القسم الرابع
ومن الأوهام في المعاني ما لا يرجع لسبب من الأسباب المتقدمة، فلا يصح عدُّه من أحد أقسامها؛ كأن يصنع الشاعر لفظة في موضع لا تصلح له، لا لجهله بالشيء كما تقدم بل لسهو أو خطأ في تقديره، أو أن يسيء في التعبير إساءة تحيل المعنى وتفسده، إن لم تعكس الغرض المقصود منه، أو أن يأتي بكلام غير متلائم الأجزاء، أو فاسد التقسيم أو التشبيه، أو غير ذلك مما يشبهه ويجري مجراه، وكثيرًا ما تنشأ هذه الأوهام من التساهل، إما لثقة الشاعر بقدرته وبمكانة شعره في النفوس، أو لكلال يلحق طبعه في بعض الأحيان، فيلقي بالكلام على عواهنه في البيت والبيتين من القصيدة، ثم تمنعه تلك الثقة أو الضجر أو ضيق الوقت من إعادة النظر فيما قال.
فمن ذلك قول النابغة الذبياني:
يوائل: يطلب الموئل، وهو الملجأ، والتنبال: القصير أو الجبان، وذِكْرُه هنا مفسد لمعنى البيت، قال أبو هلال: «ليس القصير بأولى بطلب الموئل من الطويل، وإن جعل التنبال الجبان فهو أبعد من الصواب؛ لأن الجبان خائف وَجِلٌ اشتدت الحرب أم سكنت.» ومثله في الموشح للمرزباني باختلاف في العبارة.
الأستن (بوزن أحمر): شجر إذا نظر الناظر إليه من بُعد شبهه بشخوص الناس، كذا في اللسان، وقال الأعلم الشنتمري في شرح الديوان: «شبه الأستن في سواد أسافله وطوله بإماء سود يحملن الحُزَم، وأوقع التشبيه في اللفظ على المشي؛ لأنه السبب في ظهور أسافلهن وتبيُّن سوادهن، وإنما خص اللواتي تحمل الحزم؛ لأنهن إذا كانت عليهن الحزم مددن أيديهن فكان أطول لهن.» وفي شرح الوزير أبي بكر البطليوسي: «شبه سواد أسافل هذا الشجر وما فوق ذلك من فروعه اليابسة بإماء سود على رءوسهن حطب؛ لأن لون هذا الشجر إذا كان أسفله أسود وأعلاه يابس الأغصان فكأنه حطب على رءوس إماء سود.» والذي عِيب عليه في هذا البيت من فساد المعنى قوله: «الغوادي» لأنَّ الإماء تحمل الحطب بالعشي وهن روائح، وأما إذا غَدَوْنَ إلى الصحراء فإنهن مخفَّات، قالوا: والجيِّد قول التغلبي:
وقد شبه النعام بالإماء الحواطب؛ لأن النعامة إذا خفضت عنقها ومشت كانت أشبه شيء بماشٍ وعلى ظهره حِمل، وقال أبو هلال في بيت النابغة: «وقد روي: مثل الإماء، وإذا صحت الرواية سلم المعنى.»
قلنا: لم يظهر لنا وجه سلامة المعنى على هذه الرواية؛ لأن أبا هلال لم يَعِبْ عليه قوله: «مشي الإماء»، بل عاب عليه كغيره قوله: «الغوادي»، وتغيير مشي بمثل لا يجعل تلك الإماء روائح حتى يسلم المعنى به، وإنما الذي ينتصر للنابغة يقول: أراد أن الإماء تغدو لتحمل الحطب رواحًا، وقال علي بن حمزة البصري في التنبيهات: «كان أبو عبيدة يقول: لم يقُلْه النابغة إلا عشاء تحمل الحُزَما.»
وقال النابغة أيضًا يصف ثورًا:
قال أبو هلال: أراد بالفرد أنه مسلول من غمده، فلم يَبِنْ بقوله الفرد عن سلة بيانًا واضحًا، والجيد قول الطرمَّاح وقد أخذه منه:
وهذا غاية في حسن الوصف، ومثله في طبقات الشعراء لابن قتيبة.
