ابن الدايرة!
عندما جاء سعد توفيق إلى قهوة كتكوت لأول مرة في حياته كان في الثامنة عشرة من عمره، وكان قد انتهى من دراسته الثانوية واستعد لدخول الجامعة ودراسة المحاسبة في كلية التجارة، ولكن هذه الدراسة لم تكن تستهويه، ولكنه كان يحلم بأن يكون نجمًا سينمائيًّا يشار إليه بأقلام النقاد، فقد كان وسيمًا على نحوٍ ما، وكان وجهه مستديرًا كوجه حسين صدقي وشعره كشعر أنور وجدي، فهو ناعم ولامع وغزير، وكان يحلم بأن يصبح نجمًا سينمائيًّا؛ لأنها المهنة الوحيدة التي بمقدورها الانتصار على نقطة ضعفه الوحيدة، وهي خجله الشديد من صنف النساء وشعوره بالنقص في حضرتهن. لذلك تتصور بعض الفتيات أحيانًا أنه أبكم، وبعضهن يخطئن التحليل فيعتقدن أنه شديد الغرور، مع أنه — يعلم الله — لا هذا ولا ذاك، ولكنه يشعر أحيانًا عندما يجلس معهن أنه يتمنى لو عاد إلى بطن أمه، وإن كان ذلك الشعور لا يمنعه من اختلاس النظرات بين الحين والآخر للاستمتاع بما جادت به الطبيعة عليهن. شيء واحد فقط كان يفسد عليه أحلامه وهو قِصَر قامته. كان سعد توفيق قصيرًا إلى درجة ملحوظة، لم يكن قزمًا ولكنه كان أقصر من الرجل العادي. ولكن النجم العالمي جيمس كاجني كان أقصر منه بالتأكيد، والنجم العالمي ميكي روني كان قزمًا. ولكن هل ينجح في تحقيق أحلامه فيصبح نجمًا سينمائيًّا في قادم الأيام؟ عندما وقع بصره ذات مساءٍ على بعض الأدباء المشاهير في الركن المخصص لهم بقهوة كتكوت تمنى أن ينضم إلى مجلسهم، ولكن هذه الأمنية تحولت إلى رغبة محمومة وهدف منشود عندما رأى المخرج المعروف أحمد خطَّاب يجلس معهم، صحيح أنه مخرج إذاعي، ولكنه قدم عدة تمثيليات إذاعية اشترك فيها عدد من النجوم المشاهير. ولكن خجله الطبيعي منعه من اقتحام مجلس الأدباء، حتى كان مساء عندما جاء إلى القهوة نجم مسرحي شهير، ثم كانت اللحظة التاريخية عندما جاء إلى القهوة نجم الغناء عبد الغني السيد. لا بد من الانضمام إلى جلسة الأدباء بأي ثمن وبكل ثمن. كان الكاتب الشهير عشماوي هو بداية سعد توفيق إلى عالم الأدباء. وكان عشماوي قد حقق شهرة لا بأس بها عن طريق نشر إنتاجه الأدبي على صفحات جريدة المصري أوسع صحف مصر انتشارًا وقتئذٍ. وكان في الوقت نفسه يعمل موظفًا بمديرية التعليم، وكان يسكن في نفس الشارع الذي يقع فيه بيت سعد توفيق.
وعن طريق صاحب مكتبة تقع بجوار قهوة كتكوت تم ترتيب اللقاء بين سعد والأستاذ عشماوي، وقدم سعدٌ نفسه لعشماوي على أنه كاتبٌ على أول الطريق ولديه محاولات يريد أن يستطلع رأي الأستاذ فيها، وتناول عشماوي كراسةً كَتَبَ فيها سعدٌ محاولاته، ووعده بقراءتها وإبداء رأيه فيها خلال أيام، وتواعدا على اللقاء في قهوة كتكوت، وهكذا أصبح سعد من أعضاء جلسة الأدباء، وثبت أقدامه في القعدة وأصبح من نجومها؛ فقد كان ميسورًا، واستطاع خلال شهرٍ واحد أن يقيم مأدبتين عامرتين لأعضاء الجلسة الأدبية، وكان لسعدٍ أمٌّ في الخمسين من عمرها، سيدة مجتمع وتحتفظ بقسط من الجمال الذي بهر الناس يومًا ما. وسرعان ما وقع الشيخ عبد المجيد في هواها، صحيح أنه كان غرامًا من طرفٍ واحد، ولكن الشيخ عبد المجيد كان فارسًا من فرسان هذا اللون من الغرام، وكثيرًا ما كتب أشعارًا في محبوبته التي لا تعلم شيئًا مما يجري حولها. المهم أن الصلات توطدت بين سعد وبين أغلب أعضاء شلة الأدباء. كان الأستاذ سعفان يجد ضالته عند سعد في عمليات الاقتراض التي اعتاد عليها لحل مشاكله المتعددة، وكان الأستاذ عبد الستار يلجأ إلى سعد كلما احتاج إلى الذَّهاب لمشاويره المتعددة في أنحاء القاهرة، وكان الشيخ عبد المجيد حريصًا على زيارة سعد بين الحين والآخر في منزله لكي ينعم بلقاء السيدة والدته لدقائق معدودة!
