حروب على المرأة
أي شرف يكمن في فتح النار على امرأة عزلاء؟
إغواء ثم هجر
يعقب هذا هرج ومرج، يُرسَل في أثنائه أخو أجنيس للبحث عن ببينو وقتله، ولكنه يُمنى بالفشل، ويُلقَى القبض عليه. يوجه إليه القاضي تهمة الشروع في القتل، ولببينو تهمة هتك عرض قاصر. ويبقى السبيل الوحيد لتفادي السجن هو أن يتزوج ببينو من أجنيس. ويقدم العرف السائد حلًّا بسيطًا؛ ألا وهو، ينظم ببينو وبعض من أصدقائه عملية اختطاف لأجنيس على مرأى ومسمع من الجميع. وهكذا، فإن إغواءه سرًّا لأجنيس، وهو الأمر الذي لا يمكن الإعلان عنه للقاصي والداني، يمكن أن يستعاض عنه بهذه الحجة العلنية للزواج. ويفترض الجميع أن المجتمع سيقبل بزواج الشاب والشابة، عقب عملية الاختطاف، حفاظًا على شرف أجنيس وعائلتها.
في أثناء أحداث الفيلم، نرى بولينزا — قائد الشرطة القادم من البر الرئيسي الإيطالي — يعبر من وقت لآخر، عن غيظه الشديد من فرط حركة عائلة أسكالوني وعائلة كاليفانو ذهابًا وإيابًا، ويتحسَّر على العالم المجنون للشرف الصقلي. (في مشهد من المشاهد في قسم الشرطة، ينظر بولينزا إلى خريطة لإيطاليا، ويضع يده على جزيرة صقلية حاجبًا إياها، متمتمًا: «هذا أفضل! هذا أفضل كثيرًا!» متخيلًا تحسن حال وطنه لو اختفت هذه الزائدة المزعجة.) وعندما تبلغ خطة الاختطاف أسماع بولينزا، يدرك ما ينبغي فعله، فيشد الرحال مع ضابط الشرطة الشاب الذي يعاونه في الحفاظ على القانون، تاركين البلدة وراءهم، تجنبًا لهذه الفوضى العارمة.
ليست المسألة مسألة عواطف فحسب، أو مسألة فخر وعار بالنسبة لعائلة أسكالوني. إذا فشل دون فينشينزو في حل المشكلة بطريقة تعيد لعائلته شرفها، فإن سائر بناته وأبنائه لن يتمكنوا من الحصول على زيجة محترمة؛ وسيكون هو نفسه محط سخرية الآخرين؛ أما زوجته فستكون مثار شفقة وأسف، ولن يستطيع أن يرفع رأسه عاليًا وسط مجتمعه. سيفقد احترام نظرائه. ففي عالمه، ثمة سبيل وحيد للخروج من هذه الورطة: على الغاوي أن يتزوج من الابنة الصغرى (وعلى دون فينشينزو أن يبحث عن زوج آخر لابنته الكبرى). وعندما يحاول ببينو الفرار من مصيره المحتوم، فإن ميثاق الشرف نفسه يقضي بضرورة أن يقتله أحد أفراد عائلة أسكالوني.
ربما تثير درجة العنف الأبوي في عائلة أسكالوني دهشة البعض من المشاهدين المعاصرين. فدون فينشينزو يضرب بناته وابنه، ويتنمَّر على زوجته، التي بدورها لا تمنعه في أغلب الأحوال من ضرب أولاده، والغالب كذلك أن الجميع يعتبر استعراض الأب سلطته عن طريق تقريعه الغاضب وقبضته الباطشة أمرًا من المسلَّمات. إن صفة الذكورة في هذا العالم أساسها القدرة على العنف، حتى أخو أجنيس، المخنث إلى حد ما، مُطَالبٌ بأن يلاحق ببينو ومعه بندقيته بصرف النظر عن ممانعته.
يفترض هذا الميثاق أن أي رجل يتمتع بحرية السعي دومًا لممارسة الجنس مع النساء اللاتي لا تربطه بهن رابطة الزواج، وأنه «من واجب المرأة أن ترفض»؛ ولهذا السبب، إذا أفلح الرجل، يصير الخزي من نصيب المرأة، فهي من خرقت القواعد. يشتهي ببينو أجنيس الجميلة، ويرغب باستماتة أن يمارس الجنس معها، ولكنها إذا وافقت على ممارسة الجنس معه دون زواج، فهي «عاهرة»، وبالتالي، لا يستطيع الزواج منها، حتى وإن كانت لم تمارس الجنس إلا معه دون غيره، وحتى وإن كانت تحمل طفله.
إِذَا وَجَدَ رَجُلٌ فَتَاةً عَذْرَاءَ غَيْرَ مَخْطُوبَةٍ، فَأَمْسَكَهَا وَاضْطَجَعَ مَعَهَا، فَوُجِدَا، يُعْطِي الرَّجُلُ الَّذِي اضْطَجَعَ مَعَهَا لأَبِي الْفَتَاةِ خَمْسِينَ مِنَ الْفِضَّةِ، وَتَكُونُ هِيَ لَهُ زَوْجَة مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ قَدْ أَذَلَّهَا. لاَ يَقْدِرُ أَنْ يُطَلِّقَهَا كُلَّ أَيَّامِهِ.
