الفصل الأول

مدخل إلى فضاء التراث والتجديد

في خِضم ما تموج به ساحة الفكر العربي المعاصر من مشاريعَ عديدة، تحاول أن تُقدم حلولًا لمشكلة الأصالة والمعاصرة التي طال انشغالنا بها، وتتبارى جميعها من أجل تجاوز واقعٍ مأزوم بآفاق فكرٍ نهضوي، يأتي مشروع «التراث والتجديد» الذي طرحه الدكتور حسن حنفي ليكون أجرأها في التركيب والإبداع، وأكثرها نزوعًا نحو الالتحام بالواقع وحرصًا على مخاطبة مستوياته المختلفة وشتى توجهاته … وأنجحها في استقطاب اهتمام دوائر بحثية عديدة في الشرق وفي الغرب … وأيضًا أكثرها طموحًا وجموحًا، وأدعاها للمعالجة التحليلية والنقدية.

ترسَّمت خطوط المشروع عبر جبهات ثلاث؛ في الجبهة الأولى يُعاد بناء تراثنا القديم بهدف تحويل العلوم العقلية القديمة إلى علوم إنسانية بدايتها الوحي وغايتها الأيديولوجيا. فالأيديولوجيا عند حنفي علمٌ عملي ونظري على السواء. والوحي علم المبادئ العامة التي يمكنها تأسيس العلم ذاته، والتي هي في الوقت نفسه قوانين التاريخ وحركة المجتمعات. فالوحي هو منطق الوجود المميز لحضارتنا، ومهمتنا تحويله إلى علم شامل/أيديولوجية شاملة، فيتحول إلى حضارة لها بناؤها الإنساني المطابق لحاجات العصر. أوَلمْ يتحول الوحي منذ هبوطه إلى حضارة ارتدت إلى علوم مثالية، نقلية ونقليةٍ عقلية وعقلية؟ لم تكن الحضارة الإسلامية إلا محاولة لمَنْهجة وعَقْلنة الوحي، لكن في ظروف تاريخية مختلفة، علينا إذن مَنْهجته، وعَقْلنته مجددًا؛ أي إعادة بناء تراثنا طبقًا لظروف واقعنا، كالآتي:

  • (١)

    علم الكلام، بالانتقال «من العقيدة إلى الثورة»، وصياغة لاهوت الثورة.

  • (٢)

    الفلسفة أو علوم الحكمة، إعادة بنائها للوقوف على شروط الإبداع، والانتقال من «النقل إلى الإبداع».

  • (٣)

    التصوف، للانتقال «من الفناء إلى البقاء»، أو من إنكار الذات إلى تأكيدها، وذلك بتحويل قِيَمه السلبية، كالرضا والزهد والصبر والتوكل والقناعة، إلى قيم إيجابية فعالة، كالرفض والثورة والتمرد والاعتراض.

  • (٤)

    إعادة بناء علم أصول الفقه بإعطاء الأولوية للواقع على النص، وللمصلحة على الحرف، وذلك بالانتقال من «النص إلى الواقع».

  • (٥)

    إعادة بناء العلوم النقلية، وهي القرآن والحديث والتفسير والسيرة، هذه العلوم هي التي تتوغَّل في أعماق الجماهير، وبإعادة بنائها تنتقل «من النقل إلى العقل».

  • (٦)

    العلوم العقلية، أي العلوم الرياضية والطبيعية، مطلوب إعادة بنائها لتبيان كيفية خروجها من الوحي، تأكيدًا على وحدة الوحي والعقل والطبيعة، وذلك في «العقل والطبيعة».

