الفصل الثامن
«التراث والتجديد» يسارًا جدليًّا
إن التآزر الحقيقي في مشروع التراث والتجديد لهو بين المنهج الظاهري الفينومينولوجي
والمنهج الجدلي الديالكتيكي. وبقدر ما يتخذ من الأول هيكله وخامته، يتخذ من الثاني إطاره
وطابعه، فيصطبغ بصبغة جدلية طاغية هي التي تقذف به إلى قلب موقع اليسار. ذلك أنه مع التفهم
الكامل للأطروحة، نجد «التراث والتجديد» على العموم وعلم الكلام الجديد على الخصوص يسارًا.
فلم تكن أنسنة الكلام خاتمة المطاف، بل هي خطوة إلى الأدلجة العصرية، بل تبلغ هذه الأدلجة
ذروة جنوحها اليساري في «تحويل علم الكلام من علم العقائد الدينية إلى علم الصراع
الاجتماعي، طالما أنه العلم الذي يتناول العقائد الدينية كموجهات لسلوك الجماهير» (مج١،
٧٥). وما إعادة بناء العلوم التراثية التي تبدأ بعلم الكلام الجديد ونقله من البناء القديم
إلى البناء النفسي المعاصر، إلا تحقيقًا للأهداف اليسارية في تنوير الواقع وتثوير الجماهير؛
لتحقيق مصالحهم.
فكان «التراث والتجديد» هو البطاقة المنهجية المرفوعة أمام الأكاديميين، بينما اليسار
الإسلامي «الذي يختصر المراحل، ويقوم بقراءة سياسية مباشرة للتراث»،
١ هو البطاقة المرفوعة أمام الجماهير، لالتحامها المباشر بواقعهم العملي،
وتجسيدها لأهدافهم المتعينة فيه … لتوجهات الأمة. والمصطلحان في النهاية اسمان لمسمًّى
واحد
«السلفية الثورية»، الاختلاف فقط في آليات الخطاب التي تحمل جميعها نفس المضمون: الارتكاز
على المخزون العقائدي للجماهير — وهنا الأصالة — لتثويرها على الواقع تحقيقًا للدورة
الحضارية المقبلة — وها هنا المعاصرة — السلفية الثورية هي الأصالة والمعاصرة، السلفية
قبل
الثورية لأن التراث قبل التجديد. والمشروع في النهاية يربط بين المحتوى الثوري للحركات
التحررية القومية والمحتوى الثوري للتراث، وكما يقول حسين مروة: «من غير الممكن أن نكون
ثوريين في موقفنا من قضايا الحاضر، ونكون مع ذلك غير ثوريين في موقفنا من قضايا الماضي.»
٢
ويرى ناهض حتر أن الثورية هي ما يجعل سلفية حنفي أشد خطورة من السلفيات الأخرى. الخطورة
هنا بمعنى الأثر المدمر الوبيل، ذلك لأنها ترمي إلى إحلال الدين محل العلم كنظرية للثورة
الاجتماعية،
٣ وكأننا بإزاء الاختيار العسير، إما العلم وإما الثورة. وقريب من هذا يذهب فؤاد
زكريا، فينتقد حسن حنفي لأنه يفكر بمنطق الاستبعاد لا التكامل، ويقدم محاولته بوصفها
الحقيقة الواحدة والوحيدة.
٤ والحق أن حنفي يكتب فعلًا بهذه النبرة المثيرة للحنق، في حين أن أهم أهداف
مشروعه هو تجنب تلك الخيارات العقيمة وصيغة (إما … أو) التي هي منطق الإطلاق والصراع
بين
الحق والباطل، الصواب والخطأ، منطق الفرقة الوحيدة الناجية وهلاك الفِرق الضالة، فيمتنع
الإبداع لغياب أحد طرفَي المَعدَلة لأن الحياة صراع بين الأضداد،
٥ كما يصورها المنهج الجدلي الذي يستفيد منه حنفي شأن غالبية المُنظرين الثوريين،
وإن كان يقول إنه تعلم من أستاذه الفرنسي جان جيتون المصالحة بين الاتجاهات المتعارضة،
والبحث عن الحد الأدنى من الاتفاق بين المذاهب، وعن دعوة المسيحية إلى الفِرقة الأم،
وهو ما
تحوَّل عند حنفي إلى صورة وحدة العلوم الإسلامية والوحدة الوطنية.
