القسم الخامس
ومن هذه الأوهام «القلب» عند من لا يرى جوازه، وهو أن يجعل أحد أجزاء الكلام مكان الآخر، والآخر مكانه، مع إثبات حكم كلٍّ للآخر، نحو: قطع الثوبُ المسمارَ، وأدخلت القَلَنْسُوَة في رأسي، والأصل: قطع المسمارُ الثوبَ، وأدخلت رأسي في القلنسوة؛ لأن المسمارَ هو القاطع للثوب، والرأس هو المُدْخَلُ في القلنسوة.
وقد اختلف فيه النحاة والبيانيُّون، فأجازه بعض النحاة لوضوح المعنى، وخصه بعضهم بالضرورة، وقَبِلَه بعض البيانيين مطلقًا، وردَّه بعضهم مطلقًا، على ما هو مفصَّل في كتبهم، وذهب بعض البيانيين إلى قبوله إن تضمَّن اعتبارًا لطيفًا، كقول رؤبة بن العجَّاج:
فالأصل: كأنَّ لونَ سمائه — لِما فيها من الغبار — لونُ أرضِه، قالوا: والاعتبار اللطيف هو المبالغة في وصف لون السماء بالغبرة، حتى كأنه صار بحيث يشبَّه به لون الأرض في ذلك، مع أن الأرض أصل فيه، واعترض بعضهم بأن هذا لا ينبغي إجراء الخلاف فيه؛ لأنه على هذا الاعتبار يكون من التشبيه المقلوب، وقلْب التشبيه متفق عليه، فكان الأولى التمثيل بقول الشاعر:
لأن الأصل: أو يعثر فيكبَّ؛ أي يسقط على وجهه، والاعتبار اللطيف أن في القلب تخييلَ أنه من غاية ضعفه يسقط على وجهه قبل عثاره، ومثَّلوا للقلب المردود لعدم تضمُّنه هذا الاعتبار اللطيف بقول القطامي يصف ناقته:
والفَدَن: القصر، والسياع (بفتح الأول وكسره): الطين بالتبن الذي يطيَّن به ظاهر الجدار، أراد: كما طينت بالسياع الفدن فقَلَبَ، والمعنى: إن هذه الناقة امتلأت سمنًا، فصارت كالقصر المسيَّع في الملاسة، واعتُرِضَ بأنا لا نسلِّم خلوَّه من النكتة؛ لأنه يتضمن من المبالغة في سِمَن الناقة ما لا يتضمنه قولنا: كما طيَّنت الفَدَنَ بالسياع؛ لإيهامه أن السياع بلغ من العظم والكثرة إلى أن صار بمنزلة الأصل، والفدن بالنسبة إليه كالسياع بالنسبة إلى الفدن، كذا في الهنديَّة للدمامينيِّ على المُغْنِي، وفي عروس الأفراح للبهاء السُّبْكي ما نصه: «ويُروَى: بطَّنَت، كذا رأيته في الصحاح للجوهري، وحلية المحاضرة للحاتمي، والتوسعة لابن السِّكِّيت، وجعله قلبًا وفيه نظر؛ لأنه يجوز أن يريد أنه جعل القصر بطانة للطين؛ لأنه داخله فلا قلب، وكل ما كان ظهارة لغيره كان الغير بطانة له.» انتهى.
«ومما عدوه» من القلب قول القطاميِّ في مطلع هذه القصيدة:
لأنه جعل ما هو في موقع المبتدأ نكرة، وما هو في موقع الخبر معرفة، فحُمل على القلب لتصحيح الحكم اللفظيِّ وصار تقديره: ولا يكن موقف الوداع موقفًا منك، ولو أنه نكَّر الوداع ما حُمل على ذلك.
ومثله قول حسان:
عند من نصب مزاجها، فجعل المعرفة الخبر والنكرة الاسم، وفي البيت تأويلات أخرى تخرجه عن القلب ليس هذا محل ذكرها.
ومن القلب قول القائل:
قال السيد المرتضى في أماليه: أي يحلى بالعين، فقدَّم وأخَّر.
ومنه قول الجعدي:
والأصل: كان الرجم فريضة الزناء.
ومنه قول الآخر:
أراد: ما تزيد مخافة وعل على مخافتي، كذا في أمالي المرتضى.
ومنه قول الآخر:
أي مدخل رأسِه الظلَّ.
ومنه قول الراعي:
يريد أنهم يرون الأثر كالعين.
ومنه قول النابغة الذبياني:
قال الأعلم: «قوله: كأنني إلى الناس؛ أي في الناس، وقوله مطليٌّ به القار: أي مطليٌّ بالقار فَقَلَبَ، ويحتمل أن يكون في «مطليٌّ» ضمير البعير، كأنه قال: كأني بعير مطليٌّ أجرب فيه القار، أو عليه القار.»
