مقدمة

على مدار نصف قرن أو يزيد ترسم مشروع «التراث والتجديد» وتكاملت دعائمه وأبعاده، كواحد من أهم منجزات الفكر العربي المعاصر، ساهم في الصعود به إلى مستوى فلسفة عربية معاصرة، وجعل فيلسوفه حسن حنفي يستقطب اهتمام مراكز بحثية وجهات أكاديمية شتى في شرق العالم وغربه، من طوكيو وجامعات في اليابان حتى هاواي وجامعات في الولايات المتحدة، مرورًا بدول عربية وأوروبية، وبضع عواصم آسيوية أفريقية.

وهذا الكتاب مقاربة تحليلية ونقدية لمعالم المنهج والمنهجية في مشروع «التراث والتجديد»؛ متخذين مثالًا عينيًّا تطبيقيًّا هو محاولة حسن حنفي لتشييد علم كلام جديد، يحملها كتابه «من العقيدة إلى الثورة» ١٩٨٨م، بمجلداته الخمسة الضخمة. ونظرًا لأولوية ومركزية علم الكلام — علم العقائد — في تراثنا، سوف يكون المنهج فيه تمثيلًا وتجسيدًا وتجريدًا لطبيعة المنهجية في الجبهة الأولى — جبهة إعادة بناء تراثنا — التي لا ترتدع عن تفريغ الأطر التراثية من مضامينها لإعادة ملئها بمضمون معاصر، ويكون أيضًا ضوءًا كاشفًا عن معالم المنهجية في مشروع «التراث والتجديد» بأَسره، والأبعاد المشكِّلة إياه.١

تترسم معالم الرحلة المنهجية المقبلة عبر الصفحات التالية، أو يترسم مستخلصها، في أن المرتكز المنهجي لمشروع «التراث والتجديد» هو الوحي القرآني كفعل توحيد فذ مثَّل نقطة تحوُّل متفردة، تجعل العلاقة مع الوحي محور التقابل بين الأنا والآخر الغربي. ويعتمد المشروع على فينومينولوجيا التفاعل بين الوحي والواقع، ليصل إلى هدف استراتيجي هو أنْسَنة علم الكلام الجديد. وعن طريقها يكون تصحيح دور علم الكلام في المنظومة الحضارية والقضاء على اغتراب الإنسان المسلم، ومن ثَم تمكينه من النهوض بالاستغراب، بمعنى تحجيم دور الغرب بتحويله إلى موضوع للدراسة، بدلًا من أن يظل مصدرًا للعلم، وفي هذا تقويض للمركزية الغربية. وينفتح الطريق أمام عالَم جديد تُمثل الحضارة الإسلامية فيه مركزًا حضاريًّا رائدًا.

ولبلوغ هذا الهدف تتآزر عدةُ مناهج؛ إذ ينتهج مشروع «التراث والتجديد» المسار الفينومينولوجي أساسًا، ويعتمد كذلك على المنهج الجدلي مصحوبًا بقيم اليسار، وعلى الاستفادة القصوى من مناهج التأويل الخصيبة الكامنة في هيرمنيوطيقا النصوص. هذا بمعية مناهج فرعية أخرى أبرزها النقد التاريخي ومنهج تحليل النصوص.

وهذه المقاربة التي كانت في أصولها بحثًا مطولًا٢ محاولة للإجابة عن السؤال: هل يمكن التلاحم بين هذه المناهج جميعها في منهجية واحدة لإعادة بناء التراث، والحيلولة دون التطرف ودون السلبية على السواء في مقاربات التراث؟ وإلى أيِّ حد استطاعت هذه المنهجية أن تصل بمشروع «التراث والتجديد» في جملته إلى أهدافه المزمَعة؟
إنها التعددية المنهجية التي تسربل المشروع وتدفعه قُدمًا؛ لذا أعقبتها مقاربة أخرى قصيرة يمكن اعتبارها حاشية تقريرية لهذه التعددية، تحاول استكشاف دلالاتها وأبعادها.٣

وفي كل حال يمثِّل مشروع التراث والتجديد درسًا حضاريًّا وثقافيًّا وفلسفيًّا، جديرًا بأن نتوقف إزاءه مليًّا … وبالله قصد السبيل.

١  وانظر العمل الذي انطلق مستلهمًا روح المنهج في مشروع التراث والتجديد ومُيمِّمًا شطر الغايات المنشودة:
د. يمنى طريف الخولي، الطبيعيات في علم الكلام: من الماضي إلى المستقبل، الطبعة الثالثة، دار رؤية، القاهرة، ٢٠١٠م. وقارن:
د. يمنى الخولي، نحو منهجية علمية إسلامية: توطين العلم في ثقافتنا، المؤسسة العربي للفكر والإبداع، بيروت، ٢٠١٦م.
توطين المنهجية العلمية: مقاربات فلسفية … تاريخية ومستقبلية، نيوبوك للنشر والتوزيع، القاهرة، ٢٠١٨م.
٢  نُشر هذا البحث بعنوان: المنهج في مشروع «التراث والتجديد»: دراسة نقدية – «من العقيدة إلى الثورة» مثالًا تطبيقيًّا، في مجلة كلية الآداب «الإنسانيات والعلوم الاجتماعية»، جامعة القاهرة، المجلد ٥٦، العدد ٢، أبريل ١٩٩٦م. وقد أُجريت تعديلات جعلته مزيدًا ومنقَّحًا.
٣  هي ورقة أعددتُها بعد عشرين عامًا، بمناسبة مرور خمسين عامًا على انطلاق مشروع التراث والتجديد، في التعددية المنهجية في مشروع التراث والتجديد، في أعمال الندوة الفلسفية الدولية السابعة والعشرين، ندوة «سلطة النص» التي نظمتْها الجمعية الفلسفية المصرية بجامعة القاهرة والمعهد السويدي بالإسكندرية، في ديسمبر ٢٠١٦م، وصدرت في مجلد أعمال هذه الندوة الدولية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