الفصل الثاني عشر
حاشية تقريرية: التعددية المنهجية في مشروع التراث والتجديد١
منذ خمسين عامًا خلت أعلن حسن حنفي بيان مشروع «التراث والتجديد»،
٢ وتتابعت خطواته وإنجازات مراحله المتعاقبة، وفقًا للتخطيط الدقيق والشامل
المرسوم في ذلك البيان. وعلى مدار نصف قرن يتصاعد بنيان هذا المشروع الشامخ، المدماك
إثر
المدماك، ليحتل موقعًا فريدًا ومتميزًا وسط أقرانه ورفاقه من مشاريع تعتمل في ساحة الفكر
العربي المعاصر، تتبارى جميعها من أجل تجاوز واقع مأزوم بآفاق فكرٍ نهضوي … مشاريع تحاول
تقديم حلول لمشكلة الأصالة والمعاصرة التي طال انشغالنا بها حتى كادت تبدو عصيَّة علينا،
بينما استوعبتها وتجاوزتها أمم أخرى بدأت رحلتها مع التحديث بعدنا بزمان، وبعضها — كالتجربة
اليابانية الرائدة التي سُميت بالمعجزة اليابانية — كانت قد استفادت وتعلمت من بعض الخُطا
التي قطعناها في محاولتنا السبَّاقة،
٣ السابقة لسائر محاولات أمم الشرقين الأوسط والأقصى، ثم تجاوزتنا بمراحل.
ولئن كانت محاولاتنا النهضوية التجديدية تبدو الآن على مستوى الواقع متعثرة أو متراجعة
بعض الشيء، فإن مشروع «التراث والتجديد» على مستوى الفكر يبدو من الناحية الأخرى مشروعًا
فريدًا متميزًا عن سواه من مشاريع الفكر العربي المعاصر؛ لأنه — كما رأينا عبر الصفحات
السابقة — الأجرأ في التركيب والإبداع، والأكثر نزوعًا نحو الالتحام بالواقع، وحرصًا
على
مخاطبة مستوياته المختلفة، واستقطاب شتى توجهاته: التحديثية العقلانية واليسارية والقومية
العروبية والإسلامية معًا … وأيضًا الأكثر طموحًا وجموحًا. هذا فضلًا عما حققه «التراث
والتجديد» من نجاح لافت في جذب اهتمام دوائر بحثية عديدة في الشرق وفي الغرب … وحيثما
أحلُّ
وأرتحل من أقصى الشرق في كيوتو إلى أقصى الغرب في جامعة هاواي، وصولًا إلى قلب أفريقيا
في
نيجيريا، ومرورًا بغالبية الدول العربية والأوروبية، أجد اهتمام الدوائر البحثية وعتاة
الباحثين بحسن حنفي ومشروعه؛ سيمنارات علمية وبحوث ورسائل جامعية ومقررات دراسية وأوراق
مؤتمرات دولية … حول حنفي ومشروعه.
وكما رأينا، المرتكز الأوَّلي في هذا المشروع هو الوحي القرآني كفعل توحيد فذ، مثَّل
نقطة
تحول متفردة، تجعل العلاقة مع الوحي محور التقابل بين الأنا والآخر الغربي. ويعتمد المشروع
على التفاعل بين الوحي والواقع، ليصل إلى هدف استراتيجي هو أنسَنة علوم تراثنا وتصحيح
دورها في المنظومة الحضارية بغية القضاء على اغتراب الإنسان المسلم، ومن ثَم تمكينه من
النهوض بالاستغراب، بمعنى تحجيم دور الغرب وتحويله إلى موضوع دراسة بدلًا من أن يكون
مصدر
العلم ومنبع المعرفة. وبهذا ينفتح الطريق أمام عالم جديد تمثل الحضارة الإسلامية فيه
مركزًا
حضاريًّا رائدًا.
