الفصل العاشر
صراع الفينومينولوجيا والإبستمولوجيا
في مقدمة عرض لاهوت التحرير تقدم رائده كاميلو توريز، وهو عالِم اجتماع فينومينولوجي.
والآن تصب كل الخطوط السابقة في مجرًى متعين: التراث والتجديد مشروع أيديولوجي منهجه
الفينومينولوجيا.
إن حنفي يعول كثيرًا على الفينومينولوجيا، ويستقطر كل صغيرة وكبيرة فيها ليس فقط كمنهاج
وآلية كما رأينا، بل أيضًا كمذهب يفترضه حنفي خاتمة الوعي الأوروبي ونقطة نهايته!
ولما كانت الفينومينولوجيا البداية ومنهاج الوعي والمشروع الحضاري الجديد، فإن دورة
الحضارة تنتقل من الآخر الغرب الآفل إلى الأنا الصاعد انتقالًا تلقائيًّا. تلك هي البوابة
الكبرى أو منطلق نهضتنا المعاصرة أو مشروعنا، كما ذكرنا. ولكن يصعب بل يستحيل قبول هذه
المبالغة التعسفية في تقدير دور الفينومينولوجيا. فكي تكون نقطة النهاية المزعومة، جعل
حنفي
كل ما أتى بعدها تطبيقات لها، أو خرجت من أعطافها.
١ ليس هذا صحيحًا، إنه لَيُّ عنق مسارات الفكر الغربي الذي شهد تيارات كثيرة نشأت
موازية لها أو متقاطعة معها أو مقابلة لها أو مستقلة عنها. وفي الفلسفة الإنجليزية على
الخصوص، رغم أثرها الكبير في نشأة الفينومينولوجيا وتغذية أصولها … لم تتأثر إطلاقًا
ولا
حتى اهتمت بها. وبعد باكورة أعمال هوسرل سنة ١٩١٨م «فلسفة الحساب»، «ثلة قليلة جدًّا
من
الفلاسفة الإنجليز تابعت هوسرل في الدهاليز الأعمق التي خاض فيها».
٢ بل إن حنفي يؤوِّل كل تقارب حدثَ في الفكر الأوروبي بين المثالية والتجريبية
بإرجاعه إلى الفينومينولوجيا، في حين أنها مجرد تيار من التيارات المعبرة عن هذا التقارب
الذي افتتحه إيمانويل كانط (١٧٢٤–١٨٠٤م) وتعود معه إلى أصول أعمق. نجد بعضها في مشكلة
الاستقراء الشهيرة واستحالة تبرير القفزة التعميمية للملاحظات الحسية. ثم كان اقتحام
عالم
ما دون الذرة وجُسيماته غير القابلة أصلًا للملاحظة المباشرة وسقوط تلك النظرة التجريبية
التقليدية، أي الاستقراء، ونشأة المنهج التجريبي المعاصر الفرضي الاستنباطي، حيث التلاحم
الحقيقي بين المثالية والتجريبية أو العقل والواقع، لتتسارع معدلات تقدم العلوم الطبيعية،
ويزداد البون بينها وبين العلوم الإنسانية، حتى يغدو تخلفها النسبي مشكلة ملحَّة.
في هذا الإطار ظهرت الفينومينولوجيا. رغم أن همَّها الأساسي كان البحث عن طريق آخر
للعلوم
الإنسانية، يزيح تلك الهوة بينها وبين العلوم الطبيعية، ويُبطل ردها إليها، ويحقق تقدمها
المأمول، فإن الفينومينولوجيا ظلت أولًا وأخيرًا مذهبًا أو منهاجًا فلسفيًّا، ليكون ذا
أهمية
فلسفية كبيرة، لكنه لم يترك إلا أثرًا محدودًا على العلوم الإنسانية لم تأبه بها المدارس
الكبرى العلمية حقًّا كالسلوكية المعدلة وعلم النفس المعرفي والوظيفية والسوسيوميترية
والاقتصاد التحليلي … وحتى حين نشأ علم النفس الفينومينولوجي ظل أقرب إلى الفلسفة منه
إلى
العلم السيكولوجي. وقد تبنَّى فينومينولوجيا الاجتماع ألفرد شوتس، و«لم يكن عالم اجتماع،
وإنما فيلسوفًا فينومينولوجيًّا اهتم بتطوير أعمال هوسرل».
٣ لعل الفينومينولوجيا دخلت فيما بعد علم الاجتماع فعلًا مع برجر ولوكمان، فلم
تكن إلا تيارًا ضمن تيارات عديدة بل وتيارًا موزعًا بين الفينومينولوجيا الماركسية
والتفاعلية الرمزية والإثنوميثولوجيا.
