اعتبارات نقدية ختامية
لقد تغلغلت الملاحظات النقدية في نسيج الصفحات السابقة، لكن كانت جميعها ملاحظات جزئية حول هذا الوضع أو ذاك. نريد الآن أن نختم معالجتنا للمنهج في علم الكلام الجديد كمدخل لتحليل أبعاد مشروع «التراث والتجديد»، باعتبارات نقدية شاملة للمشروع ككلٍّ متكامل. هذا على أن نضع في الاعتبار أن الدرس المنهجي المبدئي والعظيم، الذي نتعلمه من البناء الفلسفي المهيب لشيخ الفلسفة الحديثة إيمانويل كانط، يتلخص في أن النقد ليس يعني تصيد ورصد الأخطاء بقدر ما يعني أيضًا سبر الإمكانات.
وفي كلا الحالين، ثَمة تركيب مهيب أرسيت دعائمه، وتحددت معالمه، وتكاملت عناصره، وترامت آفاقه، بعد أن ترسمت مناهجه، شديد النزوع نحو التلاحم مع الواقع، ويضعنا إزاء وعي حاد بتخلفنا وعزم أكيد على أن نتجاوزه، وتأخذ هويتنا الحضارية دورها في مسار التاريخ. وعبر طاقة ذهنية هائلة ومقدرة تعبيرية دافقة ومعرفة موسوعية ثرَّة، تُرجم هذا إلى واحد من أكبر المشاريع في الفكر العربي المعاصر، وأكثرها جرأة وتركيبية وإبداعية وحيوية، وأيضًا طموحًا وجنوحًا. وإن التفت حوله جهود باحثين، للقراءة والتطوير والتنقيح والحذف والإضافة والتعديل، خرجنا بما ينتظره واقعنا من الفكر الفلسفي. وباستعمال تعبير يشاغب المنزع الاشتراكي الشهير لحنفي، يمكن القول إن حسن حنفي من أصحاب رءوس الأموال الفكرية الضخمة التي تحتاج إلى قوًى عاملة لتغل ريعها.
وأحيانًا لا يكون لإطنابه الشديد من أثر سوى أن يُحدث في ذهن القارئ شيئًا من البلبال والشربكة، والأدهى أن يبدو هذا مقصودًا! فتتداخل الخطوط وتتضارب ويكون الابتعاد فرسخًا عن الغاية المنشودة. لا سيما وأن حنفي يبدو كأنه لا يفكر فيما يكتب بقدر ما يكتب فيما يفكر. وهو يسابق الزمن من أجل إنجاز أو تنفيذ مشروعه الضخم … فلماذا كل هذا؟ لقد أغلق ديكارت أبواب العصور الوسطى، ووضع العقل الأوروبي في قلب عصره الحديث، إجمالًا أسس الفلسفة الحديثة اعتمادًا على ثلاثة نصوص أساسية: المقال في المنهج والتأملات ومبادئ الفلسفة. ولا تشكل جميعها فصلًا واحدًا عن فصول مجلد واحد من المجلدات الخمسة لعلم الكلام الجديد «من العقيدة إلى الثورة»، وعلم الكلام مجرد مادة واحدة من سبع مواد، في جبهة واحدة من ثلاث جبهات تمثل مشروع «التراث والتجديد»!
إن ذلك الاسترسال اللاهث والإطناب يذكِّر أحيانًا بقول ليبنتز الشهير: «الكتاب الكبير شرٌّ مستطير.» حين نجده يحمل لحنفي شراك الوقوع في تصحيفات، وفي ثغرات جزئية تنال من الكل، وفي تكرارات كان يمكن الاستغناء عنها. والأخطر من كل هذا ما يغري فيلسوفنا بالانسياق في تفريغ العقائد من مضمونها، حتى يصل لدرجة يصعب قبولها، ولم يكن ثمة حاجة للتطرف لحدها.
