على الفور يبرز أمامنا الآن لودفيج فيورباخ L. Feuerbach
(١٨٠٤–١٨٧٢م) ويفرض نفسه علينا، لنجد الموضوع وقد تحدد بمعالم فلسفته. وفيلسوفنا حنفي
الذي
يصرُّ إصرارًا يكاد يكون هزليًّا على نفي الأصول والعناصر والمناهج — ولن نقول التوجهات
—
الغربية لفلسفته، يحلو له أيضًا الاعتراف بأنه «فيورباخي»،١ مثلما هو فينومينولوجي وهيجلي وماركسي … وهو بالفعل هكذا جميعه معًا. وفيما
يختص بعلم الكلام، نجده يكاد يكون فيورباخيًّا أولًا وأخيرًا، لخَّص مهمته في نقل
الفيورباخية من اللاهوت المسيحي إلى الكلام الذي هو اللاهوت الإسلامي.
فقد قامت فلسفة فيورباخ من أجل الكشف عن الاغتراب الديني والقضاء عليه؛ بجلو جوهر
المسيحية في أن الإنسان هو الله، والله هو الإنسان. سر اللوجوس الإلهي هو الماهية الإنسانية،
الدين هو علاقة الإنسان بماهيته الخاصة، وإذا كان الاغتراب هو انقلاب الأنا إلى آخر؛
فإن
هذا الانقلاب يحدث أساسًا في تحول الإنسان إلى الله، بعد أن يقذف بنفسه خارجها، ويشخصها
في
صورة آخر يؤلهه ويعبده. الصفات الإلهية في جوهرها صفات إنسانية، وبالتالي الذات أيضًا
إنسانية؛ الله هو الإنسان المغترب عن ذاته، الإنسان هو الله بعد أن يستعيد صفاته التي
خلعها
عليه، بعد أن يعود إلى عالمه العيني، اغتراب الأنا كما أوضح فشته
Fischte (١٧٦٢–١٨١٤م) هو خلقها لعالم موهوم مجرد لا حياة
فيه ولا صراع، فكان الاغتراب الديني تضحية بالعياني في سبيل المجرد وقضاءً على الإنسان
في
سبيل الآخر الذي تم خلقه وهمًا وخداعًا، التفكير في الله اغتراب عن التفكير في الإنسان،
وعالم الدين اغتراب عن عالم البشر، وعالم اللاهوت مغترب عن عالم الناسوت، لذلك يستعمل
فيورباخ اللاهوت باعتباره مرضًا نفسيًّا، يعبر عن اهتزاز شعوري وهلوسة واضطراب.
ومن أجل القضاء على هذا يعمد أولًا إلى إرجاع النصوص الدينية إلى الواقعة الإنسانية
تمهيدًا لتحويل ثيولوجيا الدين/الماهية الزائفة إلى أنثروبولوجيا الدين/الماهية
الحقيقية. وجود الإنسان هو عين ماهيته، والوعي يجعل ماهية الإنسان هي عين موضوعه، الوعي
بالله هو وعي الإنسان بذاته. الإنسان هو الأنا والآخر، الذات والموضوع. ولما كان الدين
هو
الوعي باللانهائي، فإن وعي الإنسان بماهيته يكون لا نهائيًّا دون أن يكون وعيًا بموجود
لا
نهائي. هكذا يقوم فيورباخ بأنسنة اللاهوت وإعادته إلى الموقف الإنساني ليقضي على اغتراب
الإنسان، وقذفه نفسه خارجها ليؤلهها.
وعلى خطوط موازية، سيقوم حنفي بأنسنة علم الكلام متذرعًا بأن هذا هو ما حاوله الإسلام
قبل
فيورباخ بثلاثة عشر قرنًا، «كانت الحضارة الغربية كلها منذ الإصلاح الديني وعصر النهضة،
حتى
فيورباخ والهيجليين الشُّبان،٢ ما هي إلا محاولة للاقتراب من إنسانية الإسلام وواقعيته ورفضه للكهنوت
والأسرار، وتأكيده للعقل والوحي».٣
هل حقًّا هذا هو عين ما حاوله الإسلام؟ يستحيل التملص من توقف معارض هنا.
لعل فيورباخ له الحق في مثل هذا الانشغال بالاغتراب الديني، لأن الدين السماوي المؤله
—
كما ذكرت — غريب فعلًا عن الحضارة الغربية، أتى لها من بيئة أخرى وحضارة أخرى؛ لذلك فإن
فيورباخ يعبر عن اتجاه عام متأصل في الفكر الغربي، يمكن أن نتلمسه منذ طاليس أول الفلاسفة
الذي أنكر هو وفريق من زملائه الطبيعيين القبل سقراطيين فكرةَ الألوهية، وأفلاطون الذي
رأى
الإله مجرد صانع، وأرسطو الذي حوَّله إلى مبدأ عقلي صوري مُصمَت، ثم أبيقور الذي جعله
يدير ظهره
للعالم تحريرًا للبشر من القهر والخوف. وحين أغلقت العصور الوسطى — الفاصل الغريب — أبوابها
تمامًا، انفسحت الحلبة للمقابلة الغربية بين الله والإنسان، وأنه لا سبيل إلى الأخير
إلا
بقهر الأول، فتصاعدت في القرن الثامن عشر نزعات الإلحاد مع بايل
Bayle (١٦٤٧–١٧٠٦م) وفونتنيل
Fontenelle (١٦٥٧–١٧٥٧م) لتؤكد أن الدين مجرد منتج صناعي
هدفَ به رجال الدين السيطرة على البشر.