لم يكن «الزواج الإصلاحي» مجرد أداة من أدوات الحبكة الروائية في الأفلام. ففي اليوم التالي لعيد الميلاد المجيد من عام ١٩٦٥ (كان قد مر أكثر من عام بقليل على ظهور فيلم «سيدوتا إي أباندوناتا») تعرضت شابة اسمها فرانكا فيولا، في السابعة عشرة من عمرها، للخطف والاغتصاب على يد محتال حقير يدعى فيليبو ميلوديا في بلدة صغيرة في صقلية اسمها ألكامو، كان قد عاونه في اعتدائه عليها بضعة من أصحابه. وكانت قد رفضت مرارًا في الماضي محاولاته استمالتها، إلا أن ميلوديا كان قد تعلَّم، كما توقع السينيور بولينزا «منذ نعومة أظفاره»، أنه بمجرد ممارستهما للجنس، ستدرك أنه لا سبيل لإنقاذ شرف عائلتها إلا عن طريق زواجها منه، وبمجرد زواجهما، ستحميه المادة ٥٤٤ من أي عواقب قانونية لجريمة الاغتصاب.
تعرضت فرانكا فيولا للاغتصاب في سن السابعة عشرة، وعندما بلغ عمرها ضعف هذه السنين تقريبًا، أُلغيت المادة ٥٤٤ أخيرًا في عام ١٩٨١.
عائلات قتلة
في بقاع أخرى من العالم (وأزمنة أخرى كذلك)، كانت عقوبة الخزي الذي يجلبه فقدان أنثى لعذريتها قبل الزواج أشد من هذا بكثير. في الفيلم، تقبل أجنيس بالمصير المحتوم الذي نجت منه فرانكا فيولا؛ وتُجبر على الزواج من رجل عاملها بازدراء، إلا أنه ثمة أماكن عديدة أخرى وأزمنة مختلفة لا يقتصر فيها استعادة شرف العائلة على قتل الرجل الذي أغوى الفتاة فحسب، بل والفتاة نفسها أيضًا. ففي صقلية، كما هو الحال في مجتمعات أخرى، مسيحية ومسلمة، في منطقة حوض البحر المتوسط، وكذلك في بقاع أخرى من الأرض، كان هذا هو الميثاق المتَّبَع. ففي بعض المجتمعات، تفقد الفتاة شرفها وتتعرض لهذه العقوبة الفتاكة حتى لو كانت ضحية اغتصاب مثل فرانكا فيولا.
يشتمل هذا الميثاق الذي يحكم جرائم الشرف المزعومة هذه على عناصر يستطيع أغلب الناس حول العالم التعرُّف عليها. وحتى في الغرب المتقدم، في الولايات المتحدة وفي أوروبا، يتطلب جهدًا مضنيًا إقناعُ الرجال والنساء بأنه ينبغي ألا يعامل الاغتصاب على أنه مصدر عار للضحية. وليست المسألة مسألة قناعة في نفس المرأة المغتصبة بأنها «من جلبت على نفسها» هذا الخزي، وإنما يرتبط الخزي الذي تشعر به بإحساسها بقلة حيلتها لكونها ضحية. ليس الشعور المسيطر عليها هو الشعور بالذنب لاعتقادها أنها ارتكبت خطأً ما، وإنما هو التذكير بالمذلة التي تعرضت لها، وهذه المذلة — وقد أشار سفر «التثنية» إلى أن المغتصب يذل ضحيته — تجعلها عرضًة لأن تفقد احترام من يعلمون باغتصابها، بصرف النظر عن افتقار مثل هذا الموقف للعقلانية؛ فالواقع أن المذلة من شأنها أن تفقدها احترامها لنفسها (مرة أخرى، دون أدنى سبب وجيه).
وافتراض أن عجزك عن مقاومة عبء بدني أكرهك عليه شخص آخر يعكس أنك أدنى منه بطريقة أو بأخرى (ولا يقتصر الأمر على الاعتداء الجنسي فحسب) هو افتراض شائع جدًّا. هذه المنظومة من المشاعر والتوجهات تحمل في طياتها أثرًا لفكرة تجعل المرأة المغتصبة مثلها مثل الرجل الذي تفوق عليه رجل آخر في هجوم ما؛ فكلاهما فقد شرفه. إن الضعف — حتى وإن كان نتيجة لظلم واقع — مصدر للعار.
في الولايات المتحدة، ما زال العديد من الآباء والأمهات يعانون من القلق على بناتهم أكثر من أبنائهم إزاء المغامرات الجنسية قبل الزواج. ويمكن أن تجد تفسيرًا منطقيًّا لهذا القلق؛ نظرًا لأن الفتاة أكثر عرضة للخطر، فحياة الفتاة تتأثر بالحمل على عكس الفتى، إلا أنني أعتقد أن ما يدور في الأذهان في الواقع هو ما دار بذهن ببينو ووالده حين قال: «من حق الرجل أن يحاول ومن واجب المرأة أن ترفض.» فليس ضبط النفس من شيم الرجال، أما المقاومة فأمر يليق بالأنثى.
ولكن أيًّا كانت أفكارنا ومشاعرنا تجاه ممارسة الجنس خارج إطار الزواج، فمن الصعب على الغالبية العظمى منا أن نتفهم ما قد يراه البعض رد فعل مناسبًا، وهو أن يكون القتل جزاء الابنة غير المتزوجة التي تختار أن تمارس الجنس أو الابنة المتزوجة التي تمارس الزنى. ولكن الأصعب أن نتفهم إقدام أحدهم على قتل ابنته أو أخته، سواءٌ كانت متزوجة أو لا؛ لأنها قد تعرضت للاغتصاب.
