الفصل التاسع
علم الكلام … لاهوت التحرير
على أن الأهمية الحقيقية لشبكة العلاقات التآزرية، إنما في ربطها اليسار الإسلامي
بحركة
نابضة في أعطاف العالم الثالث، ألا وهي لاهوت التحرير الذي تنامى في أمريكا اللاتينية،
والذي يجدُّ حنفي في ربطه بالحركات الإصلاحية الثورية في الإسلام، وبثورة إيران.
١
ومن قبل ثورة إيران ما فتئ فيلسوفنا يشيد في كل موضوع بلاهوت التحرير، الذي يشعر
بوشائج
القربى معه، «فهو لا يستغل الماركسية إلا كما استغلها لاهوت التحرير، فقط للدفاع عن حقوق
الفقراء والمطحونين»
٢ وبنفس الطريقة؛ أي جعل هذه الحقوق نابعة من صلب العقائد الدينية بعد أن تُقرأ
قراءة مستحدثة مُلبية للاحتياجات العصرية. اهتم حنفي بلاهوت التحرير اهتمامًا فائقًا
ورائدًا، إذ تُعَد دراسته عن واحد من أعلامه هو عالم الاجتماع الفينومينولوجي والراهب
الكولومبي كاميلوتوريز
Camilo Torres (١٩٢٩–١٩٦٦م) أول دراسة
عربية تتعرض للاهوت التحرير.
٣
يُعتبر اللاهوتي جوستاف جوتييريز من بيرو أول مَن سكَّ مصطلح «لاهوت التحرير» في محاضرتين
ألقاهما عام ١٩٦٧م. وقد قام لاهوت التحرير لمناهضة اللاهوت الأوروبي الرسمي، واللاهوت
التقليدي المدرسي اللاتاريخي، وذلك بلاهوت تاريخي تطوري يرتبط بالفعل الشعبي وبحركة
الجماهير، يبحث عن قراءة جديدة للإنجيل تجعل المسيح رب الفقراء والمستضعفين، الذي يتجلى
في
مواقف القهر والاغتراب، ليدفع إلى إنقاذ شعبه من الظلم والخطيئة. إن لاهوت التحرير يبحث
من
دور للكنيسة في مواجهة المشكلات الاجتماعية والسياسية حتى تتحول إلى قوة للتغيير والتقدم،
وعن علاقة بين العقيدة والعدل الاجتماعي … على الإجمال مقاومة الفقر والاستغلال والتخلف
والتبعية على أسس من أصوليات العقيدة المسيحية. إنه لاهوت ينطلق من كنيسه الأطراف في
أمريكا
اللاتينية، وليس من الكنيسة المركزية في أوروبا.
انتشر لاهوت التحرير في سائر أرجاء العالم الثالث؛ في آسيا برغم انخفاض نسبة المسيحيين
فيها (٣٪)، في جنوب أفريقيا حيث اللاهوت الأسود الذي ارتد صداه إلى الولايات المتحدة
الأمريكية وأزمة التفرقة العنصرية فيها، ولكن الموطن الأصلي والمرعى الخصيب للاهوت التحرير
كان في أمريكا اللاتينية، حيث نما وانتشر انتشارًا ملحوظًا خلال الستينيات. وفي عام ١٩٦٧م
نشر قساوستها خطابًا إلى شعوب العالم الثالث، يدعون فيه إلى ثورة للتغلب على الظلم لأن
الأغنياء يحرضون على العنف.
٤
لقد تعددت تيارات لاهوت التحرير. بديهي أنها — أو على الأقل معظمها — تصطبغ بصبغة
اشتراكية واضحة، وقد ظهرت تيارات ماركسية صريحة، يقف في صفوفها كاميلو توريز، بتأكيده
أنه
لا خلاف بين الماركسية والمسيحية لأن كليهما ثورة، برنامج عمل للتغيير الاجتماعي. وفي
عام
١٩٧١م اجتمع ثمانون قسيسًا، وأصدروا وثيقة يؤكدون فيها أنهم لا يرون أي تناقض بين المسيحية
والاشتراكية، بل العكس هو الصحيح، ولا بد من تحطيم التعصب وعدم الثقة بين المسيحية والماركسية؛
٥ فتبدت خطورته على الإمبريالية العالمية، حتى أعلن مستشارو الرئيس ريجان إنشاء
معهد الدين والديمقراطية
Institute for Religion & Democracy (I.R.D) في الولايات المتحدة، من أهدافه الأساسية القيام بحملة أيديولوجية
ضد لاهوت التحرير.
والحق أن لاهوت التحرير يتوغل في أعماق تشوف الإنسان نحو الحرية والعدل. ومثلما يرتبط
بالاشتراكية وبالماركسية، فإنه يستفيد من النزعة الإنسانية المتكاملة مع جاك ماريتان
والشخصانية الاجتماعية مع رينيه مونييه والتطورية التقدمية مع الأب اليسوعي تياردي شاردان،
وتأملات هنري لوباك للبعد الاجتماعي.
