الدين: الظاهرة والشعور
هذه الأيديولوجيا التثويرية مبتدؤها أنسنة علم الكلام الجديد، وفي هذا كان الإنسان دائمًا — قبل فيورباخ وبعده — هو أساس كل وجود ومعامل فهمه، والوحي القرآني ذاته أصبح علمًا إنسانيًّا بمجرد كتاباته وقراءاته. وقد تحول إلى علوم إنسانية خالصة، مثل علوم اللغة وعلم التفسير وعلم القراءات … وعلوم أخرى فرعية متضمنة في علوم القرآن، مثل علم أسباب النزول، وعلم الناسخ والمنسوخ، وعلم المكي والمدني، وعلم المحكم والمتشابه، وعلم مناسبة الآيات والسور … الواقع أننا بشر، وكل ما نعلمه هو علم إنساني. قدراتنا لا تسمح بما ادَّعاه القدماء من «علم إلهي» يزعم إصدار أحكام بشأن ذات الله وصفاته وعلاقته بالعالم، إننا لا نعلم إلا علمًا واحدًا، هو العلم الإنساني الذي ينشأ في الشعور، يحلله العقل ويصدِّقه الواقع (مج١، ١٧٨–٢٧٧).
ومن أجل أنسنة علم الكلام يتجه حسن حنفي إلى دراسة فلسفية تحليلية للإنسان من حيث هو مُنتمٍ لحضارة الإسلام، بتحليل أبعاد تكوينه الثقافي المتميز، ووصف وجوده الحضاري المتعين، وذلك عن طريق التعامل مع الأبنية النفسية التي تحركه، تحرك الجماهير وتعطيها تصوراتها للعالم وتمثل موجهات سلوكها.
وهو يصطنع في هذا أداة فعالة هي الفينومينولوجيا أو فلسفة الظاهرات، فيما أسماه بالمنهج الشعوري، الذي ينصب على تحليل الخبرات الشعورية المستقاة من الوحي، بوصفه نقطة الارتكاز الأولية المعطاة للشعور.
لذلك يُصر حنفي على فعالية هذا المنهج في تركيب المشروع برُمَّته، وإعادة بناء تراثنا القديم بأَسره، وليس علم الكلام فقط، وهذا الأخير مثلما تطور من مرحلة الحجة النقلية إلى مرحلة الحجة العقلية، يمكن أن يتطور الآن — في علم الكلام الجديد — إلى مرحلة التحليل الشعوري، إنه شعورنا نحن، وعيُنا نحن المنتسبين إليه، وتطوير العلم ليبلغ مرحلتنا الحضارية حق لنا، وواجب علينا، فيما يؤكد فيلسوفنا.
المنهج الفينومينولوجي بهذا يفتح البوابة لتجديد علم الكلام، ولأنسنته المبتغاة، فكان تقويس علم الكلام القديم، وتحليل قضاياه — عبر المجلدات الخمسة المسهبة — لردها إلى خبرات القدامى الشعورية والاجتماعية، تمهيدًا لأن يُستبدل بها قضايا ذات مضامين جديدة مستقاة من خبرات هذا الجيل الشعورية، من الوعي المعاصر النازع نحو الإنسان، فكل الأبنية العقلية تعبير عن أوضاع شعورية واجتماعية. كانت أبنية القدامى تبريرات وصياغات لمشاعر التأليه، والعقل خادمٌ لها هادفٌ إلى إعطائها أساسًا نظريًّا لتكون الإلهيات إنسانيات مقلوبة. سوف يتبدل وضعها في علم الكلام الجديد، وتكون القضايا الإلهية الموجبة مجموع القيم من أجل تطبيقها عمليًّا، و«التوحيد العملي هو تحقيق الصفات الإلهية في حياة الأفراد والجماعات» (مج٢، ٦٦٠)؛ تحقيق العقيدة والرسالة في التاريخ.
ويُطل فيورباخ بتأثيره الطاغي على المشروع. وبدلًا من الاكتفاء بتمثيل الله لمُثلٍ عليا هي الأفق الإنساني المنشود، يقرُّ حنفي صراحةً بأن ذات الله صورة تشبيهية لوعي الإنسان بذاته، ومعرفة الله بالرجوع إلى هذا الوعي، واسترداد الإنسان لما خرج منه دفعًا أو قصرًا، ليعود إلى العالم ويقضي على اغترابه فيه (مج١، ٣٠٥). فهل من الضروري أن نشعر بهذا الاغتراب مع فيلسوفنا؟ وماذا نفعل إذا بحثنا عنه فلا نجده في ظاهر الشعور — الفردي والجمعي — أو في باطنه؟
المهم أن علم الكلام القديم، انطلق عن أصلين هما الإلهيات (= العقليات) والسمعيات (= النقليات) سيصبحان — كما اتفقنا — الإنسان والتاريخ.