تناولنا حتى هذه اللحظة ثورات انقضت. في هذا الفصل، سأعود إلى الحاضر وإلى ممارسة متعلقة بالشرف في أمسِّ الحاجة إلى التغيير. إن البحث عن سبيل لفهم جرائم الشرف، مثله مثل أي عالم من عوالم الشرف، يتطلب جهدًا لفهم مواثيقه، وعلى الرغم من وجود نمط عام يجمع بين جرائم الشرف عبر الثقافات المختلفة، فإن دراسة السمات الخاصة بالأماكن والأزمنة من شأنه أن يساعدنا على فهم أفضل لما هو عرضة للخطر. ولكن في وسعنا أيضًا أن نتعلم شيئًا، كما سنرى، من التاريخ الذي تعرضنا له بالفعل. فهدفي هنا وضع مفهومنا الجديد للشرف تحت تصرف عرض نتقدم به ربما يكون وسيلة من وسائل تحقيق تقدم في القضاء على جرائم الشرف. ولنتمهل قليلًا في تصديق المثل الفرنسي الساخر، فليس معنى أن «تفهم كل شيء» أن «تغفر كل شيء» دائمًا.
حياة سامية ساروار ووفاتها
يبدو أن سامية ساروار، في وقت ما، في السنوات التالية، ومع اختفاء زوجها من الصورة تمامًا، وقعت في حب رجل آخر. كانت وقتها تدرس القانون؛ وبالتالي كانت تعرف بكل تأكيد أن لديها الحق القانوني الذي يخول لها التماس الطلاق من زوج اعتدى عليها جسديًّا ثم هجرها. وفي مارس من عام ١٩٩٩، وحين كان والداها مسافرين إلى مكة ليؤديا فريضة الحج، فرت سامية إلى لاهور، انتقلت لتعيش في داستاك، وهو الملجأ الوحيد الخاص الموجود في لاهور والمخصص للنساء المعتدَى عليهن، وكانت قد اتخذت ترتيباتها مع محامية باكستانية متخصصة في حقوق الإنسان تُدعى هينا جيلاني لتبدأ في إجراءات رفع قضية لطلب الطلاق من زوجها.
جميع أبطال هذه الأحداث الدرامية من الباكستانيين المرموقين. هينا جيلاني واحدة من كبار محاميات حقوق الإنسان في باكستان، تشاركها في مكتب المحاماة، أختها أسماء جاهنجير، رئيسة لجنة حقوق الإنسان في باكستان والمقرر الخاص للجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة المعني بحالات الإعدام خارج نطاق القضاء أو بإجراءات موجزة أو تعسفًا. (يبدو أن السيدة جاهنجير قد اضطرت إلى تأجيل سفرها لحضور اجتماع في جنيف؛ وذلك للمساعدة في التعامل مع ما ترتب على واقعة القتل خارج نطاق القضاء هذه التي وقعت أحداثها في مكتبها.) كان الوسيط الذي كانت مراجعته لأوراق طلب الطلاق المزعوم هي السبب وراء موافقة سامية ساروار على تلك المقابلة هو اعتزاز إحسان، المحامي المرموق ووزير العدل الأسبق، وكان وقتذاك يشغل منصب زعيم المعارضة في مجلس الشيوخ.
طريقة قبائل البشتون
يعيش أكثر من ٤٠ مليون بشتوني في باكستان وأفغانستان، معظمهم في مناطق على جانبي الحدود، ويعتبر البشتون أنفسهم من سلالة سلف مشترك واحد، أما نظامهم القبلي فهو ما يسميه علماء الأنثروبولوجيا «نظام البدنة الانقسامي»، حيث يتضامن أقرب الأقربين ضد أبناء العمومة الأبعد نسبًا، وذلك وفقًا للمثل البدوي: «أنا على أخي، أنا وأخي على ابن عمي، وأنا وأخي وابن عمي على الغريب.» وكلما تباعد السلف المشترك، زاد بالطبع حجم التجمع، ولنظام النسب البشتوني درجات عدة مؤلفة من مستويات مختلفة على جانب من الأهمية للحياة العملية.
تستمد التجمعات القبلية الأساسية الأربعة مرجعية تعود تقاليدها من النسل المباشر لقيس عبد الرشيد، وهو الرجل الذي يزعم جميع البشتون أنه جدهم الأكبر، ويبدو أن قيسًا كان معاصرًا للنبي محمد، وقد سافر إلى مكة ونقل الإسلام إلى أفغانستان، وعادة ما يكون للتقسيمات الفرعية العديدة المنبثقة عن تلك التجمعات الأربعة نسبٌ نظريٌّ ما يربطها بطرف من نسل قيس في الأجيال القليلة الأولى. وفي نهاية هذا التسلسل الهرمي، توجد تجمعات عائلية أصغر تضم رجلًا وأبناءه وزوجاتهم وأبناءهم وأحفادهم.
نحن الآن أمام مفارقة باتت مألوفة لنا؛ فباكستان جمهورية إسلامية، نشأت لتكون موطنًا لمسلمي الهند بعد الصراعات الطائفية التي سبقت استقلال الهند، وثمة شبه إجماع عالمي بين فقهاء الإسلام على أن جرائم الشرف ليست من الإسلام في شيء، ومثلما كانت المبارزة في أَوْجها مخالفة للقانون والدين في بريطانيا العظمى المسيحية، فإن جرائم الشرف ليست مخالفة للقانون في باكستان فحسب، بل ومخالفة لتعاليم الدين في بلد مثلها مثل بريطانيا لديها دين ثابت الأركان. من بين أسباب هذا التجريم أن الشريعة الإسلامية تملك الأدوات التي تنظم من خلالها مسائل العفة الجنسية، وفي تطبيق العائلات للميثاق الخاص بها دون الرجوع إلى المحاكم الشرعية إعلانٌ لاستقلال هذه العائلات عن قواعد الدولة وعن الدين المنظم، كما كان حال السادة النبلاء مع المبارزة. وبالطبع دخل على الدين الإسلامي بعض التعديلات التي كانت تختلف باختلاف المجتمعات التي انتقل إليها، كحال الأديان الأخرى حول العالم. لدى معتنقي البشتون والي قناعة بأن البشتون والي لا يخالف الإسلام في شيء البتة، بل ويعتقدون أن الإسلام نفسه ما هو إلا إحدى طرق البشتون، فهم يؤمنون بأن جدهم الأكبر عاد من مكة ومعه هذا الدين. ولكن، كما أقول، ثمة إجماع واسع في جميع أنحاء العالم الإسلامي على أنه لا يوجد في القرآن ولا في السنة النبوية ولا في الحديث ما يعضد قتل الرجل للمرأة في الأسرة الواحدة.