٦
إن هاجس المصالحة والوحدة والتوفيق بين الفرق يُهيمن على كل كتابات حنفي، الأكاديمية
والشعبية على السواء، حتى يجعل خاتمة كتابه «من العقيدة إلى الثورة»، التي احتلت أكثر
من
ثلث المجلد الأخير، من أجل الانتقال من الفُرقة العقائدية إلى الوحدة الوطنية (مج٥،
٣٩٣–٦٥٣)،
في محاولة مسهِبة لدحض منطق التكفير في شتى مناحيه، ويستهل «حوار المشرق والمغرب» مع
الجابري في «معنى الحوار ومقاصده» بالعنوان الفرعي: بعيدًا عن منطق الفرقة الناجية.
٧ وهو يلح كثيرًا على خطورة حديث الفرقة الناجية، ويتمسك بتشكيك ابن حزم وسواه في
صحته، وفي جواز الاستدلال به؛
٨ لأن معه ينعدم النقد والحوار والحرية والمعارضة، طالما أن كل مجادل مدانٌ ملعون
من قبل.
من هنا يبذل حنفي جهدًا مكثفًا من أجل الرفاء ولمِّ الشتات والتوحيد بين الفِرق الكبرى
في الفكر/الواقع العربي الحديث: السلفية والإخوان المسلمون/الإخوة في الله بتمثيلهم
لمُعامل أوَّلي مشترك، والماركسيون/الإخوة في الثورة بحلهم لقضية العدالة الاجتماعية،
والقوميون/الإخوة في الوطن بحلهم لقضية التشرذم ومواجهة الاستعمار الغربي، ثم الليبراليون
بحلهم لقضية القمع والاستبداد.
٩ ويظل هذا التصالح أبرز الفوارق بين مشروعه وبين الحركات الإصلاحية الأخرى، التي
رفضت بل أدانت كل الاتجاهات غير الإسلامية.
١٠ ولعله ليس مجرد فارق أو خاصة أو سمة بل هو هدف، يقول فيلسوفنا: «أخذت على عاتقي
لمَّ الشتات، وتحويل الإسلام إلى مظلة يستطيع من خلالها كل وطني أن يعبر عن آرائه»،
١١ إلى إطار نظري شامل، طالما أنه يسمح بالتعددية داخله، على أن نخلص إلى الاتفاق
على برنامج عمل موحد.
يناهض حنفي إسلام الشكليات والحياة الفردية الخاصة، ويناهض فقهاء السلطان الذين أصدروا
فتوى بشرعية الصلح مع إسرائيل وهي تحتل القدس وتنتهك حرمة المسجد الأقصى وسائر الحرمات،
ويمكن اعتبار دراسته حول استغلالهم اقتصاديًّا في تبرير أي توزيع للدخل القومي المصري،
والتي سنشير إليها لاحقًا (هامش ١٨) بمثابة فضح لهم، من أجل هدف بعيد هو الإطاحة بفقه
السلطة، وأن نستبدل بها سلطة الفقه بعد تعديله وأنسنته وتكييفه وفقًا لمتطلبات المرحلة
الراهنة. وحتى إذا نظرنا إلى تلك الفئة الضالة الشاردة التي تضمخ الواقع بدماء جرائمها
المروعة الإرهابية، منتحلةً صفة الجماعات الإسلامية، وجدنا حنفي يشير إلى أنها جاءت نتيجة
للوضع الذي يهدف «التراث والتجديد» إلى إزاحته برُمَّته؛ أي نتيجة لتقوقع الموروث على
ذاته
وعدم تطوره الطبيعي … مؤكدًا خطورة جنوحاتهم وإلى تردِّيهم في الاستدلال الخاطئ. على
أنه لا
يألو جهدًا لتدجينهم وترويضهم، يدعوهم للحوار.
١٢ ويؤكد أن المخرج من دائرة العنف والعنف المضاد هي إسباغ الشرعية عليهم،
و«بالممارسة الطبيعية للسياسة من منطق الشرعية تتغير الجماعات فكرًا وسلوكًا، نظرًا وعملًا
وشريعة».
١٣ وهل يمكن أن يحدث هذا؟ هل يمكن ترويضهم واستدراجهم إلى آفاق التراث والتجديد،
تطبيع الوحي وأنسنة التوحيد وتاريخية الأحكام الشرعية …؟ والله يبدو لي أن استدراج مَن
نُسميهم الآن بالعلمانيين — بصرف النظر عن خطأ أو صواب التسمية — أسهل من استدراج هؤلاء
ألف
مرة ومرة.