الإلهيات ليست موضوعًا للمعرفة، وقد أشار القدماء إلى هذا حين قالوا: كل ما خطر على بالك، فالله خلاف ذلك. وفي المبحث العمدة: الذات والصفات، كان جوهر وصفهم للذات «الإلهية» هو وصف للوعي الخالص بالذات الإنسانية، وللصفات وصف للوعي المتعين، إنهما معًا وصف شعوري للإنسان الكامل الذي ينبغي أن يمثل خبرة الجيل بعقيدة التوحيد. وعلم الكلام الجديد يؤنسِن الصفات الإلهية السبع: العلم والقدرة والحياة السمع والبصر والكلام والإرادة. العلم هو العقل النظري، والإرادة هي العقل العلمي، الحياة هي الوجود الذي يظهر من العقلَين، أمَّا السمع والبصر فمدخلان تجريبيان للعلم، الكلام تعبير عنه؛ نزول إلى الآخرين واتصال بهم، والإرادة لتحقيق القدرة بالفعل.
لقد تساءل القدماء: هل الصفات في الله على الحقيقة، وفي الإنسان على المجاز؛ أم العكس؟ إجابة علم الكلام الجديد في العكس، أسماء الله صورة الإنسان الكامل لنفسه — كما أسهب ابن عربي — ولعالمه الطوباوي، لأعز أمانيه، للحلم الذي أجهضه واقع الهزيمة والقهر والتسلط؛ فتسود الأجواء حين تشعر الشعوب بالعجز عن أخذ حقوقها وتأكيد ذاتها. علم الكلام الشعوري يكشف عن الواقع والمثال. أسماء الله هي المِشجب الذي تُعلق عليه الأمة تاريخها سلبًا أو إيجابًا، طبقًا للموقف الشعوري. لذلك يريد حنفي أن يضع من أسماء الله: الحرية (محمد رسول الله = محمد رسول الحرية) تعبيرًا عن حاجتنا للتحرر، وسائر حاجاتنا المعاصرة التي يريدها جيلنا ويفرضها عليه واقعه؛ التقدم والعقل والطبيعة والوحدة والإنسان والتاريخ والمساواة والعدالة (مج٢، ٥٥٣). فهكذا القضاء على الاغتراب الديني والعودة إلى العالم والعمل فيه والبقاء عليه، إثباتًا وتحقيقًا لموضوعية المبادئ التي تعبر عنها الأسماء الحسنى، والتي تبلغ ذروتها في التوحيد/الإنسان الكامل. هذا عن أصل (التوحيد).
أمَّا عن أصل العدل، فمثلما يقبع الإنسان الكامل وراء التوحيد في نظرية الذات والصفات، يقبع الإنسان المتعين، وراء العدل في نظرية الأفعال (مج٣، ٥٩). في علم الكلام الجديد خلق الأفعال هو الحرية، التحسين والتقبيح هما العقل، لتنتهي الإلهيات إلى تحرير الشعور العاقل، وإعلان استقلال العقل وحرية الإرادة.
ثم ننتقل إلى السمعيات لتصبح هي التاريخ. الماضي والمستقبل هما التاريخ العام، تاريخ الوحي أو الفكر (مج٥، ٣٨٣)، النبوة هي الماضي، هي ما تم من تطور الوحي. المعاد والأخرويات والخلود هي المستقبل والسعي والإعداد له، المعاد تصوير فنيٌّ للمستقبل (مج٣، ٦٠٠)، الحساب والعقاب يعنيان أن العمل وحده مقياس التقييم، الخلود الذي يعنينا في الأرض (مج٣، ٥٩٩) هو في النهاية للحضارة وللتاريخ وللشعب صاحب الحضارة وصانع التاريخ (مج٣، ٦٠٧)، ثم ننتهي إلى الحاضر: التاريخ المتعين حيث يتحقق التاريخ العام. وها هنا مشكلة الإمامة، الموضوع الذي يربط بين علم الكلام أو التوحيد والفقه، بين العقيدة والشريعة، الإمامة أقرب إلى الأصول منها إلى الفروع، بل هي الأصول العملية، إذا كان التوحيد هو الأصول النظرية (مج٣، ١٦٣). الأسماء والأحكام هما النظر والعمل، أما الإمامة فهي الحكم والثورة. إن التوحيد هو البداية، والثورة في النهاية.