ومما خطَّئوا فيه النابغة أيضًا قوله:
ألكني: أي كن رسولي وبلِّغ ألوكتي؛ أي: رسالتي، وفسره أبو هلال بأرْسِلني، فقال منتقدًا البيت: «وليس من الصواب أن يقال أرسِلني إلى نفسك، ثم قال: ستحمله الرواة إليك عني.» وقال الآمدي: «قالوا: ألكني؛ أي كن لي رسولًا، فكيف يكون ألكني إليك عني؟ فاعتذر له الأصمعي، وقال: أهذا مما حملته الرواة عن النابغة؟ كأنه يدفع أن يكون قاله.»
قلنا: من فسره بأرسلني راعى اللفظ فقط، ومن فسره بكن رسولي راعى المعنى، ففي اللسان أن مقتضى لفظ: «ألكني إليها برسالة» أن يكون أرسِلني إليها برسالة، إلا أنه جاء على القلب؛ إذ المعنى: كن رسولي إليها بهذه الرسالة، فاللفظ يقضي بأنَّ المخاطَب مرسِل، والمتكلِّم مُرسَل، وهو في المعنى بعكس ذلك. انتهى ملخصًا.
ومما عابوه على النابغة قوله:
فقال المعترضون: تشبيهه الإدراك بالليل يساويه إدراك النهار، فلم خصه دونه وإنما كان سبيله أن يأنى بما ليس له قسيم؟ هذا خلاصة ما قيل في البيت، والكلام فيه كثير حتى عده بعضهم في نقد الشعر من باب العبث، وهو أن يقصد الشاعر شيئًا من الأشياء ليس لذكره فائدة، وقال المعتذرون للنابغة: إنما خص الليل بالذكر؛ لأنه وصفه في حال سخطه فشبهه بالليل وهَوْلِه، وهي كلمة جامعة لمعانٍ كثيرة، وقيل: ذكر الليل لأنه أهول، ولأنه أول، ولأن أكثر أعمالهم كانت فيه لشدة حر بلدهم، فصار ذلك عندهم متعارفًا.
ومما خطئوه فيه قوله:
الحِجاج: العظم الذي ينبت عليه شعر الحاجب، والقليب: البئر، والشيقان: موضع، وحلَّق مستقاها: غار ماؤها، والحِجاج لا يوصف بأنه غائر كالقليب، وهذا مما لا يخفى على أحد.
ومن ذلك قول بعضهم:
أراد هذا الشاعر أن يذكر شجاعتهم ويصف بأسهم في قتال أعدائهم فأتى بما يدل على عكس ما أراد؛ لأنهم إذا ضربوهم بالسيوف مكان ليِّ العمائم: أي في رءوسهم ولم يموتوا، واحتاجوا بعد ذلك إلى طعنهم بالرماح في كلاهم، فقد فعلوا فعل الجبان الخائف غير المتمكن من قتل قرنه، وهذا مما لا يُفتخر به، وإنما الجيد قول بلعاء بن قيس:
ومن فاسد التشبيه قول بشر بن أبي خازم:
والشمال والدبور لا تشبهان بالرماد، وإن كان أراد ما تخلَّف من فعل الشمال والدبور فقد أساء التعبير وقصَّر في بيان مراده.
ومن قبيله قوله أيضًا يصف سفينة:
وهو مما عابه عليه ابن قتيبة في طبقات الشعراء؛ لأن معنى غض طرفه: كسره وأطرق ولم يفتح عينيه، والإبل القماح: هي الرافعات رءوسها عن الماء ممتنعة من الشرب، فكيف يشبه المطرق بالرافع رأسه؟ ولكن من يراجع مادة «قمح» في اللسان لا يعدم للكلام مخرجًا.