ولبلوغ هذا الهدف، ينتهج مشروع «التراث والتجديد» المسار الفينومينولوجي أساسًا، ويعتمد
كذلك على المنهج الجدلي مصحوبًا بقيم اليسار، وعلى الاستفادة القصوى من مناهج التأويل
الخصيبة الكامنة في هيرمنيوطيقا النصوص، فضلًا عن تفعيل منهجيات فرعية مثل تحليل المضمون،
والنقد التاريخي ومنهجيات أخرى عديدة. وأحاول الآن استكشاف دلالة التلاحم أو التفاعل
أو
التحاور أو التقابل بين هذه المناهج جميعها، بمعنى استكناه أمر هذه التعددية المنهجية
التي
وسمت مشروع «التراث والتجديد».
•••
لقد بدا لي هذا المشروع دائمًا مدعاة للمعالجات التحليلية والنقدية. وتتابعت أبحاثي
فيه
واحدًا تلو الآخر. وعلى الرغم من أن «التعددية المنهجية» موضوعنا اليوم تمثل بحثي السادس
في
مشروع «التراث والتجديد»، إلا أن شيئًا من الهيبة يتملكني. فالفصل الحاد بين المنهج والمذهب
أمر عسير؛ لأنه أشبه بالفصل بين مكمن النور وهيكله، بين مجمر النار ولهيبها. ثم هو موضوع
ينطوي على قدر من الجرأة؛ لأن الحديث عن المنهج حديث عن الآليات والإجرائيات … المسار
والمسير … الطبع والطبيعة … الديدن والوتيرة … روح المشروع ونبضه … باختصار، حديث عمَّا
لم
يقله حسن حنفي، فما يقوله هو المذهب … ونحاول أن نستنبط منه المنهج … أو نستنطقه
بالمنهج.
يشد من أزري ويساعدني في الإقدام على هذه المحاولة الجسورة أن تخصُّصي الدقيق هو مناهج
البحث العلمي أو مبحث الميثودولوجيا، وذلكم هو المنطلق الرسمي والشرعي لطرح قضية المنهج،
وأصفى مواطن بلورة سؤال المنهج في الفكر الفلسفي.
وفي هذا أبدأ بأن المصادرة التي ينبني عليها حديثي عن التراث والتجديد اليوم تتلخص
في أن
الفارق بين الميثودولوجيا العلمية في مرحلة الحداثة وبينها في مرحلة ما بعد الحداثة،
أو بين
رؤية فلسفة العلم الحداثية ورؤيتها بعد الحداثية، يمكن أن يتمثل في الانتقال من مرحلة
الأسسية الواحدية للمنهج العلمي إلى مرحلة التعددية المنهجية،
٤ التي هي بحق تجلٍّ لروح الطرح المنهجي الذي انبنى به مشروع التراث
والتجديد.
ولست أعتذر؛ لأنني أؤكد، خلافًا لأستاذي وأستاذ الجيل حسن حنفي، أن مرحلة ما بعد الحداثة
التي هي مرحلة ما بعد الاستعمارية، ككل مرحلة أحدث، هي أكثر تقدمًا … هي أفضل … تنطوي
على
إيجابيات أكبر لا بد أن نجدَّ السعي ونسرع الخطا لاستيعابها. ولا أفهم معنًى للاعتراض
على
ذلك بأننا لم نمرَّ بما قبل الحداثة لكي نلحق بما بعدها … لم نمرَّ بمراحل مرَّت بها
الحضارة
الغربية؛ فهل هو فرضُ عين علينا أن نحذو حذوهم باعًا بباع وذراعًا بذراع وشبرًا بشبر،
حتى
إذا دخلوا حجر ضبٍّ دخلناه وراءهم؟! هل من الضروري أن نمرَّ بمراحل عبيد الأرض واستغلال
الطبقة العاملة وشن الغزوات والحروب في أركان العالم الأربعة تحقيقًا للمرحلة الاستعمارية؟!
ولماذا لا نمرُّ بمراحل التجربة الصينية أو حتى الماليزية أو أيٍّ سواهما من تجارب نهضوية
أحدث
وأكثر استجابة لعصرنا الراهن … عصر ما بعد الاستعمارية … ما بعد المركزية الغربية … ما
بعد
الحداثة …؟
لا بد من الاستفادة من الدروس بعد الحداثية، حيث باتت فلسفة العلم فيها ترفع لواء
التعددية والدعوة إلى علم لا تُكبله وحدة وضعية مزعومة.