١٤
إنه الطموح الذي يستبد بمشروع التراث والتجديد نحو إطار شامل لكل الفِرق، للمِّ أشتات
فرقاء النضال: الليبراليين والقوميين والماركسيين والإسلاميين، على معامل مشترك هو صالح
الأمة. ويأتي محسن الميلي، بوجهة نظر مضادة سلفية أصولية إنما هادئة متعقلة، ويشير إلى
أن
هذا بمثابة تطبيع علاقات مع الخصوم مقابل تفجير التناقضات داخل المسلمين.
١٥ لكن برؤية أعمق يذهب عزيز العظمة إلى أن العلة الغائبة لتأملات حسن حنفي هي
الوحدة كضد للتنوع الذي هو بالضرورة تشرذم ضارٌّ بالمصالح العامة، والوحدة هنا هي الإطار
الضام لمفهومَي الأصالة والمعاصرة. ولئن كان العظمة يعترض اعتراضًا جوهريًّا ينصبُّ على
اعتبار
الأصالة والمعاصرة وحدتين متجانستين، وبالتالي خاضعتين للتوحيد والدمج، وهو اعتراض يطيح
بجذع
معظم مساهمات الفكر العربي الحديث، فإنه يقرُّ سلفًا وضمنًا بمشروعية الوحدة في مشروع
التراث والتجديد، لأنها لتحقيق متطلبات لا يمكن أن يختلف عليها أحد: تحرير الأرض، تحقيق
التنمية الشاملة، إحياء الحيوية والفردية، وحدة الأمة في مواجهة الأعداء. وأيضًا لا يختلف
أحد حول أسباب تحقيق هذا: إنماء الواقعية العقلانية ونقد الخرافات، الحاضر لا يُدار بمعزل
عن الماضي الموروث.
١٦ ولأن هذه المنطلقات تتمفصل حولها كل اتجاهات الفكر العربي، فإن هذا يجعل
تصالحها الذي يهدف إليه حنفي «لا يبدو مستحيلًا».
١٧
ونعود لنقد حتر لننتهي إلى أنه لا مفاضلة بين الدين والعلم أو سواه، بل فقط تمثيل
للأيديولوجيا الحضارية المنشودة، التي تروم استيعاب سائر القوى الفعالة، ولا بد أن العلم
في
الصدارة. كل ما في الأمر أن التمثيل على أساس معامل هُويَّتنا المكين الإسلام … فيما
يجسده
اليسار الإسلامي.
•••
وعلى الرغم من ثقل كفة «التراث والتجديد» فإنه ذو طابع تنظيري مجرد نخبوي، يخاطب
صفوة
المثقفين والمتخصصين، بينما اليسار الإسلامي بتوجهه نحو الجماهير وتبسيط لغته ومضمون
خطابه،
استقطب تشوفات قطاع منهم. وسار تحت هذا المصطلح الذي صاغه حنفي آخرون في مواقع شتَّى
من
الوطن العربي، باحثون عن فهمٍ تقدُّمي مستنير للإسلام، متفتح على الجوانب المضيئة في
التراث
الإنساني الغربي، من قبيل العقلانية والحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، والتي
لا
يمكن إغفالها للقيام بالنهضة والدخول في حركة التاريخ، والتخلص في هذا الوضع الهامشي
المغترب،
١٨ ومواجهة الأخطار الثلاثة المزدوجة أمام العالم الإسلامي: الفقر والتبعية
والرجعية في الداخل؛ الرأسمالية والإمبريالية والصهيونية من الخارج.