وهكذا صار سعد عضوًا أصيلًا بالشلة، مما سمح له بمصاحبتهم في زيارة النجوم والموسيقيين المشاهير في بيوتهم، فسهِر عدة سهرات ممتعة في بيت الأستاذ الموسيقار الرياني، وتناول طعام العشاء في بيت الصحفي الكبير الرافعي، ودُعِيَ مرة لحضور الحفل الغنائي الكبير للمطربة الشهيرة فاتن سعيد، وعندما تعرف على المخرج السينمائي الكبير أحمد عرفة كاد يطير فرحًا، فقد حانت الفرصة ليضرب ضربته الكبرى. وكان أحمد عرفة يمر بضائقة مالية شديدة بعد فشل فيلمه الأخير، وقد وجدها فرصة سانحة للخروج من أزمته عندما أشار إليه سعد بأنه على استعداد للمساهمة في الإنتاج إذا توافرت له فرصة للظهور في فيلمه القادم. ونجحت محاولات الاختبار التي أجراها أحمد عرفة للوجه الجديد سعد، وكان وجهه صالحًا للتصوير بدرجة كبيرة، وهي مسألة يتدخل الحظ فيها بنسبة كبيرة، فكم من وجوه مليحة تظهر قبيحة على الشاشة، وكم من وجوه دميمة ليس أجمل منها في الصورة، ومن حسن حظ سعد أن وجهه الجميل ظهر جميلًا على الشاشة. ولكن سعدًا — لسوء الحظ — لم يستطع أن ينطق حرفًا واحدًا من الكلام الذي لقنوه إياه لكي ينطق به عندما دارت الكاميرا لتصويره. وأصيب بالكتمة عندما وقفت الفاتنة سناء طاهر أمامه، وضاعت كل محاولات المخرج في تثبيت أقدامه، وهكذا انهارت كل أحلام سعد في مشهد درامي عنيف.
عندما تأكد لسعد أن حلمه القديم قد تبخر، وأن أمله في أن يصبح نجمًا سينمائيًّا هو عشم إبليس في الجنة. كان قد تخرج في الجامعة بدرجة مقبول، وأصبح في النهاية محاسبًا قانونيًّا، ويمكنه العمل في دوائر الحكومة براتب شهري يقل عن عشرين جنيهًا، ولكنه رفض الوظيفة وافتتح لنفسه مكتبًا للمحاسبة في العمارة نفسها التي تحتل قهوة كتكوت الدور الأرضي بها. وأصبح يظهر نادرًا في ركن الأدباء بعد أن تأكد فشله في أن يصبح نجمًا من نجوم السينما.
ولكن طموح الإنسان للظهور في مجال ما يكون عادة تعبيرًا عن طموح عام، يمكن أن ينتقل بصاحبه من مجال إلى مجال. لذلك بدأت أعراض الاشتغال بالزراعة تظهر على المحاسب سعد توفيق. ولكنه وأثناء تفكيره في مشاريعه الزراعية جاءه عرض غريب. عرض عليه أحد الصيادلة أن يظهر في إعلان عن دواء جديد يقضي على ظاهرة الصلع، فيظهر في صورة وهو حليق الشعر، ثم يظهر في الصورة الثانية بشعره الجميل، وسيكون هذا الإعلان خير دعاية للدواء الجديد، وعرضوا عليه مبلغًا من المال كان كبيرًا بعملة ذلك الزمان، ورفض سعد عرض الصيدلي لأنه لا يقبل أن يقوم بحلق شعره مهما كانت الأسباب والمبررات، ولكنه عاد فقبل عندما عرَف أنه ليس مضطرًّا إلى حلاقة شعره؛ لأنهم قادرون على إظهاره بصورة الأصلع عن طريق عمل مكياج متقَن له.