٥ ونذكر في هذا الصدد فيلسوف العلم الثائر المشاغب بول فييرابند
Paul Feyerabend (١٩٢٤–١٩٩٤م)، وهو في طليعة ممثلي ما بعد
الحداثة في نظرية المنهج العلمي ومنطق العلم، وكتابه الشهير «ضد المنهج»
Against Method
الذي يحمل معالم فلسفة فييرابند، وقد أختار لها عنوانًا: «الأناركية المنهجية»، ولن أقول
«الفوضوية». فكلمة أو مصطلح الفوضوية ترجمة خاطئة وآثمة … شاعت وذاعت. الأناركية
anarchism تعني حرفيًّا اللاسلطوية، فحرف الألفا في
اللغة الإغريقية يعني
non يعني النفي. إذن التعددية
المنهجية لا تعني الفوضوية بل تعني اللاسلطوية.
٦
يستهل فييرابند الفوضوي/اللاسلطوي كتابه «ضد المنهج» بأن اللاسلطوية قد لا تكون
أساسًا جذابًا أو جيدًا للسياسة، ولكنها الأساس الحق والرائع للإبستمولوجيا وللمنهجية
العلمية، مبينًا أن واحدية المنهج التجريبي، سواء الاستقرائي الكلاسيكي أو الفرضي
الاستنباطي المعاصر على السواء، تعني الطرح الوضعي البسيط المؤمْثَل الذي يكتفي برد العلم
إلى الأسس المنطقية والتجريبية، مُنكرًا دور الإطار الحضاري المتعين، فتُخفي وراءها واحدية
العلم الغربي الحديث ومركزيته واستعماريته … واحدية المنهج العلمي تخفي وراءها سلطة معرفية.
والبحث العلمي لا يعترف بأية سلطة، بل إن العلم مشروع لا سلطوي
Anarchic
Enterprise، لم يكن أبدًا أسير منهج واحد، وكل المناهج المنجزة الفعالة
يمكن أن تجدي فيه،
٧ تبعًا لشعار فييرابند الشهير: كل شيء مقبول
Anything
Goes. وكانت أسانيده الأساسية في فحص تسلسل الأحداث الكبرى التي شكلت
تاريخ العلم ليوضح أنها لم تأتِ أبدًا عن طريق منهج واحد ووحيد محدد، بل مناهج عديدة.
وانكبَّ
فييرابند على تأكيد النسبوية والتعددية المنهجية. كل منهج مقبول على الرحب والسعة طالما
يلائم طبيعة المشكلة المطروحة للبحث، فيؤدي إلى حلها والإضافة إلى رصيد العلم. أما تكبيل
البحث العلمي بمنهج واحد محدد، فهذا ضد الإبداع، يخنق الروح الضرورية للإنجاز العلمي.
والعلم ليس نظامًا مقدسًا يستدعي الرأي الواحد أو الكفر بما عداه، بل إن العلم نظام عقلاني
على الأصالة … إبداعي فعال … ينمو ويزدهر وسط الأنظمة الثقافية الأخرى والتفاعل والتآزر
بين
مناهج منتجة شتى، رافضًا لأية سلطة. هكذا ينتهي فييرابند إلى أن الإجماع على رأيٍ واحد
—
بشأن منهج واحد — إنما يناقض طبيعة العلم التجريبي.
•••
وأطروحتنا أن الزعم بمنهج واحد ووحيد كمفرد علمٌ يناقض أيضًا طبيعة مشروع «التراث
والتجديد» من حيث إننا نراه مشروعًا قد تمثل عصر التعددية المنهجية ومثلها، ويبدو الأقدر
على استقطاب روح العصر. ومن الناحية الأخرى، هو مشروع قادر على التعامل الكفء الفعال
مع
الدوائر المتداخلة والمترامية التي يضطلع بمواجهتها في جبهاته الثلاث، وتستحيل مثل هذه
المواجهة بمنهج واحد ووحيد.