ولعل استفادته المباشرة إنما هي من حركة اللاهوت الوجودي، الذي تنامى في القرن التاسع
عشر
خصوصًا في ألمانيا مرتبطًا بالبروتستانتية،
٦ داعيًا إلى إعادة بناء الفكر الديني، ليكون اللاهوت قادرًا على الاستجابة
لمتطلبات كل عصر، وعلى أساس أن الإيمان علاقة رأسية مع الله، وليست أفقيةً مع
الكنيسة.
وظهر رودلف بولتمان
R. Bultmann (١٨٨٤–١٩٧٦م) داعيًا إلى
التفسير الوجودي لإنجيل العهد الجديد وتجريده من الأساطير، لأنه في جوهره رسالة وجودية
بأعمق ما في الكلمة من معنًى، ولكن الكوزمولوجيات البدائية المعاصرة له — ذات الأصل الغنوصي
— ألحقت به الأساطير وشوَّهته، بحيث نجده لا يصلح البتة موضوعًا للإيمان الحقيقي للإنسان
في
القرن العشرين. من هنا كان بولتمان ناقدًا تاريخيًّا قاسيًا للعهد الجديد بغيةَ إعادة
صياغته، وإعادة بناء العقائد المسيحية على أسس وجودية تجعلها أقدر على البقاء، ومستفيدًا
في
هذا من المفاهيم الوجودية، ومصطلحات مارتن هيدجر
M. Heidegger٧ (١٨٨٩–١٩٧٦م)، الذي كان من العناصر الفعالة في
ثورة الهيرمنيوطيقا في القرن العشرين.
يرتبط اللاهوت الوجودي بأصول أعمق له في اللاهوت الحر أو الليبرالي مع إمامه شلايرماخر
F. Schleirmacher (١٧٦٨–١٨٣٤م)، وهو الآخَر فتح الطريق
لتطوير الهيرمنيوطيقا، وقد جعل اللاهوت تركيبًا عظيمًا بين الله والإنسان، ثم كان اللاهوت
الحضاري مع تابعه الوفي القسيس باول تيليش
P. Tillich
(١٨٨٦–١٩٦٥م). ومن منطلق اللاهوت الحضاري والوجودية الدينية، يحدثنا تيليش عن تعاطفه
الشديد
مع اليسار، مهتديًا بأقوال المسيح ضد الظلم الاجتماعي وضد الأغنياء، حتى تحددت هويته
تمامًا
عام ١٩٢٠م بالاشتراكية الدينية.
٨
الاشتراكية الدينية بدورها حركة انتشرت في أوروبا، كانت قوية في ألمانيا، تصدر جريدة
أوراق، ثم جريدة «أوراق جديدة للاشتراكية الدينية»
Neue Blätter für
religiösen Sozialismus. في هذه الحركة نجد الدين لتعضيد الاشتراكية
مثلما نجد الاشتراكية لتعضد الدين. مبدؤها الأساسي أن علاقة الرب ليست فقط بالفرد وحياته
الداخلية، أو بالكنيسة بوصفها مؤسسة اجتماعية، لكن أيضًا بالكون. وهذا يتضمن الطبيعة
والتاريخ والشخصية؛ فيؤكد تيليش أن الكنيسة سوف تفشل في أداء مهمتها، إن هي صاغت رسالتها
بصورة مطلقة، وبغير أن تضع الصراع الطبقي في اعتبارها، وأن الاشتراكية الدينية هي فقط
المستطيعة حمل رسالة الكنيسة إلى كُتل الطبقة العاملة، التي لم تعد تدخلها اللهمَّ إلا
للتعميد والزواج والجنازات. لذلك فالاشتراكية هي الشكل الضروري للنشاط المسيحي بين الطبقات
العاملة. ولم تكن مهمة هذه الحركة سهلة؛ لأن البروتستانتية من الأصول التي ارتكزت عليها
الرأسمالية، والاشتراكيون يخشون من تثبيط الهمم النازعة لتحقيق الاشتراكية، وكانت الكنيسة
بدورها تخشى على رموزها من مد الفكر الاشتراكي، ومع هذا ذاعت حركة «الاشتراكية الدينية»
أوان ازدهار الحلم الاشتراكي في قلب أوروبا،
٩ قبل انهياره المروِّع، رافعةً الشعار: «نحن اشتراكيون لأننا مسيحيون.»
اللاهوت الوجودي، الليبرالي، والحضاري، الاشتراكية الدينية … إرهاصات أوروبية انقلبت
انقلابة جدلية في «لاهوت التحرير» أو لاهوت الثورة المعارض للاهوت الأوروبي الرسمي …
لاهوت
تحرير العالم الثالث من الفقر والهيمنة الغربية، فيقف في نفس خندق الكفاح مع اليسار
الإسلامي. ويساهم «علم الاستغراب» في حلقة الربط بينهما، لأنه تعرية وتفكيك للمشروع الغربي،
ليس فقط للعالم الإسلامي، بل لمجمل العالم الثالث.
١٠