الفصل السابع
فلسفة التأويل
على أية حال، لا يختلف اثنان على اتسام حضارتنا بالدرجة الأكبر من التواصلية بفضل
استمرارية تراثنا فينا وبنا، وبتلك الرؤية الجذرية التي عرضناها للدور المنوط بالتراث،
وإعادة بنائه، يقول حنفي: «مقياس صحة العقائد ليس صدقها أو كذبها، بل مقدار فعاليتها
من
الناحية العملية»،
١ كموجهات للسلوك النهضوي الثوري. وبهذا تتضح أهمية اتخاذه للمنهج الفينومينولوجي
الذي جعله «يُسخِّر العقلانية بغير أن ينصرف عن زخم المخزون الشعوري»،
٢ في تناوله للظاهرة كما هي معطاة للوعي،
٣ كخبرة مندرجة في تيار الشعور الزماني … فذلك هو الطريق المفتوح لإعادة بناء
تراثنا القديم … وبالتالي إقامة علم الكلام الجديد. إنه صلب النهج في مشروع التراث
والتجديد.
والفينومينولوجيا كسائر التيارات الكبرى في فلسفة القرن العشرين، منهج أكثر منها مذهب،
طريقة للبحث، وأسلوب للنظر، وليست البتة مصفوفة من الحقائق. وحنفي يجدُّ في استغلال
الفينومينولوجيا إلى أقصى مدًى، يبلغ هذا المدى ذروته في اعتماده «الهيرمنيوطيقا» كجذع
أساس
لمشروعات التراث والتجديد، يجسد منهجيته بأَسرها، ويمثل بوابة كبرى لإعادة بناء لُب تراثنا،
إعادة بناء عقائدنا، إقامة علم الكلام الجديد … علم العقائد، علم أصول الدين، علم الفقه
الأكبر.
العقائد الدينية ثابتة مطلقة، بينما علمها/علم الكلام متحول نسبي، هو محاولات مختلفة
اجتهادية لتفسير العقائد وفهمها والعثور على أساس نظري لها، وتخضع هذه المحاولات للظروف
التاريخية والمستوى الثقافي للعصر الذي تتم فيه. النصوص الدينية ثابتة، لكن محاولات التفسير
والاجتهاد والتأويل هي التي تتيح لنا تجديد الفكر الديني وبث الدماء فيه مجددًا ودائمًا.
٤ والهيرمنيوطيقا فلسفة التأويل … أداته ومنهاجه من حيث هي فلسفة للتفسير
المتجدد دائمًا.
كانت الهيرمنيوطيقا في الأصول القديمة علم تأويل الكتب المقدسة، ولكن قفز قفزة هائلة
عبر
الفينومينولوجيا وأصبح الآن نظرية عن الخبرة الواقعية الحية باللغة/بالنص، إنه علم فهم
وقراءة النصوص على إطلاقها سواء دينية أو فلسفية أو قانونية … إلخ.
٥ ويكتسب أهمية خاصة في النصوص التراثية، لأن القراءة الهيرمنيوطيقية ينصهر فيها
النص والقارئ معًا، الماضي والحاضر، في علاقة متجددة هي موقف أنطولوجي للقارئ المفسر،
كما
أنها جزء من تاريخ النص.
٦ ثَمة حوار مستمر مع النص، يجعله مفتوحًا دائمًا لفهم جديد وتأويل جديد، وبالتالي
تغدو النصوص التراثية معاصرة دومًا … معاصرة لكل مَن يقرؤها مجددًا، «النص لا يقول الحقيقة،
بل يفتح علاقة مع الحقيقة»،
٧ أو قلْ علاقات. كل قارئ … كل عصر يدخل في العلاقة الموائمة لحيثياته. النص مادة
خام، قالب يتسع لمضامين عديدة، فلا يكون له معنًى دون أن يتحدث القارئ المئول نيابة عنه،
إنه
يتحدث بلغته لغة الحاضر، ودون مشاركة الحاضر سوف يتصلب النص ويتجمد ويفقد علاقته بالواقع،
ويظل طائرًا في الهواء بلا محل فارغًا من المضمون، فيكون التأويل ضروريًّا لكي يملأه
بالمضمون طبقًا للمقاصد العامة (مج١، ٣٩٧). إن الهيرمنيوطيقا في مشروع التراث والتجديد
هي
الفهم المقاصدي للشريعة، وأيضًا لمحاولات إعادة بناء إيجابيات الغرب بوصفها نابعة من
الوحي
الإسلامي، التي هي من المهام الأساسية لمشروع التراث والتجديد.
وما دامت الفينومينولوجيا تُعنى بتحليل الظواهر باعتبارها تجارب معاشة لإدراك معانيها
المستقلة (ماهياتها)، فلا غَرْو إذن أن يدخل النص هكذا في صميم موضوعنا؛ فهو ظاهرة حية
عند
الكاتب وعند القارئ، لكن مهمة الكاتب تنتهي بخروج النص، أما القراءة والتأويل فمهمة مستمرة،
إمكانية مفتوحة دوما لفهم جديد … تأويل جديد. لقد تحولت فينومينولوجيا النصوص أو ظاهرياتها
إلى علم مستقل هو الهيرمنيوطيقا، يستفيد من علوم إنسانية عديدة، وبنفس القدر يفيدها.
