الفصل الرابع
أنسَنة الكلام
ألا إن النقلة المحورية في علم الكلام الجديد لَتتمركز فيما يمكن أن نسميه «أنسَنة»
هذا
العلم.
فقد غاب عنا الإنسان المتعين بموقفه وصراعه في تاريخه، ومهمتنا «اكتشاف الإنسان الغائب
من
تراثنا القديم، الممحو في وجداننا المعاصر. الإنسان كامن في تراثنا لكنه مغطًّى ومستور،
وعصرنا الحالي هو عصر الإنسان. وبالتالي تكون مهمة عصرنا إبراز المستور والكشف عن الإنسان،
وتلك هي مهمة «التراث والتجديد» في أولى محاولاته لإعادة بناء علم أصول الدين (= علم
الكلام) على أنه علم الإنسان».
١
ربما غاب الإنسان عن فكر الأقدمين وكلامهم، إلا أنه كان حاضرًا في واقعهم وفي فعلهم،
كان
الإنسان قديمًا هو حامل الوحي وفاتح البلاد وصانع الحضارة والفيلسوف والعالم. تبدلت الأوضاع
بعد انقضاء السبعمائة الأولى، وبقي لنا منها تراث أغفل التنظير للإنسان من حيث هو في
تاريخه، لا سيما بعد سيادة الأشعرية في هذا التراث الباقي، وقد ساهمت في تكريس غياب الإنسان
و«أعطت الأولوية لله في الفعل وفي الحكم وفي العلم».
٢
وانقسمت الفلسفة إلى منطق وطبيعيات وإلهيات. ولم يَعرف التصوفُ الإنسانَ إلا من حيث
هو
ذوق وعاطفة وقلب، ذاتية محضة ينتهي بها المطاف إلى الفناء في الله. ولئن كانت الشريعة
تقصد
الإنسان أو وُجدت من أجله، فإن الإنسان في وعينا الشعبي هو الذي يقصد الشريعة التي وُضعت
من
أجل صلاحه، وكأنه هو الذي وُجد من أجلها.
٣ إذن ليس بدعًا أن ينقطع التوحيد عن الإنسان، ويرتد في علم الكلام القديم إلى
مشكلة الذات والصفات، حتى قيل إنه علم أصول الدين أو علم التوحيد أو الفقه الأكبر … أو
علم
الذات والصفات.
يتمادى حسن حنفي في إدانة علم الكلام والتراث القديم، لغياب الإنسان منه. ويبدو لي
أنه
يتجنى على التراث ويحمِّله ما لا يطيق، فتصورُ الإنسان المتعين في موقفه التاريخي، والذي
يبحث عنه حنفي لم يتخلق إلا في العصور الحديثة، مع تخلق مفهوم الحداثة ذاته، ولا مندوحة
عن
الاعتراف بأن الحقبة البرجوازية من التاريخ الأوروبي هي التي قدمت مفهوم الإنسان الفرد
المتعين وفرضته بقوة على مسرح الفكر الفلسفي، إن لم تنطْ به دور البطولة. وواصل المفهوم
نماءه حتى فجر الثورة الفرنسية. أما مع الثورة الصناعية فقد تطور في الفكر الاشتراكي
ليصبح
الإنسان المتعين في موقفه التاريخي وصراعه الطبقي، وطبعًا عبر معبر متين، هو التنوير
الذي
صقل مفهوم الإنسان الفرد وقواه العاقلة، إلى أن انطلقت به العلوم الإنسانية، فضلًا عن
الانطلاقة المضادة المعروفة في الفلسفات الرومانتيكية التي تحطم أطر القوانين العلمية
وقوالب المذهبية، إمعانًا في تأكيد الإنسان الفرد الفريد.
والآن ما معنى الحديث عن أن الإنسان لم يتبلور كمقولة محورية في تراثنا سوى أنه لم
يتحول
إلى مركز ومبتدأ ومنتهًى على غرار ما حدث في الحضارة الأوروبية؟ يبدو حنفي هنا وهو يريد
أن
يحذو حذوهم باعًا بباع، وذراعًا بذراع، وبينما تحذرنا فاتحة كتاب «مقدمة في علم الاستغراب»
من مثل هذا الحذو، نراه يريدنا أن نستبدل المركزية الإنسانية بالمركزية الإلهية تمامًا
مثلما فعلوا، ويستبد به الحماس، وكأن العالم لن يتسع للإنسان إلا بهذا. وإذا كان عالم
الغرب
قد ضاق حول الإنسان حتى أصبح خانقًا. فلماذا لا يتسع عالمنا لله وللإنسان معًا ليكون
أكثر
اتساعًا ودفئًا، بل وأكثر إنسانية؟ أجل، نريد إثبات الإنسان وتجاوز غيابه، لكن لا داعيَ
للتطرف في هذا والانتهاء إلى الإنسان فقط. من ناحية أخرى، يصعب الخوض في ترديات الحضارة
الغربية من جراء انكبابها المحموم على محور الإنسان الفرد … ليكون حنفي في غمار تحمسه
المشبوب لإعادة بناء إيجابيات الغرب بوصفها نابعة من الإسلام، إنما يستورد أيضًا سلبيات
الغرب!