  • (٧)
    محاولة إعادة بناء العلوم الإنسانية كاللغة والأدب والتاريخ والجغرافيا للوقوف على «الإنسان والتاريخ».١
إعادة بناء التراث بخطوطه السبعة هي الجبهة الأولى، التي يعاد فيها رسم مسار الأنا. الجبهة الثانية هي تحديد الموقف من الغرب في «علم الاستغراب» الذي يهدف إلى فهم الآخر/الغرب في إطاره وتطوره التاريخي، ليغدو مجرد موضوع دراسة، وليس نقطة إحالة … رد مشروعه الثقافي إلى حدوده التاريخية والجغرافية، تمهيدًا للقضاء على خرافة الثقافة العالمية، التي جعل الغرب نفسه مركزًا لها. وفي هذا وذاك الاستعداد لانتقال دورة الحضارة من الغرب إلى الشرق.٢
فقد انتهت دورة الحضارة الغربية، وعلينا أن نتسلم راية الريادة، ثم نخلص إلى الجبهة الثالثة، وهي موقفنا من الواقع المباشر، ولأن النص الديني ثم التراثي والفولكلوري من المكونات الأساسية لواقعنا تبرز ضرورة إعادة بناء مناهج التفسير، عن طريق الهيرمنيوطيقا. هكذا يمضي مشروع التراث والتجديد «بنظرية هيرمنيوطيقية جديدة، تعيد بناء الحضارة/الثقافة على الكوكب الأرضي، وبصفة خاصة اليهودية/المسيحية/الإسلام، وفي سويداء هذه النظرية يُرابض الوحي/التراث بعد تأهيله لهذا، ورد الاعتبار إليه كأساس للحضارة الإنسانية، في عالم حديث تحرَّر من الاغتراب وظافر ببرنامج عمل شامل للفعل الإيجابي».٣ إنه مثلث يمثل الموقف الحضاري المروم. ويطلق حسن حنفي على هذا المشروع الثلاثي الجبهات اسم الكتاب الذي يمثل البيان النظري الأوَّلي؛ أي «التراث والتجديد».

والعبء الأكبر يقع على عاتق تحدي الذات، الجبهة الأولى من المشروع التي تهدف إلى إعادة بناء الموروث. لذلك كانت هذه الجبهة موضوع هذا الكتاب لينطلق منها إلى معالجة تحليلية نقدية لأطر ومعالم، أو بالأحرى أبعاد مشروع التراث والتجديد.

وبصفة أكثر تحديدًا، سوف نتخذ موضوعًا عينيًّا ومثالًا تطبيقيًّا، هو تجديد علم الكلام (= علم التوحيد، علم أصول الدين، علم الفقه الأكبر)، أو بالأحرى علم الكلام الجديد. وذلك لأنه الخط الأول الذي يتصدر الخطوط السبعة لتجديد التراث. وكان أول ما أصدره حنفي منجزًا منشورًا في سِفره الضخم «من العقيدة إلى الثورة» بمجلداته الخمسة وصفحاته التي تُعَد بالآلاف.٤ ليس هذا فحسب، بل أيضًا وأساسًا لأن تلك الخطوط السبعة مثلما تبدأ بعلم الكلام فإنها تنتهي بالإنسان والتاريخ. إذَن علم الكلام، الذي يمكن اعتباره الوعي العقائدي لإنساننا، يُطوقها جميعًا. إنه يبدأ من النهاية، من الإنسان والتاريخ فهُمَا محوره وغايته. يقول حنفي: «إذا كانت الأصول الخمسة هي أفضل الصياغات القديمة لعلم التوحيد (= علم الكلام)، فإن الإنسان والتاريخ هما الأصلان المعاصران له، وهما في نفس الوقت البعدان الناقصان في وجداننا المعاصر نتيجةً للاغتراب القديم. وبالتالي كان التحدي للعلماء والساسة هو إيجاد الصلة بين هذين البُعدين (الإنسان والتاريخ) في علم التوحيد، وفي وجداننا المعاصر، حتى يعود العلم حيًّا في القلوب فيملأها» (مج٥، ٣٨٣).
من هنا كان مدخلنا إلى المنهج في «التراث والتجديد» هو مشروع حنفي لإقامة علم الكلام الجديد، الذي هو محاولة ﻟ «إعادة بناء العقائد حتى تتحول إلى ثورة على الواقع؛ أي تحويل الدين كله إلى أيديولوجيا ثورية»،٥ وإعادة الحياة للتوحيد، بما يعمل على نهضة الأمة وسد حاجات العصر، وتحقيق صالح جماهير المسلمين، فيتحول التوحيد إلى فاعلية، موجهات للسلوك … قوة للدفاع عن أراضي المسلمين عن بلادهم وحرياتهم … عن عالمهم وحقهم في النماء والتقدم والسؤدد. فكان علم الكلام الجديد مع حنفي هو لاهوت الثورة … لاهوت الأرض … لاهوت التحرير … لاهوت التنمية … لاهوت التقدم …
ليس علم الكلام الجديد إذن صياغة نظرية فحسب، بل أيضًا من أجل مهمة عملية هي «تحقيق الأيديولوجيا بالفعل كحركة في التاريخ، بعد تجنيد الجماهير من خلال ثورة عقائدها» (مج١، ٧٩)، وتوحيد صفوف المسلمين على العامل المشترك بينهم. وفضلًا عمَّا يقال دائمًا من أن «الأيديولوجيا ما هي إلا نُظم منهجية مُجندة للمعتقدات»،٦ كان من الطبيعي أن يتلاحم الفكر والواقع، النظري والعملي، طالما يتعامل حنفي مع العقائد من حيث هي تصورات ذهنية تمثل موجهات للسلوك، على أساس أن الإسلام يمثل تطور الوحي الذي انتقل فيه العقل من التجسيد إلى التجريد، فصار الوحي شرعًا ولم يعد غيبًا، صار وضوحًا لا كهنوتًا، أمرًا ونهيًا لا عقيدة مجردة … على الإجمال، أصبح الوحي نظامًا واقعيًّا هدفه إقامة مصالح الناس.٧