لا شك في أن هذا الأمر مفهوم تمامًا في باكستان على وجه الخصوص؛ ففي صيف عامي ٢٠٠١ و٢٠٠٢، عقد أمير إتش جفري — وهو طالب دراسات عليا باكستاني يعمل على إعداد رسالة دكتوراه في مجال الاتصالات — سلسلة من الحوارات بالإنجليزية والأُردية تهدف إلى وضع مقتل سامية ساروار وردود الفعل له في سياقه الثقافي الكامل. ويذكر جفري حوارًا رائعًا دار بينه وبين مُلا يُدعى أباد في مسجد بإسلام آباد. في البداية، يعترف هذا المعلم الديني لطلبته الذين يجلسون من حوله بأنه عندما يرى امرأة غير منقبة، «أود لو أن بوسعي أن أقطعها إربًا أو أزوجها لأحدهم …» وعندما سأله جفري — مذهولًا — عما إذا كان هذا يتفق مع الإسلام، علت حُمرة الخجل وجه المُلا الذي سكت برهة عن الكلام، ثم نظر إلى طلبته من حوله وغمغم قائلًا إن «الإسلام لا يسمح بذلك، ولكن عليك في بعض الأحيان أن تضرب مثلًا يُحتذى به».
قوانين البشتون
وفي عام ١٩٧٩، اتخذ الجنرال ضياء الحق، الحاكم العسكري لباكستان، خطوات أبعد من ذلك عن طريق سن قوانين عُرفت باسم «تشريع الحدود» صارت جزءًا من سياسة تتجه نحو المزيد من الأسلمة. كان هدف القانون الجديد — ضمن أمور أخرى — المواءمة بين الممارسات الباكستانية ومفهوم الجنرال للشريعة، وبخاصة فيما يتعلق بفعل «الزنى»، أو ممارسة الجنس خارج إطار الزواج. كان أحد آثار هذه المواءمة إفساح المجال أمام أحكام من الشريعة تحد على نحو ملحوظ من الحماية القائمة التي يكفلها القانون للمرأة. فعلى سبيل المثال، صار على المرأة التي تقدمت ببلاغ بالاغتصاب أن تأتي بأربعة شهود ذكور على الواقعة؛ فإن عجزت عن ذلك، تسقط التهمة عن المتهَم. ولكن بما أن في الإبلاغ عن واقعة الاغتصاب اعترافًا من المرأة بممارسة الجنس خارج إطار الزواج، فإن ذلك يعرضها للمساءلة القانونية بتهمة «الزنى»، بِناءً على الاتهام الصادر منها ذاتها؛ وهذا يعني أنها قد تُجلَد مائة جلدة أو تُرجَم بالحجارة حتى الموت لأنها زانية.
ومن الضروري أن نشير إلى أنه في الحالات القليلة التي أصدرت فيها المحاكم الابتدائية أحكامًا في ملابسات كهذه، كانت المحكمة الشرعية الفيدرالية تراجع تلك الأحكام وتطرحها جانبًا. ولكن لا شك في أن تشريع الحدود جعل مسألة توجيه الاتهام بالاغتصاب أمرًا شديد الخطورة على المرأة في باكستان.
ثم جاء الرئيس غُلام إسحاق خان خلفًا للجنرال ضياء، واتخذ خطوات إضافية من خلال تطبيق مفهوم لقانون الشريعة عن طريق سن تشريع خاص بمسألتي «القصاص» و«الدية»، وهو التشريع الذي حل محل قسم كبير من القانون الجنائي الذي كانت قد ورثته باكستان عن القانون العام الإنجليزي. ترتب على هذه التغييرات اعتبار جرائم القتل، وغيرها من صور الأذى الجسدي الأقل خطورة، جرائم في حق شخص ما وأسرته أو أسرتها، بدلًا من اعتبارها جرائم في حق الدولة. وبموجب هذا التشريع، من حق الضحية أو ورثته المطالبة بالحق في «القصاص»، الذي يعني أن يُلحَق بمرتكب الجريمة الأذى نفسه الذي ألحقه بالضحية. وعليه، في حالة جريمة القتل، يجوز لأهل الضحية أن يطالبوا بموت مرتكب الجريمة.
وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنفَ بِالْأَنفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ ۚ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ.
قضايا جدلية
هل من الممكن أن نستشرف من الثورات الأخلاقية الثلاثة التي تناولناها بالفعل ما يُحتمل أن ينتظر باكستان من تغيير؛ تلك الثورات التي كان لتغيير أفكارها الخاصة بالشرف أثره في تحويل مسار المجتمعات في اتجاه التطور الأخلاقي؟ فقد ظلت كل ممارسة من تلك الممارسات، سواءٌ المبارزة، أو الاسترقاق على جانبي الأطلسي، أو عادة ربط الأقدام لدى الصينيين، مهجورة لأجيال متعاقبة. ولكن، وكما رأينا، لم يكن ما حدث تغييرًا طرأ على المعتقدات الأخلاقية بقدر ما كان ثورة شهدتها الممارسات؛ ثورة لعب الشرف فيها دورًا محوريًّا. لم يكن الجديد هو الحجج الأخلاقية، بل كان الجديد هو الرغبة في الانصياع لهذه الحجج.