إن اليسار الإسلامي أو السلفية الثورية أو التراث والتجديد محاولة لاستئناف الطريق
الذي
بدأ منذ أن استشارت الحداثة الرغبة الملحَّة في تجديد الإسلام وإحياء عقلنته، الطريق
الذي بدأ
منذ أن استثارت الحداثة الرغبة الملحَّة في تجديد الإسلام وإحياء عقلنته، الطريق الذي
شقه
جمال الدين الأفغاني وعبَّده ومهَّده تلميذه الإمام محمد عبده. ولكن كما أشار حسين مروة،
على الرغم من أهمية مدرستهما في تصديع جدار التصديق المطلق للتراث، فإنها لم تضع منهجًا
يغير من المناهج التقليدية الشائعة تغييرًا عميقًا، وذلك لارتباطها بالأسس الأيديولوجية
نفسها التي قامت عليها تلك المناهج التقليدية. ثم نضجت هذه المدرسة بفعل التحولات المتصاعدة
لحركة التحرر الوطني العربية، وتطور مستوى المعارف والمناهج لدى الباحثين العرب؛ فظهرت
في
صور ذات ثراء وفعالية لم تطف بخلد المؤسسين الأفغاني ومحمد عبده، تعمر ميدان الفكر العربي
المعاصر، ويُعَد مشروع حسن حنفي من أقوى تمثيلاتها.
هكذا نجد «اليسار الإسلامي» يُبلور اتجاهًا تمتد جذوره في أعطاف الفكر العربي الحديث،
في
خطوطه الباحثة عن عقلنة الإسلام وتحديثه، كما ارتادها جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده،
ثم
حسن البنا وسيد قطب الشاب قبل نكوص قطب إلى الحاكمية الإلهية، سواء أكان هذا النكوص طبقًا
لآليات تفكيره، أم رد فعل للصدام الدامي مع ثورة يوليو، أم انعكاس لتجربته الكئيبة بين
جدران السجن، أم بفعل قراءته لكُتيب أبي الأعلى المودودي «المصطلحات الأربعة»؛
١٩ الحاكمية والألوهية والربانية والوحدانية، حيث يؤكد المودودي أن العالم يعيش
جاهلية جديدة، من حيث إن الحاكمية — أي السلطة — فيه للبشر، والقضاء على هذه الجاهلية
بإقامة الحاكمية الإلهية … أم كان نكوص قطب بفعل هذه العوامل جميعها.
المهم الآن أننا بإزاء منعطف الفكر العربي الحديث منذ الحملة الفرنسية،
٢٠ كمحصلة للاحتكاك والصدمة الحضارية بالغرب، الذي هو كما أسلفنا نار ونور؛ إنه
المتقدم العلمي العقلاني المستنير صاحب الحضارة الحديثة والصناعة والمدنية والتعليم
والخدمات الصحية وسائر حقوق المواطن وحرياته من ناحية، ومن ناحية أخرى الغرب الاستغلالي
الاستعماري الذي ما أتانا وما رآنا إلا موضوعًا للإخضاع والانتهاب واستباحة الأرض والعرض
والحيلولة دون شق أجواز المستقبل، كي يؤمِّن لمصانعه العملاقة مصادر المواد الخام والنفط
والأسواق الواسعة لمنتجاتها … حتى كان البلاغ المبين بتأسيس دولة إسرائيل واستمرار دعمها
وتأييدها بلا حدود إلى آخر الزمان. كان الغرب بهذا وذاك، بوجهَيه أو قطبَيه السالب والموجب،
بناره ونوره، يؤجج فينا أوار نشدان الذات وتحقيق الهوية، فيما تمخض عن تيارات الفكر العربي
الحديث، التي ينصب موضوعنا هذا بأَسره في سويداء امتداداتها.
وقد أشرنا إلى محاولة حنفي التكاتف مع/أو عن طريق الجوانب الإيجابية في الحركات الأربع
الكبرى في الفكر العربي الحديث، وتبقى الإشارة إلى محاولته الدءوبة لتجاوز الجوانب السلبية
فيها. فجميعها فاتها الموقف النقدي من التراث، وهذا ما تجاوزه بتجديد التراث. وعن طريق
«اليسار الإسلامي» يتجاوز سلبيات كل فريق، يتجاوز في «السلفية» أنها قناع يخفي الحكم
القبَلي والإقطاعي والرأسمالي. ويتجاوز في الليبرالية أنها على الرغم من عدائها للاستعمار
الغربي كانت نتيجة خالصة له، إنها الطبقة العليا المستغلة والمسيطرة على مصادر الدخل
القومي. ويتجاوز في الماركسية أنها لا تملك مقومات تجديد التراث، فتعطي الجماهير شعارات
معبرة عن أهداف قومية، دون ربطها بثقافتها الوطنية، والتي يكون التراث رافدها الأساسي،
فتظل
الشعارات فارغة من كل مضمون، بلا وظيفة تحديثية. ويتجاوز في «القومية» أن إنجازاتها الكبرى
قام بها الضباط الأحرار لا المفكرون الأحرار، فلم تمسَّ وعي الجماهير، ولم تدخل في نسيجهم
الشعوري … أجل ربما لم تمس الإنجازات وعي الجماهير، بيد أن القومية العربية هي هذا الوعي
ذاته، شاء فيلسوفنا أم أبى (فلماذا أثارت مجزره واحدة في الحرم الإبراهيمي رد فعل شعبيًّا
عاصفًا، لم تثرِ معشارَه سلسلةُ مجازر لمسلمي البوسنة).
