الفصل الحادي عشر

اعتبارات نقدية ختامية

لقد تغلغلت الملاحظات النقدية في نسيج الصفحات السابقة، لكن كانت جميعها ملاحظات جزئية حول هذا الوضع أو ذاك. نريد الآن أن نختم معالجتنا للمنهج في علم الكلام الجديد كمدخل لتحليل أبعاد مشروع «التراث والتجديد»، باعتبارات نقدية شاملة للمشروع ككلٍّ متكامل. هذا على أن نضع في الاعتبار أن الدرس المنهجي المبدئي والعظيم، الذي نتعلمه من البناء الفلسفي المهيب لشيخ الفلسفة الحديثة إيمانويل كانط، يتلخص في أن النقد ليس يعني تصيد ورصد الأخطاء بقدر ما يعني أيضًا سبر الإمكانات.

إن تتبع معالم المنهج جعل هذه الدراسة منصبَّة على تصميم مشروع التراث والتجديد دون التنفيذ أو الفكرة دون التطبيق. وكما يقول المَثل الأمريكى: الشيطان يكمن في التفاصيل. وتطبيقات مشروع حنفي في تفصيلياتها تُسفر عن رصد طوفان من المآخذ الموضوعية والسقطات الجزئية التي لا أعتقد أنها تفيد هدفًا مرجوًّا.١
من ناحية أخرى تبدو التناقضات طاغية في كتابات حنفي، إنها قضايا معدودة على أصابع اليد: الولاء للفينومينولوجي، رفض الأشعرية، الهجوم على سياسات السادات حتى ولو كانت استعادة الأرض … باستثنائها يصعب العثور على عبارة تقريرية قالها حنفي في موضع ولم ينقضها في موضع آخر، فيما رآه فؤاد زكريا: تراقص في حلقة متناقضات جنونية يصعب بعدها أن يحتفظ الدارس أو المؤرخ بقواه العقلية سليمة.٢ وليس مطروحًا الآن الدفاع عن تناقضات حنفي الشهيرة، لكن كان المأمول أن تنتهي هذه الدراسة إلى تأطير المركب الجدلي الدافق الذي يحتوي تلك المتناقضات البادية ليسخرها جميعًا، والذي يحتاج استكشافه إلى معايشة عميقة ومثابرة دءوبة، مرهقة لكنها مثمرة حقًّا.
فقد أتت أبعاد المشروع قويةً جسورة تحمل إصرارًا أكيدًا، تبدو كل خطوة تُنجَز وكأنها لبنة تستقر في موضعها من التصميم الأوَّلي المتكامل، الذي تخلق مرة واحدة وإلى الأبد في صدر الشباب، منذ مطلع حياته الفكرية.٣ ومع ضخامة المشروع لا نستطيع الحديث عن مراحل أو تطور فكري لحسن حنفي، وعلى مدار عقود من السنين أكملت حلقتها الخامسة، وهو ماضٍ قُدمًا في تشييده، حتى هذه اللحظة وما سيتلوها، غير ملتفت يمنةً أو يسرةً، فلا تراجع أو تنازل أو تغيير أو تعديل. وقصارى ما تُحدِثه الخطوب الجسام تعديلًا ما في مستوى الخطاب أو آلياته، أو الجمهور المنشود منه، أما أبعاد المشروع ذاته فكلَّا! ومع ما يموج به العالم من تغيرات عاصفة، لا ندري أهذا يُحسب له أم عليه؟

وفي كلا الحالين، ثَمة تركيب مهيب أرسيت دعائمه، وتحددت معالمه، وتكاملت عناصره، وترامت آفاقه، بعد أن ترسمت مناهجه، شديد النزوع نحو التلاحم مع الواقع، ويضعنا إزاء وعي حاد بتخلفنا وعزم أكيد على أن نتجاوزه، وتأخذ هويتنا الحضارية دورها في مسار التاريخ. وعبر طاقة ذهنية هائلة ومقدرة تعبيرية دافقة ومعرفة موسوعية ثرَّة، تُرجم هذا إلى واحد من أكبر المشاريع في الفكر العربي المعاصر، وأكثرها جرأة وتركيبية وإبداعية وحيوية، وأيضًا طموحًا وجنوحًا. وإن التفت حوله جهود باحثين، للقراءة والتطوير والتنقيح والحذف والإضافة والتعديل، خرجنا بما ينتظره واقعنا من الفكر الفلسفي. وباستعمال تعبير يشاغب المنزع الاشتراكي الشهير لحنفي، يمكن القول إن حسن حنفي من أصحاب رءوس الأموال الفكرية الضخمة التي تحتاج إلى قوًى عاملة لتغل ريعها.