وضربوا له مثلًا بأحدب نوتردام، الذي ظهر فيه الممثل العالمي الشهير شارلز لوتون على صورة أحدب وأعور وأقرع، ولم يكن به شيء من هذا على الإطلاق. سُرَّ سرورًا عظيمًا وشعَر بزهو شديد عندما رأى سعدٌ صوره في أفيشات كبيرة على جدران العمارات، وفي مساحات لا بأس بها على صفحات الصحف، وفي الجريدة المصورة التي تعرضها دور السينما قبل عرض الفيلم مباشرة. لقد صار نجمًا سينمائيًّا ولكن دون كلام. ولو ظهر سعد في أيام السينما الصامتة لكان أعرض شهرة من شارلي شابلن؛ لأنه وسيم بدرجة كبيرة في الصورة، وبشكل لم يكن سعد يتوقعه. وكانت الفتيات تتوقف عند صورته المثبتة على الحوائط وتتفرس فيها بإعجاب شديد.
ولكن إحساسًا ما داخل سعد يجعله ينفر من هذا العمل ويرفض الاستمرار فيه، شعر سعد بأنه اشترك في عملية نصب لخداع الجماهير. فهو في واقع الأمر ليس أصلع، كما أنه لم يتناول ولو قطرة واحدة من هذا الدواء المعجزة الذي اخترع تركيبته الصيدلي إياه. إنها جريمة نصب تتوافر لها كل الأركان التي تؤكد تجريمها. ولذلك قرر سعد أن يكف عن المضي في هذا الطريق مهما كانت المكاسب التي سيحصل عليها. وبدأ طموحه ينحرف إلى وجهة أخرى، فقد ظهرت أعراض السياسة على سعد توفيق، وكان في المرات القليلة التي يجلس فيها في ركن الأدباء يدخل في نقاش حاد مع البعض حول أحوال البلاد ومستقبلها، ولكنه كان حريصًا على أن يحدد موقفه كمستقل لا عَلاقة له بحزب من الأحزاب. كان سعد يفضل أن يكون في مكان محايد بين الجميع باعتبار أن خير الأمور الوسط، وكانت مصر على أبواب معركة انتخابية بعد إقالة حكومة الوفد في نهاية الحرب العالمية الثانية، وبعد أن تأكد زوال الخطر الألماني وانحسار المد النازي، وخروج قوات المحور من أفريقيا. ونصح البعض سعد توفيق بالانضمام إلى الحزب السعدي أو الحزب الدستوري؛ حيث إن الحكومة القادمة ستكون حكومة تحالف من الحزبين.
ولكن سعدًا اختار أن يكون مستقلًّا، وخاض المعركة الانتخابية على هذا الأساس.
ومن أجل الفوز في المعركة الانتخابية طبع سعد توفيق عدة ألوف من الصور من مختلف الأحجام، واستعان بصورته التي ظهرت في إعلان الدواء الذي يقضي على الصلع.
وغطى حوائط الجيزة بصورته وهو في كل الأوضاع، مرة وهو واقف على قدميه، ومرة وهو جالس خلف المكتب، ومرة وهو يُسنِد رأسه على قبضة يده وكأنه في حالة تفكير. واكتفى بكتابة عبارة مختصرة تحت الصورة: «انتخبوا ابن الدايرة». لم يُوفَّق سعد توفيق في انتخابات مجلس النواب، وجاء ترتيبه الأخير بين المرشحين، ولم يسترد تأمينه الذي دفعه قبل خوض المعركة. كانت الصور التي طبعها سعد توفيق أكثر مما يجب، وعندما استفسر منه وكيله الانتخابي عن مصير هذه الصور طلب منه تخزينها لحين الحاجة إليها. وكانت الصور من الكثرة لدرجة أنه أفرد لها حجرة خاصة في مكتبه لحفظها، وأصابت الدهشة الكثيرين من معارفه بسبب تخزينه للصور، ولكن الدهشة سرعان ما زالت عندما أصدر سعد أوامره بإعادة تعليق الصور في كل أنحاء الجيزة لأنه قرر ترشيح نفسه في انتخابات الغرفة التجارية. ولكن نتيجة الانتخابات لم تختلف كثيرًا عن نتيجة الانتخابات السابقة، فشل سعد بجدارة وكان ترتيبه قبل الأخير بواحد. واستبدت الدهشة بوكيله عندما كان أول قرار أصدره بعد أن عرف نتيجة انتخابات الغرفة التجارية، بطبع عدة آلاف من الصور وتخزينها في غرفة المكتب، صاح الوكيل مستنكرًا: وهنعمل بيهم إيه؟ هنخللهم. ثم إن أقرب انتخابات فاضل عليها سنتين.