ثم جاء القرن التاسع عشر بفيورباخ ورفاقه الهيجليين الشبان اليساريين، ليضعوا على
عاتقهم
مهمة مقدسة هي تحرير البشر من ربقة الألوهية والخرافة الدينية نشدانًا للإنسان الذي مسخته
التجربة الدينية، فيسترد المزايا والصفات والحيثيات التي خلعها زورًا وبهتانًا على
الألوهية. حاول كلٌّ من الهيجليين الشبان تحقيق هذا بطريقته، بخلاف فيورباخ حقَّقها ماكس
شتيرنر
بتأكيد ذات الفرد الواحد الأحد الذي يسحق الدولة والمجتمع والأسرة وكل شيء ومن قبل ومن
بعدُ
الدين، وكأنه يرفع شعار «لا إله إلا أنا».٤ ويحققه برونو باور باكتشاف الوعي الجمعي كماهية للدين، وشتراوس باكتشاف
الأسطورة أساسًا للدين، ويأتي دور كارل ماركس الشاب ثم الفيلسوف، وهو الدور المعروف جيدًا.
وأسفر هذا عن إعلان نيتشه الشهير «الله مات»، وهو — كما لاحظ زكريا إبراهيم — ردد كثيرًا
من
أفكار شتيرنر ترديدًا حرفيًّا، ونيتشه بدوره يقف وراء الانتشار الواسع للوجودية الملحدة
في
القرن العشرين. هذا بخلاف امتداد تأثير برونو باور على دوركايم، وتفسيره الشهير للدين
كمحض
منتج للعقل الجمعي وتسليم علم الاجتماع الغربي بهذا، ثم ظهور علم الاجتماع الديني.
وعلى الرغم من جهاد الهيجليين الشبان الضاري والمظفر، لم يحط الفكر الغربي الراية،
وواصل في
القرن العشرين حربه الضروس ضد الألوهية، وكأنه لم يسترد الإنسان بعد. يتجلى هذا بصورة
خاصة
في محاولات تجديد التناول الماركسي للدين، منذ روزا لوكسمبورج حتى إرنست بلوخ، مرورًا
بماكس
هوركهايمر في كتابه «عقيدة المسيح» ١٩٣٠م، ولوسيان جولدمان في كتابه «الرب المحتجب» ١٩٥٥م،
وجمع آخر غفير من فلاسفة الغرب، نظروا إلى الدين من نفس منظور فيورباخ: نتيجة للاغتراب،
وضع
مقلوب، استلاب لذات الإنسان، خروجًا من واقع محبط، سجل رغبات وأشواق واحتجاجات عاجزة
… إلخ.
والموقف الحقيقي للإنسان هو الإلحاد. ولم يتوانَ إرنست بلوخ في تأكيد أن المسيحي الحقيقي
هو
الملحد، والملحد هو فقط الذي يستطيع أن يكون مسيحيًّا حقيقيًّا. فلو أن الحضارة الغربية
تتسع للألوهية لما تأزَّم إنسانها المعاصر هكذا، وبعد كل ما أحرزه من مجدٍ طبق الخافقين،
في
الأرض … وفي السماء أو الفضاء.
في هذه الملحمة، لا شك أن فيورباخ يلعب دورًا من أدوار البطولة، ولكن لماذا يحذو حنفي
حذوه، ويستنُّ سننه باعًا بباع وذراعًا بذراع وشبرًا بشبر، حتى إذا دخل جُحر ضبٍّ دخله
وراءه؟!
وعبر صفحات من «من العقيدة إلى الثورة» تعلو حدة الصراع مع المفهوم التقليدي المشخص المفارق
للألوهية إلى درجة تثير الدهشة، وكأن العلاقة بين الله والإنسان لا تتخذ إلا تلك الصورة
العدائية الانفصالية «إما … أو»؛ فحنفي لا يرى في الألوهية المفارقة إلا ما تراه العيون
الغربية التي تشبه عيون الثعابين، وعبَّر عنه فيورباخ: قوة القهر والاستلاب والاغتراب
… ولا
يرى حنفي أبدًا في الألوهية ما تراه العيون المشرقية الحوراء: قوة التأييد الدافعة للبذل
والعطاء والإيثار والتضحية والشهادة. فلا يرى في أسماء الله الحسنى ما رآه جمهور الفقهاء
وعُني بتبيانه الإمام الغزالي: مُثل عليا كي نتبارى في التحلي بها … بل رآها الذات المسلوبة
والأحشاء المبقورة والأنا المسحوقة والإنسانية المنهوبة … هكذا!