هذا عن تصميم المشروع وأبعاده. أما حين التنفيذ أو التطبيق، فينساق حنفي إلى إطناب شديد، وإسهاب يفوق كل حد، أحيانًا بغير داعٍ، بل وعلى حساب رونق الفكرة أو المشروع. ولا يكتفي بإخراج المتون الضخمة، بل دأب على إردافها بهوامش، تأتي أحيانًا في كل صفحة، ليحيل القارئ إلى أعماله، فيما أسماه علي حرب «تهميش النظراء».٤ وفي كل هذا لا يتحدث أبدًا من وجهة نظره أو في حدود رؤيته أو ما يبدو له، بل يتحدث دائمًا من منظور العصر، ومن موقف الحضارة، بحكم التاريخ وبروح الأمة وبوعي الجيل، ومن مطلق الحق والحقيقة في الدارين … إنها النرجسية المعهودة من المبدع، تتكشف بصورة حادة في كتابات حسن حنفي.

وأحيانًا لا يكون لإطنابه الشديد من أثر سوى أن يُحدث في ذهن القارئ شيئًا من البلبال والشربكة، والأدهى أن يبدو هذا مقصودًا! فتتداخل الخطوط وتتضارب ويكون الابتعاد فرسخًا عن الغاية المنشودة. لا سيما وأن حنفي يبدو كأنه لا يفكر فيما يكتب بقدر ما يكتب فيما يفكر. وهو يسابق الزمن من أجل إنجاز أو تنفيذ مشروعه الضخم … فلماذا كل هذا؟ لقد أغلق ديكارت أبواب العصور الوسطى، ووضع العقل الأوروبي في قلب عصره الحديث، إجمالًا أسس الفلسفة الحديثة اعتمادًا على ثلاثة نصوص أساسية: المقال في المنهج والتأملات ومبادئ الفلسفة. ولا تشكل جميعها فصلًا واحدًا عن فصول مجلد واحد من المجلدات الخمسة لعلم الكلام الجديد «من العقيدة إلى الثورة»، وعلم الكلام مجرد مادة واحدة من سبع مواد، في جبهة واحدة من ثلاث جبهات تمثل مشروع «التراث والتجديد»!

إن ذلك الاسترسال اللاهث والإطناب يذكِّر أحيانًا بقول ليبنتز الشهير: «الكتاب الكبير شرٌّ مستطير.» حين نجده يحمل لحنفي شراك الوقوع في تصحيفات، وفي ثغرات جزئية تنال من الكل، وفي تكرارات كان يمكن الاستغناء عنها. والأخطر من كل هذا ما يغري فيلسوفنا بالانسياق في تفريغ العقائد من مضمونها، حتى يصل لدرجة يصعب قبولها، ولم يكن ثمة حاجة للتطرف لحدها.

•••

ولكن يظل أجمل ما في هذه الملحمة أن توجُّه حنفي للتراث ليس توجهًا لصنم طاغٍ، بل نحو عناصر طيِّعة من الممكن استصلاحها في سبيل بناء حاضر أفضل.٥ إنه يستلهم عناصر محددة من التراث تُطوع وتُستصلح كمادة أولية لصياغة المستقبل.٦ وعرف كيف يجعل من التراث مشكلة الحاضر والفكر المعاصر، وليس البتة مشكلة الماضي والفكر القديم، ولا يقف عند نصوصه، بل يتخطاها إلى فاعليتها وتمثلاتها في الواقع الحضاري المعيش.

