الفصل الثاني
من هنا نبدأ
في السؤال عن الكيفية؛ المنهاج والوسيلة، الطريق والطريقة … يبدأ حنفي ذلك الطريق
من
المبتدأ الذي تتفق عليه جميع الأطراف، ألا وهو القرآن الكريم أو الوحي
١ بوصفه نقطة الإحالة المرجعية الثابتة، لأنه الواقعة الأولية المعطاة للشعور،
لتمثل نقطة بدء حضارتنا ومرتكزها، ومنطلق وعينا الحضاري كأمَّة متميزة بأنها إسلامية.
ثم
كان الوحي هو المركز الذي نشأت حوله دوائر علوم تراثنا.
إن الوحي القرآني فعل توحيد فذ، مثَّل نقطة تحوُّل منفردة، لم يكن استمرارًا لأي
مسار كان
قبله، نثريًّا أو شعريًّا. إنه كما قال طه حسين — الأستاذ العميد — ليس شعرًا ولا نثرًا،
بل
قرآن، ولعل ظهور الوحي في سيرورة الحضارة العربية «يماثل ظهور الفلسفة في سيرورة الحضارة
الغربية، منعطف جذري، وتغيير حاسم من حيث الرؤية التي أتى بها والمنهاج الذي استنَّه».
٢
ويبدو لي أنه لا ضير من اعتبار الوحي نقطة البدء، بصرف النظر عن التأييد الفينومينولوجي
لهذا، أي عن رسوخه في المخزون الشعوري. فصحيح أن هذه المنطقة تتميز بسعة الموروث الثقافي
قبل الوحي بزمان سحيق.
٣ وأمامنا في مصر الحلقة الفرعونية والحلقة القبطية اللتان لا يمكن إغفالهما، إذ
لا تزالان ماثلتين في شعور الجماهير؛ من الفرعونية: شم النسيم، السبوع، ذكرى الأربعين،
الحانوتي — إنه الحنوطي رغم اندثار التحنيط — الفول المدمس … أما القبطية فلا يزال الفلاح
المصري، حتى الآن يعمل ويعيش في تقويمها وينظم وقائع حياته وفقًا للشهور القبطية المطابقة
لمناخ مصر ولبيئتها الزراعية، وشبيه بوضع مصر أقطارٌ إسلامية أخرى لها موروث حضاري، ماثلٌ
قبل
الوحي الإسلامي. كل هذا صحيح. لكن أوَلمْ يمثل الوحي الإسلامي بسرعة غير مسبوقة دائرةً
حضارية
استوعبت كل هذا لتُمثل مرحلة جديدة، نقطة بدء جديدة، مُشكِّلةً كل المسار التاريخي
اللاحق؟!
ثم كانت لغوية الحدث القرآني، وما أدراك ما لغوية الحدث القرآني؟! إنها هي لا سواها
التي
تجعل من مشكلة الخصوصية أو الأصالة واقعًا شاغلًا لنا أكثر من أية أمة أخرى، لأننا نحن
الأمة الوحيدة التي لا تزال تتحدث بلغة تراثها القديم وكتابها المقدس، وكما تثبت الفلسفة
التحليلية المعاصرة ليست اللغة قالبًا أو وعاءً يُملأ بالفكر مثلما تُملأ السلة بالفاكهة،
اللغة هي ذاتها نسيج الفكر.