على أنه قبل الحِقبة البرجوازية، غاب الإنسان ليس فقط عن التراث الإسلامي كما يرى
فيلسوفنا،
بل غاب من كل تراث قديم سواء إسلامي أو لا إسلامي، ومثلما غاب بين طبيعيات الإسلاميين
وإلهياتهم، تاه في مدينة الله لأوغسطين، وفي سائر المدن التي عاش فيها أو نظر لها خلفاؤه
من
فلاسفة المسيحية، وقبلًا ضاع بين المُثل الأفلاطونية وجدلها الصاعد والهابط، وبين الجوهر
الأرسطي وعِلَله الأربع … إلخ.
وأرسطو هو الذي أسقط التاريخ من تصنيفه للعلوم، لأنه مجال التغير والإمكان، وعالم
العلم
مجاله الضروري فقط، هذا رغم أن اليونان شهدت مؤرخين عظامًا، «وتبعهم الإسلاميون حين اقتدوا
بتصنيفه للعلوم، فأسقطوا هم أيضًا التاريخ».
٤ أيضًا رغم أن الإسلاميين شهدوا مؤرخين عظامًا تجاوزوا تأريخ الأحداث إلى تأريخ
الشعر وطبقات الشعراء والمِلل والنِّحل … وها هنا يتقدم ابن خلدون الذي أحدث قطيعة معرفية
في الفكر القديم بأَسره، حين اهتم في شبابه بأرسطو وبابن رشد، لكنه خرج عن هذا أو قطعه،
وقال إن «تبدل الأحوال» ليس من قبيل العوارض، بل يخضع لقانون ثابت هو «قانون العمران»
الذي
يؤسس علمًا حقيقيًّا.
على أننا لا نبحث في — أو عن — التاريخ من حيث هو علم، بل من حيث هو فاعلية ومجال
الإنسان، الذي يجعل عالمه مُختلفًا عن عالم الحيوان، من حيث هو صيرورة الحضارات وسيرورة
الثقافات، التغير هو الذي جعل الإنسان الكائن الوحيد الذي صنع التاريخ وتراكماته، فكان
الوحيد الذي يعيش معنى الزمان فيعرف التقدم والصعود واختلاف اليوم عن الأمس.
ومع استمرار تراثنا فينا وبنا، وبغياب الإنسان ذي التاريخ منه، غاب مفهوم التقدم
من وعينا
القومي، بل قام هذا الوعي على مفهوم «القهقرى»؛ أي التقدم بالرجوع إلى الوراء … إلى عصر
ولَّى وفات.
٥ لن ندرك التقدم أو يصبح نسيجًا في وعينا القومي إلا إذا حوَّلنا بؤرة حضارتنا من
الإلهيات إلى الإنسانيات، وأصبح الإنسان والتاريخ ثورة في وعينا ومحورًا للكون ومركز
تصورنا
للعالم.
يقول حنفي: «كان التوحيد قديمًا علمًا لله مع أنه في الحقيقة علم للإنسان، وبالتالي
يكون
موضوع العلم الإلهي هو الإنسان.»
٦ فقد كان الوحي — الكلام — مقصدًا نازلًا حول موضوعه: الإنسان. وبدلًا من أن
يتطابق العلم مع قصد الله وموضوعه وكلامه، ويتجه نحو الإنسان وتطوير واقعه، عارض هذا
المقصد
واتجه نحو الله بحركة عكسية مضادة، بعد أن شخَّص الألوهية، وكرَّس الكلام لتثبيت هذا
التشخيص الذي سلب عن الإنسان ماهيته ليتركه مغتربًا، وعلى علم الكلام الجديد أن يعدل
الوضع
المقلوب ويكون أنثربولوجيًّا وليس ثيولوجيًّا؛ أي علمًا إنسانيًّا وليس علمًا إلهيًّا
(مج٢، ٦٠٧-٦٠٨).
بأنسنة العلم يكون تصحيحه وأداؤه دوره، والقضاء على اغتراب الإنسان.
هكذا يكون الإنسان وتاريخه محور الارتكاز والمفهوم الأساسي في علم الكلام الجديد،
والهدف
إثبات حضوره، كتجاوز لغيابه من علم الكلام القديم.