القسم الثالث
ومن أسباب الوهم في المعاني استهواء المبالغة للشاعر، وتجاوزها به حدًّا إذا تعداه عكس عليه مقصده، كما فعل امرؤ القيس لمَّا أراد المبالغة في وصف ذَنَبِ فرسه بالطول، فقال:
يريد بالفرج: الفضاء الذي بين الرجلين، وإذا كان الذَّنَب كثيفًا طويلًا سد هذا الفضاء حتى لا يبين، وطول الذنب مستحب في الخيل، ومن دلائل عتقها وكرمها، ولكن إلى حدِّ ألا يكون كذيل العروس يُجَرُّ على الأرض؛ لأنه إذا بلغ الأرض وَطِئَه الفرس برجله، وربما عثر به، وهو عيب، وتبعه في ذلك من المولِّدين البحتري، فقال:
والجيد من ذلك قول امرئ القيس في المعلقة:
ومثل قول امرئ القيس قول خداش بن زهير:
والهَدِي: العروس التي تُهدى إلى زوجها، والأيَّد: الشديد، والزافر: الصدر؛ لأنها تزفر منه، فإنما أراد بذيل العروس طوله وسبوغه، فشبه الذنب السابغ به وإن لم يبلغ في الطول إلى أن يمس الأرض.» انتهى كلام الآمدي.
ولم يكتفِ امرؤ القيس بأن جَعَل ذَنَب فرسه يجر على الأرض — إن صح أنه أراد ذلك — حتى أبرز لنا وجه هذه الفرس مُجَلَّلًا بشعر الناصية لا تكاد تبصر منه الطريق، فقال:
قلنا: ومنه يعلم ما في قول البحتري في بيته المتقدم: «وعرف كالقناع المسبل»، وعندنا أنه أشد تغلغلًا في الخطأ من وصف امرئ القيس.
وكأننا بالطرماح أشفق أن يكون ذَنَب ناقته دون ذنب فرس امرئ القيس، ولم يفطن إلى أن طول الذنب في الإبل غير مستحسن، فقال:
- أما الأول: فجعْلُه الذنب يمسح الأرض، وإذا كان طوله قبيحًا مذمومًا في الإبل فبلوغه إلى هذا الحد أقبح وأدعى إلى الذم.
- والثاني: أنه أراد أن يشبهه بثوب يجر، ولم يشأ أن يسلب امرأ القيس ذيل عروسه، فشبهه بخرقة النائحة، وهي لا تجرها على الأرض، ولا تبلغ في الطول أن تصلح لذلك، وإنما هي كالمنديل تمسكها بيدها وتشير بها إذا قامت تنوح.
هذا تفسيرُ ما أَجْمَلَهُ المرزباني في الموشح عن هذا البيت بقوله: «أفصح بأن الذنب يمس الأرض، وأساء في التشبيه أيضًا.» وتبعه البحتري، ولكنه اقتصد هذه المرة في الطول، فقال:
أي سيحمل همي وهمتي ظهر كل جمل طويل الذَّنَب غليظ شديد، قال أبو العلاء المعري في عبث الوليد: «وصْفه الجمل بذيَّال قلما يُستعمل، إنما يوصف بذلك الفرس والثور الوحشي.»
وكما أن طول الذنب غير ممدوح في الإبل، فإن كثرة شعره غير ممدوح أيضًا في نجائبها، وقد جمعهما طرفة لناقته، فقال:
أي كأن جناحي نسر عتيق عظيم تكنَّفا جانبي هذا الذنب، وشُكَّا في عظمه بمِخْصَف، قال المرزباني في الموشح: «إنما توصف النجائب برقة شعر الذنب وخفته، وجعله هذا كثيفًا طويلًا عريضًا.» ومثله في الصناعتين لأبي هلال، وقال التبريزي في شرح المعلقات: «قال الأصمعي: يستحب من المهاريِّ أن تقصر أذنابها، وقلما ترى مهريًّا إلا ورأيت ذنبه أعصل كأنه أفعى.» إلا أنه قال بعد ذلك: «وقال غيره: كل الفحول من الشعراء وصفوا الأذناب بكثرة الهُلْب، منهم امرؤ القيس وطرفة وعيينة بن مرداس، وغيرهم.»
قلنا: ولا نخالهم فعلوا ذلك إلا للمبالغة فيما كان أولى فيه القصد.
ومن هذا النوع قول ذي الرُّمَّة في ناقته:
يقول: هي مؤدبة ليست بنفور تميل رأسها لصاحبها كأنها تستمع إذا شدها بالرحل، ثم أراد أن يصفها بالنشاط فجعلها تثب عند وضع رجله في ركابها، وهي مبالغة جعلت نشاطها هوجًا ورعونة، وفي العقد الفريد والموشح أنَّ أعرابيًّا سمعه ينشد هذا البيت، فقال: صُرِعَ — واللهِ — الرجلُ، وقيل: إنه أنشده أبا عمرو بن العلاء فقال له: ما قاله عمك الراعي أحسن مما قلت، وهو:
فقال ذو الرمة: إن الراعي وصف ناقة ملك، وأنا أصف ناقة سوقة. قال المرزباني في الموشح: «أراد أن يحتال فلم يصنع شيئًا.» وذهب علي بن حمزة البصري في التنبيهات إلى أنه لم يخطئ وأن ما روي عنه من الاعتذار حكاه الأصمعي فكذب فيه، وأن مراد ذي الرمة: حتى إذا ما استوى على ظهرها، وإذا كان كذلك فقد استوى في غرزها، ثم قال: «وأبو عمرو مع عيبه بيتَ ذي الرمة قد أنشد مثله في نوادره، بل هو أشد سرعة من بيت ذي الرمة، وهو:
ثم لم يعب هذا البيت.» انتهى.
ولو قال قائل: ما المانع من أن يكون أكثر ما ذُكر في هذا القسم والذي قبله لم يُرِدْ به قائلوه إلا ذكر الواقع، فما على من كانت ناقته ضخمة المقلَّدِ، أو فرسه مسحوب الذنب على الأرض إذا وصفهما بحقيقة ما فيهما؟
قلنا: لو كانوا أرادوا ذلك لما وجد العلماء سبيلًا إلى تخطئتهم والنعي عليهم، كما فعلوا مع من نهج منهج الحقيقة من الشعراء، وإنما أخذوا على هؤلاء ما أخذوه؛ لأنهم ذكروا أشياء حاولوا وصفها بما يُحمد في نوعها، فتخيلوا لها أحسن ما تُنعت به من النعوت، ولحقهم الخطأ في بعضها لجهلهم بخصائص ما ينعتون، ولو أن رؤبة أراد وصف ذاك الفرس بحقيقة ما فيه لما قال لمن خطَّأه: «أيْ بُنَيَّ لا علم لي بالخيل، ولكن أَدْنِنِي من ذَنَبِ البعير.» كما تقدم.