أما عن العلوم الطبيعية وفلسفتها فحدِّثْ ولا حرج! ولئن كانت تحليلات مينونج وسواه
لأصول
المفاهيم الحسابية تحمل معالم فينومينولوجية، فالرياضيات نسق استنباطي مغلق يتوقف عند
أصوله
الأولى. أما العلوم الطبيعية فأنساقها مفتوحة إلى أعلى، لا يعنيها إلا التجاوز المستمر
لوضعها الراهن، أي التقدم المطرد. وتفسيرات هذا، سواء بالعقلانية النقدية لبوبر أو الفوضوية
المعرفية لفييرابند أو برنامج البحث لإمري لاكاتوش … وسواها كلها تبعد عن الفينومينولوجيا
بنفس الدرجة أو لا علاقة بها أصلًا.
وإذا بدا للمنهج الفينومينولوجي الذي وضعه هوسرل قيراط من الصلاحية في المشاريع
الأيديولوجية فإن المنهج العلمي التجريبي، الذي تكالبت على بلورته وتنقيحه أراعيل وأجيال
من
العلماء والفلاسفة في الشرق والغرب، له أربعة وعشرون قيراطًا من الصلاحية في العلوم
الطبيعية والإنسانية على السواء، كما أثبت العلم الحديث إثباتًا لم يظفر الإنسان بمعشار
سطوعه.
علميَّة كل علم هي المنهج. والعلم الإنساني يصبح «قوميًّا وطنيًّا» لا بمنهجه ولا
بالتشويه الأيديولوجي له، بل بموضوعه وفروضه الخصيبة ذات القدرة الوصفية والتفسيرية التي
تستطيع الإحاطة بظواهرنا الاجتماعية. وعلى الرغم من كل هذا ربما نتحمس مع حنفي لدعوى
كاميلو
توريز والوطنيين في أمريكا اللاتينية إلى علم اجتماع قومي، تحررًا من علم الاجتماع الغربي،
الذي هو شكل من أشكال الهيمنة والاستعمار الثقافي.
٤ ويمكن أن نناقش بهدوءٍ هذه الدعوى التي ترى قومية وتحررية العلم الاجتماعي إنما
تكمن في فينومينولوجيته؛ لأن الفينومينولوجيا «تحافظ على التجارب الحية بلحمها وعظمها
دون
تحويلها إلى صياغة ونظريات مجردة، مستمدة من العلوم الاجتماعية الغربية ومن علم الاجتماع
الديني والأنثروبولوجيا الحضارية أو اللاهوت السياسي».
٥ وفضلًا عن أن ثَمة مناهج عديدة أخرى تحاول أن تراعي حيوية التجارب أو الظواهر
الاجتماعية، فإن الذي يثير الدهشة هو هذه المطابقة بين القومية التحررية وبين
الفينومينولوجيا. فهل الفينومينولوجيون الغربيون — ومنهم ألفرد شوتس صاحب الفضل في الدعوة
إلى تأسيس علم اجتماع فينومينولوجي، كما أشرت حين الاعتراض على تضخيم حنفي من شأن
الفينومينولوجيا — هل هؤلاء أقرب إلينا وأحرص علينا دونًا عن سائر فلاسفة المناهج الأخرى
في
الغرب؟ هل ينتسب إدموند هوسرل إلى عدنان، أم تراه قد صاهر قحطان؟ ولعل توريز اكتشف لألفرد
شوتس أصولًا سلالية كولومبية.
أما الزعم بأن الفينومينولوجيا ستحلل تجاربنا نحن الشعورية فغيرُ ذي موضوع؛ لأن أي
منهج
اجتماعي آخر سيطبق على حضارتنا نحن وواقعنا نحن. بخلاف هذا نجد الطبيعة الوصفية التحليلية
للفينومينولوجيا تحكم عليها بالقصور والاقتصار على المرحلة الوصفية من العلم، أو الإجابة
على السؤال: كيف تحدث الظاهرة؟ فضلًا عن أن التوصيفات الفينومينولوجية تفتقد شروط الدقة
والإحكام المطلوبة في التوصيفات لكي تكون علمية scientific
حقًّا، وتعجز الفينومينولوجيا تمامًا عن العبور بالبحث إلى المرحلة أو الوظيفة الثانية
للعلم، أي التفسير والإجابة على السؤال: لماذا تحدث الظاهرة؟ ناهيك عن الوظيفتين العليَين؛
أي التنبؤ ثم السيطرة. وبسبب هذا القصور في صلب المنهج الفينومينولوجي عجز عن الوقوف
مستقلًّا، وظل — كما ذكرت — موزعًا بين الفينومينولوجيا الماركسية والتفاعلية الرمزية
والإثنوميثودولوجية، وأخيرًا الاتجاهات التحررية التي تجعل من هوسرل وشوتس وبرجر ولوكمان،
ليسوا البتة فلاسفة غربيين بل أبطالًا قوميين!