•••
وحنفي … في النهاية يحاول أن يستحضر في واقعنا مصفوفة من التراث تآزرت فيها كل ما بدا له إيجابيات في رصيدنا التاريخي، من منهجية أصول الفقه، وتنويرية المعتزلة والطبائعيين وابن رشد، حتى عزم الأفغاني ومحمد عبده وإقبال، وصولًا إلى الحركات التحررية الحديثة، والتجربة الناصرية الاشتراكية ومشاريع التنهيض والتنمية والصحوة الإسلامية المعاصرة، تشق جميعها طريقًا نحو المستقبل يستضيء بكل سراج وأي سراج امتلكناه يومًا ما، باحثًا عن فجر تُشرق فيه شمس الحضارة الإسلامية من جديد، وليس البتة عن الإسلام من حيث هو عقائد إطلاقية أو ميتافيزيقية.
وفي ختام هذه الرحلة مع مشروع «التراث والتجديد»، التي شرَّقت بنا وغرَّبت يبرز السؤال: هل كانت قراءة حسن حنفي للتراث «تنويرية» كقراءة زكي نجيب محمود وقراءة عابد الجابري، أم «تثويرية» كقراءة أدونيس وطيب تزيني وحسين مروة، وهذه الأخيرة — مروة — تثويرية بقدر ما هي أستاذية؟
من أجل هذه الوظيفة وفي سويداء مهامها، كل مكامن قوة المشروع ومواطن ضعفه في آنٍ واحد، من أجلها الاجتهاد والإبداع والتركيب والتشييد والإحاطة والشمولية، ومن أجلها التناقضات والحيودات والتطرف والجنوحات والإسقاطات والتعسفات. وحنفي في هذا وذاك يبدو متسقًا مع أسلوبه في إخضاع الإبستمولوجي للأيديولوجي، ومع إعلانه الصريح بأننا لسنا في حاجة إلى بحث علمي مجرد في التراث بقدر حاجاتنا إلى توجيهه لتحقيق مرحلة حضارية منشودة … إلى جعله يقوم بوظيفة معينة.
والسؤال الآن: هل التراث أو تجديد التراث قادر على القيام بهذه الوظيفة؟ بعبارة أخرى، هل الفكر خصوصًا الآن في عصر تقانة المعلومات له كل هذه الفعالية في تشكيل الواقع وصنع الحضارة وحل مشاكل الأمة وسد حاجات الجماهير وفك أزمات الهوية وإنقاذ القومية؟ بعبارة ثالثة، هل أسرف حنفي إسرافًا في الثقة بفاعلية النسق الفلسفي وقوة الأفكار؟
والحق أن الفكر والواقع بقدر ما هما وجهان لعملة واحدة، بقدر ما يستحيل رد أحدهما إلى الآخر ردًّا آليًّا متعاميًا من تداخل وتضارب التأثير والتأثر … والتي لا تفسرها إلا انقلابات المنظومة الجدلية. أجل لكلٍّ منهما كينونته وسيرورته الخاصة، ولكن ليس لأحدهما أسبقية منطقية أو زمانية مطلقة على الآخر. وأيضًا ليس لأحدهما انفصال أو تناءٍ، بل تجادل بينهما … تحاور وتلاقح مثمِر دائمًا في كِلا الجانبين.
وبالمثل يقول ناهض حتر في «التراث والغرب والثورة»، ص٦٧: «الفكر في رأي الدكتور حسن حنفي له الأولوية المطلقة عن الواقع، وهو مسئول عن تغييره، وهذا الفكر الذي يوجد وجودًا موضوعيًّا مستقلًّا وأبديًّا سيكشف عن نفسه لشخص ما، هو المفكر بالألف واللام، وهذا المفكر يصبح مسئولًا عن نقل الرسالة الحقيقية التي تغير الواقع القائم ليتطابق معها.»
وقريبًا من هذا أشار الدكتور جابر عصفور في سلسلة مقالات نقدية لمشروع «التراث والتجديد» في: جريدة الحياة، ٢٧ / ٢ / ١٩٩٤م إلى أن الحدود تتماهى في المشروع بين إسلام النصوص والإسلام الشعبي.