الفصل الثالث
الوحي والواقع
مهما يكن أمر الحداثة، وما بعدها أو ما قبلها، فيمكننا الآن أن نتفهَّم قول فيلسوفنا:
«أهم
ما يميزنا كأمَّة، سواء إذا كنا مجتمعًا حاليًّا أو حضارة سابقة، هو أننا قد تلقينا «وحيًا»
يمتاز على الأقل بخصائص ثلاث: أنه آخر مرحلة من تطور الوحي في التاريخ ابتداءً من آدم
حتى
محمد، وبذلك يكون لدينا الوحي مكتملًا في صورته النهائية، يمكن أخذه كأصل للشرائع، ودون
انتظار تغيير أو تبديل أو نسخ. ثانيًا: أنه محفوظ كتابةً بين دفتَي القرآن، وبذلك آمنٌ
خطورةَ
التحريف التي انتابت الكتب المقدسة الأخرى من إنجيل وتوراة عند بني إسرائيل، أي إنه ليس
وحيًا معطًى، ولكنه وحي مُنادًى به اقتضته أحوال الناس واحتياجاتهم، تأتي كل آية كَحلٍّ
لموقف، ثم تُجمع الآيات على مدى ثلاثة وعشرين عامًا وتصبح القرآن، فأهم ما يميزنا عن
الأمم
والحضارة الأخرى هو هذا القرآن.»
١
وأهم ما يلفتنا إليه هذا الاقتباس كيف أن الوحي مُنادًى به، لم ينزل دفعة واحدة،
بل
منجَّمًا، هو تواتر من حلول لمشكلات واجهت الفرد الجماعة. وذلك قريب مما أسماه أمين الخولي
«وثيق اتصال القرآن بالحياة الإنسانية»،
٢ وكان أساسًا قامت عليه مدرسته في التفسير الأدبي للقرآن موضوعًا موضوعًا لا
سورةً سورة، أو آيةً آية؛ مما يمثل نقضًا للتفسير الحرفي الجامد. هذا النقض تسير فيه
ركاب
مشروع «التراث والتجديد» إلى مراسٍ أبعد.
غير أن حنفي ركز تركيزًا على «أسباب النزول» و«الناسخ والمنسوخ» لتبيان العلاقة الحركية
المستمرة بين النص والواقع، وجوده في الزمان وتناميه مع التاريخ. إن الواقع أساس الوحي.
و«أسباب النزول» عند الأقدمين هي معرفة الأصل لقياس الفرع عليه، ولكن هذا الأصل الذي
هو
الواقع يعني «في الحقيقة أسبقية الواقع على الفكر ومناداته له».
٣ أما الناسخ والمنسوخ، فيدل على أن الفكر يتجدد طبقًا لقدرات الواقع وبناءً على
متطلباته. وهذه كما يقول حنفي: «عملية جدلية بين الفكر والواقع، الواقع ينادي على الفكر
ويطلبه، الفكر يأتي مطورًا للواقع ويوجهه نحو كماله الطبيعي، ثم يعود الواقع فينادي فكرًا
أدق وأحكم، حتى يتحقق الفكر ذاته ويصبح واقعًا مثاليًّا، يجد فيه الواقع كماله الطبيعي»
(مج٢، ٥٠٤). وها هنا مفتاح التجديد وإمكانيته؛ فهذه العلاقة بين النص القرآني — وبالطبع
الأحاديث الشريفة أيضًا — وبين الواقع، جعلت النص — وبالتالي العلوم التراثية — ينشأ
من قلب
الواقع وينمو في أعطافه، فتكون إعادة بنائنا لتراثنا من قلب مستجدات واقعنا، طبقًا
لاحتياجاته، وتحقيقًا لمصالحه.
ركز حنفي على «أسباب النزول» «والناسخ والمنسوخ» لتبيان التفاعل بين الوحي والواقع،
لم
يلتفت لأهمية «المكي والمدني». والحق أنه إذا كان علم أسباب النزول يكشف عن تفاصيل هذا
التفاعل، فإن علم المكي والمدني يكشف عن «ملامحه العامة».