رمقه سعد بنظرة قاسية وقال له: مش بقولك انت بتاع انتخابات وبس، مفيش عندك أي ذرة فهم للاقتصاد.
– ودي مالها ومال الاقتصاد بقى؟!
– إذا كانت الانتخابات بعد سنتين، يبقى لو طبعتهم الآن هنوفر الشيء الفلاني. ثم أنا لما أقولك حاجة تنفذها.
– حاضر يا فندم.
وصار من عادة أطفال الجيزة إذا علموا بأن هناك انتخابات على الأبواب أن يهرعوا إلى مكتب سعد توفيق ليحصلوا على صورة، ثم يقوموا بالطواف في أنحاء المدينة مرددين الهتاف الذي اعتادوا عليه: «انتخبوا ابن الدايرة … يا توفيق بالتوفيق» … وكان وكيل سعد يتولى توزيع قطع الشوكولاتة على الأطفال، وأحيانًا كان يوزع عليهم كراريسَ رسمٍ وأقلامَ ألوان.
كانت آخر انتخابات خاضها سعد توفيق هي الانتخابات التي أسفرت عن فوز حزب الوفد وفاز فيها بأغلبية ساحقة، لذلك لم يكن هناك من هو أكثر سعادة من سعد توفيق عندما احترقت القاهرة وتمت الإطاحة بحكومة النحاس باشا وحل مجلس النواب، وشمر سعد عن سواعده، فهو بالتأكيد سيكون له شأن في الانتخابات القادمة. وراح يستعد لهذا اليوم الموعود، غير أن آماله تحطمت كلها عندما أذاع الجيش بيانه الأول من إذاعة القاهرة.
•••
يا لضيعة أحلامك يا سعد توفيق … طول عمرك تكره الضبط والربط والأوامر والتعليمات، وها هي الدنيا ضاقت بك وضاقت عليك. وهذه السلطة الجديدة لا تحب الانتخابات ولا تشجعها، وليس من طبيعتها أن تمارس سلطتها على برلمان ونواب، ولكنها تكتفي بإصدار الأوامر وتطلب من الآخرين تنفيذ الأمر. عندما شعر سعد بالإحباط لجأ مرة أخرى إلى قهوة كتكوت، وحرص في هذه المرة على أن يبتعد قليلًا عن قعدة الأدباء، فمثل هذه القعدة لم تكن مضمونة العواقب، خصوصًا وهؤلاء الأدباء يجيدون الثرثرة، وهو الأمر الذي يجب تجنبه في مثل هذه الظروف، ولكن … وبالرغم من حرصه الشديد والتزامه الحذر فقد جاءه الولد ريعو جرسون القهوة بخبر جعل النوم يفر من عينيه، أبلغه ريعو أن سيارة عسكرية توقفت إلى جوار رصيف القهوة ونزل منها ضابط له مهابة، وسأل عن الأستاذ سعد توفيق، ولما لم يجده أبلغ ريعو بأنه سيعود مرة أخرى بعد أيام. وعبثًا حاول سعد توفيق معرفة أي شيء عن حقيقة هذا الضابط أو اسمه أو مهمته أو وظيفته. ماذا تخبئ لك الأيام يا سعد يا توفيق؟
لقد حرص طوال العمر على أن يبقى محايدًا، لكن المشاكل لا تعرف الفرق، ولأن المصائب مصابة بالعمى فقد تصطدم بالأبرياء وتتفادى الذين يستحقون الموت. بعد عدة أيام كان سعد يجلس داخل القهوة بعيدًا عن جلسة الأدباء عندما جاءه الولد ريعو يحجل كالغراب، ثم قال له في لهفة: الظابط جه … الظابط جه.
