجدي — لسان التاريخ الذي نطق به أنيس في خاتمة الثرثرة — وهو الرجل الذي اكتشف في النهاية أنه وحيد مع زهرة، كوحدة أنيس مع سمارة. ومثل سمارة في لحظات انسحاقها تحت حوافر قُوى القهر كانت زهرة «تعلوها مظاهر الحزن والانكسار حتى خُيل إليَّ أنها ضَؤلَت واحْدَودَبَت.» هكذا قال عامر. وببصيرة الأنبياء يحطم نجيب محفوظ كافة الوشائج بين زهرة وماريانا، فتطردها القوادة الأجنبية العجوز ويتم الانفصال العظيم بينهما، فإذا سألها عامر وجدي بروح الأب المهزوم في هزيمتها:
«ماذا أعددت للمستقبل؟
قالت وهي ترنو إلى الأرض ما تزال: كالماضي تمامًا حتى أحقق ما أريد …»
ويومئ الفنان بأن حرث الأرض على هذا النحو الفاجع في الثرثرة وميرامار قد أوضح لديه، بما لا يقبل الشك، أن المعضلة الأساسية هي وجود المنتمي الحقيقي إلى الثورة الحقيقية، المنتمي المنزه عن أدران الرؤية التقليدية ومهاوي الارتداد والتسلق. ويخاطب زهرة — من بين شفتي عامر — «وستظل غايتك المنشودة هي العثور على الحلال … وستجدين حتمًا ابن الحلال الجدير بك … إنه موجود الآن في مكان ما، ولعله يتحين اللحظة السعيدة المناسبة.» ويباشر لها القول في كلمات صريحة أكثر وضوحًا وجلاء: «إن وقتك لم يضِع سُدًى، فإن من يعرف من لا يصلحون له فقد عرف بطريقة سحرية الصالح المنشود.»
ويختم عامر وجدي تراجيديا الهزيمة بآيات من سورة الرحمن — هو المتهم في إيمانه — فلعلها، ككلمات أنيس الأخيرة، تضيء طريق الأمل وسط الظلمة الشاملة. ولكنه الأمل الإنساني العام والمجرد الذي يتجاوز ما هو خاص ومحدد، فالهزيمة المحددة التي تعنينا ليست شيئًا — في رأي الكاتب — إذا قيست بآمال لا نهائية للسماء والأرض. بل هو يُنهي الرواية قبيل رأس السنة الجديدة بساعات مؤملًا أن يحمل العام الجديد في طياته وجهًا جديدًا.
•••
هذا هو عالم نجيب محفوظ الجديد، وكلمته الأخيرة أيضًا. عالم بدايته التخلف الحضاري المرعب وانعدام التقاليد الديمقراطية، ومآله السقوط والهزيمة والاندحار والانقراض ماديًّا ومعنويًّا. عالم، خامته الرئيسية هي السجون وبيوت الدعارة، وشكله النهائي القتل والانتحار. لا العلم ولا التصوف بقادرَين على إنقاذ السفينة الغارقة؛ لأن ثقوبها أوسع من مادة اللحام، وهشاشة بنائها أضعف من مقاومة الماء.
ونجيب محفوظ في عالمه الجديد هو روائي مرحلة الانتقال بحق، وهي مرحلة محلية وعالمية في آنٍ، وهو انتقال فكري وحضاري معًا. لذلك كانت شخوصه وأحداثه ومواقفه مزدوجة الوجوه والرموز والأغطية. لا يكتمل لك معرفة الوجه إلا بجانبَيه، ولا تكتشف الرمز إلا إذا فضضت العلامتَين، ولا تكشف الغطاء إلا إذا خلعت الرداءَين. وقد احتاج مثل هذا العالم المزدوج إلى أدوات تعبيرية جديدة تلائم الوضع الفكري والنفسي الجديد، فكان لا بد من استحداث ذلك «التزامن» بين الضمائر الثلاثة بالأحاديث الداخلية والخارجية المتواترة في تشابك وتعقيد. وكان لا بد من استحداث هذه اللغة الجديدة على أدب نجيب محفوظ، اللغة القادرة على استيعاب الإيماءة وتمثُّل الرمز والتجوال في داخل الإنسان والارتحال خارجه.