ومنه قول أبي النجم:
أي قبل دنوِّ الجوزاء من الأفق.
ومنه قول عروة بن الورد:
قال المرزباني: أراد أن يقول: فديت نفسه بنفسي فقلب المعنى.
ومنه قول الحطيئة:
وكان الوجه: ما أمسك الحبلُ حافرَه.
ومثله قول المجنون:
والوجه: رفع الأزرار ونصب البنائق؛ ولهذا ذكر السيرافي أن بعضهم رواه: «كما ضمَّ أزرارُ القميص البنائقا»، قال: وليس بصحيح؛ لأن القصيدة مرفوعة، هذا على تفسير البنيقة بالرقعة تكون في الثوب كاللبنة، أو هي لَبِنَة القميص، وقال صاحب اللسان: «وفسَّر أبو عمرو الشيباني البنائق هنا بالعُرَا التي تدخل فيها الأزرار، والمعنى على هذا واضح بيِّن لا يحتاج معه إلى قلب ولا تعسف، إلا أنَّ الجمهور على الوجه الأول.» انتهى.
ومنه قول الشماخ:
قال أبو هلال: «كان ينبغي أن يقول: «في طول من عهدها قصر»؛ لأن العيش مع الأحبة يوصف بالقِصَر.» ونحوه في الموشح للمرزباني.
ومنه قول أبي ذؤيب:
قال أبو هلال: هذا من المقلوب، وكان ينبغي أن يقول: وأظلم دونها ليلي ونهاري، ومثله في الموشح.
ومنه قول الأخطل:
وكان الوجه رفع سوآتهم ونصب هجر؛ لأن السوآت هي التي تبلغ هجر.
ومنه قول كعب في بانت سعاد:
القور (بالضم): جمع قارة، وهو الجبل الصغير، والعساقيل هنا: السراب ولا واحد لها، والوجه: «كما تلفَّعت القور بالعساقيل»؛ أي صار السراب للأكم مثل اللثام.
ومنه قول النابغة الجعدي:
أي: تعدى فوارسنا الخيل، فحذف المفعول اختصارًا، ورعن القف نادر يندر منه، والقف: ما ارتفع من الأرض، والآل: السراب، شبه حركتهم في عدوهم بحركة القف في الآل؛ لأن الجبال فيه يخيل للناظر أنها تضطرب، فكان الوجه كأننا رعن قفٍّ يرفعه الآل، كذا في أدب الكُتَّاب لابن قُتَيبة، والأضداد لأبي الطيب اللغوي، وشرح بانت سعاد لابن هشام، وقال ابن السِّيد في شرح أدب الكتَّاب: «قال الأصمعي: إنما قال: «يرفع الآل»؛ لأنه ينزو في الآل، فإذا نزا فكأنه قد رفع الآل، يريد أنه لا قلب في البيت كما قال ابن قتيبة.»
ومنه قول خِدَاش بن زهير:
الضياطرة: واحدهم ضَيْطار، وهو الضخم الذي لا يغني شيئًا، والبيت عندهم من المقلوب، إذ الأصل: وتشقى الضياطرة بالرماح؛ أي يُقْتَلون بها، وقيل: لا قلب؛ لجواز أن يكون عنَى أنَّ الرماح تشقى بهم؛ أي إنهم لا يحسنون حملها ولا الطعن بها، وقال علم الدين السخاوي في سفر السعادة: «زعموا أنه مقلوب، وأن وجه الكلام: وتشقى الضياطرة بالرماح، وأحسن من هذا أن يكون غير مقلوب، وشقاوة الرماح تكسُّرها فيهم، كما قال:
انتهى، وفي البيت رواية أخرى رواها الإمام محمد بن أحمد بن مُطَرِّف الكناني في القرطين، وهي: «وتعصَى الرماح» من قولهم: عَصِيَ بسيفه يعصَى: أي ضرب به، والمراد هنا الطعن، وعلى هذه الرواية لا يصح تخريج ما في البيت إلا على القلب، قال الكناني: «لأن الرماح لا تعصى بالضياطرة، وإنما يعصى الرجال بها؛ أي يطعنون.»
ومنه قول الفرزدق يذكر ذئبًا:
قال المُبَرِّد في الكامل: «قوله: «رفعت لناري» من المقلوب، وإنما أراد: «رفعت له ناري»، والكلام إذا لم يدخله لَبْسٌ جاز القلب للاختصار»، ثم قال: «ويروى أن يونس بن حبيب قال لأبي الحسن الكسائي: كيف تُنشد بيت الفرزدق:
فقال الكسائي: لما قال: «غداة أحلت لابن أصرم طعنة حصين عبيطات السدائف» تم الكلام فحمل الخمر على المعنى، أراد: وحلَّت له الخمر، فقال يونس: ما أحسنَ ما قلت! ولكن الفرزدق أنشدنيه على القلب، فنصب الطعنة ورفع العبيطات والخمر على ما وصفنا من القلب، والذي ذهب إليه الكسائي أحسن في محض العربية، وإن كان إنشاد الفرزدق جيدًا.» انتهى.