نهض سعد من مكانه متلهفًا لرؤية الضابط إياه، وهو شديد القلق شديد الخوف، وإن تعمد إخفاء خوفه بابتسامة مصطنعة رسمها على شفتيه، يا الله … عندما وقع بصر سعد على الضابط اشتعلت ذاكرته الخامدة وعادت إلى الحياة … يا الله … سهيل … هكذا صاح سعد باسم الضابط وهو غير مصدق ما تراه عيناه … فين أراضيك؟
رد الضابط في هدوء: مسير الحي يتلاقى.
– مفيش كلام.
سحب سعد صديقه الضابط إلى حيث كان يجلس داخل القهوة … لكن الضابط توقف فجأة وقال لسعد: ما تيجي نقعد بره نشم هوا.
ولكن سعدًا أقنعه بالجلوس في الداخل، فلما سأله الضابط عن السر وراء ذلك قال له: أنا بيني وبينك مش عاوز أورط نفسي في أي حاجة غلط.
وسأله الضابط في اهتمام: فيه حاجات غلط بتحصل هنا؟
ورد سعد بصوت خفيض: لا ما حصلش لحد دلوقت، لكن أنا حريص أكون بعيد.
قال الضابط كأنه يصدر أمرًا: على كل حال الاحتياط أحسن اليومين دول.
انهمك الرجلان في حديث عن أيام زمان، أيام المدرسة الثانوية، وضحكا في وقتٍ واحد عندما تذكرا صادق أفندي مدرس الكيمياء. ولم يفترق الرجلان في أيام الصبا إلا عندما التحق الضابط بالكلية الحربية، بينما ذهب سعد والتحق بالجامعة.
– ولكن أين أنت الآن من هذا كله؟
هكذا سأل سعد توفيق صديقه الضابط.
– أنا كما تعلم كنت في سلاح المدرعات، وأنا الآن في القيادة العامة. وقد جئت لك في خدمة وأرجو التوفيق.
رد سعد في ثقة: أنا حاضر وتحت أمرك، وأي خدمة أستطيع أن أؤديها لك سأفعل بكل سرور.
شكره الضابط وأثنى عليه، ثم قال له: نصيحتي الوحيدة لك أن تأخذ حذرك دائمًا، فالأيام القادمة ستحمل معها الكثير، وأعداء الثورة على قفا من يشيل فلا تتورط في شيء.
وحكى له سعد كيف قاطع قعدة الأدباء حتى لا يتورط في أي شيء. وكانت دهشة سعد كبيرة عندما نصحه الضابط بأن ينفتح على الناس، وأن يجلس مع الأدباء وغيرهم دون أن يورط نفسه في شيء … وقال له: إحنا مش عبط ولا بريالة … المهم إنك تتحفظ في كلامك وفي سلوكك وبس … وكل واحد متعلق من عرقوبه … وبعدين أنا عاوز أقولك حاجة.
أصغى سعد بكل جوارحه وقال: اتفضل.
همس الضابط قائلًا: إحنا محتاجين مدنيين معانا، مش معقول العسكر بس همة اللي هيحكموا البلد. ولذلك أنا فكرت فيك وجيتلك.
التقط سعد العبارة الأخيرة وتساءل في ريبة: محتاجينهم في إيه؟
– في حاجات كتيرة، المهم إحنا عاوزين معانا ناس نضاف وسمعتهم كويسة، وبعدين المستقبل دا بإذن الله. والجماعة اللي هيكونوا معانا بإذن الله، ممكن يبقوا مستشارين للحكومة، وممكن يبقوا وزرا.
وزرا … هكذا هتف سعد بينه وبين نفسه … آه لو صحت الأحلام يا سعد … وزير وحاشية وحراس وكشك أمام البيت، ووفود لا تنقطع واجتماعات وتصريحات.
وتوقف سعد عن التحليق بأحلامه فجأة، وارتسمت على ملامحه أطياف حزن مفاجئ … يا قوة الله … هل تتحول هذه الحركة إلى عقبة في طريق مستقبله، هل سيعثرون عليها عندما ينقِّبون في تاريخه وماضيه، صورته على الجدران في أنحاء المدينة، مرة وهو أصلع ومرة وهو بشعره الناعم الغزير؟ ولكنها كانت أيام الشباب وفي الشباب ياما نزوات وتجاوزات.
وعلى العموم … ربنا يستر!