ربما كان هذا مجرد رأي آخر في فينومينولوجيا علم الاجتماع؛ لأن التخلف النسبي للعلوم
الاجتماعية يجعل منهجها محلًّا لأكثر من وجهة للنظر، وهذا وذاك مردود إلى تشابكها الوطيد
مع
الأيديولوجيا بحكم طبيعة موضوعها ومجاله. بيد أن الأيديولوجية مع حنفي مطابقة لكل علم،
نظري
أو عملي، إنساني أو طبيعي على السواء.
وإذا كان مدار الحديث هو العلم الطبيعي، فإننا لا نتردد في أن نقول: كلَّا يا أستاذنا،
يستحيل أن يتطابق العلم science بآلياته وثوابته ومتغيراته
مع الأيديولوجيا. لكلٍّ منهما مناهج وخصائص وأدوار مختلفة. ونحن لا نحتاج بل لا ينقصنا
المزيد
من الخلط والتمييع، خصوصًا في مسألة العلوم الطبيعية. ما نحتاجه بشدة هو تشغيل آلياتها
في
مجالها، لتصب نواتجها في مشروعنا الأيديولوجي تحقيقًا لأهدافنا. لا مشروع حضاريًّا مُستغنٍ
قِيد أنملة عن آليات الإبستمولوجيا العلمية.
لا يهتم حنفي كثيرًا أو لعله لا يعترف بآليات الإبستمولوجيا. الأيديولوجيا هي حلبة
كفاحه
وصراعه، ولا مانع من أن يخضع لها الإبستمولوجيا، ويجعلها تسير في ركابها، ما دامت ستساهم
في
تحقيق أهدافها، كما يقضي منطق مشروعه. لعله في هذا حامل لواء أصوليات الحضارة العربية
التي
كانت هكذا دائمًا، لعله أيضًا مستفيد من تيار غربي معاصر أو يحاول رده للأولى جريًا على
محاولاته لإعادة بناء إيجابيات الغرب بوصفها نابعة من حضارتنا. إنه تيار أدرك خطورة وضع
السلطة والسلطوية، رائده ميشيل فوكوه الذي أكد أن مفهوم الصدق لا يتوقف على التناظر أو
التساوق أو التماثل … إلى آخر هذه النظريات المنطقية في الصدق، بقدر ما يتوقف على السلطة
التي ينضوي تحت لوائها، فالسلطة هي التي تحدد مفهوم الصدق ومفهوم العقل تبعًا لمصالحها؛
فيغدو العلم الأوروبي المؤسس عليهما هو فئة من علاقات السلطة التي تشوهت داخل المجتمع
الأوروبي.
٦ وهذا في الواقع الأوروبي كما أشرنا. ولكن هل تعملق عندنا لنواجهه بعملقة
الأيديولوجية؟ إن أخطر مثالب «التراث والتجديد» هو عملقة الأيديولوجية، ولَيُّ عنق
الإبستمولوجيا، وحنفي لا يزال يتحدث عن فلسفة العلم الطبيعي بوصفها فلسفة للوقائع المحسوسة،
٧ ولا يهتم بمتابعة تطورات منطقها المتقد، هل لأنها للأسف الشديد … للحق المر … تاج
النواتج الإيجابية لحضارة الغربية؟! كلَّا … فحنفي أشد المفكرين الإسلاميين حرصًا على
اقتناص تلك النواتج الإيجابية وتشغيلها أو إعادة بنائها في مشروعه، وأقدرهم على هذا بحكم
سعة إلمامه بالفكر الغربي. ويكفي استغلاله الفينومينولوجيا وجده في تسخيره كما لم يفعل
أيٌّ
من الفينومينولوجيين في الغرب. السبب الحقيقي لكون حنفي لا يعطي الإبستمولوجيا العلمية
حقها، هو أنه لا يعترف أصلًا باستقلالها الذي يُعد بحق أخصَّ خصائصها المنطقية المميزة
لها،
وكيف الاستقلال والأيديولوجيا عنده شامله أو مطابقة لكل علم؟
لقد تعاظم نسق العلم الحديث وتعقدت آلياته التخصصية ومناهجه البحثية، وترسمت شرائعه
ونواميسه التي لا تقبل إلا التكرس والتبتل لها من كل مَن أراد المساهمة بنصيب في النماء
والتقدم المتواصل. ولم يعد من الممكن بحالٍ اعتبارُ العلم مسألة فرعية لتستوعبها الأيديولوجيا
ببساطة، في غمار استيعابها لكل ما سواه فضلًا عن لَيِّ عنقه من أجلها. لكن هذا هو ما
يفعله
حنفي في أدلجته للعلم الفيزيوكيماوي، حين يجاهر بأن لكل أمة نمطَها الحضاري، ووعيها المتميز
(= أيديولوجيتها)، ولها أيضًا علومها الرياضية والطبيعية والتقانية الخاصة.