وقد مارَس جلال الحدث القرآني نوعًا غريبًا لعله مسبوق من فقدان الذاكرة التاريخية،
ترسخ
بلغوية الحدث، وهجران البلدان المفتوحة للغاتها القومية التي هي إطار تفاعلاتها السابقة
الطويلة مع واقعها، والنسيج الذي تمثلت فيه قيمها ونواتج حضارتها. وبخلاف الأديان السماوية
التي عُدَّ الوحي الإسلامي ذاته امتدادًا وتطويرًا لها، نجد أن كل ما بقي في الوعي الجمعي
من
حاصل تاريخ ما قبل الوحي إما نماذج شاخصة للطاغوت والجاهلية والشرك وكل ما يتوجب نقضه
ونفيه، وإما خيالات باهتة وأمساخ شائهة لفرعون الجبار وإرم ذات العماد وثمود الذين جابوا
الصخر بالواد … ولما تنامت مؤخرًا البحوث التاريخية والأنثروبولوجية والأركيولوجية، وتجلت
ذخائر أصول القوميات، كان تيار الوعي — سواء احتوى هذا أم لا — قد استقر تمامًا في إطار
الظاهرة القرآنية. فكيف إذن لا نشير إليه قائلين: من هنا نبدأ.
أما عن كون الوحي القرآني مركزًا نشأت حوله دوائر العلوم القرآنية، أي من حيث هو وحي
تحوَّل
إلى حضارة، فهذا أميز ما يميزنا كأمَّة. فقد خرج تراثنا من الكتاب الوحي، كانت أولًا
الانبثاقة الجبارة الفريدة لعلوم اللغة، التي أسفرت عن جهاز اشتقاقي ونحوي وصرفي لا مثيل
له
في لغات العالمين، لأن الوحي نص … ظاهرة لغوية، ثم البلاغة لتكشف عن إعجازه، يتبعهما
الفقه
وأصوله ليستنبط الأحكام قياسًا عليه، والكلام من أجل عقلنته ليتطور إلى الفلسفة … مما
جعلنا
حضارة مركزية؛ أي تدور حوله مركزها الثابت: الوحي.
هذا هو الفرق الأساسي المحوري والجدلي بين الحضارة العربية الإسلامية والحضارة الغربية
المسيحية التي أصبحت طردية بلا مركز، لأن الكتاب فيها قد خرج من التراث، ولم يخرج التراث
من الكتاب.
٤ لم تُكتب الأناجيل إلا بعد اكتمال الدعوة المسيحية، فكانت لاحقة على العقيدة
وتعبيرًا عنها، ليست سابقة عليها أو مصدرًا لها. ثم كان ظهور علم النقد التاريخي للكتب
المقدسة في القرن السابع عشر مع سبينوزا وريتشارد سيمون
R. Simon وجان أوستريك
J. Austric الذي
أثبت أن كثيرًا من التحريف والتبديل والتغيير وقع في الكتب المقدسة.
أي إن الموروث التاريخي لم يثبت أمام النقد. ولعل لسنج من أكثر علماء اللاهوت جرأةً
في
الإشارة إلى الأساس التاريخي الهش للمسيحية بعد اكتشاف التحريف في الكتب المقدسة إذ يقول:
«لماذا لا يستطيع دين له مثل هذه الحقيقة التاريخية والهشة — فيما يبدو — أن يرشدنا إلى
أفكار أكثر دقة فيما يتعلق بالطبيعة الإلهية وطبيعتنا الخاصة وبعلاقتنا مع الله، وهي
الأفكار التي ما كان باستطاعة العقل الإنساني أن يصل إليها بمفرده؟»
٥ أما عن قواعد الإيمان، فلم يفُتْ لسنج أنها لم تُستنبط من كتابات العهد الجديد،
فقد وُجدت قبل أن يوجد سطر واحد منها.
٦ وينطلق لسنج من هذا إلى دعواه ﻟ «الدين الطبيعي» الذي يلغي المسيحية ذاتها، وقد
انتشر بين أئمة عصر التنوير ويراه حنفي من عناصر التحرر في الغرب، مثلما هو «الدين الذي
كان
عليه إبراهيم، وهو دين الإسلام»
٧ أو العلمانية التي هي معناه الوحيد، لأن الإسلام يجمع بين الدين والدنيا ولا
يفرق بينهما.