المهم أن اليسار الإسلامي قبل ذلك كله يتجاوز الإسلام الرسمي أو فقهاء السلطان، أو
بالأحرى يواجهه ويناهضه. فهؤلاء يُكرسون الدين لتبرير قرارات السلطة الحاكمة بأي ثمن،
حتى
ولو كان الانتقال من النقيض إلى النقيض. في أعقاب مؤتمر اللاءات الثلاث (لا مفاوضة ولا
صلح
ولا اعتراف) عام ١٩٦٧م، لم يتوانَ الإسلام الرسمي عن تبرير هذا بالدين وعدم جواز الصلح
مع
بني إسرائيل، وبالمثل تمامًا لم يتوانَ عن تبرير كامب ديفيد والجنوح للسلم إن جنحوا له،
وفي
الستينيات أصدر الأزهر فتوى ضد قاسم في العراق متهمًا إياه بالإلحاد، فأصدر فقهاء العراق
فتوى مضادة ضد فقهاء مصر. لقد أخرج حنفي دراسة تحليلية بارعة حول تغيير النظام الاقتصادي
المصري في الستينيات مائة وثمانين درجة إبان السبعينيات، من الاشتراكية إلى الانفتاح
ثم
الرأسمالية، وكيف «أدت المؤسسات الدينية نفس الوظيفة في كلتا الحالتين، وهي الدفاع عن
القرارات السياسية وتبريرها، وإن كانت درجة الحماس والالتزام في السبعينيات أقل منها
في الستينيات».
٢١
بمعية فقهاء السلطان، يقف مَن أسماهم الخميني «فقهاء الحيض والنفاس»،
٢٢ الذين ينشغلون بالشكليات الفارغة فيهمِّشون الدين، ويجعلونه بمعزل عن أية
فعالية أو تغيير. إنهم يقضون على الجوانب الاجتماعية للدين مبقين على الجوانب الفردية،
ويتم
التضحية بالعالم الخارجي (المجتمع) في سبيل العالم الداخلي (الفرد) لنخسر الدنيا متوهمين
الظفر بالدين.
وفي كل هذا يجدُّ حنفي في الزعم بأن اليسار الإسلامي ثقافة لا سياسة، فيقول: «اليسار
الإسلامي مستقل تمامًا عن الغرب أو الشرق، لا هي ماركسية جديدة، ولا هي ليبرالية ثورية،
ولا
هي حركات خوارج أو شيعة، ولا هي هرطقة قرامطة أو زنج، يمثل تيارًا فكريًّا حضاريًّا،
ويعبر
عن واقع الأمة، يؤصل حركة اجتماعية في تراثنا، تمتد جذوره في الكتاب والسُّنة، ولا يبغي
إلا
مصلحة جماهير المسلمين.»
٢٣ فليس اليسار الإسلامي حزبًا مناهضًا لقوة سياسية أخرى، بل فقط التوجه الباحث عن
نهضة الأمة في ثقافتها، إنه «ليس مقولة سياسية على ما يبدو من لفظ اليسار، لكنه مقولة
حضارية
على ما يبدو من لفظ الإسلام».
٢٤
هكذا ترتد السياسة إلى الانشغال بنهضة الأمة والعمل على تأكيد ثقافتها لمواجهة الهيمنة
الغربية، بل ولتحدي الحضارة الغربية، وتقديم بديل آخر من منطلق الحضارة/الإسلام.