٤ وتمثل الفروق الدلالية والمضمونية والتركيبية بين المكي والمدني أقوى وأبلغ
الشواهد على عمق التفاعل بين الواقع والوحي، ودور هذا التفاعل في النص القرآني. ومن الوقائع
شديدة الدلالة على هذا أن الآيات المكية تميل إلى إقرار الحرية أو الاختيار، حيث كان
التحريض والتثوير هو المطلوب، والحرية والثورة قرينتَين، بينما تميل الآيات المدنية إلى
جانب
الجبر، حيث لم تعد الحرية/الثورة من المهام المنوطة بالوحي، بل العكس؛ فدور الوحي المدني
كان في تأسيس وإرساء الوعي الجديد والنظام الجديد. وثَمة أيضًا التفرقة بين «التشريعات
العامة» التي ترسخ الوعي بالنظام الجديد، وبين التشريع الموقوت، كقانون الأخوة بين
المهاجرين والأنصار، قام ما دامت الحاجة إليه قائمة، ثم نُسخ فيما بعد اعترافًا بالتغير
والتطور.
٥
استمرارية هذا التفاعل مع الواقع وتواصليته في كل العصور، إنما تسوغها وتعضدها قواعد
تجديد علم أصول الفقه «المأخوذة من منطق اللغة»،
٦ حيث نجد الحقيقة والمجاز،
٧ … الظاهر والمئوَّل … المحكَم والمتشابِه … الواضح والخفي … المبيَّن والمجمَل … الأصل
والفرع … الخاص والعام … المقيَّد والمطلَق …
الشق الأول من كل زوجين، الحقيقة والظاهر والمحكوم والواضح والمبين والأصل والخاص
والمقيد،
هو الثابت التراثي ذو المعنى الواحد المحدد. أما الشق الثاني فهو المتغير الذي يفتح المجال
للاجتهاد والفعل الإنساني والتجديد. في المجاز والمئول والمتشابه والمجمل والعام والمطلق
…
النص يعطي معانيَ عديدة، متغيرات أو بدائل، فيفسح المجال أمام العقل البشري لاختيار إحداها،
وفقًا لاحتياجات الأمة وتحقيقًا لمصالحها.
إننا نستقرئ من أعمال حنفي ثلاثة مسوِّغات لتجديد علم الكلام؛ أولًا: أسباب النزول.
وثانيًا: في الناسخ والمنسوخ. أما ثالثًا: فختم النبوة الذي لا يعني توقف التاريخ والتطور،
بل يعني اكتمال الوعي الإنساني واستقلال الإرادة والعقل، وتستمر النبوة في العلم، فالعلماء
هم ورثة الأنبياء، وفي إعمال العقل، والاجتهاد والنظر والدراية والاستدلال.
٨ منهج العقل إذن هو التطور الطبيعي للنبوة، واستمرارها هو القدرة على تحويل
الوحي إلى سلوك ونظام … إلى حضارة، فالعقل مُنشئ الحضارة، ولكن العقل دون نص أو تجربة
أو
واقع ينتهي إلى تأمل خالص، وصورية فارغة، والنص دون عقل ودون واقع ينتهي إلى ثبوت وجمود
ضد
الحضارة، ومشروع «التراث والتجديد» قائم على النص أو «الوحي» والعقل والواقع، إنها المقومات
الثلاثة في نظرية المعرفة، والعلاقة بينها تحددها تلك المسوغات الثلاثة للتجديد، فنخرج
بالفهم المقاصدي للوحي أو الشرع.
الشريعة لم توجد إلا بقصد حفظ مصالح المسلمين في الدنيا والدين. ونذكر في هذا الإمام
الشاطبي الذي أرسى في القرن الثامن الهجري علم مقاصد الشريعة في كتابه الموافقات في أصول
الشريعة، وقد اهتم بهذا الكتاب محمد عبده، وكان ينصح تلاميذه بدراسته.
٩ الفهم المقاصدي يعني رفض المنهج الجامد والتفسير الحَرفي للقرآن، فالأسبقية
للواقع، والعقل أساس النص كما ذهب المعتزلة، وإن كان مشروع «التراث أو التجديد» سيذهب
أبعد
كثيرًا كثيرًا مما ذهبوا.
ويبقى القرآن دائمًا نقطة الارتكاز الأولى، على أساسه نشأت كل مكونات التراث الإسلامي،
منها علم الكلام القديم … وأيضًا الجديد.