وحنفي … في النهاية يحاول أن يستحضر في واقعنا مصفوفة من التراث تآزرت فيها كل ما بدا له إيجابيات في رصيدنا التاريخي، من منهجية أصول الفقه، وتنويرية المعتزلة والطبائعيين وابن رشد، حتى عزم الأفغاني ومحمد عبده وإقبال، وصولًا إلى الحركات التحررية الحديثة، والتجربة الناصرية الاشتراكية ومشاريع التنهيض والتنمية والصحوة الإسلامية المعاصرة، تشق جميعها طريقًا نحو المستقبل يستضيء بكل سراج وأي سراج امتلكناه يومًا ما، باحثًا عن فجر تُشرق فيه شمس الحضارة الإسلامية من جديد، وليس البتة عن الإسلام من حيث هو عقائد إطلاقية أو ميتافيزيقية.

وفي ختام هذه الرحلة مع مشروع «التراث والتجديد»، التي شرَّقت بنا وغرَّبت يبرز السؤال: هل كانت قراءة حسن حنفي للتراث «تنويرية» كقراءة زكي نجيب محمود وقراءة عابد الجابري، أم «تثويرية» كقراءة أدونيس وطيب تزيني وحسين مروة، وهذه الأخيرة — مروة — تثويرية بقدر ما هي أستاذية؟

وإجابتي أن قراءة حنفي لا هذا ولا ذاك، إنها تنتقل من القراءة التنويرية إلى القراءة التثويرية، على اعتبار الأولى شرطًا للثانية، وأن التثوير بلا تنوير مجردُ «انقلاب في الأوضاع تُحدثه السلطة القائمة»؛٧ وذلك كي تستوعبهما جميعًا، ثم تتجاوزهما معًا. إن حنفي يستوعب ذينك الطرفين: التنويرية/التثويرية، لكي يصل إلى مركبهما الجدلي، ألا وهو قراءة وظيفية للتراث.
المركب الجدلي يعني نضجًا وزخمًا وثراءً؛ لذلك فهي لا تداني بحال استعمالًا آخر لمصطلح «القراءة الوظيفية للتراث» تحدَّث عنه محمد أركون في كتابه «نحو نقد للعقل الإسلامي»، حيث تكون قراءة التراث من أجل إشباع الذات المتخلفة، تعويضًا شعوريًّا للنقص، خلفية نفسية … الأمر مع حسن حنفي مختلف تمامًا، حيث نجد قراءته الوظيفية للتراث، وكل ذياك الجهاز الفكري المهيب الذي اجتهد في تشييده عبر خمسين عامًا أو يزيد إنما يهدف إلى جعل التراث يقوم بوظيفة معينة، ويضطلع بدوره في مرحلتنا الحضارية لتحقيق الأيديولوجيا الطوباوية المنشودة. فلئن كان المشروع أولًا، أو على الأقل في جبهته الأولى، مجرد نظرية في التراث وتجديده، «فإن التراث في حد ذاته لا قيمة له عند حنفي إلا بقدر ما يمنح الأمة نظرية للفعل، تعيد بناء الإنسان وعلاقته بالعالم».٨

من أجل هذه الوظيفة وفي سويداء مهامها، كل مكامن قوة المشروع ومواطن ضعفه في آنٍ واحد، من أجلها الاجتهاد والإبداع والتركيب والتشييد والإحاطة والشمولية، ومن أجلها التناقضات والحيودات والتطرف والجنوحات والإسقاطات والتعسفات. وحنفي في هذا وذاك يبدو متسقًا مع أسلوبه في إخضاع الإبستمولوجي للأيديولوجي، ومع إعلانه الصريح بأننا لسنا في حاجة إلى بحث علمي مجرد في التراث بقدر حاجاتنا إلى توجيهه لتحقيق مرحلة حضارية منشودة … إلى جعله يقوم بوظيفة معينة.

والسؤال الآن: هل التراث أو تجديد التراث قادر على القيام بهذه الوظيفة؟ بعبارة أخرى، هل الفكر خصوصًا الآن في عصر تقانة المعلومات له كل هذه الفعالية في تشكيل الواقع وصنع الحضارة وحل مشاكل الأمة وسد حاجات الجماهير وفك أزمات الهوية وإنقاذ القومية؟ بعبارة ثالثة، هل أسرف حنفي إسرافًا في الثقة بفاعلية النسق الفلسفي وقوة الأفكار؟