ولكن، على الرغم من الزعم بتقليص السياسة لتتراجع وتبتلعها الثقافة، فيكون اليسار
الإسلامي مشروعًا حضاريًّا، يصب في نهر التراث والتجديد، ويتلاقى مع علم الكلام الجديد،
وأيضًا على الرغم من حرص حنفي على النجاة من هيستريا الهوس الماركسي … فهو مثلًا يوجه
نقدًا
حادًّا لمهدي عامل (حسن حمدان) صاحب القراءة الماركسية البنيوية المتميزة للتخلف العربي
ولبنية الثورة التحررية في العالم الثالث بأَسره، وذلك بسبب جمود مهدي عامل العقائدي
الماركسي، وعجزه عن رؤية ما يتجاوز قضبانها الحديدية المنهارة
٢٥ … على الرغم من هذا وذاك، استعمل حنفي مصطلحَي اليمين واليسار بالدلالة
التقليدية التي صيغت في قلب المعترك السياسي، وكان الاشتراكيون أبرع مَن عبَّر عنها،
والماركسيون أعلاهم ضجيجًا وعجيجًا، حيث يعني اليمين الدفاع عن الوضع القائم دفاعًا عن
مصالح الأقلية المالكة، ويعني اليسار الثورة على الوضع القائم ومحاولة تغييره لتحقيق
مصالح
الأغلبية الكادحة المطحونة، بحيث يختلف اليسار الإسلامي والماركسية «فقط في الأسس النظرية،
لكنهما يتفقان في المواقف العملية».
٢٦
وفي استطرادات حنفي الجمة، يجعل هذا المفهوم البائد لليسار فضًّا لكل المغاليق، وحلًّا
لكل المشاكل … حتى مشكلة الطبيعيات وعلومها؛ فيقول إن اليمين يقابل بين الله والعالم
كمقابلة بين الواجب والممكن، والعالم هنا محكوم عليه بالفناء من أجل إثبات موجود وراء
العالم يكون هو البقاء، والحُكم على العالم بالفناء حُكم قاسٍ مدمر لإحساس الناس بالعدم،
فكيف يعملون في عالم فانٍ؟ وكيف ينتجون في واقع لا ثبات له؟ يستطيع الغني أن يفعل بالفقير
ما يشاء، فلا قوانين ثابتة، بل يمكن للحجر أن ينقلب ذهبًا. ويعيش الناس في أجواء الخرافة
…
أما اليسار فيجعل العالم باقيًا مستقرًّا، ويجعل جهد الإنسان فيه منتجًا مؤثرًا، العالم
ليس
ممكنًا بل واجب، يخضع لقوانين يمكن للإنسان معرفتها والسيطرة على الطبيعة من خلالها
واستغلالها لصالحه، فتتحطم كل الإرادات المسيطرة، وكل القوى القاهرة.
٢٧
هكذا! ببساطة، لا اعتبار لمتغيرات العقدين الآخرين ومجمل فترة ما بعد الحداثة؟! إن
السيطرة الحقيقية على الطبيعة لم تأتِ من اليسار، بل من «الثورة العلمية المعاصرة»، والتي
أفضت بالغرب إلى ما بعد عصر التصنيع، ثورة انفجار المعلومات والسيبرنتيكا والحاسوب والأتمتة
والهندسة الوراثية … إلخ، فلم يعد حجم ملكية وسائل الإنتاج هو المناط في تحديد هامش الربح
وفائض القيمة والاستغلال والتفاوت الطبقي، بل المعلومات وتقاناتها هي المعول، وهي أيضًا
الطريق الأكثر حسمًا لتحقيق الحياة الكريمة ومجتمع الكفاية والرفاهية، فاستنفد الصراع
بين
اليمين واليسار كثيرًا من مبرراته، تراجع الثاني مثلما تراجع الأول من قبل، انتهى تطرف
الاشتراكية بانهيار النماذج الماركسية المعاصرة في أوروبا، مثلما انتهى تطرف اليمين
الليبرالي بانهيار رأسمالية عدم التدخل التي حاربها الاشتراكيون في القرن الماضي، انتهت
الحرب الباردة التي طالما شقَّت الغرب، اقترب الطرفان أو اندمجا فازدادت الحضارة الغربية
تكتلًا وتعملقًا لتصبح الهيمنة الغربية المتفاقمة تفاقمًا سرطانيًّا هي المركَّب الجدلي
الناتج.
٢٨ لقد تقلصت أبعاد الصراع الطبقي، وتعاظمت أبعاد الصراع الحضاري، فلماذا يغيب عن
صاحب اليسار الإسلامي أن مشروعه أولًا حضاري؟ كان من الأحرى أن يتمركز مفهوم اليسار معه
حول مكمن جمره وهيكل نوره، حول قوة الرفض والتغيير والتطوير، الأخطر والأهم: مواجهة اليمين
الثبوتي المتحجر.