يُغْني هذا التشجير عن التفصيليات، لكن منطلقنا من مناهج البحث العلمي وفلسفة العلوم يفرض علينا أخذ «الطبيعة» كمثالٍ توضيحي: وضعها علم الكلام القديم — كما أبان فيلسوفنا — في مقولة الحادث دون القديم، والعرَض دون الجوهر، والممكن دون الواجب، ومن ثَم عشناها وهي خارجة عنا، لا تمثل أية أهمية، إذ كيف يهتم الإنسان بالحادث والعارض؟ وبالتالي لم نتحول إليها، ولم نحاول اكتشاف قوانينها، وأصبحت في وجداننا سلبًا مطلقًا، وتأتي الفلسفة الإسلامية لتجعل الطبيعة مكوَّنةً من مادة وصورة، الصورة أعلى من المادة؛ فذبحنا الطبيعة بأن فصلنا روحها عن بدنها، أو رأسها عن جسدها، وأدنا الأقل شرفًا/المادة، وعشقنا الأكثر كمالًا/الصورة؛ فلا الأدنى عشناه، ولا الأعلى حققناه.
يرى حنفي أننا كنا في هذا تاركين لمَواطن القوة في تراثنا. لقد ظهر المذهب الطبيعي مع فريق من المعتزلة الأولين، والأهم من أصحاب العلوم التجريبية الذين يُسمون بأصحاب الطبائع، رأوا الأعراض لا تنفك عن المادة، ودافعوا عن استقلال الطبيعة، وعن حق الإنسان في الحياة في عالم نظامي. وبعد محنة المعتزلة في القرن الثالث وهجوم الغزالي عليهم في القرن الخامس انزوى المذهب الطبيعي، ولم يتأصل في شعورنا حتى الآن.
هكذا يعمل المنهج الشعوري الفينومينولوجي على إعادة بناء الموروث في أبنيته النظرية، من أجل بث دماء الحياة في مواطن التقدم من تراثنا التي تحتاجها مرحلتنا الجارية الراهنة؛ فتتحرك الجماهير بفعل رصيدها، بفعل الصياغة العصرية لمخزونها النفسي، فيكون الانتقال من العقيدة إلى الثورة … ومن التراث إلى التحرر … من الأصالة إلى المعاصرة. إنه تحديث الأصالة وتأصيل الحداثة، فنخرج من متاهتها بالحرية والعقل والتطور والعقلانية … بالثورة يغدو التراث أساس رؤية مستقبلية، ويكون قادرًا على إقالة الحاضر من عثراته، والإعداد للمستقبل وتهيئة شروط التقدم، مما يجعلنا نقدم نموذجًا للنهضة يقوم على التواصل، على أكتاف التراث، كمقابل لنموذج النهضة الأوروبية القائمة على الانقطاع … القائمة على أنقاض التراث، وكمُوازٍ لنموذج النهضة اليابانية القائمة على التجاور بين الخصوصية أو الأصالة وبين المعاصرة.
والواقع أن هذا المنظور ينطوي على تمييع لمفهوم «القطيعة المعرفية» ولصالح خصوصيات الحضارة الغربية. وهذا عين ما حذَّر منه حنفي. لقد قام بقلب أوضاع المفهوم، وجعله ينطلق من فلسفة الحضارة إلى فلسفة العلم ليصبح «معيارًا معرفيًّا عامًّا»، في حين أن العكس هو الصحيح، فالمفهوم أصلًا مجرد معيار معرفي أو إبستمولوجي كما ينص منطوق المصطلح، وبالأخص معيار علمي، آلية من آليات العقل العلمي، ثم حدث أن استبينت فيما بعدُ جدواها في ميادين أخرى وخصوصًا في فلسفة الحضارة، وبصفة أكثر خصوصية في تفهم حدوث الحداثة في الحضارة الأوروبية، كما ذكرنا.
د. يمنى طريف الخولي، القطيعة المعرفية والفكر العربي المعاصر، في مجلة قضايا فكرية، الكتاب ١٥ و١٦؛ الفكر العربي على مشارف القرن الحادي والعشرين، القاهرة، يوليو ١٩٩٥م، ص٢٣٩–٢٤٦. وقارن تشغيل «القطيعة المعرفية» العميق والحذر في: يمنى طريف الخولي، الطبيعيات في علم الكلام: من الماضي إلى المستقبل، ط٣، دار رؤية، القاهرة، ٢٠١٠م، ص٥٢–٧١.
وقارن تشغيل القطيعة المعرفية العميق والحذر في: يمنى طريف الخولي، الطبيعيات في علم الكلام: من الماضي إلى المستقبل، ط٣، دار رؤية، القاهرة ٢٠١٠م، ص٥٢–٧١.