بالطبع، اختلف الدور الذي اضطلع به الشرف في هذه الثورات الأخلاقية الثلاثة؛ وبالتالي، أدركنا أنه ثمة أكثر من آلية تربط بين الشرف والتطور الأخلاقي. ولكن، لنبدأ بملاحظة بعض السمات المشتركة فيما بين هذه الثورات الأخلاقية شديدة التباين.
أولًا؛ اعتمدت الممارسة القديمة غير الأخلاقية ذاتها على مجموعة من مواثيق الشرف. هذا أمر واضح فيما يتعلق بالمبارزة. أما فيما يتعلق بعادة ربط الأقدام، علينا أن نتذكر أنها كانت ممارسة تتعلق بالشرف في الأصل، بغرض ضمان المكانة الاجتماعية من ناحية، وضمان عفة نساء الطبقة الرفيعة في طائفة الهان من ناحية أخرى؛ كما علينا أن نذكر أن رق المزارع في العالم على جانبي الأطلسي لم يكن نظامًا اقتصاديًّا فحسب، باعتباره مصدرًا للعمالة، بل كان منظومة للشرف كذلك، حيث كان العمل اليدوي من نصيب الجنس الممتهن شرفه، في الوقت الذي عزز فيه البيض شرفهم، حتى وإن كانوا ينتمون لأدنى طبقات المجتمع، وذلك من خلال هويتهم لانتمائهم لجنس لا يجوز استرقاقه قانونًا. إذن فالعنصر الأساسي في هذه الحالات كافة هو أنه كان لا مفر من تغيير مواثيق الشرف إذا كان لتلك الممارسات أن تختفي. كان لا بد أن يتوقف اعتبار المبارزة أداة في يد السادة النبلاء للمطالبة بأحقيتهم بالشرف الذي يليق بمكانتهم، كما كان لا بد للرابط بين العمل والأصول الأفريقية من ناحية وبين امتهان الشرف من ناحية أخرى أن ينقطع. (ولا تزال هذه الأخيرة في سبيلها للتحقق.)
أما السمة الثانية المشتركة فهي أن ميثاق الشرف قد واجهته تحديات أخلاقية ودينية قبل اندلاع الثورة بكثير. وأخيرًا؛ تجتمع الحالات الثلاث كلها في أنه مع نهاية الثورة، كان الشرف قد جُنِّد بنجاح لينضم إلى الأخلاق. صارت المبارزة أمرًا سخيفًا، ومحط سخرية، ومن ثم مصدرًا للعار، وصار من كان فيما مضى يلتمس الشرف عن طريق ربط أقدام بناته، يستعرض الشرف ذاته عن طريق رفضه لعادة ربط الأقدام. أما البريطانيون، فقد استمدوا إحساسهم بشرفهم القومي من الدور الذي لعبته أمتهم في القضاء على نظام العمالة القسرية الذي اتسع ليشمل ثلاث قارات.
ولكن كما أشرت آنفًا، تظل هذه الحالات الثلاث على درجة مهمة من التباين في الوقت نفسه. ولكي ندرك السبب وراء هذا التباين، علينا أن نتذكر ما كنت قد أشرت إليه في الفصل الثاني؛ ألا وهو، أن للهوية أهمية بالنسبة للشرف من زاويتين مختلفتين: الأولى؛ أن ميثاق الشرف يصوغ اختياراتك عن طريق تحديد ما ينبغي على شخص يتمتع بهويتك أن يقوم به. فهو يحدد مجموعة من ممارسات الشرف، والثانية؛ أن الميثاق يتيح الفرصة أمامك لأن تصبح جزءًا من الشرف المستمَد من إنجازات الآخرين الذين يشاركونك الهوية.
إن هذه الصلة الثانية التي تربط بين الهوية والشرف؛ أي تقاسم الاحترام من خلال الهوية المشتركة، لم يكن لها دور كبير في عملية التخلي عن المبارزة؛ فلم يكن السادة النبلاء من الإنجليز في حاجة إلى إقناع غيرهم من السادة بأن يكفوا عن المبارزة لاعتقادهم أنها تجلب الخزي لكل سيد إنجليزي. لقد كان السبب وراء تغيير ممارسات الشرف الخاصة بهم هو أن هذه الممارسات لم تعد مجدية، ويرجع ذلك جزئيًّا إلى أن عالم الشرف في إنجلترا في منتصف القرن التاسع عشر كان قد تحول إلى الديمقراطية، ومع هذا التحول، صارت مطالبة السادة النبلاء بأحقيتهم بهذا التقليد الخاص موضع احتقار، لا احترام. إذن، لم يتخلَّ السادة النبلاء عن شرفهم، بل أعادوا تعريف مواثيق الشرف الخاصة بهم بغرض التأقلم مع الظروف الاجتماعية الجديدة.