والسؤال الآن عن المنهجية، كيف يتم بناء علم الكلام الجديد، كضوء كثيف كاشف عن كيفية البناء في مشروع التراث والتجديد … عن المنهج فيه؟

١  يوجد هذا التخطيط في مصادره العديدة، منها: حسن حنفي، مقدمة في علم الاستغراب، الدار الفنية، سنة ١٩٩١م، ص١٠، ١١، ٧٤٩.
وقد صدرت هذه المحاولات بالفعل كالآتي:
  • (١)

    من العقيدة إلى الثورة: محاولة لإعادة بناء علم أصول الدين، خمسة مجلدات، ١٩٨٧م.

  • (٢)

    من النقل إلى الإبداع، تسعة أجزاء، ٢٠٠٠–٢٠٠٢م.

  • (٣)

    من النص إلى الواقع: محاولة لإعادة بناء علم أصول الفقه، جزءان، ٢٠٠٤م.

  • (٤)

    من الفناء إلى البقاء، جزءان، ٢٠٠٩م.

  • (٥)

    من النقل إلى العقل، خمسة أجزاء، ٢٠١٢–٢٠١٦م.

٢  هنا تتضح الصبغة الجدلية التي تسربل المشروع. فهو يأتي عام ١٤٠٠ﻫ، وعلى مشارف هذه السبعمائة الثالثة من تاريخ الحضارة الإسلامية، بعد السبعمائة الأولى (القرون الهجرية السبعة الأوائل) التي كانت مرحلة المد والازدهار، وسيادة الزمان والمكان، ثم مرحلة السبعمائة التالية التي كانت انقلابها الجدلي إلى الذبول والنكوص والارتداد والتبعية. يطمع مشروع التراث والتجديد أن يكون أيديولوجيا السبعمائة الثالثة والراهنة، التي نريدها المركب الجدلي الشامل الصاعد الواعد، الذي يجمع خير ما في الطرفين أو المرحلتين ويتجاوزهما إلى الأفضل، إلى نفض رواسب الجمود والتبعية خروجًا إلى مرحلة التحرير التام وتأكيد الأنا في مواجهة الآخر والفاعلية في الزمان والمكان، إلى آخر الطوباويات الأيديولوجية في المرحلة الثالثة والمعاصرة.
٣  Issa J. Boullata, Trends and Issues in contemporarty Arab Thoughts, University of New York, 1990, p. 40.
٤  د. حسن حنفي، من العقيدة إلى الثورة، مكتبة مدبولي القاهرة، سنة ١٩٨٨م، المجلد الأول: المقدمات النظرية (مج١)، المجلد الثاني: التوحيد (مج٢)، المجلد الثالث: العدل (مج٣)، المجلد الرابع: النبوة – المعاد (مج٤)، المجلد الخامس: الإيمان والعمل – الإمامة (مج٥). هذا الكتاب المصدر الرئيسي للدراسة، ولذا يكثر الاستشهاد به، وسوف نوثق الاقتباسات منه بقوسين في صلب المتن، حيث: مج، أي المجلد، ورقمه ثم رقم الصفحة.
٥  د. حسن حنفي، قضايا معاصرة، ج١: في فكرنا العربي، القاهرة، ١٩٧٦م، ص٧٥.
٦  د. مجدي وهبة، أية أيديولوجيا، في مجلة فصول، مجلد٥، العدد ٤، ١٩٨٥م، ص٣٢، ص٣٦، ص٣٥.
٧  يلاحظ د. نصر أبو زيد أن هنا انحيازًا واضحًا للشريعة على حساب العقيدة، مع أنهما جانبان جوهريان في بِنية الوحي، ثم إنه يحطب في حبل اليمين حين يجعل هدف العالم نظامًا مثاليًّا متفقًا مع معطيات الوحي (أبو زيد، التراث بين التأويل والتلوين: قراءة في مشروع التراث والتجديد، في مجلة ألف، الجامعة الأمريكية بالقاهرة، عدد ١٠، ١٩٩٠م، ص٢٤، ص١٠٩، ص١٠١-١٠٢).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