ومن التشبيهات التي لم تقع موقعها قول ابن هَرْمة:
فإن بيت ابن هرمة الثاني يليق ببيت الفرزدق الأول، وبيت الفرزدق الثاني يليق ببيت ابن هرمة الأول، فلو كانا كذلك لكان كل واحد منهما قد شبه تشبيهًا واضحًا صحيحًا، فأمَّا والشعر وما هو عليه فإن التشبيه فيه بعيد، كذا في سر الفصاحة لابن سنان، وعزا صاحب الأغاني هذا النقد لأبي نُواس، فذكر أنه قال: «شاعران قالا بيتين وضعا التشبيه فيهما في غير موضعه، فلو أُخِذَ البيت الثاني من شعر أحدهما فجُعِلَ مع بيت الآخر، وأُخِذَ بيت ذاك فجُعِلَ مع هذا لصار متفقًا معنًى وتشبيهًا.» وقال بعد إيراد المقطوعتين: ولكن ابن هرمة قد تلافى ذلك بعد فقال:
انتهى. يريد: أنه أتى هنا بتشبيه صحيح، لا أنه أصلح به تشبيهه الأول، فإن هذا غير ذاك.
ومما وهم فيه خُفاف بن نُدْبة قوله:
ومثله قول ابن أحمر:
قالوا: أراد غادرني سهمه أعور فلم يمكنه فقال أعشى، وكان ابن أحمر أعور؛ رماه رجل يقال له مخشي بسهم فذهبت عينه.
الهرابذة: المجوس، وهم قَوَمَة بيت النار، والزُّون: الصنم، قال أبو هلال: «الغلط في هذا البيت في ثلاثة مواضع؛ أحدها: أن الهرابذ المجوس لا النصارى، والثاني: أن البِيعة للنصارى لا للمجوس، والثالث: أن النصارى لا يعبدون الأصنام ولا المجوس.»
ومما عابه أبو هلال على ذي الرمة قوله:
فقال: «لا يقال ماء جامس، وإنما يقال: وَدَك جامس.» قلنا: هو تابع في ذلك للأصمعي، والجامس: الجامد، يريد أننا نقري في الشتاء، وبعض اللغويين يجيز الجموس في الماء.
وعاب عليه قوله أيضًا:
فعده من عجائب الغلط، ونقل عن ابن فروة أنه قال: قلت لذي الرمة: ما علمت أحدًا من الناس أظلع الرءوس غيرك! فقال: أجل. انتهى.
قلنا: لأن المعروف في الظَّلَع أنه العرج والغمز في المشي، وهذا لا يكون في الرءوس.
وعاب على أبي ذؤيبٍ الهذليُّ قولَه:
الزِّيزاء: (بكسر الأول): الأَكَم، واحدتها: زيزاءة، والأشاء: النخل، قال أبو هلال: «يقول: ما زالت هذه الخمرة في الناس يحفظونها، حتى أتوا بها ثقيفًا. قال الأصمعي: وكيف تحمل الخمرة إلى ثقيف وعندهم العنب!» ومثله في طبقات الشعراء لابن قتيبة.
قلنا: الذي في شرح السكري لديوان أبي ذؤيب أن المعنى: حُمِلَت إلى عكاظ لِتُبَاع، وهي دار ثقيف»، وعليه فلا خطأ إلا أن يكون مراد الشاعر حُمِلَت إلى ثقيف نفسها كما فهم الأصمعي، وتبعه فيه أبو هلال وابن قتيبة.
ومما خطئوا فيه الشمَّاخَ قوله:
قال المرزباني: «وإنما يلجم الشدقان لا الساقان.»
قلنا: لم يقل الشمَّاخ ألجمت الساقين ولا يقوله أحد، وإنما قال: أعددت لهما لجامًا وسرجًا؛ أي ألجمت فرسي وأسرجته ليعدو ويحرك ساقيه إلا أنه لم يحسن التعبير.