كانت التعددية المنهجية أداة فعالة مكنت مشروع «التراث والتجديد» من إنجاز هذا فيما
اتسم
به من قدرة على توظيف وتفعيل مناهج عديدة، أتت متعاونةً ومتآزرةً ومتكاملةً لتشييد المشروع.
لم يكن المنهج أو المناهج فيه إلزامًا والتزامًا، أو إسارًا يكبِّل الباحث ويحدد له الطريق
المرسوم، لم تكن — بتعبير الشاعر صلاح عبد الصبور — رداءً يتسربل به المشروع أو وشمًا
فوق
جبين المشروع أو قيدًا فوق أضلاعه،
٨ بل كانت المناهج كما ينبغي أن تكون: أدوات تفيد الفائدة الجمَّة حين حسُن
تشغيلها وتفعيلها.
وقد استفاد مشروع «التراث والتجديد» حق الاستفادة من مناهج عديدة أحسن تشغيلها وتفعيلها:
استفاد من المنهج الفينومينولوجي، ومن المنهج الجدلي، ومنهج تحليل المضمون، وأيضًا المناهج
المقارنة، والمنهج التاريخي … دون أن يخلو الأمر من استنباط صريح من مقدمات ومصادرات
ومبادئ، وأيضا عود إلى الاستقراء التجريبي حينما يقتضي الأمر ارتكانًا إلى وقائع تجريبية.
وحتى البنيوية ذاتها، التي قد توضع كمقابلة للفينومينولوجيا (الظاهراتية)، ويؤكد حنفي
مرارًا وتكرارًا أنه يرفض البنيوية رفضًا قاطعًا، ويناقض تمامًا ما قد تحمله من قطيعة
معرفية. مع هذا يمكن أن نجادل: هل خلا «التراث والتجديد» تمامًا من أي استفادة وتشغيل
لمناهج البحث البنيوي … البحث عن الثوابت الكامنة وراء كل متغيرات؟
٩
وإذا أردنا استكشاف حدود ودور كل منهج من تلك المناهج المتعددة في مشروع «التراث
والتجديد»، يبرز السؤال: ما هو المنهج الذي نبدأ منه؟ ما هو المنهج المركزي والأساسي
الذي
رسم هيكل المشروع؟
على أن قضيتي الكبرى هي نفسها قضية الفلسفة النسوية: نقض المركزية. وبمزيد من التعيين:
نقض
مركزية المركز،
١٠ التي تعني نفي السلطوية، وذلك لقناعتي بأن السلطة تفيد في حالة القاصرين
والجانحين. ولسنا قاصرين ولا جانحين … بل ميثودولوجيون ومفكرون وباحثون، نرفض السلطوية
التي
تكبل الإبداع.
من هذا المنطلق الذي نلح عليه، وبدلًا من السلطوية والمركزية والمحورية، أطرح السؤال:
ما
هو المنهج الناظم لتشغيل بقية المناهج في مشروع التراث
والتجديد؟ قد تبدو الإجابة التي تفرض نفسها: الفينومينولوجيا. لأن هذا ما قد يعلنه حسن
حنفي
نفسه إذ سئل عن المنهج.
بدايةً، الفينومينولوجيا كالبنيوية وكمعظم التيارات الكبرى في فلسفة القرن العشرين،
أتت
منهجًا كأكثر من أن تكون مذهبًا … أي إنها طريقة للبحث أو أسلوب للنظر، وليست منظومة
من
الحقائق. وقد أتت الفينومينولوجيا في «التراث والتجديد» وكأنها جسد المشروع وخامته، لافتته
وبطاقته، بعبارة موجزة: الفينومينولوجيا هي المنهج والمذهب معًا … ولعل تجلياتها اللافتة
في
جسد المشروع … في المذهب، تجعلنا غير مستطيعين الزعم بتصدرها ساحة المنهج … أي روح
المشروع.
فهل هو المنهج الجدلي؟ إذ يبدو أوسع نطاقًا، وأبعد مرامًا، يستوعب داخله المنهج التاريخي
من ناحية، وأفق الصراع أو الحوار بين الحضارات من الناحية الأخرى. المنهج الجدلي قضية
ووعي
وإعلان رأي، بل وربما تأسيس حزب سياسي لولا الملامة. فهو قضية القيم الاشتراكية واليسار
الإسلامي. والمنهج الجدلي من ناحية أخرى تنضيد لوضع الدين … حتى نجد طموح حسن حنفي الآتي
مزيدًا من الطرح الهيجلي … ومن توظيفات المنهج الجدلي لتقنين وضع الدين في المسار الحضاري.