إن المواجهة الحضارية هي التي تجعل اليسار الإسلامي ليس مجرد اشتراكية أو ماركسية
متأسلمة، لا سيما أن نجاح الثورة الإسلامية في إيران كان دافعًا حفَّز حنفي على طرح الفكرة،
٢٩ وأصدر العدد الأول والوحيد من مجلة «اليسار الإسلامي» عام ١٩٨١م، في أعقاب
قيامها والأجواء مفعمة ببشرى تحقيق نموذج حضاري منشود، مثلما أصدر عملَين للإمام الخميني
هما: «جهاد النفس أو الجهاد الأكبر» و«الحكومة الإسلامية»، فيما يبدو على نفقته بلا بيانات
ببليوجرافية، يترجم فيهما فكر الخميني ويقدم له ويحلله وأيضًا ينقده، بوصفه قائد أعظم
ثورة
شهدها التاريخ.
٣٠ لقد فجرت ثورة إيران حوارًا حيًّا حول العلاقة بين الإسلام والثورة، و«بدت
استنقاذًا للإسلام وانتصارًا له في قلب الحركة الوطنية والتقدمية عامة، ضد محاولات احتوائه
وتوظيفه الرجعي».
٣١ بدت هكذا في نواظر جموع المثقفين الوطنيين، سيما وأنها تفجرت في أعتى القلاع
الرجعية والاستعمارية بالمنطقة، ثروة وسلاحًا.
هذا قبل أن تُسفر عن وجهها القبيح بالعجز عن تحقيق التنمية ومحاربة التخلف، وبقمع
المعارضين وقهر الأقليات والنساء والتدخل في شئون الدول الأخرى، إلى آخر ما أحبط الآمال،
وقدم دليلًا على أن قدر الأيديولوجيات الدينية الصرفة أو الخالصة ينتهي عند حشد وتعبئة
الجماهير، حول مبادئ وشعارات مطلوبة. ما يأتي بعد ذلك يحتاج إلى جهاز ضخم مفصل ودقيق
وملموس، معداته من البرمجة والتخطيط والتعليم والإدارة والتثقيف الشامل ونشر الوعي،
والتصنيع والتوسع الزراعي، وبرامج الاستراتيجيات والسياسات الدقيقة … إلخ، كلها آليات
ليست من
مهام الدين، فنحن أعلم بشئون دنيانا.
أجل كان قيام ثورة إيران حافزًا أو حتى دافعًا، لكنه ليس الدافع الوحيد، فاليسار
الإسلامي
يهدف إلى الارتباط بشبكة علاقات تآزرية، حيثما يتحول إلى أيديولوجية تثويرية في كل رجًا
من
أرجاء العالم الثالث، كقوةٍ مؤكدة للأصالة أو الخصوصية الحضارية، دافعة للتحرر من الهيمنة
الغربية من الخارج، والقهر والظلم والطغيان في الداخل. ومثلما ارتبط بثورة إيران، يرتبط
أيضًا بالحركات الإصلاحية الأسبق المناهضة للاستعمار والطغيان، كالمهدية والسنوسية. يقول
حنفي: «في مثل هذه العقائد يُمحى الفارق بين النظر والعمل، بين العقيدة والشريعة، كما
هو
الحال في الماركسية تمامًا.»
٣٢
ويندهش الدارس، كيف ولماذا يتجاهل حنفي تمامًا حركة «مجاهدي خلق» في إيران، وهي أدق
«ما
صدق» لمفهوم اليسار الإسلامي؟ فقد تشكلت من الشيبة الإيرانية المثقفة في محاولة صريحة
لأسلمة الماركسية على أُسس شيعية،
٣٣ كقوة معارضة لطغيان الشاه والسفاك وتحقيق العدالة الاجتماعية والمساواة في
الواقع الإيراني الذي تفسره بجدلية الصراع الطبقي … هل لأن «مجاهدي خلق» معارضة أيضًا
لثورة
إيران، وتعتبرها شكلًا آخر من أشكال اليمين الرجعي؟ وهذه الثورة هي التي تدفقت معها ينابيع
الأمل لفيلسوفنا. ولكن هل نجا هذا الأمل الحي من الإحباط؟