لكن المثقفين الصينيين المناهضين لعادة ربط الأقدام حاولوا بالفعل أن يثنوا زملاءهم من المثقفين عن هذه العادة؛ لاعتقادهم أن هذه الممارسة تجلب الخزي عليهم جميعًا. إذن، هذه إحدى سبل مراجعة ممارسات الشرف، بل والعديد من أنواع المعايير كذلك. فمن الممكن أن يقرر أشخاص أصحاب هوية معينة (وهم في هذه الحالة الصينيون) أن يحاولوا حمل كل من يشاركونهم الهوية على أن يكفوا عن فعلٍ ما لأن هذا الفعل يجلب الخزي لهم جميعًا، كما يمكن أن تحدوهم الرغبة في أن يعْدِل أصحاب هوية مختلفة عن ممارسة ما بدافع الشرف الجمعي، كما كان الحال مع الطبقات العمالية البريطانية التي أرادت أن يتخلى كل من ملاك الرقيق الاستعماريين والولايات المتحدة عن ممارسة الاسترقاق. لقد أرادت الطبقات العمالية المناهضة للاسترقاق، التي لم يشارك أي منها قط في ممارسة الاسترقاق، أن يضع أشخاص آخرون حدًّا للاسترقاق؛ لأن في طياته تكمن قلة احترام لهم أنفسهم، وهذا مصدر للعار. إن التحول الديمقراطي للثقافة الذي قضى على المبارزة هو نفسه الذي قوَّض الاسترقاق. وبالتالي، كان للشعور بالشرف الجمعي، في الحالتين الأخيرتين، لكون صاحب هذا الشعور صينيًّا أو شعور من ينتمون للطبقات العمالية، دور في مساعدة تلك الحركات على أن تترسخ جذورها، على الرغم من اختلاف آليات عمل كل منها.
وما هذه إلا بعض الملاحظات التاريخية النظرية. لكن لنفترض أنك تريد أن تستخلص دروسًا يمكن الاستفادة منها في قضية جرائم الشرف، التي تعد ممارسة من ممارسات الشرف المنافية للأخلاق، مثلها في ذلك مثل المبارزة، وعادة ربط الأقدام، والاسترقاق. إن إحدى سبل التغيير التي تعلَّمناها من قصة ربط الأقدام هي إقناع الناس بأن ممارسة الشرف هذه مصدر عارٍ لهم أمام عالم للشرف أوسع نطاقًا. وهذه هي استراتيجية الخزي الجمعي التي لمسناها في باكستان. لم تنجح هذه الاستراتيجية في الصين فحسب، بل في المرحلة الأولى من الحملة البريطانية لمناهضة الاسترقاق كذلك، عندما كانت حركة وطنية قادتها الطبقة المتوسطة دفاعًا عن الشرف البريطاني.
فلنتذكر معًا الطريقة التي تنتهجها هذه الاستراتيجية. يوجِّه الناس في الداخل أنظار بني وطنهم إلى الأذى الذي يعود على سمعتهم القومية في الخارج من ممارسة ما للشرف. تحتاج هذه الاستراتيجية إلى حرصٍ في التطبيق؛ لأن من شأنها أن ينتج عنها ردة فعل قومية دفاعية عنيفة، هدفها أخذ هذه الممارسة محل النقد والذود عنها بحماسة متجددة لسبب محدد هو أنه ثمة أجانب لا يفقهون شيئًا قد أعلنوا عن معاداتهم لها. لهذا السبب ينبغي ألا تكون مساهمات الغرباء نابعة من عدم فهم. ومن ثم، تأتي أهمية الإصرار على أن جرائم الشرف تتنافى مع الإسلام؛ أي إن الخزي لا يلحق بالإسلام، وإنما بباكستان وبإخفاقها في تطبيق مُثُلٍ وثيقة الصلة بالمسلمين في الوقت الذي يزعم فيه دستورها تلك المُثُل محور ذلك المشروع القومي؛ فالإسلام حليفٌ في معركة الكفاح ضد جرائم الشرف.
وبالطبع، لا تقتصر مشكلة جرائم الشرف على باكستان، فبإمكانك أن تجد المشكلة ذاتها عند جارتيها أفغانستان والهند. أما في تركيا، التي تملك بالفعل قوانين تحرم هذه الجرائم، فلا تزال المشكلة قائمة خاصة فيما بين الأكراد في معاقلهم في مدنٍ مثل أنقرة وإسطنبول حيث يمثل الأكراد الأغلبية، وفي الريف كذلك. ولا تزال تُقتل النساء أو تُشوه بالأحماض في العالم العربي، بداية من مصر ووصولًا إلى المملكة العربية السعودية، ومن الأردن والأراضي الفلسطينية وحتى العراق، وكل ذلك باسم الشرف. ولا تخلو إيران من التهديدات نفسها، فكلها مجتمعات مسلمة تُجرِّم القتل، وإن كان القانون فيها متساهلًا للغاية في التعامل مع الجرائم التي يبررها الشرف.
يستقر النازحون من هذه الأماكن في أوروبا وأمريكا الشمالية، ويجلبون معهم معايير جرائم الشرف. تواجه الأسر المهاجرة التحدي المتمثل في التكيُّف مع المجتمعات الجديدة من حولهم وأفكارها التي تختلف تمامًا عن أفكارهم حول كيف ينبغي أن تتصرف المرأة الشابة وكيف ينبغي أن تُعامَل، وأمام هذا التحدي، يصبح التهديد بجرائم الشرف إحدى الوسائل التي يفرض بها الأب والأخ سطوتهما على الابنة أو الأخت التي تقاوم ما يزعم هؤلاء الرجال أنها سنن أسلافها.
يكمن التحدي الحقيقي في هذه الأماكن كافة في حماية المرأة من تلك المخاطر في نفس الوقت الذي تُراجَع فيه مواثيق الشرف؛ مصدر هذا التهديد. وليس كل مرتكبي هذه الجرائم من بين المسلمين؛ فقد سُجِّلت بعض الحالات بين أبناء طائفة السيخ (في جنوب آسيا وفي المجتمعات المهاجرة)، وكذلك بين مسيحيي فلسطين، إلا أن غالبية مرتكبي جرائم الشرف في واقع الأمر من المسلمين. وعندما يكون هذا هو الحال بالفعل، بإمكاننا أن نبدأ النقاش بالإشارة إلى أنهم بذلك يخالفون دينهم ويجلبون له الخزي.