ومما استُضْعِفَ من معاني الأعشى قوله:
المراد بالشاة هنا: المرأة، قال المرزباني: «وقد عابه قوم بذلك؛ لأنهم رأوا ذكر القلب والفؤاد والكبد يتردد كثيرًا في الشعر عند ذكر الهوى والمحبة والشوق وما يجده المغرم في هذه الأعضاء من الحرارة والكرب، ولم يجدوا الطحال استُعمل في هذه الحال؛ إذ لا صنع له فيها، ولا هو مما يكتسب حرارة وحركة في حزن ولا عشق، ولا بردًا ولا سكونًا في فرح أو ظفر، فاستهجنوا ذكره.»
ومن التناقض قول المسيب بن عَلَس:
فوصف الناقة بأنها خميصة؛ أي ضامرة، ثم شبهها بعد ذلك بالقنطرة، والقنطرة لا تكون إلا عظيمة، وأكد ذلك بقوله: «مجفر الأضلاع»، والمجفر: العظيم الجنين من كل شيء، فكيف تكون خميصة وهذه صفتها؟!
ومن التناقض قول الحطيئة في ثور وحشي:
قالوا: زعم أنه بات يطوف حتى أصبح وأشرف على الكثيب، فمن أين صار الحصى بصفحتيه؟! وإنما يلتصق بهما إذا كان راقدًا.
ومنه قول عروة بن أُذَيْنَة:
قال أبو هلال: «فقال: لبثوا في دار غبطة، ثم قال: لو رحلوا لم يندموا.
ومثله قول جرير:
وهل يغتبط عاقل بمكان من لا يرضى به؟!» انتهى.
ومنه قول ابن نوفل:
لأن الضرير إنما يستعمل في الأكثر للذي لا بصر له، فقوله في هذا الشيخ إنه ذو بصر وإنه ضرير تناقض، فكأنه يقول إن له بصرًا ولا بصر له، فهو بصير أعمى، كذا في الموشح للمرزباني، ونقد الشعر لقدامة.
قلنا: يطلق الضرير أيضًا على المريض المهزول، وعلى ذي الزَّمَانة إلا أن الأكثر استعماله لفاقد البصر كما قالا، ولا نظن الشاعر أراد غير الضعف وسوء الحال، ولكنه لما استعمله في غير ما يُستعمل فيه في الأكثر أتى بما يوهم الخطأ، والاحتراس من مثله أولى.
ومنه قول يزيد بن مالك:
قال قدامة: «قد أوجب هذا الشاعر في البيت الأول لنفسه الحلم والإعراض عن الجهَّال، ونفى ذلك بعينه في البيت الثاني بتعديه في معاقبة الجاهل إلى أقصى العقوبات وهو القتل.»
ومما عدوه من التناقض قول زهير:
فقالوا: نقض في عجُز هذا البيت ما قال في صدره؛ لأنه زعم أن الديار لم يعفها القدم، ثم انتبه من مرقده فقال: بلى، عفاها وغيرها أيضًا الأرواح والديم، وقال أبو عبيدة: أكذب نفسه فقال: لم يعفها، ثم رجع فقال: بلى، ومن يحتج له يقول: مراده أن بعضها عفا وبعضها لم يعفُ، وقيل: بل المراد أن الديار لم تعفُ في عينه من طريق محبته لها وشغفه بمن كان فيها.
ومثله قول امرئ القيس:
ثم قوله في بيت آخر:
ومن يذهب إلى عدم التناقض يقول: أراد لم يعفُ رسم حبها من قلبي، والأظهر قول بعضهم: أراد لم يقتصر سبب محوها على نسج الريحين، بل كان له أسباب منها هذا السبب، ومر السنين، وترادف الأمطار وغيرها.