وحينما يسرف حنفي في انشغاله بالاغتراب الديني الفيورباخي، ويُطنب في الحديث عن قهره،
يكاد
حديثه يبدو بلا معنًى في بيئة مشرقية على العموم ومِصرية على الخصوص، والدين — فيما يقال
—
اختراع مصري، ها هنا خصوصيتنا الأيديولوجية وعالمنا المختلف، لماذا يجدُّ حنفي في إلغائه؟
لماذا لا يتسع مشروعنا الحضاري لله والإنسان معًا. كان يكفي الصراع مع غياب الإنسان
والتاريخ من وعينا، مع تراثنا الذي اجتهد في تدمير الطبيعة وتحقير شأنها متوهمًا أنه
يفعل
هذا لحساب الله، لكنها أرض الفلسفة الرجراجة التي تغري بالانزلاق والجنوح إلى الموقف
الحدي
… إلى آخر المدى … إلى حيث سبق أن ذهب فيورباخ.
لا يُعَد فيورباخ من عماليق الفلسفة الغربية أو الرواد فيها، مع هذا تبدو فلسفته بأَسرها
في ناظرَي حنفي وكأنها من أهم إيجابيات الغرب التي لا ينبغي التواني في إعادة بنائها
بوصفها
نابعة من الإسلام، مستعينًا بتصور ابن عربي للإنسان الكامل، فتتحول الفيورباخية — بقدرة
قادر — إلى أهم معابر انتقال دورة الحضارة من الغرب إلى الشرق.
تتوازى الخطوط مع الفيورباخية إلى خطوة أبعد، لكنها تبدو أكثر فاعلية، ولن تثير خلافًا.
ذلك أن أنسنة علم الكلام الجديد ليست في حد ذاتها هدفها أو غاية، بل هي وسيلة أو خطوة
نحو
تحويله إلى قوة تثوير، إلى أيديولوجيا تعمل على تنهيض الجماهير، الغاية هي أدلجة العلم
وتسييسه. وإذا كان علم الكلام القديم حاول إخراج الفكر العلمي من ثنايا الفكر الديني،
فإن
علم الكلام الجديد يحاول إخراج الفكر العلمي الاجتماعي من ثنايا الفكر الديني العلمي
(مج١، ٥٢٦-٥٢٧) ليسير الفكر من: الديني الديني العلمي العلمي الاجتماعي بمعنى الأيديولوجي. إن
فيلسوفنا يؤدلج كل شيء، فما بالنا بالاجتماعي؟!
وفي هذا نجد فيورباخ قام بأنسنة اللاهوت والقضاء على الاغتراب ليعيد اكتشاف الله كنشاط
وفاعلية في العالم، بمعنًى لا ينفصل عن الأيديولوجية. فكيف كان هذا؟
نلاحظ أن هيجل في كتاباته اللاهوتية الأولى التي تعرَّضت بالنقد للمسيحية التاريخية،
قدَّم
ما يمكن اعتباره أولى معالجات الاغتراب الديني، وقد استفاد منها فيورباخ بعد أن نقل مفهوم
الاغتراب الديني كما رأينا إلى مضمون واقعي محسوس؛ فلم يعد ميتافيزيقيًّا عائدًا إلى
الخطيئة الأولى، أي لم يعد سمة مميزة للوجود الإنساني في العالم بما هو كذلك، بل أصبح
الاغتراب الديني مع فيورباخ مرتبطًا بالمصير والصراع بين الأفراد والسلطة، وهذا يجعل
الدين
قوة ثقافية، ذات مظاهر اجتماعية أنثربولوجية، لمواجهة التسلط والقمع وعدم تحقق الفاعلية
الإنسانية٥ باختصار أيديولوجيا تثويرية.
١
حنفي، دراسات فلسفية، ص٤٠٣. كان من الضروري أن نعتمد في هذه الفقرة بالذات على
دراسة حسن حنفي المنشورة في هذا الكتاب: «الاغتراب الديني عند فيورباخ»، ص٤٠٠–٤٤٥.
بل حاولت قدر الإمكان الاعتماد على نفس ألفاظ وتعبيرات حنفي.
٢
من الأعمال المتأخرة التي لحقت بإسهام حنفي، بعد اكتمال مشروع التراث والتجديد
بظهور نظرية التفسير، لتمثل بُعدًا متممًا، كان يلح دائمًا على ذهن فيلسوفنا، انظر
د. حسن حنفي، هيجل والهيجليون الشبان، منشورات الجمعية الفلسفية المصرية،
القاهرة، ٢٠١٨م.
٤
د. زكريا إبراهيم، مشكلة الإنسان، مكتبة مصر، القاهرة، د. ت. ص١٩٢.
٥
د. رمضان بسطاويسي، الاغتراب الديني وثقافة المؤسسات، في: قضايا فكرية، الأصولية
الإسلامية في عصرنا، الكتاب الثالث والرابع عشر، القاهرة، أكتوبر ١٩٩٣م، ص٦٧.