إلا أنه من الحماقة أن نغض الطرف عن حقيقة تقضي بوجود جوانب أخرى لطريقة التعامل مع الحياة الجنسية في القانون والمجتمع في دولة مثل باكستان تنتهك حقوق الإنسان وتتمتع في الوقت ذاته بأساس متين من التعاليم الإسلامية. ففي تناولنا لجرائم الشرف، لا حاجة لنا إلى أن نجادل ضد الإسلام التقليدي، ولكن ثمة قضايا أخرى يصعب التعامل معها دون التطرق إلى مثل هذا المنحى. فأحد تأويلات اشتراط الرسول أن يكون دليل إثبات واقعة «الزنى» شهادة أربعة رجال (أو اعتراف أحد مرتكبي الواقعة) هو رفع معيار دليل الإثبات لدرجة تجعل من النادر توافره. وفي اعتقادي أن الفرضية التي تقول إن الرسول قد وضع مثل هذه المعايير الصعبة في محاولة منه للتخفيف من قسوة العقوبات الموجودة في مواثيق الشرف الأولى للعرب فيما يتعلق بالجنس لهي فرضية معقولة جدًّا. فقبل كل شيء، تبدأ جميع سور القرآن ما عدا واحدة بوصف الله بصفته الرحمن الرحيم.
وَإِذَا زَنَى رَجُلٌ مَعَ امْرَأَةٍ، فَإِذَا زَنَى مَعَ امْرَأَةِ قَرِيبِهِ، فَإِنَّهُ يُقْتَلُ الزَّانِي وَالزَّانِيَةُ.
تغيير أسس الشرف
إن استراتيجية الخزي الجمعي تحتاج إلى ائتلاف يجمع بين القوى الداخلية والقوى الخارجية حتى يُكتب لها النجاح، كما رأينا في الصين على وجه الخصوص. وفي سعينا لإقامة مثل هذا الائتلاف، يمكننا أن نستفيد من القياس على حركة مناهضة الاسترقاق التي قادتها الطبقة العاملة، التي نجحت في حشد مجموعة من الناس عن طريق جعلهم يدركون كيف أن ممارسة الشرف في بقعة من بقاع الأرض، وهي ممارسة لا يد لهم فيها على نحو مباشر، قد جلبت عليهم الخزي. سأطلق على هذه الاستراتيجية «الارتباط الرمزي»، وهي أن تحمل الناس على المشاركة في الكفاح ضد ممارسة ما عن طريق حملهم على رؤية كيف أن هذه الممارسة تفترض مسبقًا إخلالهم هم أنفسهم بالشرف. وتعد هذه الاستراتيجية واحدة من الطرق الرئيسية التي نجحت في استنفار القوى الخارجية. فقد صارت المنظمات النسوية الدولية من أهم حلفاء من يكافحون ضد جرائم الشرف داخل باكستان (وغيرها من البلدان)، بعد أن أصبحت طرفًا في القضية؛ لأنها أدركت أن ممارسة «الكارو-كاري» في الأساس تعامل المرأة على أنها أقل استحقاقًا للاحترام، وأقل استحقاقًا للشرف، من الرجل. ولا شك في أنها تتعامل مع القضية باعتبارها مسألة عدالة، إلا أن الحافز وراء ذلك يكمن بدرجة كبيرة في المعنى الرمزي لجرائم الشرف باعتبارها تعبيرًا عن تبعية المرأة؛ فمن الواضح أن في جرائم الشرف إدانة لشرف المرأة في كل مكان، فهي تعكس قناعة بأن المرأة ليست أهلًا لأبسط صور الاحترام.
إن العنف المُمَارس ضد المرأة مشكلة متفشية في أنحاء الكرة الأرضية، وما جرائم الشرف إلا أحد أشكاله العديدة، إلا أنني أعتقد أن إصلاح الشرف مرتبط بكافة أشكال العنف الذي يضفى عليه الطابع الجنسي، وأعتقد أيضًا، بوجه خاص، أن كل مجتمع في حاجة إلى الحفاظ على مواثيق يكون فيها الاعتداء على المرأة، أو الاعتداء على أي شخص كان، في نطاق الأسرة الواحدة، منافيًا للشرف ومصدرًا للعار.
الشرف بصفته مشكلة وحلًّا
يتضح لنا من الحالات الثلاث شديدة التباين التي تدارسناها كيف أن التغيرات التي تطرأ على مواثيق الشرف من شأنها أن تعيد تشكيل الشرف، محفزة إياه على خدمة الخير؛ ففي حالة المبارزة، أسفرت المراجعات التي خضعت لها مفاهيم الشرف الذي يليق بالسادة النبلاء في بريطانيا في منتصف القرن التاسع عشر عن ثقافة جديدة تحوَّل فيها مصدر التهديد الأساسي لشرف السادة النبلاء، وهو احتمال فقدان الشرف وإلحاق الخزي، من كونه سببًا للمبارزة إلى كونه مأخذًا على تلك الممارسة. وفي الصين في مطلع القرن الماضي، كان شرف المرأة الصينية ذات المكانة الثقافية الرفيعة يحتِّم عليها أن تُربَط قدماها، إلا أن التغيرات التي طرأت على الطريقة التي يُنظر بها إلى شرف الأمة فيما بين أبناء طبقة المثقفين أدى إلى تحفيز نوع من أنواع الشرف، وهو الشرف القومي، لمواجهة منظومة الشرف الأرستقراطي القديم التي كانت مواثيقه تحتم ربط الأقدام. لقد شكَّل المفكرون — الذين أرادوا أن تحتل دولتهم مكانتها بين دول العالم الحديث — ثقافة الشرف من جديد بحيث صارت الأقدام المربوطة مصدرًا للإحراج، بل والخزي، لا الشرف، وذلك خلال جيل واحد. ففي نهاية القرن التاسع عشر، كان من الصعب على عائلة من الطبقة الراقية من الهان الصينية أن تجد زوجًا مناسبًا لفتاة ذات أقدام طبيعية، وفي الثلاثينيات من القرن العشرين، أصبح العكس صحيحًا في أغلب بقاع الصين. أما الطبقات العمالية الإنجليزية في منتصف القرن التاسع عشر، فقد وجدت نفسها، في أثناء رحلتها للبحث عن شرف أبنائها من العمال، متحالفة ضد ثقافة الاسترقاق، التي كانت تربط بين الحرية (وبياض البشرة) وبين الشرف من ناحية، وبين الاسترقاق (وسواد البشرة) وبين الخزي من ناحية أخرى.