١١
وحيث إن حديث الساعة بيننا الآن حول النص وبالتالي التفسير، فقد تتقدم مناهج التفسير،
أو
بالأحرى إعادة بناء مناهج التفسير، عن طريق الهيرمنيوطيقا. فهل الهيرمنيوطيقا هي المنهج
الأول الناظم؟ لقد قيل: «إن مشروع التراث والتجديد يمضي في طريقه لإعادة بناء الحضارة
عن
طريق نظرية، في سويدائها يرابض الوحي/التراث/النص، بعد تأهيله لهذا، ورد الاعتبار إليه
كأساس للحضارة الإنسانية، في عالم حديث تحرَّر من الاغتراب وظافر ببرنامج عمل شامل للفعل
الإيجابي.»
١٢ وذلك عن طريق القراءة الهيرمنيوطيقية لهذا الوحي/التراث/النص. ألا إن
الهيرمنيوطيقا صيحة الجهاد المعرفي وشريعة العمل والبناء … شيء ما أكثر كثيرًا أو أقل
قليلًا من أن يكون منهجًا ناظمًا للمشروع بأَسره.
فهل هو منهج تحليل المضمون؟ إنه المنهج الذي جعل «التراث والتجديد»، قبل أن يكون دعوى
فكرية، هو قبلًا، مشروعًا علميًّا وفلسفيًّا قائمًا على درس وبحثٍ رصين وعلمٍ غزير، يثير
الدهشة قبل الإعجاب. بيد أن منهج تحليل المضمون لا يمارس فعله إلا في هوامش صفحات المجلدات
العديدة الفخمة الضخمة التي تشكل الجبهة الأولى. فلن يكون هو المنهج الناظم حتى لو قلنا
إن
العبء الأكبر يقع على عاتق هذه الجبهة الأولى من المشروع التي تهدف إلى إعادة بناء الموروث؛
لأنها جبهة تحدي الذات، وتمثل فضاءً فكريًّا تجتمع فيه أبعاد الوعي التاريخي والوعي النظري
والوعي العملي.
•••
وبصدد جبهة إعادة بناء الموروث، أتوقف بوصفي ميثودولوجية عند الصرح العتيد والحصن
الحصين
للمنهجية في تراثنا، أي علم أصول الفقه الذي هو علم منهجي بامتياز. أراه كنزًا
ميثودولوجيًّا لا مثيل له في التاريخ، وعن طريق صورنة هذا العلم وتجريده من الزوائد
والمتغيرات واستخلاص الآليات والقواعد والسبل الاستدلالية التي انطوى عليها وأسس لها،
يكشف
لنا عن روح منهجية مقننة، استنباطية وتجريبية واختبارية نقدية، تشهد بتوطن الروح العلمية
في
ثقافتنا. وقد كان هذا موضوع كتابي «نحو منهجية علمية إسلامية: توطين العلم في ثقافتنا».
١٣
ويتصل بهذا أن بحثي السابق مباشرة في مشروع «التراث والتجديد»، كان حول علم أصول
الفقه
فيه، حيث الانتقال من النص إلى الواقع، وحيث الإصرار على تفعيل المنهج التجريبي بل واستقراء
الوقائع التجريبية.
١٤ ولكن قبل هذا وبعده يستطيع حنفي إبراز كيف كان علم أصول الفقه علمًا منهجيًّا
فريدًا وجامعًا. قبلًا، يعلن حنفي كيف تبرز أصول الفقه «قدرة العقل الإسلامي على تحويل
الدين إلى علم، والوحي إلى منطق، والنص إلى منهج».
١٥ وبعدًا، يبين في كتابه «من النص إلى الواقع» بجزأيه، وهو الكتاب الذي يعيد بناء
علم أصول الفقه … يبين حنفي المميزات المنهجية لهذا العلم، التي لا تنفصل بحال عن تعددية
المناهج الفاعلة فيه.