ها هنا التوقف ضروري للإشارة إلى أن ذلك الصراع الديني الذي كان من مقدمات عصر التنوير
هو
صراع بين الكاثوليكية والبروتستانتية بينما ظلت الكنيسة الأرثوذكسية — صحيح العقيدة في
الشرق — بمنأًى عنه. وكما يقول هوايتهد، نظرت إلى حركة الإصلاح الديني بلامبالاة عميقة،
على
أنها أمر من الأمور الداخلية التي تخص الشعوب الأوروبية.
٨ فهل يشفع هذا في تبرئة فيلسوفنا من اللعب بالنار على حدود الوحدة الوطنية في
مصر بين المسلمين والمسيحيين. وهو في الواقع لا يلتفت إليها، ولا حتى في الجزء الثامن
والأخير من عمله «الدين والثورة في مصر»، والذي يحمل عنوان: «اليسار الإسلامي والوحدة
الوطنية»!
إن حنفي يريد أن يجعل من العلاقة مع الوحي محور التقابل بين الأنا والآخر الغربي.
والواقع
أن هذا التقابل قائم في محور أقوى من كل ما دار حوله فيلسوفنا؛ ذلك أن الوحي/الدين
السماوي نبت من بيئة الشرق … أو هبط عليها … تعبيرًا عنها وسدًّا لاحتياجها وكمالًا لها،
بينما الدين بالنسبة للآخر الغربي أيديولوجية مستوردة إن جاز التعبير، جاءها من بيئة
أخرى
مستجيبًا لظروف أخرى. فكان من الطبيعي أن تمثل فترة العصور الوسطى الدينية فاصلًا غريبًا
في
الحضارة الغربية، وأن تنقطع عنه في عصر النهضة، وتعود إلى مصدرها الإغريقي. ولن يمانع
فيلسوفنا في اعتبار أثر المصدر اليهودي/المسيحي على الواقع الغربي الآن في صورة «رد
الفعل» والرفض الذي يغذي عداءهم للشرق.
لماذا لا يلتفت حنفي لهذا؟ إنه يركز — غير آبهٍ بخطورة المردود على الواقع المصري
— على
هشاشة الموروث التاريخي للمسيحية ذاتها، وعدم ثبوته أمام النقد. هل يُغفر له أنه لا يعنيه
إلا التقابل مع الغرب الاستعماري المسيطر ليجعل من هذا إيذانًا بانتقال دورة الحضارة
إلى
الأنا، إلينا جميعًا مسلمين ومسيحيين؟ فتلك الهشاشة هي ما جعل العقل الأوروبي غير قادر
على
توجيه نفسه نحو مركز، وهي ما جعله حائرًا متذبذبًا، تطورًا بلا بناء، متجهًا نحو أفول
ونهاية حتمية. يسير حنفي بهذا إلى آخر المدى، يستغله أيَّما استغلال في جدل الأنا والآخر
الذي طرحه
٩ … فيجعل القرآن أساسًا لنقد الكتب المقدسة السابقة، وذلك لثبوته، ولأنه يمثل
اكتمالًا للأديان وتحقيقًا لغايتها، مما يجعل حضارة الإسلام هي الوريث الطبيعي لفلسفة
التنوير التي كان نقد الكتب المقدسة من روافدها الهامة، وعلى الرغم من أن الغرب — والشرق
الأقصى أيضًا — تجاوز مرحلة التنوير بقرنين أو بعصرين أو مرحلتين، فضلًا عن أن مرحلتنا
الراهنة في القرن الحادي والعشرين … مرحلة ما بعد الحداثة قد تجاوزتها، وشهدت ما أسمتْه
ساندرا هاردنج ما بعد الوضعية وما بعد التنويرية،
١٠ وما أسماه هابرماس ما بعد العلمانية … على الرغم من كل هذه المتغيرات والتطورات
… يصر حنفي على أن تلك المرحلة الحداثية التي كانت في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر
هي
المرحلة التي سترثها نهضتنا المعاصرة! مستندًا في هذا إلى نقد الإنجيل وعلمانية ديننا
والعقلانية مع المعتزلة … إلى آخر المسوغات التي تتواتر في أكثر من موضع من كتابات
فيلسوفنا الغزيرة.