ومنه قول الفرزدق أيضًا:
قال الفارسي: أراد ختام الأغلاق فَقَلَب، كذا في اللسان في مادة «غلق».
ومنه قول ذي الرُّمَّة:
الزرق: أكثبة بالدهناء، والغرابان من الفرس والبعير: حرفا الوركين، والخطر: ما لصق بالوركين من البول، وتقوَّب الجلد: تقشَّر، قال صاحب اللسان: «أراد تقوَّبت غربانها عن الخطر فقلبه؛ لأن المعنى معروف، كقولك: لا يدخل الخاتم في إصبعي؛ أي لا يدخل إصبعي في الخاتم.»
ومنه قول بعضهم، ونسبه صاحب الوساطة للأعشى:
ففي الوساطة: «يريد حيث وارى الشعارُ الأديمَ فقلب الكلام»، ورواية اللسان: «طويل» بدل كميت، وجاء فيه عن البيت ما نصه: «أراد كأنَّ السليط، وهو الزيت في شعر هذا الفرس لصفائه، والشعار: جمع شَعَر، كما يقال: جبل، وجبال، أراد أن يخبر بصفاء شعر الفرس، وهو كأنه مدهون بالسليط، والموارِي في الحقيقة الشعار، والموارَى هو الأديم؛ لأن الشعر يواريه فقلب، وفيه قول آخر: يجوز أن يكون هذا البيت من المستقيم غير المقلوب، فيكون معناه: كأنَّ السليط في حيث وارى الأديمُ الشعر؛ لأن الشعر ينبت من اللحم وهو تحت الأديم؛ لأن الأديم الجلد، يقول: فكأن الزيت في الموضع الذي يواريه الأديم وينبت منه الشعر، وإذا كان الزيت في منبته نبت صافيًا، فصار شعره كأنه مدهون؛ لأن منابته في الدهن، كما يكون الغصن ناضرًا ريَّان إذا كان الماء في أصوله.» انتهى.
ومنه قول الأعشى:
أي: وصار ترابها مثل الجمر، وقد روي هذا البيت في الأضداد لأبي الطيب اللغوي، والقرطين للكناني، والذي في الأضداد للسجستاني:
أي على أنه شطر بيت، وليحقَّقْ فإنِّي لم أجده في نسخة ديوان الأعشى التي بيدي، ولعله لأعشى آخر، إلا أن عادتهم إذا أطلقوا أرادوا الأعشى الأكبر.
ومنه قول الشماخ يذكر أباه:
العلباء: عصب العنق، وكانت العرب إذا تصدَّع رمح تعصبه به وهو رطب فيجف عليه، فكان الوجه في البيت:
«ومنه» قول ذي الرُّمة:
المِجَن هنا: الثوب، والإهان (بكسر أوله): عود العذق، والأخلق: الأملس، وكان الوجه أن يقول: تكسو الخصر مِجَنًّا.
ومن القلب قوله أيضًا يذكر بعيرًا:
أي أهزله الإسراع في السير حتى صيَّره كهلال تقشَّعت عنه السحائب، فالرياح هي التي نضت عنه السحائب لا العكس كما في البيت، ولكنه لما اضطُر قلب، وقد رواه هكذا أبو الطيب اللغوي في الأضداد، ورواية الديوان: «هلال بدا وانشقَّ عنه سحائبه» ولا قلب عليها.
ومنه قول الآخر:
الوهق (بفتحتين): حبل مُغار يرمى فتؤخذ به الدواب، والوجه: كما أسلم وهقٌ وحشية.
ومنه ما أورده ابن هشام في المُغْنِي لبعضهم:
قال الدماميني في الهندية: «أي لا يَخَفْكَ الإقدام، والمعنى: لا تخف أنت الإقدام على ملاقاة العدو والدخول في الحرب، والقلب فيه ظاهر.»
وفي المُغْنِي أيضًا لابن مقبل:
أي: لا تَتَهَيَّبني، فحُذفت إحدى التاءين، والوجه: «لا أتهيَّبها.»
ومن قلب التثنية بالإفراد ما ورد في المُغْنِي أيضًا لبعضهم:
أي: فلستُ لشرِّ فِعْلَيْهِ.