وعد بعضهم من التناقض قوله في موضع:
وقوله في كلمة أخرى:
لأنه وصف نفسه في موضع بسمو الهمة وقلة الرضا بدنيء المعيشة، وأطرى في موضع آخر القناعة، وأخبر عن اكتفاء الإنسان بشبعه وريِّه، وقد رد قدامة على هذا العائب، فقال: «أقول: إنه لو تصفَّح أولًا قول امرئ القيس حق تصفحه لم يجد معنًى ناقَضَ معنًى، فالمعنيان في الشعرين متفقان إلا أنه زاد في أحدهما زيادة لا تنقض ما في الآخر، وليس أحد ممنوعًا من الاتساع في المعاني التي لا تتناقض، وذلك أنه قال في أحد المعنيين:
وهذا موافق لقوله:
ولكن في المعنى الأول زيادة ليست بناقضة لشيء، وهو قوله: لكني لست أسعى لما يكفيني ولكن لمجد أؤثله، فالمعنيان اللذان ينبئان عن اكتفاء الإنسان باليسير متوافقان في الشعرين، والزيادة في الشعر الأول التي دل بها على بُعد همته ليست تنقض واحدًا منهما ولا تنسخه، وأرى أنَّ هذا العائب ظنَّ امرأ القيس قال في أحد الشعرين: إن القليل يكفيه، وفي الآخر: لا يكفيه، وقد ظهر بما قلنا أن هذا الشاعر لم يقُلْ شيئًا من ذلك ولا ذهب إليه، ومع ذلك فلو قاله وذهب إليه لم يكن عندي مخطئًا؛ من أجل أنه لم يكن في شرط شرطه يحتاج إلى ألَّا ينقض بعضه بعضًا، ولا في معنًى سلكه في كلمة واحدة أيضًا.»
ومن التناقض على طريق المضاف قول عبد الرحمن بن عبد الله القيسي:
قال قدامة: «جمع بين قبل وبعد، وهما من المضاف؛ لأنه لا قبل إلا لبعد، ولا بعد إلا لقبل؛ حيث قال: إنه إذا وقع الموت بها، وهذا القول كأنه شرط وضعه ليكون له جواب يأتي به، وجوابه قوله: يزال بنفسه قبل ذلك، وهذا شبيه بقول قائل: لو قال: إذا انكسرت الجرة، انكسر الكوز قبلها.» وقال أبو هلال: «هذا شبيه بقول قائل: إذا دخل زيد الدار دخل عمرو قبله.»
ومما أخذوه على الأعشى قوله:
وكان حيان أشهر وأعلى ذكرًا من أخيه جابر، فلم يكن محتاجًا لأن يعرَّف به.
ومن غريب الوهم قول عدي بن زيد:
المشرف: إناء كانوا يشربون فيه، والمطموث: الممسوس، والخريص: السحاب، ووجه الخطأ وصفه الخمر بالخضرة، وما وصفها بذلك أحد غيره، ولا كانت العرب تعرف هذا اللون للخمر.
ومن قبيله قول المرَّار:
فوصف الخال بالبياض، والوجه بالسواد، وهو خلاف المتعارف، اللهم إلا أن يكون حكى الواقع، ولو كان كذلك لما عابه عليه أئمة الأدب ونَقَدَةُ الشعر كالمرزباني وأبي هلال وقدامة وغيرهم.
ومما خطَّئوا فيه جريرًا قوله:
فقالوا: غلط مرتين، فإن الدجاج لا تصيح، وإنما تصيح الديوك، والأرق في أول الليل، والديوك تصيح عند الصباح.
قلنا: الدجاج تطلق على الديوك أيضًا، وإنما الوهم في الثاني، وقد تكلف له بعضهم وجهًا فقال: إنما أراد أرَّقني انتظار صوت الدجاج والنواقيس.
ومن عيوب المعاني أن ينسب الشيء إلى ما ليس منه، كما قال خالد بن صفوان:
قال قدامة والمرزباني: «كأنه يومئ إلى أن سبيل العود الأخضر في الأكثر أن يكون عذبًا أو غير مُرٍّ، وهذا ليس بواجب؛ لأنه ليس العود الأخضر بطعم من الطعوم أولى منه بالآخر.»
ومن عيوب المعاني قول الحكم الخُضري:
وليس في المعهود أن يكون الغيث واكفًا في كل ساعة.