في المشهد الختامي من «سيدوتا إي أباندوناتا»، ينهار الدون فينشينزو كاليفانو من فرط الإجهاد الذي يلاقيه من ترتيبات زواج ابنته الصغرى المُحجِمة عن الارتباط بببينو، وهو على فراش الموت، يجبر محاميه وطبيبه على أن يعدانه ألا يخبرا أحدًا بأمر وفاته إلا بعد إتمام الزواج، وفي اللحظات الأخيرة من الفيلم، نرى أجنيس وقد وقفت أمام المذبح في حالة من اللامبالاة، مستسلمة لقدرها، ونرى أختها وقد قصت شعرها وصارت راهبة واهبةً نفسها للمسيح. وتمر لحظات، ويأتي المشهد الأخير بصورة لتمثال نصفي يرتكز فوق قبر الدون فينشينزو، منقوش عليه كلمتان: «الشرف والعائلة». لقد قدَّم ثلاثة أفراد من عائلة أسكالوني تضحيات في سبيل الشرف. ولكن الفيلم، على كآبته، فيلم كوميدي ساخر. كان الفيلم تصويرًا لظواهر شهدتها الثقافة الإيطالية جعلت من الممكن لفرانكا فيولا أن تقاوم ثقافة الشرف في مجتمعها. ولم تكن فكرة الفيلم إثبات أن مثل تلك الممارسات خاطئة فحسب، حيث ينتج عنها زيجات خالية من الحب، وأحلام محبَطة، ومعاناة وموت، بل كانت فكرته إثبات أنها ممارسات عبثية بل وسخيفة كذلك؛ فهي تجعل من صقلية أضحوكة. وهكذا يُثبَت خطأ الفكرة على نحو عبثي.
إن الدرس المستفاد هو أننا قد يحالفنا النجاح في تحرير المرأة من جرائم الشرف في باكستان إذا ما عملنا على إعادة تشكيل الشرف أكثر مما لو حاولنا مجرد دق ناقوس الأخلاقيات. إن الخزي، بل وأحيانًا السخرية المحسوبة، قد تتحول إلى أدوات نحن في حاجة إليها. ولا يعني هذا أن المناشدات باسم الأخلاق — باسم العدالة وباسم حقوق الإنسان — ليست ذات صلة. ينبغي أن يكون الهدف من وراء النضال في سبيل مُنَاهضة جرائم الشرف هو تشجيع المزيد من الباكستانيين على إدراك حقيقة أن بلدهم موصومة بالخزي بسبب سماحهم بوقوع هذا الظلم. إن الحديث عن الخطأ الكامن في جرائم القتل تلك أمر ضروري لتفسير السبب وراء اعتبارها مصدرًا للعار، كما كان الحال مع الحديث عن الخطأ الكامن في كل من عادة ربط الأقدام والاسترقاق ومحاولة إثبات أنهما مصدر خزي لكل من الصينيين والإنجليز على التوالي. ويحدوني الأمل في أنه عندما تحين اللحظة الحاسمة، سيأتي التغيير على جناح ثورة؛ أي سيكون تغييرًا كبيرًا في فترة وجيزة من الزمن.
لقد بدأ نساء، ورجال أيضًا، في باكستان بالفعل يطرحون السؤال التالي: كيف يتسنى لرجل يقتل امرأة من آل بيته أن يكون جديرًا بالاحترام؟ وبالفعل أيضًا بدأ المفكرون الحداثيون يطرحون السؤال نفسه الذي كان قد طرحه كانج يووي بشأن عادة ربط الأقدام ولكن هذه المرة بشأن جرائم القتل؛ ألا وهو، كيف يمكن للعالم أن يحترمنا ونحن نرتكب مثل هذا الفعل الشنيع؟ ويجري هذا السؤال على ألسنتهم لا لأن عالمهم قد اتسع ليشمل سائر الإنسانية فحسب، بل لأنهم يريدون أن يكون عالمهم هو الآخر، جديرًا بالاحترام من وجهة نظرهم. لا بد من أن ينقلب الشرف على جرائم الشرف كما انقلب على المبارزة وعلى عادة ربط الأقدام وعلى الاسترقاق. فلنستمر مهما كلَّفنا الأمر في تذكير الآخرين بأن جرائم الشرف غير أخلاقية وغير قانونية وغير منطقية وغير دينية. ولكنني أعتقد أن مجرد إدراك هذه الحقائق لن يستطيع من تلقاء نفسه أن يوائم بين أفكار الناس وأفعالهم. فجرائم الشرف لن تذهب بلا عودة إلا عندما ندرك كم هي منافية للشرف.