ومن القلب قول بعضهم:
قال أبو الطيب اللغوي في الأضداد: «أي إذا تحير الغوج الهدان بالليل، والغوج: الثقيل، والهدان: البليد.»
ومنه قول الآخر:
قال أبو الطيب: «يريد إلى أن تطلع الشمس من حيث تغيب.»
ومنه قول الآخر:
يريد: والتمادي من الفجور.
ومنه قول الآخر:
يريد: فهلَّا عن التي بين جنبيك تدفع.
ومنه قول الآخر:
يريد: إذا انتحى الخبار؛ أي قصده، والخبار من الأرض: ما لان واسترخى، وكانت فيه جِحَرة.
ومنه قول الآخر:
هكذا أنشده أبو الطيب اللغوي في الأضداد، وقال: «يريد إذا ضنَّ الوحش بمقايله»، والإران على هذه الرواية إما الكنَّاس، وإما موضع تنسب إليه البقر، وورد في اللسان على أن الإران الثور الوحشي برواية:
ومن القلب قول بعضهم:
النيق (بكسر الأول): أرفع موضع في الجبل، وأراد بذي حدب: ماء استنقع في موضع منخفض تحت جبل فبرد وَصَفا، كذا في الاقتضاب.
قال أبو الطيب في الأضداد: «أي تجري الغرانيق فيه، والغرانيق: جمع غُرْنَيق، وهو طير الماء.» فجعله من المقلوب، والذي في اللسان: أنه أقام «في» مقام «مع»؛ أي إنه أراد: يجري مع الغرانيق، ومثله في أدب الكتَّاب لابن قتيبة، وشرحه المسمى بالاقتضاب لابن السِّيد، وذكر أن الشعر لخُرَاشة بن عمرو العبسي، وأنَّ بعضهم رواه لعنترة بن شداد.
ومن القلب قول الراجز يشكو أذى البرغوث:
كذا رواه أبو الطيِّب في الأضداد، وقال: «يريد بالأسيود: البرغوث، ويريد حككته، فقال: حكَّني.»
ورواية اللسان:
ومنه قول الآخر:
قال أبو الطيب: «أي يعجبني، وقوله: ألعبه؛ أي في زمان ألعب فيه.»
ومنه قول الآخر:
قال أبو الطيب: «أي يُحَبُّ فيها الطعام.» ومثله في اللسان.
ومنه قول الآخر:
قال أبو الطيب: «يريد: فنالت رياحها المذكوم، والمذكوم نصب، والرياح رفع.»
ومنه قول الآخر:
قال أبو الطيب: «وإنما الأجزال هي التي شبَّت حَرُّ وقودها.»
ومن القلب الواقع في كلام المولدين قول أبي تمام يصف قلم ممدوحه:
أورده القزويني في الإيضاح شاهدًا على القلب المتضمِّن الاعتبار اللطيف، ولم يتكلم عليه، والمراد أن الوجه فيه: «لعابه كلعاب الأفاعي»، فعكس التشبيه للمبالغة، ولكن لا يخفى أنه يَرِدُ عليه ما ورد على قول رؤبة: «كأن لون أرضه سماؤه» المتقدم ذكره، فيُعَدُّ من التشبيه المقلوب، لا من القلب المراد هنا.
وزعم بعضهم: أن من المقلوب قول المتنبي:
لأنه عنده على تقدير: كيف لا يموت من يعشق، وخلاصة ما في شروح الديوان، والوساطة، والمُغْنِي، وعروس الأفراح: أنْ لا قلب؛ لأن المراد أنه صار يرى أنْ لا سبب للموت سوى العشق؛ أي إن الأمر المتقرر في النفوس أن الموت أعلى مراتب الشدة، وإني لما ذقت العشق وعرفت شدته عجبت كيف يكون هذا الأمر الصعب المتفق على شدته غير العشق، وكيف يجوز ألا تعم علته فتستولي على الناس حتى تكون مناياهم منه.
ومن المقلوب في رأي ابن جني قولُ المتنبي أيضًا:
لأن تقديره عنده: نحن ركب من الإنس في زي الجن فوق جِمال لها شخوص الطير، قال ابن سنان الخفاجي في سر الفصاحة: «وهذا عندي تعسُّف من أبي الفتح لا تقود إليه ضرورة، ومراد أبي الطيب المبالغة على حسب ما جرت به عادة الشعراء، فيقول: نحن من الجن لِجَوْبِنَا الفلاةَ والمَهَامِهَ والقِفَارَ التي لا تُسلَك، وقِلَّةِ فَرَقِنَا فيها إلا أننا في زي الإنس، وهم بلا شك كذلك، ونحن فوق طير من سرعة إبلنا إلا أن شخوصها شخوص الجِمَال، ولا خلاف أيضًا في هذا.» انتهى.