أول هذه المميزات عناية علم أصول الفقه عنايةً خاصة بالتحليل
العقلي والقسمة العقلية. وثانيًا
التجربة،
بمعنى المشاهدة والتجريب والتعليل كما هو معروف في المنهج التجريبي، والانتقال من الجزئيات
إلى الكلية اكتفاءً بعدة أمثلة على طريقة الاستقراء العلمي التقليدي حيث يستحيل حصر جميع
الجزئيات. على أن التجربة في علم أصول الفقه إنسانية وليست طبيعية؛ فهي تجريب الشريعة
على
الواقع الإنساني حتى تتم صياغتها طبقًا لقدرات البشر وإمكانيات الفعل، وكان
العقل والتجربة في علم أصول الفقه وجهين لعملة واحدة، وهما
دائمًا عمادا الميثودولوجيا العلمية. وثالثًا
المنهجية أو
روح المنهج ذاته بمعنى النظامية والبحث عن نقطة بداية يقينية تتوالى بعدها الخطوات المرتبة،
البداية هي الوحي والخطوات في الفهم والاستدلال للوصول إلى الحكم. ورابعًا
المنطقية، بمعنى العقل البديهي، كل سؤال له إجابة، وكل اعتراض له
رد، ولا يسمح الفكر الأصولي بما يخرج على قواعد المنطق وأصول الفهم السليم. إن منطق علم
أصول الفقه منطق عملي يقوم على الحس المشترك والخبرة المتبادلة وليس فقط منطقًا صوريًّا
مجردًا.
وخامسًا الفطرة، وهي الطبيعة البشرية الثابتة المطردة، فيظل علم الأصول ثابتًا وإن تغيرت
مادته، وهو منطق الوحي بعد أن اكتمل في ختم النبوة. والخاصة السادسة في رؤية حسن حنفي
هي
الذاتية كأفق التحليل وميدانه، ميدان أصول الفقه هو
العالم الإنساني، وهذا العالم بؤرته الذاتية، وعالم الذاتية هنا ليس منغلقًا على الذات
بل
منفتح على اللغة وعلى الآخرين، ويتحقق في الواقع (الذاتية المشتركة). وسابعًا
الوضعية لتعني أن الذاتية ليست خواءً وفراغًا، فالأحكام وضعية
كما يقول الشاطبي، موضوعة في الواقع وفي التاريخ والشريعة، وليست معلقة في الهواء، فيجمع
علم الأصول بين الذاتية والموضوعية في آنٍ واحد. والميزة الثامنة هي
العملية، فيتسم علم الأصول بأنه ذو نزعة عملية، الوحي فيه نداء للعمل
وللإنجاز في واقع الإنسان. وتاسعًا
الإنسانية، علم الأصول
يفهم الوحي كمقصد نحو الإنسان والعالم.
١٦ هكذا يساهم حنفي بدوره في بلورة إيجابيات منهجية فعالة في علم أصول
الفقه.
•••
نكتفي بهذا القدر من استعراض أدوار مختلفة، أو بالأحرى متكاملة ومتآزرة، لمناهج شتى
تكاتفت لتشييد الصرح العظيم … الذي هو مشروع «التراث والتجديد»، ليكون المنهج الأولي
الناظم
لبقية المناهج هو هذا التكاتف والتآزر نفسه … هو «التعددية المنهجية» ذاتها لا سواها،
والتي
اتفقنا على أنها تنبذ السلطة والسلطوية.
وأخيرًا، كم هو جميل أن نستكشف معًا كيف أن التعددية المنهجية، أي اللاسلطوية المعرفية،
منبثَّة في أعطاف مشروع «التراث والتجديد»، ما دمنا الآن في ملتقًى فلسفي جعل عنوانه
وموضوعه
«سلطة النص»؛ تمهيدًا لزعزعتها من حيث هي السلطة العليا في ثقافتنا، مما يفتح الباب لزعزعة
كل سلطة أخرى … إلا سلطة التراث الاعتبارية، وسلطة التجديد الفعلية.