ومنها قول الحُطَيْئَة:
قال أبو هلال: «كان ينبغي أن يقول: من طلب مساعيهم عجز عنها وقصَّر دونها، فأما إذا تناهى إلى علاها فأيُّ فخرٍ لهم؟ فإن قيل إنه أراد به يلقى صعوبة، كما يلقى الصاعد من أسفل إلى علو، فالعيب أيضًا لازم له؛ لأنه لم يعبر عنه تعبيرًا مبينًا»، ونحوه في الموشح للمرزباني.
قلنا: البيت على القول الأول أشبه بالهجاء عنه بالمدح؛ لأنه أراد أن يعظم شأنهم، فصغره وحقَّره، وقد وقع الأخطل فيما يشبهه، فإنه أراد مدح سماك الأسدي، وكان قومه يلقبون بالقيون ويُعَيَّرون بذلك، فقال:
أي فاليوم نفى ذلك عن نفسه وذهب عنه هذا اللقب، فنبَّه في مدحه له على شيء يُعَيَّرُ به، وكان له في دروب الممادح مُتَّسع، ويُرْوَى أنه لما أنشده سماكًا قال له: أردت أن تمدحني فهجوتني؛ كان الناس يقولون قولًا فحقَّقْتَه.
وأراد الأخطل أن يهجو سويد بن منجوف، فأتى بما يدلُّ على مدحه في قوله:
فجعله لا يطيق ما حمَّلَتْهُ وائلٌ من أمورها، فأثبت له نباهة وسؤددًا، وجعله ممن تُعصب به الحاجات، وفي الأغاني أنه لما هجا سويدًا بهذا الشعر، قال له: يا أبا مالك، ما تحسن تهجو ولا تمدح، لقد أردت مدح الأسديَّ فهجوتَهُ، يعني قوله:
وأردتَ هجائي فمدحتني، جعلت وائلًا حمَّلتني أمورها، وما طمعتُ في بني تغلب فضلًا عن بكر.
مدح به شريفًا أيَّ شريف، فجعل سروره بقاصده كسروره بمن يدفع شيئًا من عَرَض الدنيا إليه، وليس من صفات النفوس العازفة السامية والهمم الشريفة العالية إظهارُ السرور إلى أن تتهلل وجوههم وتسر نفوسهم بهبة الواهب، ولا شدة الابتهاج بعطية المعطي، بل ذلك عندهم سقوط همة، وصغر نفس.» إلى أن قال: «هذا نقض البناء، ومحض الهجاء، والفضلاء يفخرون بضدِّ هذا.»
(وعابوا) على الفرزدق قوله:
وزعموا أن الحجاج قال له: ما عملت شيئًا؛ إن الطير تتقي الصبي والثوب، وتنفر من الخشبة، ولا نَخَالُ الفرزدق أراد ذلك، وإنما مراده أن القريب والبعيد يتقيه، حتى الطائر في الجو، ولكنه قصَّرَ في البيان.
«ومن عيوب المعاني»: فساد التقسيم، وهو إما أن يكون بالتكرير، كقول هذيل الأشجعي:
فإن تومي وتومض متساويان، فكأنه قال: ما برحت تومي إليه أحيانًا وتومي أحيانًا، وإما أن يكون بدخول أحد القسمين في الآخر، كقول القائل:
فإن عبث العابث داخل في إهلاك المستهلك.
ومثله قول أمية بن أبي الصلت:
فمن يتأبد: أي يتوحش داخل في الأنام، ولا يجوز أن يكون أراد به الوحش؛ لأن من لا تقع على غير العاقل.