ولا ريب أننا نلاحظ ذلك التبادل الغريب بين القوة والضعف في أعمال المرحلة الجديدة، فالسؤال في «اللص والكلاب» كان أعمق من الجواب في «السمان والخريف»، وعلامة الاستفهام في «الطريق» كانت أكثر غَوْرًا من الرد عليها في «الشحاذ»، ومعالم مرحلة الانتقال في «ثرثرة فوق النيل» كانت أكثر رسوخًا منها في «ميرامار» … لا لشيء إلا لأن السؤال وعلامة الاستفهام كانا يجسدان الواقع المر بكل كثافته وعنفه وصدقه؛ بينما كان الجواب مجرد «صدًى» للصوت، و«صورة» من الأصل، و«حلمًا» بواقع خيالي. ولكن القوة والضعف، جنبًا إلى جنب، كانا يجسدان في آنٍ دقات قلب الفنان، دقة اليأس اليائس ودقة الأمل الغامض. غير أن الدقتَين معًا يصوغان أروع لحن جنائزي في أدبنا الحديث.
وقد نالت أعمال نجيب محفوظ في مرحلته الجديدة شرف التنبؤ بما كان، ولكنها كثقافة أي مجتمع يحتضر أو حضارةٍ تموت، لا يعود له بعد الهزيمة إلا حظوة شاهد العيان. فإذا كانت المرحلة التاريخية نفسها مرحلة انتقال، فإن الروائي الذي توحَّد معها سلبًا وإيجابًا هو روائي مرحلة الانتقال أيضًا. ولقد انتهت هذه المرحلة بالهزيمة بكل ما تنطوي عليه من جوانب مادية ومعنوية، فثقافتها أيضًا بكل ما تشتمل عليه من إشراقات قد سقطت في أوحال الهزيمة وعارها.
ولن يستطيع هذا الجيل — وفي المقدمة منه أدب نجيب محفوظ — أن يتجاوز مقتضيات التاريخ، لن يستطيع أن يرى رؤيا جديدة، مهما كتب وغزُر إنتاجه عامًا بعد عام. ذلك أن موقف الكاتب الآن من مجتمع ما قبل الخامس من يونيو، كموقفه بعد الثورة من مجتمع ما قبلها؛ هل يسمح لنفسه أن يكون ناقدًا «للماضي» وحسب، مهما امتدت رواسب الماضي إلى قلب الحاضر؟ إنه حينئذٍ لن يصنع أكثر من ترديد كلام سبق أن قاله بصورة أفضل، أو أن يقول كلامًا يرادف الصمت …
… وإما أن يختار الصمت طوق نجاة من حكم التاريخ. وإذا كانت السنوات السبع العجاف في حياة نجيب محفوظ من ١٩٥٢ إلى ١٩٥٩م قد «أثمرت» جدليًّا السنوات السبع العظام من ١٩٦٠ إلى ١٩٦٧م … فهذه السنوات بعينها هي التي تؤدي — بنفس المنطق الجدلي — إلى خواء المرحلة القادمة بالنسبة للجيل الحالي، وفي المقدمة منه نجيب محفوظ.
وإذا كان الخامس من يونيو ١٩٦٧م في المستوى السياسي، وأدب نجيب محفوظ قبل هذا التاريخ في المستوى الفني، قد أعلن أن العنقاء احترقت بعُشها فإنه لن يتيسر للثورة المصرية وثقافتها بعث جديد إلا على أكتاف جيلٍ جديد ورؤيا جديدة تتجاوز الهزيمة وثقافتها المدحورة. فنحن لسنا بحاجة إلى «معجزة جيل» أدى رسالته على خير وجه، وإنما نحن بحاجة إلى «جيل المعجزة» القادرة على أن تقيم إليعازر من بين الأموات، أو أن تبعث من الرماد المحترق عنقاء جديدة، تجوب الأرض والسماء، لتجمع أطيب النباتات، وتبني عشها من جديد. ولعل هذا هو التحدي أمام الجيل القادم: هل يستطيع أن يصنع المعجزة من رمادٍ تخلَّف عن احتراق العنقاء القديمة؟