وتصب
فيه نظريات المعرفة والوجود والقيمة على السواء، وإن كان أوثق اتصالًا بنظرية
المعرفة.
وبفضل هانز جيورج جادامر، وكتابه الرائد «الحقيقة والمنهج»،
٨ استوت الهيرمنيوطيقا علمًا له مدارسه، واتجاهًا واسعًا مارَس سيطرةً كبيرة على
الأجواء الثقافية ومدارس النقد الأدبي. إنه علم يقوم على إلغاء التباعد بين القارئ والنص،
أو ما رأينا الفينومينولوجيا تمارسه من إلغاء التباعد بين الذات والموضوع الذي وقعت في
إساره
الفلسفة الحديثة. وبالتالي نفهم النص ليس كموضوع مفارق، بل في سياق إنتاجه وأفق المتلقي
له،
فتتعدد مدلولاته بتعدد آفاق المتلقين باختلاف الأزمنة والأمكنة، ويبقى النص مَعينًا لا
ينضب
أبدًا وإمكانية متجددة دومًا. باختصار، التعامل مع النص كظاهرة في تيار الشعور معطاة
للوعي.
هكذا مثلت الهيرمنيوطيقا أقوى امتدادات الفلسفة الفينومينولوجية، فكان من الطبيعي أن
تتغلغل في مشروع «التراث والتجديد»، والمقومات الثلاثة لنظرية المعرفة فيه: الوحي–العقل–الواقع،
وأن التفسير تصور اجتماعي للدين في مرحلة تاريخية معينة (مج١، ٣٦٥). فيقول حنفي:
«نظرية المعرفة لدينا هي التأويل والتفسير، تأويل القديم من أجل إعادة بنائه طبقًا لحاجات
العصر، نظرية المعرفة لدينا هي الهيرمنيوطيقا أو نظرية التفسير.»
٩ فلا غرو أن تكون فينومينولوجيا أو ظاهريات التفسير باكورة أعمال حسن حنفي، إنها
رسالته للدكتوراه من جامعة السوربون.
والحق أن هيرمنيوطيقية مشروع «التراث والتجديد» من أخصب مواطن العطاء فيه، فقد حدثت
أزمة
الثقافة الإسلامية حين عجزت عن التأويل وتوقفت عن التفسير المتجدد، ودخلت في ليل الشروح
والتعليقات والمتون والهوامش والحواشي … وكان تجديد التأويل هو شرط تجديد الفكر العربي
الإسلامي وازدهاره، وهو الهدف الذي يسعى إليه المفكرون الإسلاميون، منذ فجر النهضة الحديثة
حتى اليوم.
١٠
هكذا يستفيد حنفي من الفينومينولوجيا استفادة جمة حقًّا، لكن المشروع — حتى وإن سيطر
عليه
الهاجس الفينومينولوجي — ليس مصبوبًا داخل أطرها، أو حكرًا عليها، بل كثيرًا ما كان مرمى
النقد الموجه لفيلسوفنا أنه يجمع بين فينومينولوجيا هوسرل وجدلية هيجل ومادية ماركس.
١١ هذا بالطبع فضلًا عن موال الأصوليات الإسلامية. ولا شك أيضًا أن هذا يؤدي في
بعض المواقع إلى تلفيقية ما، بل وتأتي التلفيقات أحيانًا جزافية تعسفية، تضر ولا
تنفع.
كل هذا صحيح. لكن المناهج ليست كالمذاهب التي تتطلب الدينونة لدعاويها. المناهج ليست
قسطاسًا مستقيمًا الخروج عليه حرام، المنهج فعالية أو آلية … مجرد وسيلة، ويجمل أن تكون
متآزرة مع وسائل أخرى، وأن يستطيع مشروع التراث والتجديد الاستفادة من المناهج
الفينومينولوجية والمادية والجدلية وسواها، فذلك من معاملات ثرائه وترامي آفاقه وشموليته.
ويحضرنا محمد أركون في تأكيده أن «المنهجية التعددية ملائمة أكثر لقراءة التراث الإسلامي
والنص القرآني».
١٢
والذي ينبغي إبرازه الآن هو أحداث تطورات مناهج البحث العلمي، أو الميثودولوجيا —
المعقل
المكين والأساس الأولي لكل نظرة منهجية – وها هنا ينادي فلاسفة المنهج العلمي الآن
بالاستفادة من البدائل والمداخل الكثيرة، ووجهات النظر المختلفة فيما يُسمى بالتعددية
المنهجية
pluralistic methodology في إطار أطروحة الفوضوية
أو بالأحرى اللاسلطوية المعرفية
anarchism التي ترفض تمامًا
تنصيب السلطة لمنهج بعينه.
١٣ يُعَد كارل بوبر أسبق مَن بشَّر بها، بيد أن فيلسوف العلم بول فييرابند
(١٩٢٢–١٩٩٥م)، صاحب المصطلح، هو أجرأ مَن سار بها إلى أبعد مدًى. وإذا كان هذا هو الحال
في
فلسفة العلم، فما بالنا بفلسفة الحضارة؟! إن تعدد جوانبها يجعل التعددية المنهجية حقًّا
لها
وواجبًا عليها، ولئن تميز مشروع التراث والتجديد بشيء، فهو استغلاله لهذا الحق: التآزر
بين المناهج.
١٤