ومنه أن يكون القسمان مما يجوز دخول أحدهما في الآخر، كقول أبي عدي القرشي:
فإن العفو قد يكون مهنيًّا، والمهني قد يكون عفوًا، وهو مثل ما حكي أنَّ أَنْوَكَ سأل مرة، فقال: علقمة بن عبدة جاهليٌّ أو من بني تميم؟
ومثله قول عبد الله بن سليم الغامدي:
فإن الناوئ؛ أي السمين، يجوز أن يكون كانسًا أو راتعًا، والكانس يجوز أن يكون سمينًا أو هزيلًا، وإما أن يكون بترك ما لا يحتمل الواجب تركه، كقول جرير في بني حنيفة:
«ومن عيوب المعاني»: الإخلال، قال قدامة والمرزباني: «هو أن يترك من اللفظ ما يتم به المعنى؛ مثال ذلك قول عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود:
فإنما أراد أن يقول: عاجل ما أشتهي مع القِلَّة أحبُّ إليَّ من الأكثر المبطيء، فترك مع القلة وبه يتم المعنى.
ومثل ذلك قول عروة بن الورد:
فإنما أراد أن يقول: عجبت لهم إذ يقتلون نفوسهم في السِّلْم، ومقتلهم عند الوغى أعذر، فترك في السلم.
ومن هذا الجنس قول الحارث بن حِلِّزة:
فأراد أن يقول: والعيش خير في ظلال النوك من العيش بكدٍّ في ظلال العقل، فترك شيئًا كثيرًا، وعلى أنه لو قال ذلك لكان في الشعر خلل آخر؛ لأن الذي يظهر أنه أراده هو أن يقول: إن العيش الناعم في ظلال النوك خير من العيش الشاق في ظلال العقل، فأخلَّ بشيء كثير.
ومن هذا الجنس نوع آخر، وهو كما قال بعضهم:
الربيء: الطليعة، فأراد أن يقول: ولا يفشلون، فحذف «لا»، فعاد المعنى إلى الضد.» انتهى.
ومن اضطراب المعنى قول أبي دؤاد الإيادي:
قال أبو هلال: «وكان استواء المعنى أن يقول: لبرأ من سقمه.»
ومن الإحالة قول ابن مقبل:
قلنا: والذي انتقده فيه ابن رشيق يصحُّ على القول الأول أن يجاب عنه بأنه أراد ما يشبه نسج داود في الجودة، فيستقيم به المعنى، وأما إنكاره في القول الثاني بقاء هذه الخيل من عهد عاد إلى زمن الشاعر، فلا ريب في أن ابن مقبل لم يُرِدْ بقاءها بأعيانها، وإنما أراد بقاء ما تناسل منها زمنًا بعد زمن، فليس فيه غير المبالغة.
ومن الخطأ قول بعضهم:
قال في اللسان نقلًا عن ابن سيده: إنه ظن السبط الرجل فغلط، وفي المزهر: «ظنَّ أنَّ السبط الرجل، وإنما السبط واحد الأسباط من بني يعقوب.»
ومثله قول الآخر:
قالوا: الترائك، بيض النعام، فظن الشاعر أن البيض كله ترائك.
قلنا: لم يخطئ الشاعر؛ فإن بيضة الحديد التي للرأس يقال لها أيضًا: تَرِيكة على التشبيه ببيضة النعامة.
ومِنْ وَضْعِ كلمةٍ مَوْضِعَ أخرى قول امرئ القيس:
قالوا: غلط فذكر الثريا، وهو يريد الجوزاء؛ لأن الثريا لا تتعرض، وهو قول الجمحي، وقال بعضهم: تعرض الثريا أنها إذا بلغت كبد السماء أخذت في العرض ذاهبة ساعة، كما أن الوشاح يقع مائلًا إلى أحد شقي المتوشحة به.
ومما أدركه بعضهم على لبيد قوله:
والأكثرون على أنه لم يخطئ؛ لأنه قال ذلك بعد موت أبيه، قال السهيليُّ: «وإنما قال أربعة؛ لأن أباه كان مات قبل ذلك، لا كما قال بعض الناس، وهو قول يُعزَى إلى الفرَّاء أنه قال: إنما قال أربعة ولم يقل خمسة من أجل القوافي، فيقال له: لا يجوز للشاعر أن يلحن لإقامة وزن الشعر، فكيف بأن يكذب لإقامة الوزن؟»