والواقع أن التسليم بهذه الخصوصية قد يفيد في تاريخ العلم وتخليصه من جنوحات التحيز
الغربي، لكن من الناحية الإبستمولوجية — المنطقية والمنهجية — يفضي إلى فقدان العلم لعمليته،
ثم إن طابعه الجمعي التعاوني التراكمي الثوري المتقد، لا سيما بعد عصر تفجر المعلومات
وتعقد
أجهزة البحث، لا يترك مجالًا لترف الخصوصية الأيديولوجية. في صراع أو سباق الأيديولوجيات
أو
الحضارات، لا بد وأن تتبارى جميعها في تعميق وتسخير الإبستمولوجيا العلمية التي تتلخص
إشكاليتها المنهجية في التآزر بين إمكانيات العقل بما هو عقل وبين إمكانيات التجريب من
حيث
هو تجريب، إنها آليات العقل العلمي الذي هو مِلك للبشر أجمعين.
وبينما تتفق الأطراف المعنية على ضرورة تخليص العلم من التشويه الأيديولوجي، يكافح
حنفي
من أجل تكريس ذلك التشويه؛ فيضحي بالإبستمولوجي في سبيل الخصوصية الأيديولوجية، لدرجة
أنه
لا مانع عنده من موقف يؤدي إلى قصور في النظرة العلمية «إذا كانت الأيديولوجية تستدعي
ذلك»
(مج٢، ٦٦٢)، غير ملتفت إلى أن الأيديولوجيا حين تستدعي قصور النظرة العلمية فإنها تستدعي
نوعًا من الانتحار الجماعي البطيء في عصر أصبح شعاره كما قيل بحق «البقاء للأعلم».
٨ هذا التبرير ريثما نحقق رويدًا علمنا الفيزيوكيماوي الخاص بأيديولوجيتنا لا
ينفصل عن مفهوم خاطئ مارسناه طويلًا، مفاده أن التدرج يعني التباطؤ، ولأن سرعة الإنجاز
لا
بد وأن تتم على حساب كفاءة الإنجاز، وإغفال بعض الأسس المنهجية في تحقيقه، إلى درجة تصل
أحيانًا إلى حد التهرب من المساءلة. إن عامل السرعة بات شرطًا قدريًّا لا بد أن نتعايش
معه.
٩
وإن لم نتعايش مع التقدم العلمي المتسارع، وبحثنا عن تبرير أو تسويغ أيديولوجي لقصورٍ
ما
في النظرة العلمية، فلن يعني هذا إلا التخلف عن العالمين، والسقوط من ركب التقدم ومعدلات
التنمية الأكثر انخفاضًا، لنتسول رغيف الخبز ودواء المرضى ووسيلة الاتصال … من الدول،
أو
من الأيديولوجيات التي لا تعرف قصورًا في النظرة العلمية. بل ويعلن حنفي صراحةً أنه ليس
المطلوب أصلًا علمًا، بل المطلوب بحث وطني قومي، وأن البحث الموضوعي المجرد النزيه أسطورة
نشأت في الغرب،
١٠ شأنها شأن أسطورة التقابل بين العلم والأيديولوجيا، بينما نحن محتاجون للمطابقة
بينهما!
يصعب اعتبار التقابل بينهما محض أسطورة. النظرة العلمية تقف فعلًا موقف الضد الصريح
للنظرة الأيديولوجية، من حيث إن هذه الأخيرة هي التي تؤدي إلى التباين الشديد في الآراء،
و«تجعل نفس الموضوع يراه الناس بطرق مختلفة جدًّا»،
١١ بينما النظرة العلمية تقف في موضوعها على المعامل المشترك بين الذوات أجمعين،
وتطرحه بصورة يتفق عليها جميع راصديه، وإلا لما كان طرحًا علميًّا أصلًا، فضلًا عن أن
الأيديولوجيا تتضافر مع اليوتوبيا وتصور ما ينبغي أن يكون، والحالة الذهنية تكون يوتوبية
أو
طوباوية حين تتعارض مع الأمر الواقع الذي تحدث فيه.
١٢ بينما العلم ينصب على الواقع فقط لكن يخرج بنتائج وفعاليات هي أكثر من ضرورية
في تحقيق ما ينبغي أن يكون من طوباويات الأيديولوجيا. كل طوبى في عالمنا النامي، كل
أيديولوجيا تثويرية له، تكون طوبى ونهضوية بقدر ما تلتحم بالحلم العلمي التقاني.
لم يلتحم به التراث والتجديد بما يكفي. لكن لا شك هُنيهةً في أنه من المرامي العامة؛
طالما
تحلم شباك المشروع — الطامحة الآملة المترامية — باصطياد دورة الحضارة الإنسانية بأَسرها.