على الفور سيتصدى الكثيرون للرد بالإيجاب: أجل أسرف حنفي. ويبالغ في تقدير مغامرته الموسوعية وقدرتها على تغيير العالم العربي فضلًا عن العالم الثالث، ودع عنك مجمل الكرة الأرضية والعلاقة بين الحضارتين الشرقية والغربية. وهل يمكن إنجاز كل هذا بأمر أو بمشروع من فرد فرد؟! ثم إن مشروعه الذهني عسير، نظري مجرد بصورة تفوق كثيرًا ما يمكن أن يتحقق أو يُمارس في الواقع. وإن حنفي يلتف حول الحقيقة المادية المتعينة، ويبتعد عن الواقع الزراعي أو الصناعي … إلخ، أو يتجنبه. والفكر الآمل الطموح لا يخلق واقعًا.٩
وقد ينفي البعض هذا، ويقولون: كلَّا لم يسرف، بل عرف كيف يكون الالتحام بين الفكر والواقع، والميزة الأساسية في تناول حنفي للتراث هي أنه لا يقف عند النصوص بل يتخطاها إلى الممارسات وأنماطها.١٠

والحق أن الفكر والواقع بقدر ما هما وجهان لعملة واحدة، بقدر ما يستحيل رد أحدهما إلى الآخر ردًّا آليًّا متعاميًا من تداخل وتضارب التأثير والتأثر … والتي لا تفسرها إلا انقلابات المنظومة الجدلية. أجل لكلٍّ منهما كينونته وسيرورته الخاصة، ولكن ليس لأحدهما أسبقية منطقية أو زمانية مطلقة على الآخر. وأيضًا ليس لأحدهما انفصال أو تناءٍ، بل تجادل بينهما … تحاور وتلاقح مثمِر دائمًا في كِلا الجانبين.

١  اتخذت هذا القرار بمجرد شروعي في الدراسة، وقرب خواتيم تصميمها درست المجلد الضخم الأنيق: جورج طرابيشي، المثقفون العرب والتراث: تحليل نفسي لعصاب جماعي، رياض الريس للنشر، لندن، ١٩٩١م. فتبدَّت صوابية القرار أكثر؛ إذ انحل مشروع حنفي مع طرابيشي إلى عبارات، وانحلت العبارات إلى جمل، ثم انحلت الجمل إلى كلمات. واستنفد طرابيشي جهدًا مضنيًا مرهقًا لدرجة مثيرة للدهشة في ضرب الكلمات ببعضها أو إسقاط إحداها على أخرى، حتى أسفر الأمر في النهاية عن شيء أشبه بمباراة بلياردو.
٢  د. فؤاد زكريا، الحقيقة والوهم في الحركة الإسلامية المعاصرة، ص٥٧.
٣  يرى أستاذ الجيل زكي نجيب أن «مثل هذا مقصور على أفراد عمالقة من أسرة عبقر». د. زكي نجيب محمود، حصاد السنين، دار الشروق، القاهرة، ١٩٩٣م، ص٣٣٠.
٤  علي حرب، نقد النص، ص٣٣.
٥  د. عزيز العظمة، التراث بين السلطان والتاريخ، ص١٦٦.
٦  فهمية شرف الدين، الثقافة والأيديولوجية في العالم العربي، ص١٨٩.
٧  د. حسن حنفي، دراسات فلسفية، ص٤٠٢.
٨  I. Boullata, Trends and Issues in Contemporary Arab Thought, p. 40.
٩  Ibid., p. 41.
وبالمثل يقول ناهض حتر في «التراث والغرب والثورة»، ص٦٧: «الفكر في رأي الدكتور حسن حنفي له الأولوية المطلقة عن الواقع، وهو مسئول عن تغييره، وهذا الفكر الذي يوجد وجودًا موضوعيًّا مستقلًّا وأبديًّا سيكشف عن نفسه لشخص ما، هو المفكر بالألف واللام، وهذا المفكر يصبح مسئولًا عن نقل الرسالة الحقيقية التي تغير الواقع القائم ليتطابق معها.»
١٠  د. عزيز العظمة، التراث بين السلطان والتاريخ، ص١٦٤.
وقريبًا من هذا أشار الدكتور جابر عصفور في سلسلة مقالات نقدية لمشروع «التراث والتجديد» في: جريدة الحياة، ٢٧ / ٢ / ١٩٩٤م إلى أن الحدود تتماهى في المشروع بين إسلام النصوص والإسلام الشعبي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